يقدم محرر (الكلمة) هنا دراسة في طبيعة ولاءات المثقف في الواقع العربي الراهن، وعمليات تزييف رأس المال الثقافي والرمزي، وتذبذب خيارات الكثيرين إزاء سطوة المؤسسة بين المبادئ والمصالح.

ولاءات المثقف ودلالات خياراته

صبري حافظ

كما أنّه يؤمن بأنّ المثقف الذي يعتزل السياسة هو مثقف مزيف الثقافة؛ لأنّ قيادة المجتمع ليست للساسة فقط، بل على المثقف لا سيما إن كان مبدعاً أن يكون له دور في إدارة دفة الحكم

قمعها. لذلك فإن العلاقة بين المثقف والسلطة لابد وأن تؤدي إلى الصدام أو الاحتواء، إلى الإغفال

تمهيد
في زيارة أخيرة للندن للمشاركة في ندوة شيقة عن النص الحي المتجدد أبدا (ألف ليلة وليلة) التقيت بالصديقة الناقدة العراقية المرموقة فريال جبوري غزول، وقضينا وقتا ممتعا نتناول فيه أخبار الحياة الثقافية في مصر، وما يدور فيها من مشاكل وجدالات. وقد أخبرتني أن بعضهم قد حذرها مني قائلا لها بالتعبير المصري الدال أنني شخص «مالوش أمان» وضحكنا معا لهذا التحذير الدال. وقد شغلني هذا التعبير زمنا، وأحزنني ما ينطوي عليه من خلط في مسألة بالغة الأهمية تتعلق بطبيعة ولاءات المثقف. ولكني سرعان ما اعتبرت هذا التحذير نوعا من المدح الذي لم يقصده قائله بأي حال من الأحوال، بل قصد من منظوره لولاءات المثقف المقلوبة في هذه الأيام العكس تماما. لأنه يعني به أن ولاءاتي للأشخاص مشكوك فيها. والواقع أنه على حق، فولاءاتي، بل وولاءات المثقف الأساسية لا يجب أن تكون لأشخاص بعينهم، مهما كانت وثاقة صلته بهم، ومهما كانت علاقات الصداقة التي تجمعه وإياهم. وإنما يجب أن تكون لمجموعة راسخة من القيم الأدبية والفكرية والأخلاقية الأصيلة. وللموقف الفكري النقدي الحر، وهي قيم ثابته لا تتغير، بينما يتغير البشر ويتحولون تحولات تصل في بعض الأحيان حدا يتنكرون معه لكل ما دافعوا عنه من قبل. وولاءات المثقف ودلالات اختياراته ومواقفه المختلفة هي أحد أهم المحددات لمصداقيته وفاعليته معا.

والمثقف إنسان كغيره من البشر، له صداقات شخصية عليه أن يكون وفيا لها، ما دامت شروط هذه الصداقات الموضوعية لاتزال قائمة، وله غرماء لا يتفق معهم في الرؤى أو المشارب. لكن علاقاته الثقافية بما فيها صداقاته الثقافية، هي في نهاية الأمر جزء لا يتجزأ من دوره الثقافي العام، ومن قناعاته الفكرية ومجموعة المواقف التي يتخلق عبرها هذا الدور ويمارس فعاليته في الواقع. ولا يعني هذا أنه ليس للمثقف صداقات بين المثقفين، بل إن الصداقات الثقافية تلعب دورا كبيرا في تكوين المثقف حينما يسعى عادة مع مجموعة من مجايليه لبلورة رؤيته ولعب دوره في الحياة الثقافية في بلده. وتتحول هذه الصداقات في كثير من الأحيان إلى تجمعات أدبية وثقافية، بل وإلى مدارس واتجاهات فكرية وفنية، خاصة إذا ما تمت في مناخ نقدي حر مفتوح، تتجدد فيه الرؤى وتنضج الأفكار، وتتخلق القناعات المبدأية والمعرفية على السواء.

فمجموعة القيم الأدبية والفكرية التي تلتف حولها تلك الصداقات هي التي تفرز المدارس والاتجاهات عن بعضها البعض، وهذا الفرز والتنوع يثري الحياة الثقافية ويرفدها بالجدل والحيوية. ويدعم هذا الجدل تلك الصداقات ويثريها ـ خاصة في المجتمعات التي تتمتع بتقاليد ديموقراطية عريقة، ويتمتع فيها المثقف بقدر كبير من الاستقلال الاقتصادي والسياسي بالتالي، كما هو الحال في الغرب ـ بل يحيلها إلى أداة لإثراء التيار الفكري أو المدرسة الأدبية التي ينتمي إليها الأصدقاء، أو إلى زعزعة الاتجاه الآخر الذي يروج له الغرماء. مثل تلك الصداقات الحرة المفتوحة لا يتم فيها مراعاة الصداقة على حساب القيم ـ الفكرية والأخلاقية منها على السواء ـ بل تتعزز بها تلك الصداقات وتنمو وتزدهر. كما أن شبكتها العقلية والنقدية معا هي التي تحمي المثقف من الانحدار أو التردي، أو أن يصبح أداة سهلة في يد أعداء فكره وقناعاته. فكثيرا ما ساهمت حلقات الأصدقاء في رفد كل فرد من أفرادها بطاقات إضافية تدعم موقفه وتثري انتاجاته الأدبية، وتمكنه من الزود عن قناعاته.

