تسعى هذه الدراسة للكشف عن أثر العقل المتحضر على مفردات الأسطورة القديمة أثناء استخدامه لها في الشعر من خلال تحليل للتناصات الأسطورية في قصيدة بدر شاكر السياب الخالدة «أنشودة المطر».

التحريف الأسطوري

في أنشودة المطر

عبدالهادي أحمد الفرطوسي

مدخل
غاية هذه الدراسة(1) الكشف عن أثر العقل المتحضر على الرؤيا الأسطورية وتحريف رموزها لتحقيق التلاحم بين العقل الواعي والرموز الغريزية في النص الأدبي الحديث . وهذه الدراسة استمرار لدراسة سابقة جعلت من قصيدة (ويبقى لنا البحر) لنازك الملائكة مادة للتحليل، فخرجت إلى أن في القصيدة المذكورة قد تحقق تحريف في الرموز الأسطورية المرتبطة بالأنماط العليا لأجل دمجها في نمط نفسي ملتحم بالعقل الواعي، ثمّ خرجت إلى وجود رموز ذات بعد فلسفي نابعة عن الوعي، تتواشج مع الرموز الأسطورية محققة الدلالة الكلية للنص. وتسعى هذه الدراسة إلى استكمال ما توصل اليه البحث السابق باعتماد قصيدة (انشودة المطر) لبدر شاكر السياب مادة للتحليل وبالاستفادة من بعض آراء رولان بارت في الأساطير وقراءته السياسية لها.

يتبيّن من القراءة الأولى لقصيدة أنشودة المطر أن ألفاظ الماء هي المهيمنة على القصيدة، فقد تضمنت خمسا وثمانين لفظة من ألفاظ الماء و خمسا وثلاثين لفظة من الألفاظ المجاورة لها، وقد تكررت لفظة المطر خمسا وثلاثين مرة فكانت الأشد هيمنة على النص، ويجرنا الحديث عن مهيمنة الماء إلى الإشارة إلى الدراسة السابقة ودراسة أخرى عن شعر مرتضى فرج الله، وقد كان الماء المهيمنة في كل منهما، كما هو في أنشودة المطر، غير ان في قصيدة فرج الله كان النهر هو المفردة الأشد هيمنة من بين ألفاظ الماء، مما جعلها تستدعي أضدادها متمثلة بألفاظ الجفاف، أما قصيدة نازك، ولما كان لفظ البحر هو الأشد هيمنة عليها، فقد تمثلت الألفاظ المضادة للماء بألفاظ النار.

وحين ننتقل إلى انشودة المطر نجد لفظة المطر، و هي الأشد هيمنة من بين ألفاظ الماء، قد تكررت خمسا وثلاثين مرة دون ان تستدعي شيئا من أضدادها من ألفاظ الجفاف او ألفاظ النار، لكن ألفاظ الماء قد انشطرت على نفسها مكونة تقابلا ضديا بين ألفاظ الماء العذب وألفاظ الماء المالح، فكان ان تضمّن حقل الماء العذب ألفاظ: المطر (35 مرة)/ قطرة (6 مرات)/ الغيوم (مرتين)/ الندى/ النهر/ الفرات/ السحاب/ الضباب، والأفعال: تشرب (5 مرات)/ يسحّ (مرتين)/ تهطل (مرتين)/ تغيم (مرتين)/ تراق (مرتين)، يضاف لها ألفاظ مجاورة لألفاظ الماء العذب هي: البروق (مرتين)/ الرعود/ المجداف (مرتين)/ الشباك/ المزاريب، فتكون مجموع الألفاظ المنتمية إلى حقل الماء العذب 68 لفظة. 

اما حقل الماء المالح فقد تضمن ألفاظ الخليج (12 مرة)/ دموع (4 مرات)/ لجّة (مرتين)/ البحر/ أمواج/ أجاج، تضاف لها ألفاظ مجاورة لألفاظ الماء المالح هي: محار(6 مرات)/ سواحل/ يغرق/ غريق، فيكون مجموع الألفاظ المنتمية إلى حقل الماء المالح 30 لفظة.

وقد ارتبطت ألفاظ الماء العذب بحقل دلالي أوسع يمكن أن نطلق عليه الحقل الموجب تنضوي تحته ألفاظ الحقول الدلالية لكل من الحياة والضوء والفرح والأمل إضافة إلى ألفاظ الماء العذب، بينما ارتبطت ألفاظ الماء المالح بحقل مضاد نطلق عليه الحقل السالب تنضوي تحته حقول الموت والظلام والحزن والتشاؤم، وستبين القراءة الاستكشافية كل هذه الألفاظ.

* * *

تبدأ القصيدة بجملة اسمية معقدة:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر(2).

