يواصل الباحث والناقد المغربي حفرياته الخاصة بالكلمة، في أتون تشكل الثقافة المغربية الحديثة. ويقف في مقاله هنا عند أول أنطولوجيا صدر للشعر المغربي الحديث للناقد محمد بن العباس القباج سنة 1929.

أول أنطولوجيا للشعر المغربي الحديث

محمد زهير

في سنة 1929 أصدر الناقد الأدبي محمد بن العباس القباج، أول أنطولوجيا للشعر المغربي الحديث، تضم تمثيلا لثلاثة أجيال من شعراء المغرب: شيوخا ومخضرمين، وشبانا، ممن كانوا أحياء في فترة إعداد القباج للانطولوجيا، التي سماها "الأدب العربي في المغرب الأقصى" وصنفها في جزأين متضامين: يبتدئ الجزء الأول بالشاعر محمد غريط، وينتهي بالشاعر محمد نون، ويضم ستة عشر شاعرا من الشيوخ والمخضرمين. أما الجزء الثاني فيبتدئ بالشاعر محمد علال الفاسي ـ وكان في بداية شبابه آنذاك ـ وينتهي بالشاعر عبد المالك البلغيثي، ويضم أحد عشر شاعرا من شباب تلك الفترة.

وهكذا تكون الانطولوجيا قد شملت سبعة وعشرين شاعرا، من ثلاثة أجيال أو طبقات، حسب توصيف القباج لها، تتمايز بفارق السن ونوع الممارسة الشعرية، التي أخذت فترتئذ، تتفتح على الجديد بالتدريج.. وقد وضع للانطولوجيا مقدمة وخاتمة، وصاغ معظم تراجم الشعراء على أساس مما أمدوه به، حتى تستجيب التراجم لخطته في إعداد الانطولوجيا. ولكنه اضطر إلى المحافظة على تراجم أخرى ألزمه أصحابها بنشرها كما كتبوها عن أنفسهم، على الرغم من طولها واحتوائها على تفاصيل لا تنسجم والهدف من الكتاب، القاصد إلى التركيز واختيار العناصر الدالة في الترجمة الرامية إلى التعريف المختصر بالشاعر وبطبيعة منحاه الشعري.

وبعد كل ترجمة تأتي المنتقيات الشعرية المختارة على أساس التقريب من نوع إنتاج الشاعر وانشغالاته التي عبر عنها في شعره، ومن مستوى شاعريته ومكانته بين طبقته.

فالكتاب في هيكله العام مبنين في مقدمة منهجية وتصورية عامة، وتراجم، ومنتقيات شعرية، فخاتمة. 

وقد حدد القباج في المقدمة غايته من جمع مواد الكتاب، في التعريف بالشعر المغربي الحديث في مختلف توجهاته، وبالحركة النهضوية التي كانت مرحلتئذ تؤشر على طلعها الأول، متجاوبة مع النهضة الأدبية في أقطار الشرق العربي الناهضة. يقول القباج في مقدمة الانطولوجيا، وتحت عنوان فرعي هو: "غايتي من جمع الكتاب":

«مضى على الأدب في الأمة العربية فترة غير قصيرة لا يخرج عن موضوعات معدودة: المديح والهجو والرثاء والغزل والألغاز? حتى ليتعجب الباحث في تاريخ الآداب العربية منذ القرن الخامس إلى أن تكونت هذه الحركة الحديثة في مصر والشام في أواخر القرن الماضي حيث لا يكاد يوجد من ينتمي إلى الشاعرية الصحيحة أو يدعي النبوغ فيها والاستحواذ على ناصيتها إلا وهو يبدئ ويعيد بين هذه الموضوعات الخمس كأن الآداب العربية وقف عليها وكأن اللغة لا يتسع صدرها بعد لما كانت تتسع له في العصور المزدهرة.

وقد كان الأديب المغربي لا يعرف طبعا إلا هذه الموضوعات التي ورثها عن العصور المتأخرة فلا يكاد يتجاوزها غالبا إلا إذا كان ذلك عرضا غير مقصود، وهو لعمر أبيك لا يلام في ذلك اللهم إلا إذا كان يلام الأدباء أمثاله في بقية الأقطار الذين كانوا يعيشون في مثل وسطه وبيئته قبل أن يطلع هذا العصر الحديث بعلومه الجديدة وعجائبه المدهشة التي تستفز النفوس وتوقظ جذوة الشعور.

ومنذ عهد قريب وصل إلى المغرب الأقصى صدى تلك النهضة الفكرية التي انبعثت في الشرق العربي وأحدثت انقلابا في الأفكار والأساليب فعاد أدباؤنا الذين لم تتأصل فيهم جذور تلك الوراثة المذكورة آنفا ولم تتعود بعد أفكارهم الجمود على تلك التقاليد والاقتصار على تلك الأساليب إلى أن يشحذوا قرائحهم من جديد ويوجهوها إلى ما فيه نفع الأمة ويعود عليها بصلاح هيئتها الاجتماعية من استنهاض الهمم ولفت الأنظار إلى الحالة التي وصل إليها الشعب من جهل عام وانحطاط في الأخلاق وعبث بالدين.

ثم نشأت بعد ذلك طائفة من النشء الحي ـ وأشعار هؤلاء ملء الأفواه وحديث المنتديات ـ فالتهبت جوانح ذلك النشء واتقدت أفكارهم واهتزت عواطفهم فإذا في المغرب الأقصى شعر جديد طلي فيه من جمال الأسلوب وسهولة الألفاظ وصفاء الديباجة وسمو الخيال ما يبشر أن لهذا القطر مستقبلا زاهرا.

فالأدب المغربي اليوم يمثله رجال هذه الطبقات الثلاث:

طبقة أدبائنا الكبار الذين يمثلون أدب الماضي بطلاوته وجناساته وأمداحه وتغزلاته.

وطبقة المخضرين الذين جمعوا بين الحسنيين وضربوا بالسهمين فنالوا من أدب الماضي أوفى نصيب وأكبر حظ وأخذوا من الأدب الحديث بعض معانيه ومقاصده فأفرغوها في قوالب ذلك الأدب فكانوا خير واسطة قائمة بما يجب عليها للماضي وللحاضر.

والطبقة الثالثة وهي الطبقة النابتة التي تربت وتثقفت في عصر تحلق فيه الطيارات في الأجواء وتخترق فيه السيارات شاسع الأطراف وتعم آلة البخار والكهرباء أغلب البقاع وتشاهد ما تخرجه العقول من الإبداع والاختراع فجاءت أفكارها مطابقة لروح العصر مناسبة لرقيه وحضارته نوعا ما.

هكذا ارتأيت أن أرتب هذا الكتاب... وهكذا ينبغي أن يفهم أدبنا ويدرسه من أراد ذلك فيدرس أدب كل طبقة في محيطها ووسطها ويعرف كيف ينتقد انتقادا صحيحا نزيها

... فإذا طالعت أيها القارئ الكريم هذا السفر وعلمت منه أسماء بعض شعرائنا وعرفت مطروقاتهم المختلفة ومتجهاتهم وأدركت مقدرة كل واحد منهم والمرتبة التي يشغلها في عالم الأدب مع صورة صغيرة من حياته فإن ذلك هو غايتي من تأليف هذا الكتاب.».

باحث من المغرب