أما في مجتمعاتنا العربية فإن الأمر مختلف تماما. ليس فقط لأن المثقف لا يتمتع باستقلاله الاقتصادي الذي ينبني عليه استقلاله السياسي، وهذا أمر يضعضع مكانته الثقافية والاجتماعية على السواء. ولكن أيضا لأنه ومنذ ارتكب محمد علي مذبحة المثقفين الشهيرة ـ التي أطاح فيها بالزعامات الثقافية التي أتت به للحكم وعلى رأسهم عمر مكرم، بعد مذبحة القلعة التي تخلص فيها من المماليك ـ والمؤسسة السياسية تسعى لاحتواء المثقف أو البطش به. وتاريخ الثقافة في أي بلد عربي في القرنين الأخيرين هو تاريخ التوتر بين المؤسسة السياسية والثقافة من ناحية، بما في ذلك مثقفي هذه المؤسسة الذين تم احتواؤهم وتحولوا إلى أداة طيعة في يد المؤسسة أو بوق لها، وبين المثقف الحر المستقل الذي يسعى كما يقول إدوار سعيد إلى أن يطرح الحقيقة في مواجهة القوة/ السلطة، مهما كانت سطوة تلك السلطة الغاشمة. هذا المثقف الحر المناوئ الذي يحرص على استقلاله ويقبض على الحقيقية كالقابض على الجمر يتعرض عادة للبطش الذي يمتد من التصفية الجسدية إلى السجن السياسي وحتى التصفية المعنوية، أو إحاطته بمناخ طارد يدفعه لترك بلاده واللجوء إلى المنفى؛ كما هو الحال مثلا مع عدد كبير من المثقفين العراقيين قبل احتلال العراق وبعده، ومع غيرهم من المثقفين العرب بدرجات مختلفة في فترات متغايرة. فقد عاشت مصر مثلا في سنوات السبعينات مناخا طاردا دفع الكثير من المثقفين ـ بعد أن ضيقت السلطة عليهم الخناق ـ لترك بلدهم إلى المنافي العربية والغربية على السواء. وحينما عادوا تغيرت خريطة ولاءات الكثيرين منهم.

والمفارقة المؤسية هي أن معظم المثقفين يبدأون مستقلين كي يتكون لهم قدر من رأس المال الرمزي في المجال الثقافي، وكي تصبح لهم مصداقية ثقافية في المجال الأدبي أو الفني الذي يختارون الإبداع فيه. وهو استقلال يشمل موقفهم الفكري ومغامرتهم الإبداعية على السواء. ولكن سرعان ما تتطور بهم الأمور وتتشعب المسالك كلما تراكم لهم قدر من الصيت والسمعة والمصداقية. والواقع أن كثيرا من صداقات المثقف في مجال نشاطه تبدأ عادة في مرحلة البدايات والاستقلال تلك. وهي المرحلة التي يتم فيها الخلط بين الولاء لتلك الصداقات والولاء لمجموعة القيم الثقافية والأخلاقية التي كونت رأس مال المثقف الرمزي وساهمت في تخليق مصداقيته. لكن ما أن يسعى المثقف لتحويل رأس ماله الرمزي ذاك إلى رأس مال اقتصادي، وإلى نفوذ وسلطة سهله حتى تبدأ عملية فرز قاسية تتعرض لها تلك الولاءات، وخاصة إذا ما دخلت المؤسسة السياسية على الخط، وهي عادة لاعب مباشر أو غير مباشر في تلك اللعبة الخطرة. خاصة وأن المؤسسة السياسية في عالمنا العربية تسيطر عادة على أدوات تنفيذ الأفكار التي يطرحها المثقفون على الواقع أو تساهم في قمع تلك الأفكار وتهميشها. هنا يحدث الصراع بين نوعين من القيم وصنفين مختلفين كلية من رأس المال. فلأي منهما ينحاز المثقف؟ هذا سؤال يحتاج إلى تأمل وتدبر وتحليل وعودة إلى صياغة عالم الاجتماع الفرنسي الكبير بيير بورديو لفكرة رأس المال الرمزي في الحقل الثقافي.

المثقف ورأس المال الرمزي
لعالم الاجتماع الفرنسي الكبير بيير بورديو، والذي يعتبره كثيرون أهم عالم اجتماع في القرن العشرين، مجموعة من الاستقصاءات المهمة حول مجال الانتاج الثقافي، وآليات عمله، سواء تلك التي تتعلق بالذوق أو أو بعمليات تخليق القيمة، أو الدور والمكانة. ويتصور بورديو الواقع الثقافي باعتبارة حقلا يتشكل من مجموعة من القوى وتتنازعه تلك القوى وتتصارع في ساحته لتعزيز مكاناتها، أو لتحديد قيمة ما لها فيه من رأس مال رمزي(1). وبدون الدخول في تفاصيل دراسته الضافية عن بنية هذا المجال الثقافي وتوزع القوى والصراعات فيه، وعن مختلف العلاقات وحراكها داخل إطار معقد من المؤثرات، فإنني سأكتفي هنا بالإشارة إلى مصطلحين مهمين له في هذا المجال هما رأس المال الثقافي ورأس المال الرمزي، ولكلاهما دور مهم في الحراك الذي يحكم آليات العمل في المجال الثقافي. أما رأس المال الثقافي فإنه يتعلق بمختلف المعارف الثقافية التي يراكمها المثقف، ويعتمد عليها في عمله الثقافي سواء أكان إبداعا أو ممارسة لدور، كما يتعلق بكفاءة هذا المثقف في استخدام تلك المعارف وتوظيفها وفقا لما يتمتع به من مواهب وكفاءات. وهو نوع من المعرفة المعقدة التي تتجاوز المحفوظ الثقافي وتنطوي على كل ما يستوعبه المثقف ليصبح قادرا على انتاج الثقافة وفك شفرات نظمها الداخلية، بل والإضافة الخلاقة لها والتي تتم كثيرا عبر التمرد على مواضعاتها. أما رأس المال الرمزي فهو ما يراكمه المثقف من شهرة وتكريس واعتراف في الحقل الثقافي، ينهض عادة على جدلية المعرفة والاعتراف. وكما هو الحال مع رأس المال الاقتصادي الذي لايتم توزيعه بالمساواة أو بالعدل، فإن توزيعهما في المجال الثقافي يتسم بقدر كبير من عدم التكافؤ. لكن الأمر المثير بل الخطير بالنسبة لهذين النوعين أنه يمكن تحويلهما ـ بعواقب وخيمة ـ إلى رأسمال اقتصادي، من خلال استخدامهما للحصول على مواقع متميزة في سوق التبادل الاقتصادي والسياسي(2).

