بطريقة الكتابة الجديدة الطازجة والمراوغة التي أسسها الكاتب السوري في رواياته، وخاصة في (دع عنك لومي) تقدم لنا هذه القصة مشاهد من حياة يمتزج فيها التحقق بالإحباط، والرغبة بالوهم، والفني بالواقعي.

سارة وزهور

خليل صويلح

خرجت في السادسة مساء. مررت بدكان العسكري سالم نجم عبدالله، ناولني علبة تبغ من نوع جيتان، بعد أن أعاد اسطوانته عن الحرب، وأضاف إليها مقترحات للحرب الجديدة من موقعه كخبير استراتيجي.كان يستقي معلوماته المتضاربة من البرامج الإخبارية في الفضائيات، وكنت استمع إليه علي مضض، وأفكٌر بزهور وجسدها الباذخ، ووصفها الجماع المضني مع الخبير الاستراتيجي برائحته الكحولية والتي تنتهي كالعادة بخسارة المعركة وشتائم من العيار الثقيل للحياة ابنة الكلب.

اخترقت متاهة الأزقة نحو الشارع الرئيسي، وعبرت كتلا إسمنتية بُنيت علي عجل بغفلة من شرطة البلدية أو بالتواطؤ معها. بيوت تكاد تقع فوق قاطنيها مغطاة بالتوتياء ومخلفات الحديد والبلاستيك. محلات لبيع المهرٌبات والبضائع المسروقة، ومستودعات ضخمة للبيع بالتقسيط المريح، ونساء يرمقن المارة من شرفاتهن الواطئة باشتهاء، وعاهرات مستوردات يدخنٌ السجائر من نوافذهن المفتوحة علي الشارع، يعملن في ملاهي ليلية، وباعة مخدٌرات، وسوق ضخم لبيع كافة أنواع المسروقات من ساعات اليد إلي أجهزة التلفزيون، ومرايا السيارات، وغرف النوم المستعملة، والأحذية العسكرية، والخردة وحتي الكمبيوترات.

هل العشوائيات هي مستقبل المدن حقا؟ و هل صحيح أنها لم تعد مجرد تقرٌح عمراني لا مناص من إزالته؟ لقد باتت العشوائيات اليوم،حسب ادعاء بعض الدراسات الأنثربولوجية، نموذجا من نماذج الهندسة المعمارية والتنظيم المجتمعي المقبولة، علي رغم تردي ظروف العيش فيها، وخطر انتشار الأوبئة وغياب أنظمة الصرف الصحي. وكما يقول برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية ـ الموئل، يتوقع أن يبلغ عدد سكان العشوائيات نحو بليوني شخص في العام 2020. وتلفت الدراسة إلي أن البنية التحتية العميقة لهذه العشوائيات هي تلك التي تنشأ عن علاقات الأجساد بعضها ببعض من طريق التديٌن والمال والتزاوج والرغبات والجنون والموت بصوره المتفرقة.

هذه المعلومات كانت جزءا من موضوع فيلمي "نيغاتيف" الوحيد الذي أنجزته في حياتي إلي اليوم. وصراحة أنا مدين بإنجازه إلي عالم الإناسة الهولندي فيليب دوبويك الذي نشر دراسة وافية عن العشوائيات، كنت قرأتها بالمصادفة في مجلة قديمة في صالون للحلاقة، وأكثر ما أثار انتباهي فيها جملة كانت بمثابة مفتاحي لفيلمي، إذ نبهني إلي إن الإقامة في مدينة متآكلة القوام، يقتصر المنزل فيها علي وظيفة الملجأ، أو المأوي، ولا يكاد يجري أثر لبنيتها التحتية المفترضة، تحمل السكان والأهالي علي الإقامة في الكلام والمناقشات والتطلعات والعلاقات بين الناس. فتكثر التجمعات حول جهاز تلفزة وضعه أحدهم علي ناصية طريق، ووصله بموٌلد كهربائي ارتجله أو وقع عليه.

حينها تراءي لي المشهد الأول علي الفور: دكان العسكري المتقاعد سالم نجم عبدالله، وهو يتفرج مع جمهره من زبائنه علي محطة الجزيرة، وهي تبث تقريرا عن الحرب في مكان ما، ثم علي مشهد عري في محطة أخري، يتحلٌق حوله شباب عاطلون من العمل، ومنظر لأسلاك الكهرباء المسروقة من الخط الرئيسي، وبراميل قمامة، وتجوال في سوق للمسروقات، وحفلة غناء علي سطح بجوار مجلس عزاء، إلي شعارات وأدعية علي الجدران، تشير إلي غضب مكبوت قد ينفجر في أية لحظة، وأجساد مرصوصة في أماكن محشورة، تثبت أن التكنولوجيا السياسية قد تتفوق علي كل أشكال الهيمنة القديمة.