الخبر في هذه الجملة جاء معطوفا على اسم آخر (شرفتان)، والاسم المعطوف النكرة جاء موصوفا بجملة فعلية (راح)، ويأتي فاعل الفعل الواصف موصوفا بدوره بجملة حالية فعلية (ينأى)، هكذا تتوالد الجمل داخل رحم الجملة الأولى محققة عدة تقابلات طباقية بين الجملة الأم وجملها الفرعية، منها:

1 ـ التقابل بين سكونية الجملة الاسمية ولازمنيتها وبين حركية الجملتين الفعليتين وزمنيتهما، إن تجاور الفعلين (راح) و(ينأى) يجعل من النأي فعلا مستمرا دائما، يبدأ من الماضي ويجري إلى المستقبل.

2 ـ تمثّل هذه الجملة اللحظة البدئيّة المستقرّة ـ من الوجهة السردية ـ بينما يمثّل الفعلان اللاحقان التغيرات والأحداث التي سيستغرقها النص باعتبار الجملة الأولى للنص الصورة الجنينية له.

3 ـ تحيل الدلالة الإيحائية للخبر والألفاظ المتعلقة به على الولادة وارتباط الحياة بالضوء، بينما يحيل المعطوف والألفاظ المتعلقة به على الموت وارتباطه بالظلام، ان الصورة المتحققة بوساطة التشبيه الأول (غابتا نخيل ساعة السحر) توحي بنبض الحياة المتدفقة في كائنات الغابة من نبات وحيوان وقد بعث الفجر خيوطه إليها، فيأخذ الظلام بالتبدد التدريجي وتبدأ الخضرة تدب بهدوء على وجه الغابة معلنة مولد نهار جديد، هكذا يتحقق الترابط الوثيق بين الزمان والمكان في هذه الصورة، الزمان بوصفه ضوءا يتسلل بهدوء، فيغمر المكان بصفته غابتي نخيل قابعتين تحت ضوء السحر، وبتكثف المكان واندماجه في حركة الزمان يولد الموضوع: انبعاث الحياة وولادتها الجديدة، ذلك هو الزمكان الأدبي بتعبير باختين(3).

وفي التشبيه الثاني: (شرفتان راح ينأى عنهما القمر) يتحقق الزمكان ثانية فيندمج المكان المتمثل بـ (شرفتين) بالزمان المتمثل بالقمر الجانح إلى المغيب مكونا صورة شعرية توحي بسكون الموت، إن القمر وهو يبتعد بهدوء عن الشرفتين جانحا إلى المغيب يبعث بأشعة صفراء باهتة تلون واجهة الدار بالشحوب وتضفي على الشرفتين ظلمة داكنة فتبدوان كلحدين مظلمين أو محجرين في جمجمة ميت، هكذا يولد اندماج المكان بالزمان صورة دقيقة للموت المقترن بالظلام تتقابل مع صورة الحياة التي رسمها التشبيه الأول.

يشكل هذا التقابل صورة مصغّرة للتذبذب الدلالي الذي ستبينه القراءة الاستكشافية والذي يسهم في تحقيق شعرية النص بحسب ريفاتير(4).

4 ـ ان التعقيد النحوي الذي تميزت به هذه الجملة متمثلا بتوالد الجمل ـ كما مرت الإشارة إليه ـ مضافا إليه موقع فاعل الفعل (راح) الذي تأخر إلى ما بعد الجملة الحالية (ينأى عنهما)، فكان أن تقدم الحال على صاحبه وعاد الضمير المستتر (فاعل الفعل ينأى) على متأخر لفظا، كل تلك الظواهر تشكل انزياحا نحويا مهمّا تصدق عليه عبارة ريفاتير (اللانحوية)(5)، والتي يرى فيها ان المولدّ الشعري لا يظهر الا عبرها(6)، وبناء عليه فان هذه الجملة قد شكلت المولدّ الشعري الذي ُتنتَج القصيدة عن تحولاته(7).

5 ـ كانت عينا الحبيبة باعتبارهما مشبها مصدرا للصورتين المتضايفتين الآنفتي الذكر، «ولما كان الانحراف عن التصوير المقبول للواقع دعوة صريحة إلى التوجه نحو تفسير رمزي»(8)، فإن لاواقعية الصورتين تبعد الحبيبة عن صفة الواقعية وتمنحها بعدا رمزيا أسطوريا. ولأجل دراسة تحولات هذا المولدّ الشعري فالأمر يقتضي تقسيم النص على وحدات باعتبار المعنى معيارا للتقسيم.

* * *

الوحدة الأولى
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء كالأقمار في نهر
يرجه المجذاف وهناً ساعة السحر
كأنما تنبض في غوريهما النجوم(9).

تتميز هذه الوحدة بهيمنة الصور الشعرية ذات العلاقات الذهنية الإيحائية ـ على المستوى البياني ـ وقد اعتمدت على أربعة تشبيهات وثلاث استعارات.

وقد تضمنت مفردة واحدة تنتمي إلى حقل الماء العذب هي النهر، وأخرى مجاورة لها هي المجذاف، و قد اقترنت ألفاظ الماء العذب بألفاظ الضوء فكانت السحر (مرتين) والقمر والأضواء والأقمار والنجوم ألفاظا من حقل الضوء اقترنت بلفظة النهر بينما اقترنت بها من ألفاظ الحياة: غابتان ونخيل والكروم وتورق وترقص وتنبض، ويتمثل الأمل بالفعل تبسمان، ولا نجد من ألفاظ القطب السالب غير الفعل (ينأى).