لكن أهم ما تكشفت عنه دراسات بورديو في هذا المجال أنه لايمكن تحويل أي منهما للآخر بسهولة، فلايمكن لأثرى السراة أن يحول ماله الاقتصادي إلى رأسمال ثقافي أو رمزي. كما أن ازدياد رأسمال المثقف الرمزي لا يعني بالضرورة ارتفاع نصيبه من راس المال الاقتصادي، بل العكس في كثير من الأحيان. ذلك لأن بورديو يطرح في هذا المجال ما يسميه بقوانين العالم الاقتصادي المقلوبة، التي يخسر فيها الفائز كثيرا من رأسماله الرمزي كلما حول رأسماله الثقافي والرمزي إلى رأسمال اقتصادي. فرأس المال الرمزي لا يتناغم مع رأس المال الاقتصادي، فكلما زاد حظ المثقف من المردود المالي لعمله الثقافي، كلما قل حظه من رأس المال الرمزي حسب نظرية بورديو في هذا المجال. حيث أن كتابة عمل أدبي يصبح على قائمة أعلى الكتب مبيعا، ويعود بمردود اقتصادي كبير على كاتبه، يتحول في مجال الانتاج الثقافي إلى عقبة أمام تكريسه أدبيا، وبالتالي ينتقص من رأسماله الرمزي. فأجاثا كريستي مثلا تبيع أكثر من شكسبير، وأضعاف ما يبيعه جيمس جويس، ولكن رأسمالها الرمزي في المجال الأدبي ضئيل جدا بالقياس لرأسمال شكسبير أو جويس. والأمر نفسه متحقق في واقعنا الأدبي، فلعقود طويلة ظل يوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس يبيعان أكثر من نجيب محفوظ ويحيى حقي مثلا، ولكن الواقع الثقافي أضفى على الأخيرين رأسمالا رمزيا يفوق كثيرا ما حققه الأولان من مردود اقتصادي.

والواقع أن أي مثقف يحرص على أن يحصل على أكبر قدر من رأس المال الرمزي، ويراكم من أجل الحصول عليه رأسماله الثقافي وينميه. بل يواصل العمل في مجال الانتاج الثقافي ليبلور مصداقيته وشرعيته من خلال انتاجه الأدبي والثقافي. فهناك علاقة جدلية فاعلة بين مراكمة رأس المال الثقافي ومراكمة رأس المال الرمزي، لأنه كلما ازداد حظ المثقف من المعرفة، وتنامى على إثر تلك المعرفة انتاجه كلما ازداد حظه من رأس المال الرمزي. ولكن ما أن ينتقل المثقف من مجال الإنتاج الثقافي إلى مجال العمل الثقافي حتى تزداد المسألة تعقيدا، بسبب صعوبة استقلال المثقف والتشابك المعقد بين اقتصاديات رأس المال الرمزي وعلاقات القوى الثقافية والسياسية على السواء. وغواية السلطة في هذا المجال مثل غواية الكسب السريع في السوق السوداء بالنسبة للعالم الاقتصادي، حيث يدمر مثل هذا الكسب السريع كل الأخلاقيات التي ينهض عليها النظام الاقتصادي نفسه، حتى ولو حقق لصاحبة بعض المكاسب الموقوتة. وكما أن السوق السوداء في العالم الاقتصادي تنهض على شبكة من العلاقات المشبوهة، وتطيح من خلال ممارستها بالقواعد المنطقية والأخلاقية التي ينهض عليها النظام الاقتصادي نفسه، فإن ثمة سوق سوداء للرأسمال الرمزي تتسم بنفس سمات نظيرتها الاقتصادية وهو أمر سنعود له بعد قليل.