في الشارع الرئيسي الصاخب بكل أنواع النداءات والحفر والمستنقعات والتلوث البصري، وقفت بانتظار تاكسي يقلني إلي وسط المدينة، ثم بعد ضجر طويل، اضطررت إلي الصعود في ميكرو باص، واندسست بين الأجساد المتراصة، أرمق وجوها معفٌرة وشاحبة، وأخري مغطاة بمساحيق رخيصة، علي خلفية أغنية ريفية راقصة، كانت تتحكم بمسير الحافلة ومزاج سائق أرعن.

في ساحة باب توما، استنشقت هواء آخر. عبرت بقايا القوس القديم. أفكر بسارة قطٌان وحدها، وكيف ستؤدي دورها في عرض اليوم، هل سيكون في الألق نفسه الذي كان في عرض الأمس؟ لدي نحو ساعة عن موعد العرض. قررت أن أقطع المسافة مشيا علي الأقدام، كي أمنح نفسي فرصة متأنية لتفسير سبب تعلٌقي بها، وهل كانت تشبه امرأة المنام حقا، وإذا كان ذلك صحيحا، ما الذي أتي بها إلي منامي الصحراوي؟ وفي حال تعرفت إليها مباشرة، كيف أقنعها بحقيقة مناماتي؟ أم أنها ستعتبر الأمر برمته، مجرد وسيلة مبتكرة للقنص؟

لا أريد أن أفقدها بسهولة، إنها ملاذي الأخير، ولن يكتمل السيناريو من دون وجودها معي، فقد مزٌقت عشرات المسودات، ولم أتمكن من إنجاز السيناريو اللعين، أو لعلني أبحث عن ذريعة مقنعة لتبرير فشلي؟ ولكن ما سرٌ تعلقي بهذا السيناريو أصلا؟ لماذا لم أحاول كتابة سيناريو آخر، بعد ثلاث سنوات من العطالة والتسكع والشكوي؟ أليس ما يحدث معي لعنة أصابتني، منذ أن فاز فيلمي الأول "نيغاتيف" بذهبية مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية؟

كنت أنجزت هذا الفيلم عن نمط الحياة في العشوائيات، من واقع تجربتي الشخصية في العيش وسط هذه الخرائب، وقد مُنع الشريط من العرض هنا، لكنني تمكنت من تهريب نسخة منه. الجائزة لم تفتح أمامي أبواب شركات الإنتاج، كما كان متوقعا، بل أغلقتها كلها بذريعة أنني اشتغلت علي نشر الغسيل الوطني الوسخ علي حبال المهرجانات، كما كتب أحد النقاد الرسميين. وكأن الحياة في العشوائيات بكل لا إنسانيتها وبهيميتها تحتوي غسيلا نظيفا علي أسطحها وداخل جدرانها القذرة ومجاريرها المكشوفة وجرائمها العلنية والمستترة. والمشكلة إنني خلال عمليات المونتاج ألغيت مشاهد بالجملة، نظرا للصدمة التي كنت ألاحظها علي تعبيرات وجه المونتيرة التي كانت تقوم بتوليف الشريط، غير مصدٌقة أن لدينا بنغلادش محلية بكل فقرها ومجاعاتها وتلوثها البيئي، بنغلادش أو دارفور لا تبعد سوي كيلومتر واحد عن أرقي أحياء المدينة. ما تبقي من الشريط شذرات من حزام الفقر وطبيعة العلاقات العنيفة التي تربط بين سكانه وعوالمهم السرٌية، وبثور القبح المتناثرة كالفطر في أرجاء المكان.

هناك لقطة صامتة للعسكري المعاق سالم نجم عبدالله، وهو يشرح خططه الحربية فوق خريطة وهمية اخترعها علي باب الدكان، متناسيا أنه يخوض حربا يومية شرسة وخاسرة في مربع صغير لا يغادره إلا لماما. فقد كان مهربو التبغ والكحول وأحيانا الحشيش، يزودونه بالبضاعة أسبوعيا. صورته بالأبيض والأسود المعلٌقة في صدر الدكان، وهو يطل برأسه من فوهة الدبابة، شاهد آخر علي اندحاره وانتحاره ببطء في أزقة كشكول القذرة.