الوحدة الثانية:
وتغرقان في ضباب من أسى شفيف
كالبحر سرّح اليدين فوقه المساء
دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف
والموت والميلاد والظلام والضياء
فتستفيق ملء روحي رعشة البكاء
ونشوة وحشية تعانق السماء
كنشوة الطفل اذا خاف من القمر(10).

تبقى الصور الذهنية هي السائدة باعتماد التشبيه وسيلة كما في الوحدة الأولى، وتحل مفردة البحر محل مفردة النهر في الوحدة الأولى، ولما كانت المهيمنة تحكم وتحدد العناصر الأخرى، كما يقول جاكبسن(11)، فإن مفردة البحر تجر إليها مفردات من حقل الظلام: الضباب والمساء والظلام، وأخرى من حقل الموت: تغرقان والشتاء والخريف والموت، وثالثة من حقل الحزن: أسى والبكاء وخاف، وبذلك يحقق القطب السالب حضوره الملحوظ في هذه الوحدة بعد ان كان غيابه كليا في الوحدة السابقة.

وتبقى مفردات: الميلاد وروحي والضياء والقمر وشفيف ودفء و ارتعاشة وتعانق ونشوة (مرتين) وتستفيق... تشير إلى حضور القطب الموجب حضورا معادلا. 

الوحدة الثالثة:
كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم
وقطرة فقطرة تذوب في المطر
وكركر الأطفال في عرائش الكروم
ودغدغت صمت العصافير على الشجر
أنشودة المطر
مطر مطر مطر(12).

تضمنت تشبيها واحدا (كأن أقواس السحاب) واستعارتين (دغدغت صمت العصافير) و (أنشودة المطر)، وتتكرر مفردة المطر خمس مرات ومعها قطرة (مرتين) والسحاب والغيوم وتشرب... مفردات من حقل الماء العذب، فتجر إليها (أقواس) من حقل الضوء مشيرة إلى أقواس قزح، وعرائش وكروم وشجر والأطفال.. من حقل الحياة، ومعها كركر ودغدغت وعصافير.. من حقل الأمل، لتعلن جميعها الحضور الكلي للحقل الموجب والغياب الكلي للحقل السالب. 

الوحدة الرابعة:
تثاءب المساء والغيوم ما تزال
تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال
كأن طفلا بات يهذي قبل أن ينام
بأن أمّه التي أفاق منذ عام
فلم يجدها ثمّ حين لجّ في السؤال
قالوا له بعد غد تعود
لابد ان تعود
وإن تهامس الصغار انها هناك
في جانب التلّ تنام نومة اللحود
تسفّ من ترابها وتشرب المطر(13).

يتقلّص المستوى البياني فلا يرد إلاّ تشبيه واحد واستعارتان لحساب المستوى السردي الذي يسرد حكاية كاملة تستغرق المساحة الأغلب من الوحدة، وتبرز مفردة (دموع) المنتمية إلى حقل الماء المالح وقد سبقتها مفردة (غيوم) ـ المنتمية إلى حقل مجاور لألفاظ الماء العذب ـ وقد قلب أثرها الإيحائي بتأثير إسناد الفعل (تسح) إلى الغيوم والتضايف القائم بين الضمير العائد عليها فجعلها تعزز دلالة الدموع، وتأتي لفظة (المساء) المنتمية إلى حقل الظلام، والألفاظ: ينام (مرتين) ونومة واللحود وتثاءب.. المنتمية إلى حقل الموت، لتحقق هيمنة الحقل السالب، وتبقى المفردات: طفلا وأفاق والمطر.. تشد الوحدة إلى الحقل الموجب. 

الوحدة الخامسة:
كان صيادا حزينا يجمع الشباك
ويلعن المياه والقدر
وينثر الغناء حيث يأفل القمر
مطر مطر(14).

ترد استعارة واحدة فقط (ينثر الغناء)، وتبرز (المياه) مفردة محايدة بين حقلي الماء العذب والماء المالح، ويبدو التعادل بين الحقلين واضحا، فالمفردات: حزين والشباك ويأفل.. تقابل: الغناء والمطر والقمر. 

الوحدة السادسة:
أتعلمين أي حزن يبعث المطر
وكيف تنشج المزاريب اذا انهمر
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع
بلا انتهاء كالدم المراق كالجياع
كالحبّ كالأطفال كالموتى هو المطر(15).

أربع صيغ استفهام خرجت إلى التعجب واستعارة واحدة وخمسة تشبيهات لمشبه واحد هو المطر.

المطر المفردة الأشد هيمنة على القصيدة تبرز فاعليتها هنا أشد مما هي عليه في أي وحدة أخرى، انها تتكرر مرتين بلفظها ومرة ضميرا مستترا (في انهمر) وآخر بارزا في (فيه) ومرتين بلفظين مجاورين لها متعلقين بها: المزاريب وانهمر، وعلى المستوى النحوي هي الفاعل للفعل (انهمر) والظرف الزمكاني للفعل (يشعر) والمبتدأ للأفعال الخمسة المبدوءة بالكاف، ان المطر هو البؤرة الشعرية لهذه القصيدة وبحضوره المتميز هنا فقد شكلت الوحدة ركيزة هامة في تحولات القصيدة.

