جفف جسمه، ارتدى القميص والبنطال، وتناول السماعة الطبية ثم اتجه إلى الخارج. أوضح لها أن التهاب اللوزتين الحاد قد يسبب مضاعفات للقلب والكلى. عاد إلى مقعده وراء المنضدة، بينما وقفت هي تنتظر. قال: ـ التهاب في اللوزتين، لا داعي للقلق. تناول واحدة من قصاصات الورق الابيض ليكتب عليها وصفة من حبوب التتراسيكلين وأضاف: ـ سيزول الألم سريعاً مع تناول هذا الدواء. قالت: لا أدري إذا كنت أستطيع الحصول على الدواء في هذا الزحام القاتل أمام الصيدلية. قال الممرض وهو ينقل نظره بينهما: ـ لا يوجد في صيدلية المستشفى إلا حبوب السلفا ومزيج السعال. طلب من الممرض أن يذهب "بالروشتة" ويسلمها لمحسن مدير الصيدلية من الباب الخلفي. عاد الممرض بعد دقائق قليلة بعلبة الدواء ووضعها على المنضدة بانزعاج ظاهر. ـ إنني أتردد على العيادة الخارجية منذ أربعة أسابيع، نفس الكشف ونفس الدواء. هذا لا يفيدني. ـ لا يوجد في المستشفى غير هذا الدواء، قال الطبيب، ثم أضاف "أمامك العيادات الخاصة". نظر المريض إليه يائساً وقبل أن يتفوه بكلمة أبعده الممرض بخشونة ليفسح الطريق لامرأة تحمل رضيعاً. نظر الطبيب إلى الطفل ثم إلى الأم وسألها: ـ مالك ومال أطفالي! هذا هو المريض أمامك. كظم غيظه وقال: لماذا لم تأتِ به قبل أن يصل هذه الحالة؟ ـ عندما كان طفلك من نصيبنا تركتيه لعناية الخالق، وعندما صار من نصيب الخالق أتيت به إلينا. "سبحان الله" قال في سره، "نستقبل الحياة بالصريخ ونودعها بالتبرز". "هؤلاء فقط، أما الباقون فسينتظرون نوبة المساء".
كثيرا ما أغنى الأطباء عالم الاقصوصة بتجاربهم اليومية التي يتعاملون فيها مع الإنسان في أشد لحظاته ضعفا وهشاشة، هنا يكشف القاص السوداني برهافة وشعرية واقعيةعن أن الطبيب لايقل ضعفا عن مرضاه.
عنبر دُقدق