وصلت إلي مسرح القباني قبل موعد العرض بربع ساعة تقريبا. كنت آمل أن أري سارة قطٌان وهي تدخل إلي المسرح، وعندما فقدت الأمل، توقعت أن تكون قد وصلت قبلي بلحظات، وربما هي الآن في الكواليس تبدل ملابسها. أمضيت دقائق أتفرج علي صورتها في ملصق العرض. قبل دخولي الصالة قابلت "بوذا الدحاديل" الذي اختزل الحياة بعبارة واحدة هي المرحاض العمومي يكررها في كل المواقف الحاسمة. كان يتسكع من دون هدف. سألته عن رأيه بالعرض؟ قال مرحاض عمومي، ثم أضاف إنه تحت الوسط، كما هي أحوالنا، في مجاز لم يعجبني. ونصحني بأن نذهب إلي بار كان اكتشفه للتو، فالذهاب إلي هناك، حسب تعليقه، أفضل من إضاعة الوقت بالترٌهات.

دخلت الصالة قبل أن تطفئ الأنوار بدقائق، وجلست في مقعدي بانتظار طيران الفراشة. بعد انتهاء العرض، انتظرتها عند أسفل الدرج بقصد أن أكلمها مباشرة. فور خروجها، استجمعت شجاعتي وتقدمت نحوها قائلا: سارة أنا مخرج سينمائي، وأرغب أن نتعاون معا في إنجاز فيلم، ما رأيك؟

بعد تردد، هزت رأسها موافقة.
قلت أعرف مكانا قريبا.

في مقهي أرت كافيه، حدثتها عن السيناريو الموعود، كما راقت لها فكرة أنها تشبه امرأة مناماتي، وصهلت بضحكة عالية، قبل أن تجيب "لم أفهم، هل هذا عرض سينمائي أم عرض حب؟

أربكني وضوحها وسرعة التقاطها البث.
قلت متفلسفا علي أية حال، السينما عرض متواصل من الحب.

نظرت إلي بابتسامة ماكرة، وهي تهز رأسها، وتحرٌك بأصابع متوترة كأسها الفارغة. كنت أتأمل أصابع يدها اليمني، ولم أجد خاتما، كما كنت أرغب لتأكيد علاقتها بامرأة المنام.

أشرت للنادلة بأن تحضر زجاجتي بيرة إضافيتين، وسألتها بعد أن شرحت لها المنام: أين خاتمك؟

قالت بجدية بالمناسبة أنا بحاجة لشخص يشبهك، علي صعيد الأوهام، علي الأقل.

ثم أضافت الوهم ضروري أحيانا لتحقيق الأحلام.

لم انتبه إلي مغزي جملتها مباشرة، إذ اعتبرتها للوهلة الأولي مديحا، واعترافا بقدرتي علي التأثير تلك الليلة، محوت مسودة الفيلم، وبدأت كتابة سيناريو أخر. كانت سارة قطان تتسلل إلي النص بقوة سفينة مبحرة، فيما كانت امرأة المنام تتواري وتتلاشي. كنت أسير فكرة واحدة، هي إقناع سارة قطٌان بأهمية المشروع، كي تنخرط به وتقتنع بأهميته، وأهميتي شخصيا، فقد كنت طوال المرحلة السابقة ضائعا وتائها وفاشلا بالمواصفات التقليدية للعطالة الشرقية، ولعلها فرصتي الأخيرة في الخروج من المستنقع.

كتبت ليلا نحو ثلاث صفحات من السيناريو، وفي ذهني إنجاز قصة حب استثنائية وغرائبية بعض الشيء عن لقاء شخصين في قطار بالمصادفة، فتنشأ بينهما علاقة قدرية صامتة. قبل الوصول إلي المحطة بنحو ساعة تخلد المرأة إلي النوم، فيما يحلم الشاب مستيقظا بالمرأة. يكتشف الشاب وهو يتهيأ لإنزال حقيبته قلادة ذهبية ناعمة تحمل أول حرف من اسمها س مكومة في مقعد المرأة التي كانت غادرت مكانها للتو، وفي المحطة يفقد الشاب المرأة، فقد اختفت فجأة وكأنها لم تكن موجودة في الأصل. لكن أيا منهما لن ينسي الآخر، في رحلة بحث مضنية، وتصير القلادة هي العلامة الوحيدة علي وجود المرأة، ويصل الشاب أخيرا إلي قناعة أكيدة بأن المرأة تركت القلادة علي المقعد عن قصد كي يلحق بها.