لكن ما يلفت الانتباه إلى ان لفظة (المطر) المنتمية إلى حقل الماء العذب بتكرارها المشار اليه وبحضور اللفظين المجاورين لها تفترض استدعاء هيمنة الحقل الموجب، غير ان ما حصل وبحضور ألفاظ: الحزن وتشنج والضياع والدم المراق والجياع والموتى... المنتمية إلى الحقل السالب، حققت تعادلا بين الحقلين مما منح الوحدة صفة حيادية استمرارا للوحدة السابقة، لكنها على الضد من الوحدة السابقة التي كانت حياديتها سكونية، ان حيادية الوحدة السادسة مشحونة بالتوتر الذي يبلغ ذروته بالسطرين الأخيرين بوساطة توالي الألفاظ: الدم المراق والجياع والموتى... من جهة، والحب والاطفال والمطر... من جهة أخرى.

الوحدة السابعة:
ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
وعبر أمواج الخليج تمسح البروق
سواحل العراق بالنجوم والمحار
كأنها تهم بالشروق
فيسحب الليل عليها من دم دثار(16)
.

تجتمع هنا لفظتا المطر والخليج معا محققتين ثنائية ضدية تتعزز الأولى بلفظة البروق، والثانية بلفظة الأمواج، وتتقابل: مقلتاك والبروق والنجوم والشروق مع الليل ودثار على محور الضوء والظلام، وتقابل لفظة المحار من حقل الحياة لفظة الدم من حقل الموت، وتنحاز لفظة سواحل إلى الحقل الإيجابي بفعل تقابلها مع لفظة البحر او الخليج المنتمي إلى الحقل السلبي، فترسخ هيمنة القطب الإيجابي، غير ان البيت الأخير يشكل انعطافة موباسانية حادة تنعطف بالوحدة إلى الحقل السالب. 

الوحدة الثامنة:
أصيح بالخليج يا خليج
يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى
فيرجع الصدى
كأنه النشيج
يا خليج
يا واهب المحار والردى(17).

استمرارا للانعطافة الحاصلة في نهاية الوحدة السابقة تختفي كل المفردات المنتمية إلى حقل الماء العذب، وتتكرر مفردة الخليج ثلاث مرات تعززها لفظتا النشيج والردى (مرتين) مؤكدتين هيمنة القطب السالب وضمور الموجب الذي لا تبرز من الفاظه الا اللؤلؤ، ويأتي الحذف المرافق للتكرار ليرسخ تلك الهيمنة، فلفظة اللؤلؤ الموحية بالأمل تختفي من الجملة عند تكرارها. 

الوحدة التاسعة:
اكاد أسمع العراق يذخر الرعود
ويخزن البروق في السهول والجبال
حتى إذا ما فضّ عنها ختمها الرجال
لم تترك الرياح من ثمود
في الوادي من أثر(18).

تتحقق هيمنة القطب الموجب بوساطة لفظتي الرعود (مرتين) والبروق باعتبارهما من الألفاظ المجاورة لألفاظ الماء العذب، لكن الانعطافة الموباسانية التي وجدناها في الوحدة السابعة تتحقق ثانية، معبرة عن ضراوة الصراع بين الثورة وأعدائها. 

الوحدة العاشرة:
اكاد أسمع النخيل يشرب المطر
وأسمع القرى تئنّ والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع
عواصف الخليج منشدين
مطر مطر مطر(19).

تتحقق هيمنة القطب الموجب بلفظتي يشرب والمجاذيف وتتتوّج الهيمنة بحضور لفظة المطر أربع مرات وتتعزز بمفردتي النخيل (المنتمية إلى حقل الحياة) ولفظة منشدين (المنتمية إلى حقل الأمل)، بينما يتحقق حضور القطب السالب بلفظتي الخليج وتئن. 

الوحدة الحادية عشرة:
وفي العراق جوع
وينثر الغلال فيه موسم الحصاد
لتشبع الغربان والجراد
وتطحن الشوان والحجر
رحى تدور في الحقول حولها بشر
مطر مطر مطر(20).

تختفي ألفاظ الماء بحقليه، ويبرز من الوجه السالب: الجوع والحصاد والغربان والجراد و الحجر مرسخا هيمنة الحقل السالب، ولا يظهر من الحقل الموجب الا لفظتا التلال والحقول.

وتأتي لفظة المطر المتكررة ثلاث مرات منفصلة عن السياق الدلالي للوحدة الحالية والوحدة اللاحقة، فلا تؤدي الا وظيفة صوتية إيقاعية فتشكل لازمة تختم بها الوحدة .

الوحدة الثانية عشرة:
وكم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع
ثمّ اعتللنا خوف ان نلام بالمطر
مطر مطر(21).