فلو عدنا لموضوعنا الأساسي وهو ولاءات المثقف، سنجد أن هذا الموضوع يطرح علينا السؤال نفسه: لمن يكون ولاء المثقف؟ هل يكون لمجموعة القيم والمبادئ الثقافية والأدبية والوطنية التي اكتسب بسببها حظه من رأس المال الرمزي والتقدير في الواقع الثقافي؟ أم يكون لأصدقائه الذين توزعت بهم السبل حينما خلط بعضهم بين رأس المال الرمزي ورأس المال الاقتصادي؟ أو سعى البعض الآخر لتحويل الأول أو استثماره لكي يدر عليه الثاني؟ أم يكون لأصحاب السلطة والنفوذ الذين يوفرون له ـ وخاصة في مجتمعاتنا التي تفتقر للحد الأدني من الحرية والعقلانية ـ أسباب الشهرة الزائفة والكسب السريع؟ والاختيار بين هذه الولاءات هو محنة المثقف العربي وامتحانه الضميري الأول. كما أنه المسئول عن تحول قطاع كبير من المثقفين إلى كلاب حراسة، بدلا من أن يكونوا حراسا للقيمة والكلمة الحرة المستقلة. وهذه المحنة هي التي تفسر لنا تردي حال جماعة المثقفين العربية، فبعد أن كانت تلعب دورا بارزا في إيقاظ الأمة، وتوعيتها، وتحديد ثوابتها، والدفاع عن قضاياها العادلة، وريادة مسيرتها نحو التقدم، أصبحت الآن أداة في خدمة سلطات فاقدة للشرعية والمصداقية، وتحولت بالتالي إلى داعية للتيئييس الحضاري والتبعية.

نزاهة المثقف وشجاعته
إذا كان رأس المال الرمزي يتخلق عبر جدلية المعرفة والإنتاج الأدبي والاعتراف بالقيمة في المجال الثقافي في مجتمع حر مفتوح. فهذا الرأسمال الرمزي هو رديف سمعه المثقف ومصداقيته في الواقع الذي ينتمي إليه، ويطمح للعب دور فيه. وكلما كان المجتمع سليما وحرا ومفتوحا كلما كان توزيعه لرأس المال الرمزي على مثقفيه حرا وسليما مثله، وكانت رقابته على مثقفيه قادرة على حمايتهم من الزلل الثقافي والأخلاقي، ومن غوايات المؤسسة السياسية على السواء. حيث لا ينفصل رأس المال الرمزي ذاك عن موقف المثقف من مجموعة القيم والمبادئ التي تتسم بها الثقافة في كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية، باعتبارها مستودع القيم الإنسانية الكبرى والمدافع الأمين عنها: من العدالة والحق والحرية والاستقلال والكرامة والشجاعة... وغير ذلك من القيم. فالمثقف هو حارس هذه القيم، وهو ضمير المجتمع وترمومتر سلامته. لذلك يقترن المثقف بقيمة أساسية تعرف بالانجليزية باسم integrity وهي كلمة احترت في ترجمتها للعربية، فليس ثمة مفردة واحدة في العربية قادرة على الإحاطة بكل دلالاتها، وتغطية كل جوانبها. لأنها تعني الاستقامة والنزاهة والكبرياء والترفع عن الصغائر وسلامة الخلق، والقدرة على تنكب مواطن الزلل، وقول الحق دون وجل. وفيها شيء من الأمانة والمثالية والفروسية أيضا. وهي الصفات التي كان يتسم بها الأنبياء وأصحاب الرسالات على مر العصور، والتي عانوا بسببها في مختلف المجتمعات. وقد ناب عنهم المثقف في مجتمعاتنا المعاصرة في حمل هذه الأمانة، وظل وفيا لهذه القيم الأخلاقية، وهو ما يجعل رأسماله الرمزي رأسمالا إنسانيا عاما عابرا للثقافات. فالقيم التي يتخلق على أساسها رأسماله الرمزي هي الأخرى قيم عابرة للثقافات وهي التي جعلت للثقافة تلك القيمة الإنسانية الكبرى في كل المجتمعات.

ولأضرب هنا مثالا واحدا على عبور تلك القيم للثقافات، وعلى أن رأس المال الرمزي الذي يتخلق بناء على تلك القيم من نزاهة المثقف وشجاعته له سطوته وقدرته على عبور الثقافات هو الآخر. فقد كان لجان بول سارتر ـ الذي عاش مستورا ومات فقيرا ـ رأس مال رمزي كبير يحسده عليه كبار الأثرياء والساسة على السواء. فعندما اندلعت ثورة الطلاب في باريس 1968 قبل أربعين عاما، ووقف سارتر بقوة إلى جانبها فطالبت الشرطة الفرنسية بالقبض عليه للسيطرة على تلك الثورة وإخمادها، لكن شارل ديجول ـ رئيس الجمهورية الفرنسية وقتها ـ رفض أن يصرح لهم بذلك. وقال قولته الشهيرة «إن فرنسا لاتعتقل فولتيرها»، أو بمعنى آخر لاتستطيع سجن ضميرها. فهل يفهم ساستنا هذا الدرس المهم؟ أم أن المجتمعات التي تنجب المثقف الكبير هي نفسها التي تنجب السياسي الحر الكبير كذلك.