هكذا يتوقع أن يراها في كل مكان يذهب إليه، وأحيانا يتهيأ له أنه رآها في زحام شارع ما، فيلحق بها، لكنه حين يقترب منها ويكاد أن يلمس كتفها، يكتشف امرأة أخري، إلي أن يقابلها في المنام، ليبدأ رحلة مكابدات أخري في اليوم التالي. المنام علي نحو آخر يتكرر في ذاكرة المرأة! إنني أمقت غيوم الرومانسية، حين تهطل في نص ما، ففي الوقت الذي ينبغي فيه أن تتبلل بوحل الحياة اليومية الشاقة، تلجأ النفحة الرومانسية إلي تزيين المستنقع بالزهور، وها أنذا أنزلق إلي بهجة البلاغة واختراع حكايات غرائبية يصعب حصولها في الواقع أو حتي تحقيقها في فيلم، لكن وجود طيف سارة قطٌان إلي جانبي، منحني شيئا من التوازن الروحي والغبطة المباغتة، حتي أنني حين وجدت جارتي زهور تدخل غرفتي من دون استئذان كعادتها، استقبلتها بابتسامة، لكنني توقفت عن الكتابة، وألقيت نظرة متفحصة نحوها، وأحطت خصرها بيدي من دون أن أنهض عن الكرسي. أكثر من ذلك غامرت بسحبها إلي حضني وغرقت تحت عجيزتها الممتلئة، وراحت يدي تداعب صدرها اعتباطيا.

كنت أحاول إبعاد طيف سارة قطان عن شاشتي، أو أنني بتفصيل أدق، كنت أستحضرها بشكل غائم. كادت زهور تغفو في حضني، وهي محقة، علي أية حال، إذ لم تعتد علي مثل هذا الحنان. في مرات سابقة، كنت أباغتها كثور وخلال دقائق كان ينتهي كل شيء. رائحة المحْلب المدقوق التي كانت تفوح من أبطيها أججت شهوتي. ومما زاد في إثارتي، إنني حين كنت أجوس أسفل بطنها، اكتشفت أنها بعانة منتوفة. لامست مثلث برمودا بإصبع ديناميت مشتعل، ما جعلها تموء وتصرخ وتستغيث بالتتالي. حاولت أن أستفيد من محاضرات زوجها عن عدم مغادرة الخندق إلا في اللحظة الحاسمة، وحين انتشرت الرطوبة في أرض المثلث الملتهب، باغتّها بسفينتي المبحرة إلي جحيم الرغبة والجنون. نظرتْ إليٌ برضا ودفنتْ وجهها في صدري وراحت تنتحب.

لأول مرة أشعر بذنب غامض تجاه زهور. حكت لي حكايتها بما يشبه الهذيان. حكاية تقليدية عن تفتح الجسد في بستان ابن الجيران، وكيف جاء العسكري سالم نجم عبدالله في إجازة قصيرة، وطلب يدها للزواج. أنهي الصفقة علي عجل، لتنتهي بعد أيام ابنة السادسة عشرة في غرفة بنافذة تطل علي الجيران (الغرفة التي أقيم فيها الآن). حكت لي عن الاختراق الدموي الأول، وصراخها وألمها تلك الليلة، لكن الهناءة الغامضة والقدرية لم تستمر طويلا. عاد سالم نجم عبدالله بعد أشهر بجسد معاق، وبقضيب مطاطي رخو، نائم بين فخذيه رغم محاولاته المضنية والمستميتة في إيقاظه عن طريق وصفات شعبية وأعشاب طبيعية ومخدرات.

كأن زهور ترغب كتابة حكايتها علي نحو آخر، في علاقتها الملتبسة معي، وأن تمحو آثام هذه الغرفة بخطيئة مقصودة، تنتقم بها من ذلك الماضي المظلم. أحسست أننا متعادلان في الذنب، ولا ينبغي أن يطلب أحدنا من الآخر غفرانا ما. "كسينمائي"، هي بالنسبة لي شريط مؤجل، ولطالما شعرت بخسة ما، أن تكون علاقة حب مهما كان نوعها، هي مجرد مادة خام في سلسلة مشاريعي الفاشلة. لاحقا، بررت الأمر أمام نفسي، بأنه شغف بتجربة جسد مغاير. جسد امرأة ريفية، لديها معجمها الجنسي المثير، وهو معجم صوتي مشحون بالمسرات والرغبات المكشوفة، إضافة إلي قابليتها السريعة في التدريب علي حركات وأوضاع، لم أكن أتجرأ عليها مع امرأة أخري.