يهيمن القطب السالب بوساطة: ليلة والرحيل ودموع وخوف، بينما تبقى لفظة المطر وتكرارها تشد الوحدة إلى القطب الموجب. 

الوحدة الثالثة عشرة:
ومنذ ان كنا صغارا كانت السماء
تغيم في الشتاء
ويهطل المطر
وكل عام ـ حين يعشب الثرى نجوع
ما مر عام والعراق ليس فيه جوع
مطر مطر مطر(22).

ترد لفظة المطر أربع مرات تعززها كلمتا الغيم ويهطل، وتتسع هيمنة القطب الموجب بلفظة العشب المنتمية إلى حقل الحياة بينما تشد المفردات: الشتاء ونجوع وجوع.. الوحدة إلى الحقل السالب.

يتحقق التذبذب الدلالي من خلال سلسلة التضاد القائمة بين الصور الآتية، وكسر التسلسل المنطقي فالعلاقات بين أن تغيم السماء وهطول المطر وإعشاب الثرى علاقات منطقية سببية مألوفة لكن العلاقات السببية المألوفة تتوقف في الحدث الرابع (نجوع)، وتأتي عبارة "مطر.. مطر.. مطر" لتضيف مفارقة جديدة. 

الوحدة الرابعة عشرة:
في كلّ قطرة من المطر
حمراء او صفراء من أجنة الزهر
وكل دمعة من الجياع والعراة
وكل قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
او حلمة توردت على فم الوليد
في عالم الغد الفتي واهب الحياة
مطر مطر مطر
سيعشب العراق بالمطر(23).

يتحقق التقابل بين الماء العذب والماء المالح بالتقابل بين قطرة من المطر ودمعة، ويتعزز الأول بتكرار المطر خمس مرات وبحضور المفردات: أجنة والزهرة وابتسام ومبسم وحلمة وتوردت والوليد والحياة والغد ويعشب... مؤكدة هيمنة القطب الموجب، وضمور القطب السالب الذي تتمحور حول بؤرته (دمعة) ألفاظ: الجياع والعراة ودم... وتأتي اللازمة (مطر.. مطر.. مطر) خلافا لوظيفتها في الوحدة السابقة، لتؤكد هيمنة القطب الموجب، وتتعزز بجملة خبرية ذات بعد كنائي (سيعشب العراق بالمطر) مؤكدة المعنى المجازي لتلك اللازمة. 

الوحدة الخامسة عشرة:
أصيح بالخليج يا خليج
يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى
فيرجع الصدى
كأنه النشيج
يا خليج
يا واهب المحار والردى(24).

يحقق تكرارها التذبذب الدلالي المشار اليه آنفا تمهيدا للوحدة القادمة. 

الوحدة السادسة عشرة:
وينثر الخليج من هباته الكثار
على الرمال رغوه الأجاج والمحار
وما تبقى من عظام بائس غريق
من المهاجرين ظل يشرب الردى
من لجة الخليج والقرار
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق
من زهرة يربها الفرات بالندى(25).

تتمحور حول لفظة الخليج المتكررة مرتين ألفاظ: الرغو والأجاج وعظام وغريق والردى والقرار وأفعى... مؤكدة هيمنة القطب السالب، بينما لا يظهر القطب الموجب الا في خاتمة الوحدة متمثلا بلفظة الفرات، لتتمحور حوله ألفاظ الندى وزهرة والرحيق وتشرب (مرتين) والمحار. بفضل هذا التقابل بين المحورين يتحقق التوتر الذي يمنح السلبية بعدا دراميا عميقا، ليبلغ التذبذب مداه الأقصى مع الانعطاف الحاد الذي يبرز في الوحدة الأخيرة، وتأتي الألفاظ الموجبة: تشرب والرحيق وزهرة والفرات والندى تمهيدا لتحقيق ذلك الانعطاف.

الوحدة السابعة عشرة:
واسمع الصدى
يرن في الخليج
مطر مطر مطر(26).

يتقابل القطبان: مطر والخليج في وحدة قصيرة معلنة هيمنة القطب الموجب بتكراره ثلاث مرات، لكنه ينبع هنا من القطب السالب (الخليج)، هكذا تحمل الظاهرة في داخلها نقيضها. 

الوحدة الثامنة عشرة:
في كلّ قطرة من المطر
حمراء او صفراء من أجنة الزهر
وكل دمعة من الجياع والعراة
وكل قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
او حلمة توردت على فم الوليد
في عالم الغد الفتي واهب الحياة
مطر مطر مطر
ويهطل المطر(27).

يتكرر منطوق الوحدة الرابعة عشرة بتحريف صغير هو ورود جملة جديدة تختم بها القصيدة هي: (سيهطل المطر) علامة على استمرار الصراع وأبديته.