لكن قيمة سارتر الكبيرة في ثقافته استطاعت أن تعبرها إلى غيرها من الثقافات. فقد أحالت مواقف سارتر الثقافية الشجاعة صاحبها إلى ضمير إنساني حي. يقف ضد الحرب في الجزائر ومع الثورة الكوبية وأحلام المستعمَرين في الاستقلال وآداب المضطهَدين وغيرها من المواقف النبيلة القادرة على التأثير خارج ثقافته الفرنسية. وحينما زار مصر عام 1967 والتقى برئيسها جمال عبدالناصر ـ وكانت له سطوته العارمة وقتها وقبل أن تكسره الهزيمة بشهور ثلاثة ـ فإن الكثيرين لايعرفون أن سارتر وبخ عبدالناصر لأن نظامه كذب عليه بشأن مجموعة من المثقفين والكتاب الشبان وقتها كانت شرطته قد اعتقلتهم قبل شهور من زيارته، ولما سمع سارتر بذلك قرر إلغاء زيارته لمصر. فبعثت له القاهرة أحد كبار مثقفيها اليساريين (لطفي الخولي) وقتها يؤكد له عدم صحة تلك الأخبار، مع أن المعتقلين كانوا من شباب المثقفين اليساريين في ذلك الوقت. وقبل سارتر تأكيد لطفي الخولي له حينما تحرى عن خلفيته، وعرف أنه من مثقفي اليسار المصري. ولما وصل إلى مصر، وكانت السلطة المصرية قد ضربت حوله طوقا أمنيا صارما ـ كتب بنفسه عنه في تقريره الشهير عن تلك الزيارة في عدد مجلة الأزمنة الحديثة الذي خصصة لتلك الزيارة وللصراع العربي الصهيوني عام 1967 ـ فلم تتمكن زوجات المعتقلين الشبان من توصيل مظلمتهم له وبها قائمة بكل هؤلاء الكتاب، وبعضهم الآن من كتاب والعالم العربي المرموقين، ولكنها نجحت لحسن الحظ في توصيلها عبر امرأة سويسرية إلى سيمون دي بفوار. وحينما التقى سارتر بجمال عبدالناصر في نهاية زيارته لمصر وبخ عبدالناصر بشدة لأن نظامة كذب عليه وقدم له لائحة كاملة بأسماء شباب الكتاب المعتقلين. واضطر عبدالناصر بكل جبروته إلى أن يعتذر له، ويتعهد بالإفراج الفوري عنهم قبل أن يغادر سارتر مصر، والتزم بتعهده له. فقد كانت سلطة سارتر المعتمدة على رأسماله الرمزي الكبير لاتقل أهمية وفاعلية عن سلطة أحد أكثر الحكام العرب قوة وشعبية في ذلك الوقت.

هذه القيم الإنسانية الكبرى، والتي لافاعلية حقيقية للمثقف بدونها، تتأسس في كل ثقافة محليا وعبر ميراثها الخاص، ومن خلال ممارسات مثقفيها. وقد كان أستاذنا الكبير الراحل يحيى حقي ـ أيام التلمذة على يديه في مجلة (المجلة) ـ حريصا على أن يعلمنا أهمية هذه القيم وقدسيتها. فقد أمر مثلا كل مساعديه بحذف اسمه إذا ما ورد في أي نص ينشر في (المجلة) التي كان يرأس تحريرها. ولما تساءلنا عن السبب قال إن في وروده إهانة للكاتب وله معا. فقد يظن ظان أن المقال نشر لأن الكاتب تملق رئيس التحرير بذكره لاسمه، أو أن رئيس التحرير نشره لأن به اسمه وليس لأنه جدير بالنشر، وكلاهما مسيء لكليهما. وكان يصر على ان الاضطلاع بالعمل الثقافي العام مسئولية وشرف لايجوز استخدامها لأي غرض نفعي أو شخصي، حتى ولو كان مجرد تمرير اسمه في مقال ينشره. وكان كثيرا ما يلفت نظرنا لعبارات ترد في مقال معين ـ من قبيل وكاتب هذه السطور أو أي شيء يشتم منه مدح الذات ـ وهو يتساءل: كيف لم يقف القلم في يد الكاتب وهي يخط هذه العبارة؟ فالدور الثقافي عبء ومسؤولية قبل أي شيء آخر. هذه بعض من تلك القيم الثقافية/ الأخلاقية التي أعنيها، والتي يتخلق بممارستها رأسمال الكاتب الرمزي، والتي أصبحت الآن للأسف في خبر كان كما يقولون، لأن جل المشرفين على المنابر الثقافية الآن يكرسونها لنشر أسمائهم وتلميع صورهم، ويستخدمونها أداة لترويج مصالحهم وتبادل المنافع العينية منها والمعنوية على السواء.

تزييف رأس المال الرمزي
نشهد في الساحة الثقافية العربية الآن أمرا لم يرد في دراسات بيير بورديو المهمة عن رأس المال الرمزي، لأنه أمر يخص عالمنا المتخلف وحده، ألا وهو ما أسميه عملية تصنيع رأس المال الرمزي الزائف، والذي يشبه تزييف العملات وإغراق السوق بها، أو التجارة في السوق السوداء. لكن الفرق هو أن العملات المزيفة يتم كشفها واستبعادها لصرامة قوانين السوق، بينما تتكرس المكانات الزائفة ويتعزز دورها في واقعنا الثقافي العربي بلا رقيب. وكأنه يعتمد على القانون الاقتصادي المعروف بأن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق. فكل القوانين التي استقاها بورديو لعملية تخليق رأس المال الرمزي وتبادله مبنية على المجتمعات الغربية التي تتسم بقدر كبير من الحرية والشفافية واحترام القوانين الوضعية منها والأخلاقية. أما مجتمعاتنا ذات الصبغة الشمولية والمترعة بالفساد السياسي والاقتصادي والأخلاقي على السواء فلها قوانينها الخاصة التي تصدق مفاهيم بورديو على جانب منها، ولكنها لا تتناول الجوانب الأخرى. ففي الفترات التي اتسمت بقدر من الحرية والشفافية ووجود مشروع وطني يرود حركة الواقع المصري كان هناك قدر من المنطق ومقدار من الحرية يتخلق معهما رأس المال الرمزي وفق القواعد التي صاغها بوردييو منذ رفاعة الطهطاوي وعلى مبارك، وحتى نجيب محفوظ ويوسف إدريس، مرورا بطه حسين وعباس العقاد ويحيى حقي ومحمود شاكر وغيرهم. لكن غياب تلك الحرية منذ المرحلة الناصرية وحتى اليوم، وتنامي درو المؤسسة السياسية في الحقل الثقافي أنتج مجموعة من الآليات الجديدة التي تحتاج من الدارس إلى تأملها والتعرف على طبيعة حركتها.