حين أخبرت بوذا الدحاديل بمغامرتي مع زهور، كان مطفأ كعادته. اتهمني بالإعاقة الروحية، ثم انطوي إلي مستودع أحزانه، وأخبرني أنه أحرق مخطوطة ديوانه الشعري، وحطٌم عوده القديم لأن هذا الوطن لا يستحق أن نغني أشعارنا في شوارعه القذرة، وقال إنه هجر حبيبته لأنها طالبته بكل وقاحة أن ينكحها شرعيا. تصوٌر! قالها مستهجنا، ثم نام علي الأريكة بكامل ثيابه وأحلامه العرجاء.

سارة قطان، بعد أن قرأت المسودة الأولي من السيناريو، صمتت للحظات، ثم أشعلت سيجارتها، وخاطبتني مباشرة السيناريو غير مكتمل، ولدي حدس أنك ترغب بالنوم معي، أكثر من رغبتك في إنجاز فيلم. وأضافت أعتقد أنها تجربة رابحة بالنسبة لي علي الأقل. أشارت بيدها أن أصمت، ثم أضافت ربما سيكتمل السيناريو علي نحو أفضل، بعد المضاجعة، ما رأيك؟ حملت حقيبتها ونهضت قائلة إنه مجرد عرض، فكٌر بالأمر. للحظة أحسست أنني سالم نجم عبدالله بخرائطه وخططه الحربية الفاشلة، وإنني خسرت المعركة حتي آخر قذيفة دبابة. هل تسخر مني، أم أنها واثقة من أدواتها إلي هذه الدرجة؟ علي أية حال، قلت مبررا ما حصل، هي المهرة ذاتها التي تصهل بجسدها كل ليلة علي خشبة مسرح القباني، لمّ الاستغراب أن تحكي علي هذا النحو وبكل هذه الجرأة والوضوح، ثم ألم تكن تشتهيها في الأصل؟ لكنني من جهة أخري، أرغب فعلا بتحقيق فيلم بمشاركتها. اكتشافها والتعرف إليها عن كثب، ثم الخروج معها، كل ذلك، كان خطوات جدية في الاقتراب من حلمي المؤجل.

خرجت من آرت كافيه مبللا بالاضطراب والهشاشة. عبرت شارع 29 أيار إلي الجهة الأخري. سارة قطان تبعد الآن خطوات عني فقط، لا شك أنها تستعد إلي بروفة جديدة من العرض، هل أغامر وألحق بها؟ أم أفرش خرائطي مرة أخري للتفكير بمقصد كلامها؟ هل هي جادة؟ أم أنها تسخر مني؟ فهي بلا شك قد واجهت عروض إغواء من هذا النوع. اتصلت بها، بعد انتهاء العرض مباشرة، أجابتني علي عجل إنني أبدٌل ملابس، سأكلمك بعد ربع ساعة.

بقيت أدور في محيط المسرح بانتظار الموعد، وأنا أتصورها عارية بشامة عند مفرق ثدييها تماما. توقفت أمام واجهة مكتبة البشائر التي تبيع كتبا دينية وفتاوي معاصرة في معني المذكر والمؤنث وجمع التكسير، أتأمل العناوين وأغلفة الكتب. ثم أمام واجهة محل لبيع أجهزة الخليوي، ثم أمام محل لبيع الورود، يقع في مواجهة المسرح مباشرة. اخترت ثلاث وردات: واحدة بيضاء، واثنتان من القرنفل الأحمر. وقفت أنتظرها كعاشق خائب. ماذا أريد منها؟ هل هي علاقة عمل، كما حاولت أن أقنع نفسي في البداية؟ أم أنني أحبها؟ أم أنني أرغب بعلاقة معها وحسب؟. إنها علي أية حال، لا تشبه الأخريات، فقد سبق وواجهتْ خططي الغامضة والملتبسة بإجابات حاسمة من نوع هات من الآخر. هاهي تتصل فعلا بعد ربع ساعة تماما. أجبتها أنني أقف في مواجهتها مباشرة. ألقت نظرة مشتتة، ثم اعتذرتْ من المخرج واتجهت نحوي. انتبهتْ إلي باقة الورد. قالت علي الفور هل الوردة البيضاء للتمويه؟، ثم عانقتني وقبٌلتني بحرارة.