* * *

تكشف القراءة السابقة عن حدة التذبذب الدلالي الذي تولد في النص منذ الجملة الأولى بين الحقل الموجب والحقل السالب، وتكشف عن غلبة الحقل الموجب على نظيره في ذلك التذبذب و(الجدول رقم 1) يقدم إحصاء لمجمل الألفاظ المنتمية لكل حقل في كل وحدة، والمخطط (رقم 1) يقدم رسما بيانيا لذلك التذبذب. غير أن تذبذبا آخر تكشفه القراءة السابقة يصلح ان نطلق عليه التذبذب البياني، حيث جرى تصنيف الأدوات البيانية إلى صنفين: صنف المشابهة ويضم الاستعارات والتشبيهات، وصنف المجاورة ويضم الكنايات والمجازات المرسلة مضافا إليهما التراكيب المباشرة، ويقدم (الجدول 2) إحصاء لكلا الصنفين في كل وحدة نصية، ويقدم (المخطط 2) رسما بيانيا لذلك التذبذب البياني على امتداد القصيدة ودرجة هيمنة كل صنف.

واستنادا إلى كل من جاكوبسن ورولان بارت فإن علاقات المشابهة تهيمن على الشعر عامة وعلى الشعر الرمزي خاصة، أما علاقات المجاورة فهي تهيمن على الفنون الحكائية عامة والواقعية خاصة(28) . ويتأسس على حضور كل من علاقات المجاورة وعلاقات المشابهة ان النص المذكور يجمع بين ملامح الغنائية الرمزية وبين ملامح الحكائية الواقعية، ومن ثم فهو نابع من الوعي واللاوعي معا، تتداخل فيها الأسطورة التي يبثها اللاوعي الجمعي بالأيديولوجيا التي يرسمها الشاعر بقصدية واعية، وبناء عليه فإن القراءة الاسترجاعية تسعى إلى الكشف عن كل من البعد الأسطوري والمغزى الأيديولوجي وأثر كل منهما على الآخر.

* * *

ابتداء يحيلنا انقسام المهيمنة على حقلي الماء العذب والماء المالح على الأسطورة البابلية (حينما في العلى) وكون أول إلهين في الوجود هما آبسو (إله الماء العذب) و تيامات (إلهة الماء المالح)(29)، كلا هذين الإلهين مقتولا، قتل الأول على يد إنكي والثانية على يد مردوخ، فصار جسد الأول مياه الينابيع التي يتربع عليها عرش انكي إله الحكمة، وجسد الثانية قسمه مردوخ إلى نصفين، رمى نصفا إلى فوق فكانت السماء ونصفا إلى تحت فكانت الأرض(30).

ترى ما نوع التناص هنا بين نص السياب والنص المناصّ؟

الأنثى في النص المناصّ هي إلهة الماء المالح، أما في النص الجديد فهي تبرز مقترنة بهيمنة الحقل الموجب، الذي يشكل حقل الماء العذب قطبه الرئيس، لقد تحقق حضور الأنثى في خمس وحدات هي: الأولى والثانية والرابعة والسادسة والسابعة، ويتحقق حضورها الأعظم في الوحدة الأولى، حيث تبلغ هيمنة القطب الموجب 15، وتتمثل الأنثى هنا بخمس علامات: كاف الخطاب في (عيناك) مرتين، والضمير هما في (منهما) و (غوريهما) وألف الإثنين في (تبسمان)، وتأتي في الوحدة السابعة، وإذ تبلغ هيمنة الموجب ثلاث درجات، متمثلة بالكاف في (عيناك) وألف الإثنين في (تطبقان). أما في الوحدتين الثانية والسادسة، وحيث يتحقق التعادل بين القطبين تحضر الأنثى متمثلة بألف الاثنين في (تغرقان) وياء المخاطبة في (تعلمين) فقط.

وخلاصة الأمر ان درجة حضور الأنثى تتناسب طرديا مع درجة هيمنة القطب الموجب، وأنها تغيب عن كل الحقول التي يهيمن عليها القطب السالب، إلا في الوحدة الرابعة. وفي الوحدة الرابعة، وقد هيمن القطب السالب بخمس درجات، فإن الأنثى تحقق حضورها بتسع علامات هي: أمّه والضمير المتصل ها في (يجدها) و (أنها) و (ترابها)، والضمير المستتر في (تعود) مرتين و (تنام) و (نسف) و (تشرب). وقد نجد في ذلك خرقا لما استنتجناه قبل قليل، لكن التحليل اللاحق سيكشف عن المسوغ الموضوعي لذلك. في النص الجديد تكون الأنثى سببا في إيراق الكروم ونبض النجوم ورقص الأضواء، وبذلك يحقق التناص نفيا جزئيا حيث يؤدي النص الجديد إثباتا ونفيا متزامنين للنص الآخر(31)، وذلك أوّل تحريف يفرضه العقل المتحضر على الأسطورة في النص الجديد.

تحيل الصورتان البيانيتان في جملة الاستهلال، واستنادا إلى التحليل السابق، إلى أسطورة أخرى، تلك هي اسطورة الخليقة السومرية، فتتناص الأنثى في النص الجديد مع (نمو) إلهة البحر الأول، والتي منها نشأ الوجود بأكمله، فخلق فيها ومنها أول إلهين آنو إله السماء وزوجه إلهة الأرض، ومنهما نشأ الوجود بأكمله(32)، هكذا كانت الأنثى في النص الجديد، منها نشأة الحياة والموت، والنور والظلام، وساعة السحر وأفول القمر.