فمع غياب الحرية تعرض المنطق الذي تنهض عليه مقولات بورديو لكثير من الخلل منذ ثورة يوليو وحتى اليوم، لأنها انتجت نظام حكم شمولي مكن المؤسسة السياسية من السيطرة شبه الكلية على الساحة الثقافية. وقد استغرق هذا الأمر عدة سنوات، وعدة إطاحات بقامات ثقافية كبيرة خلال ما عرف بأزمة المثقفين في الخمسينات، وتغييب شريحة واسعة منهم في المعتقلات كي يستقر لها هذا الأمر، وكي تصبح جل الأدوات التي تشارك في صناعة رأس مال المثقف الرمزي تحت سيطرتها، بدءا من أجهزة الإنتاج الثقافي من نشر وتوزيع وانتاج فني، وحتى خلق المكانات ومحاصصات القيمة من توزيع أعمدة الصحف وبرامج الإذاعة والتليفزيون حتى منح التفرغ وجوائز الدولة. وقد استطاعت المؤسسة أن تفعل هذا كله في المرحلة الناصرية بقدر من اليسر وبمشاركة شريحة واسعة من المثقفين واحتوائهم بسبب اقتناع قطاع واسع منهم بمشروعها الوطني الذي سرعان ما تلقى ضربة مصمية عام 1967. ومغ غياب المشروع الوطني في عهد السادات تطلب الأمر إطاحات أخرى من فصل الصحفيين من الاتحاد الاشتراكي وقتها، وبالتالي من الصحف بقائمة محمد عثمان اسماعيل سيئة الصيت، إلى نقل أساتذة الجامعة من وظائفهم، إلى تخليق مناخ طارد أدى لخروج الكثيرين للعمل في المنافي العربية والأوروبية.

وتواصل التردي وتفاقم منذ ذلك التاريخ. خاصة وأنه لم يعد لدى المؤسسة ـ في العقود الثلاثة الأخيرة وهي من أسوأ مراحل التاريخ الحديث في مصر فسادا ـ مشروعا يشارك فيه المثقفين، أللهم إلا مشروع مواجهة خطر ما سمي فيما بعد اغتيال السادات بالإرهاب والمتأسلمين. وبعد تحقيق الصلح مع العدو الصهيوني لم يعد لدى المؤسسة نفسها مشروعا غير محاربة أي دعاوى حقيقية للديموقراطية، والحفاظ على السلطة الشمولية بأي ثمن، ونهب الثروات التي راكمها مشروع النهوض الاشتراكي الناصري والتي عرفت باسم القطاع العام. لكن المؤسسة في العقدين الماضيين خاصة تعلمت من درس السادات الذي بدأ عهده بإغلاق المجلات الثقافية، وتحويل هيئة الكتاب إلى هيئة لطباعة ورق تغليف البضائع، وأطاح بالمثقفين، فخلق مناخا مترعا بالسخط الشعبي، فجاءت بمهندس ثقافي حاذق في شخص فاروق حسني طرح احتفاليات المهرجانات والموالد وبهرجات الفرجة في مواجهة الثقافة الحقيقية، وعزز من قبضة المؤسسة على آلة صناعة المكانات وشراء الولاءات من منح وجوائز.

فحينما يخفق المثقف في تحقيق رأسمال رمزي حقيقي لنفسه يجد أن السبيل السهل هو ممالأة مؤسسة السلطة وركوب آلتها الثقافية والإعلامية الضخمة، واختراع مشاريع وهمية لها مردود موقوت. ولأن آلة المؤسسة الثقافية الضخمة تسعى هي الأخرى للحصول على قدر من المصداقية في المجال الثقافي ـ خاصة لأن الوضع في الثقافة العربية له خصوصيته الناجمة عن أن المجال الثقافي العربي الأوسع هو المجال الفاعل والمبتغى بالنسبة لرأس المال الرمزي، وليس مجرد المجال القطري وحده ـ فأنها تسعى لاستقطاب مثقفين حققوا قدرا من رأس المال الرمزي في المجال العربي الأوسع، واستخدامهم لتحقيق مخططاتها، أو تبيض صورتها. وهي عملية شبيهه بعمليات تبييض الأموال المعروفة، والتي يستخدم فيها الكذب والتدليس على نطاق واسع. لكن الأمر تجاوز الآن ذلك بكثير، حيث نجد أن المؤسسة ـ ومنذ فترة السادات خاصة ـ تسعى لأضفاء مكانات وشرعيات مزيفة على من احتوتهم من المثقفين في الوقت الذي تعزز فيه حربها على من يتأبون على الاحتواء وتهمشهم، بل تشوه سمعتهم في نوع من عمليات الاغتيال المعنوية التي تجرى كل يوم في الساحة الثقافية.