قبل أن نصل إلي ناصية الشارع، توقفتْ وقالت وهي تقطٌب جبينها بحزم لم ٌ لا تعترف وتقول أنك مغرم بي؟

قلت مترددا حسنا، أنا مغرم بكِ.

منذ هذه اللحظة سوف تكون سارة قطٌان تفاحة آدم التي قادتني إلي جحيم الحب.

علٌمتني، كيف أتخلص من متاهة المجاز، واللف والدوران، وضرورة أن أسمي الدائرة باسمه. تلك الليلة، تناولنا لترا من النبيذ الفرنسي الفاخر، في أحد بارات باب توما، وسألتني عن حقيقة امرأة المنام. أكدت لها تكرار الواقعة وأنها تشبهها فعلا. قالت فجأة: "هيا بنا. لم أسألها إلي أين؟

خرجنا من المكان بسرعة، وقطعنا المسافة إلي ساحة باب توما مشيا. كانت في أقصي حالات نشوتها وجنونها. في التاكسي، كادت أن تغفو علي كتفي، فيما كانت تقبض بعنف علي زهورها، وهي تهذي بكلام عن المسرح والجسد والطيران. كنت أرسم خرائط مرتبكة للتسلل إلي غرفتي، من دون أن نقع في خندق العسكري وزهور. زهور التي لا أشك أنها في انتظاري، وربما تكون قد اقتحمت الغرفة فعلا، إذ لطالما كانت تدخل غرفتي في غيابي، وتقوم بترتيبها.

كان العسكري لحظة مرورنا أمام دكانه يعقد صفقة مع أحد مهرٌبي التبغ بصوت عالي وغاضب، فيما كانت محطة الجزيرة تبث نشرة أخبار بصوت أعلي. هكذا تخلٌصنا من الخندق الأول ببساطة.عبرنا الدهليز الطويل إلي غرفتي بحذر. ما أن صعدت الدرج إلي الغرفة، حتي ظهرت زهور عند السور. كانت تدخن سيجارة، وتنظر نحو سارة قطٌان بتركيز ودهشة. سارة التي كانت تتأبط ذراعي من جهة، وتحمل زهورها من الجهة الثانية، لم يلفتها وجود زهور علي الإطلاق. أغلقت الباب وراءي علي عجل، ثم أرخيت الستارة المفتوحة، فغابت صورة زهور عن الشاشة. بدا ارتباكي واضحا خلال ترحيبي بسارة قطٌان التي لا تزال واقفة وسط الغرفة، تتأمل محتوياتها الفوضوية. تناولتْ مجلة وجلست علي طرف السرير تقلٌب صفحاتها بضجر. خرجت من الغرفة نحو المطبخ، لإحضار كأسين. كانت زهور تراقب تحرٌكاتي بصمت، من موقعها عند السور، من دون أن تبدي أية حركة احتجاج علنية.

"كيف تسكن في هذه المتاهة؟"، قالتها سارة قطٌان بنوع من الألم والاستغراب والدهشة. قلت بمثاقفة مكشوفة للعشوائيات مزاياها السرٌية وجحيمها الخاص. سأريك فيلمي الأول عن هذه (المتاهة) في أقرب فرصة، أعتقد أنه يحمل إجابة مقنعة عن سؤالك، ثم بصحة سارة قطٌان. أطلقت ضحكة عالية ثم رشفت جرعة من كأسها، وقالت بجدية خليل، هل أعجبك تمثيلي ورقصي فعلا، أم أن هناك أسبابا أخري؟

قلت وأنا أسترخي علي الأريكة قبالتها هناك ألف سبب وسبب من أجل سارة قطٌان واحدة لا تتكرر. هكذا حاولت ترميم اضطرابي بكلام مفكٌك وانفعالات، وحركة أصابع، وإشعال سيجارة من أخري، ومعجم من المفردات البرٌاقة. كانت تنصت إلي كلامي، وكأنها تكتشفني للمرة الأولي. وكنت أحاول بصرامة ألا أخيٌب آمالها في لقاء أول من هذا النوع، كأن أباغتها بقبلة وما يتبعها من إغواءات، علي رغم اعتقادي إنها لن تمانع، فقد كانت بحالة عالية من النشوة.

لم أصدٌق بأن المسافة الطويلة بيننا، منذ أن شاهدتها في المسرح تلك الليلة، وهذه اللحظة، قد انهارت تماما، وهاهي سارة قطٌان شخصيا بكل عبيرها، تجلس أمامي، وتشرب نبيذها بصمت ومتعة. أراقب أصابع يديها وحركة شفتيها وقوس حاجبيها.