غير ان الأنثى في الوحدة الرابعة تحيلنا ثانية على تيامات، تيامات الإلهة القتيلة على يد حفيدها مردوخ، والتي مازالت جثة هامدة، مثلها أنثى أنشودة المطر: ما زالت «تنام نومة اللحود/ تسف من ترابها وتشرب المطر»، هكذا تشرب المطر مثل جثة تيامات التي تسقيها جثة آبسو، فتنبثق من موتهما الحياة، والانحراف الذي يصيب الأسطورة هنا هو أن الابن على الضد من مردوخ يلجّ بالسؤال بانتظار عودتها هاتفا «لا بد أن تعود»، الانحراف المشار اليه يحصل بتأثير الأيديولوجيا ـ فالأيديولوجيا هنا ـ وليست الأسطورة ـ هي الأداة القادرة على القلب الأسطوري(33).

اننا هنا قادرون على إدراك بعض من الانزياحات التي تعرضت لها أسطورة الأم الكبرى، ونستطيع أن نقول أن النمط الأصلي الأول الذي أبدعه العقل الوحشي لم يصلنا لأنه ظهر في عصور موغلة في القدم سابقة لاختراع الكتابة بزمن طويل، وان كل ما وصلنا لا يزيد على صور محرفة للأنماط العليا حرفها العقل المتحضر، ليحقق التلاؤم بوساطة هذا التحريف مع العقل الواعي، ولعل أقرب أساطير الأم الكبرى إلى النمط الأصلي هو الأسطورة السومرية المشار إليها آنفا، والتي تأتي فيها نمو متجانسة مع الأم المعبودة في العصور القديمة. أما تيامات ـ في حينما في العلى ـ فهي التحريف الذي طرأ على نمّو في ظل واقع سياسي واجتماعي جديد، فالأسطورة "عبارة عن كلام انتزعت عنه صفته السياسية"(34)، أن الصفة السياسة المنتزعة من الأسطورة البابلية هي هيمنة الفكر الذكوري، وما رافق ذلك من تهميش دور المرأة وعدّها مصدرا للشرور، ومن السياسي المنتزع أيضا الكلام على تقويض نظام اجتماعي وقيام نظام اجتماعي جديد على انقاضه. ويأتي التحريف في أسطورة السياب تعبيرا عن الحنين اللاواعي إلى العودة إلى المجتمع البدائي الذي ينتفي فيه استغلال الإنسان للإنسان، وتحت التأثير الواعي للانتماء الأيديولوجي، بتضافر الوعي واللاوعي يتحقق ما يسميه البنيويون بالخارج شعوري(35) .

* * *

يقول رولان بارت «لا يمكن للغة الثورية ان تكون لغة أسطورية»(36)، لذلك فان الحضور المزدوج للأسطورة والأيديولوجيا لم يكن متواشجا على امتداد القصيدة، وانما تقاسم الاثنان النص تقاسما أفقيا، إن إطلالة سريعة على المخطط (رقم 2)، الخاص بالتذبذب البياني، يرينا الخط البياني وهو يتحرك داخل حقل المشابهة (التي ترتبط بالأسطورة النابعة عن اللاوعي، كما مر) من الوحدة الأولى حتى الوحدة السابعة ـ وإن انحرف إلى حقل المجاورة في الوحدتين الرابعة والخامسة ـ ثم نجده ينعطف نحو حقل المجاورة (الذي يرتبط بالأيديولوجيا النابعة عن الوعي، كما مر) من الوحدة الثامنة حتى الوحدة الثامنة عشرة، أي أن العقل المتحضر، ولأنه هنا عقل ثوري، لم يكتف بتحريف الأسطورة كما حصل في قصيدة نازك الملائكة(37)، وإنما سعى إلى استبعادها «لأن الثورة تستبعد الأسطورة»(38)، إن الوحدات السبعة الأولى من النص تكشف عن الاصطراع العنيف بين الوعي واللاوعي، بين الأسطورة والأيديولوجيا، فالأسطورة تبدأ مع النص بدفقة عنيفة في الوحدة الأولى، حيث تسجل المشابهة هيمنتها بثماني درجات، وتحقق الأنثى حضورها بخمس علامات، وفي الوحدة الثانية تنحسر هيمنة المشابهة إلى درجة واحدة، فينحصر حضور الأنثى بعلامة واحدة، ثم ينعدم حضورها في الوحدة الثالثة وتضمر هيمنة المشابهة فيها إلى الصفر، وفي هذه الوحدة بالذات تدخل لفظة المطر (البؤرة الشعرية للقصيدة) لأول مرة مكررة خمس مرات، وسيجري الحديث بين ذلك وبين الأيديولوجيا لاحقا.