ففي هذا المناخ المترع بأنواع شتى من الثقافة الزائفة بدأت تتخلق آليات تزييف رأس المال الرمزي، وإضفاء مكانات وهمية على من يعانون من الإملاق في هذا المجال. خذ على سبيل المثال لا الحصر بعض الأسماء التي كانت مرشحة لجائزة الدولة التقديرية في مصر هذا العام. وبالمناسبة كانت هذه الجائزة هي أرفع جوائز الدولة قاطبة، وحققت لنفسها قدرا من المصداقية من خلال راس المال الرمزي لمن نالوها في بداياتها من طه حسين إلى توفيق الحكيم ويحيى حقي ونجيب محفوظ.. وغيرهم. وإن جاءت المؤسسة وقد بدأت في التماهي مع شخص الحاكم نفسه في السنوات الأخيرة بجائزة تجبها وتتفوق عليها قيمة وهي جائزة مبارك التي ابتدعها جابر عصفور بمباركة وزيره فاروق حسني. كيف تضم قائمة جائزة الدولة التقديرية هذا العام أسماء مثل عبدالله التطاوي وعبدالعال الحمامصي وفتحي سلامة وعفت الشرقاوي، ونبيل رشاد صالح نوفل.. وغيرهم ممن لم يسمع بهم أي مثقف عربي؟ ولا يرشح لها محمد البساطي أو فاروق عبدالقادر أو سيزا قاسم أو صنع الله إبراهيم وغيرهم من الذين ينضمون إلى قائمة من حققوا رأسمالا رمزيا كبيرا بالرغم من، أو بالأحرى بسبب، أنهم لم يحصلوا على أي من جوائز المؤسسة مثل يوسف إدريس وجمال حمدان وغيرهم من كبار المثقفين الحقيين.

المبادئ والمصالح
وإذا كانت المؤسسة السياسية ذات الهيمنة الثقافية الشمولية تلعب دورا بارزا كما بينت في مسألة تزييف رأس المال الرمزي في الحقل الثقافي، وتخليق المكانات من خلال إسباغ جوائزها ومناصبها وحوافزها على من يعانون من الإملاق في هذا المجال، فإن حالة الانحطاط التي يعاني منها الواقع الثقافي تشارك بدورها في هذا التزييف. بصورة أصبح معها عسيرا على القارئ العادي التمييز بين من يستحق ومن لايستحق، بين من حقق مكانته الأدبية عن جدارة، وبين من راكم راسمالا زائفا وشهرة مشبوهة. بين من فرضته موهبته وثقافته على الواقع الثقافي وبين من فرض نفسه على الجميع بصفاقة اللاموهبة ودعم المؤسسة أو ـ وهذا ما يحكم قبضة الفساد والزيف ـ بترويج الشلل وعمليات تبادل المصالح على حساب المبادئ والقيم. فقد اختلطت المعايير، عندما تراجعت الحرية وانعدمت الشفافية، وتقلصت مساحات الحوار الحر النزيه، واختفى النقد العقلاني الرصين، وسادت المجاملات وعمليات تبادل المنافع في المنابر والصفحات الثقافية. وتحولت بعض المنابر ـ لأسباب عديدة إلى مراكز لها استقلالها النسبي، ولكنها وبسبب سيطرة بنية سائدة في الواقع الردئ، تحاكي دور المؤسسة في عمليات تزييف رأس المال الرمزي.

في هذا المناخ ساد سلوك مغاير كلية لمنطق يحيى حقي الذي طالب مساعديه بحذف اسمه من أي مقال ينشر في المنبر الذي يرأس تحريره، وأصبح المحرر الثقافي في كثير من المنابر لاينشر إلا ما يرد اسمه فيه من مواد، بل لقد بلغت القحة بأحدهم مرة أن زج باسمه في مقال كنت قد بعثت به له لينشره في مجلة يشرف على قسمها الثقافي، ولم أكن قد ضمنت اسمه بين الأسماء التي استشهدت بها. ولم أثر عليه بعد نشر المقال فحسب، بل امتنعت بعدها عن النشر في منبره كلية. لكن الكثيرين لايمتنعون، بل يدركون أن الزج باسم المحرر الثقافي في مقالاتهم، والكتابة عنه مباشرة، هو السبيل لمزيد من النشر. فقد أصبح التربح من العمل الثقافي العام أمرا عاديا وليس سلوكا مخجلا، وأصبح تلقي الرشوات أمرا مقبولا يتستر مرة ببيع لوحات تافهة بأثمان خيالية، وأخرى بأن يطلب منظم أحدى المؤتمرات ممن يدعوهم أن يأتوا له كل بما يتوفر في بلده، بدعوى أنه غير متوفر في مصر.

فبعد أن كانت المبادئ ـ والمبادئ الإنسانية العظيمة التي تدافع عنها كل الثقافات الحرة ثابته ـ هي التي تحكم سلوك المثقف وولاءاته، أصبحت المصالح والمنافع ـ وهي دوما متغيرة ومتحولة ـ هي سيدة الموقف في هذا الزمن الردئ. وتحول المثقف من حارس للقيم وضمير للمجتمع ومنافح عن الأولويات الوطنية، إلى كلب لحراسة مؤسسات فاقدة للمصداقية والمشروعية، ومدافع عن مصالح من يدفع أكثر، بل وأداة لتمرير رؤى أعداء الوطن، وترويج خطابات المستعمر الجديد والمحافظين الجدد في الولايات المتحدة الذين ينطلقون من مصادرات صهيونية واضحة بفكرهم الإمبريالي الجديد/ القديم. بل كفلت سطوة أجهزة الإعلام الضخمة لهذا الصوت مكانة زائفة بأن أصبح الصوت الأعلى والأكثر ترددا ورواجا. ولأجهزة الإعلام ـ وخاصة في الفضائيات التي تغدق عليها الدول ميزانيات ضخمة ـ دور كبير في إضفاء مصداقية زائفة على من يظهرون فيها، وتدريعهم برأسمال زائف ينهض على تكرار الظهور والتلميع. ساعده في ذلك عملية انقلاب لغوية بشعة انقلبت فيها الدلالات على نفسها، واعوجت فيه المعايير وفقدت معه الكثير من المصطلحات معانيها.

في هذا المناخ أصبح المثقف الذي يتمسك بالقيم الثقافية والثوابت الأخلاقية والوطنية «دقة قديمة» وليس متطورا مع روح العصر ومستحدثاته من أفكار المحافظين الجدد الجديدة/ القديمة معا، وأيديولوجيات التبعية والانحطاط المتخفية بشعارات فارغة عن مجاراة روح العصر، وحقوق الإنسان في النباح في وجه من يرفضون التبعية، دون الإشارة إلى حقه في الغذاء والدواء والتعليم. لا يأمن أصحاب النفوذ الثقافي ورأس المال الزائف جانبه، فولاءه ليس لمصالحه، ومصالحهم بالتالي، وليس بالتالي لخطابهم اللاثقافي الذي يتغير كل يوم كالحرباء، وحسب مطالب السيد الجديد وتوجيهاته، وإنما لقيم ومبادئ أصيلة وثابتة، عفى عليها هذا الزمن الردئ، ولايمكن صرفها في بورصة الولاءات الجديدة للسادة الجدد، أو للسولكيات الشائهة الجديدة التي تستمرئ التبعية وتعتبر الكرامة الوطنية والاستقلال تعنتا وجمودا.

فالأمر لم يعد قاصرا على كلاب حراسة المؤسسات، سواء أكانت مؤسسات سياسية محلية تحتوي مثقفيها وتغرقهم بالحوافز والجوائز، أو هيئات أجنبية تمول مشاريع ثقافية خاوية ولا عائد من ورائها على الثقافة أو المثقفين، وإنما انتقلت عدواه إلى المنافذ الثقافية المستقلة التي تسعى هي الأخري لأن تتحول إلى مراكز قوة في الحقل الثقافي، تشتري الولاءات وتروج لها من خلال عملية مفضوحة لتبادل المنافع، وتصنيع السمعات والشهرة الزائفة من خلال النشر عن بعضهم البعض في منابرهم «المستقلة» تلك. وأصبح الأمر في حالات كثيرة مرتبطا بولاءات شخصية لشبكات تبادل المصالح الثقافية من دعوات وترجمات وسفرات ومنح إقامات في منتجعات وغير ذلك من آليات تبادل المنافع والمصالح في الحقل الثقافي.

وسط هذا الخلل الثقافي، الذي حلت فيه المصالح والمنافع مكان المبادئ والقيم، تبدو مقولة إدوار سعيد الشهيرة بأن المثقف هو من يواجه السلطة بخطاب الحقيقية، ويدافع عن الحق والخير والجمال، عملة نادرة في واقعنا العربي. لأن هذا المثقف النقدي يعاني من التهميش والتضييق عليه في رزقه، وحرمانه من المنابر في عالم يسوده المثقف القطيعي الذي حول ما كان له من رأس مال رمزي إلى مال ونفوذ. فقد علمت أن مثقفا كان له قدر لابأس له من رأس المال الرمزي قبل أن يتولى أحدى المؤسسات الثقافية الكبيرة، قد صرف لنفسه مكافآت تجاوزت المليون جنيه في العام الواحد. وهذا هو الحال في بلد فقير مثل مصر، ناهيك عن البلدان العربية أو النفطية الأغنى.

ويظل السؤال مطروحا: لمن يكون ولاء المثقف؟ وخاصة في واقعنا العربي الذي تتفشى فيه الأمية، وينتظر القارئ من مثقفيه أن يلعبوا دورا مرموقا في تصحيح ما يعج به الواقع من فساد. أيكون للجمهور الذي أسبغ عليه راسمالا رمزيا عليه أن يستخدمه للحصول على المزيد من احترام الجمهور والواقع الثقافي معه؟ أم لمن يشترى ولاءه بابخس الأثمان؟ والجواب هو أن واقعنا لايزال في مسيس الحاجة للمثقف النقدي الحر الذي يرود الولاء للمبادئ والثوابت الوطنية توجهاته، وليس السعي لمصالح وقتيه زائلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ راجع في هذا المجال كتابه Pierre Bourdieu, The Field of Cultural Production, edited and introduced by Randal Johnson (Cambridge, Polity Press, 1993), p.30.
(2) ـ للمزيد من التفاصيل راجع القسم الأول من الكتاب المشار إليه في المرجع السابق، ص 29-143.