وفي الوحدة الرابعة، حيث ينعطف الخط البياني منتقلا من حقل المشابهة إلى حقل المجاورة (التي تبلغ هيمنتها ثماني درجات) مشيرا إلى الانتقال من الأسطوري إلى الأيديولوجي، نجد حضور الأنثى المتناصّة مع تيامات طاغيا، لكن، وكما مر قبل قليل، إن الوعي الثوري يحقق قلبا أيديولوجيا، ان هذا الحضور الأسطوري والقلب الأيديولوجي يشكل ذروة الصراع بين الوعي واللاوعي، فالأسطورة بعد أن قلبت ايديولوجيّاَ في الوحدة الرابعة، تغيب تماما في الخامسة، ثم تعاود الظهور في السادسة متمثلة بعلامة واحدة (ياء المخاطبة في أتعلمين)، لكن لفظة المطر التي تحقق حضورها الأقصى ـ كما مر في القراءة السياقية ـ تقمع الأسطورة وتحول مسار القصيدة نحو الأيديولوجيا، وتأتي الوحدة السابعة لتعلن موت الأسطورة (المتمثلة بكاف الخطاب في مقلتاك) بلفظة العراق، التي تظهر لأول مرة في النص، وتستمر بالظهور لاحقا، بينما تغيب العلامات الدالة على الأنثى إلى نهاية النص.

* * *

«ما يقدمه العالم للأسطورة هو واقع تاريخي محدد بالشكل الذي انتجه البشر او استخدموه، وما تحييه الأسطورة هو تلك الصورة الطبيعية لهذا الواقع»(39). الأسطورة إذن تحول التاريخي إلى طبيعي، انها تقلب الواقع، تفرغه من التاريخ وتملؤه بالطبيعة(40)، لكن الذي نجده في أنشودة المطر على الضد من هذا، في النص المذكور يتحول الطبيعي إلى التاريخي، المطر بوصفه ظاهرة طبيعية لا يحافظ على هذه الصفة، يتحول إلى تاريخي، فالأيديولوجيا هنا تسيّس الطبيعة وتسيّس المطر. يحضر المطر في الوحدة الثالثة، وبحضوره تغيب الأنثى بوصفها دالا أسطوريا، لكن الأثر الأسطوري على أجواء الوحدة يبقى، حيث "يخرج من الاسطورة ما يشبه لوحة متناغمة من الماهيات"(41)، وتلك وظيفة الأسطورة، فالتناغم جلي بين كركرة الأطفال وعرائش الكروم وصمت العصافير على الشجر ودغدغات أنشودة المطر ومطر... مطر... مطر... لكن الوعي الثوري لا يسمح لهذا التناغم بالاستمرار، حتى إذا وصلنا إلى الوحدة السادسة وجدنا الصفة السياسية للمطر واضحة من خلال سلسلة التشبيهات، فهو كدم الضحايا المراق وهو كالجياع، وفي الوحدة السابعة، وحيث يلفظ الدال الأسطوري (كاف الخطاب في مقلتاك) أنفاسه الأخيرة، تبرز بوساطة الصور البيانية صورة الثورة بما فيها من أمل ودم وتضحيات. وفي الوحدة التاسعة تغيب لفظة المطر ظاهريا لكنها تبقى بوساطة اللفظين المجاورين لها: الرعود والبروق، ومرّة أخرى بوساطة الصور المجازية تتجلى صورة الثورة العنيفة. وفي العاشرة تتواشج المفردتان المتضادتان: المطر والخليج في لوحة فنية معقدة تتضافر الاستعارات بالصور الفوتوغرافية لتقدم صورة الصراع بين الثورة وأعدائها، تنتهي بالتبشير بحتمية انتصار الثورة، هكذا حين يصبح تكرار لفظة المطر نشيدا يبشر بالغد السعيد فأنه قد تحول إلى ظاهرة تاريخية مسيّسة. وفي الوحدة الحادية عشرة وباتصالها بالوحدة السابقة يبلغ تسييس المطر أقصاه: «مطر مطر مطر/ وفي العراق جوع»(42).

وإذا كانت الأسطورة "تنظم عالما خاليا من المتناقضات لأنه عالم بلا عمق عالم منشور في الحتمية"، فإن النص المذكور يكشف التناقض بعمق نافيا حتمية بقائه وداعيا إلى هدمه... هكذا يكون التضاد العنيف بين سقوط المطر وجوع الانسان، ويكون الكلام صريحا واضحا: في موسم الحصاد لا يشبع الإنسان المنتج، وانما تشبع الغربان والجراد، والإشارة هنا واضحة إلى الطبقات المستغلةَّ وتختم الوحدة بتكرار المطر، ليتحقق التضاد المؤدي إلى السخرية والتهكم. الحالة تتكرر في الوحدة الثالثة عشرة بصورة أوضح وأعمق باعتماد المفارقة في كسر التسلسل المنطقي للأحداث، أما في الوحدة الرابعة عشرة، ولأن الذي يتكلم مازال الوعي الأيديولوجي، لا الأسطورة، فان الكلام يأخذ أقصى حالات الوضوح مبشرّا بالمستقبل ومعلنا أن الموت طريق للحياة السعيدة. ثم يستمر في الوحدات الثلاث اللاحقة معبرا عن استمرار الصراع، ومانحا إياه سمة درامية عميقة، ليصل في الوحدة الختامية إلى حتمية انتصار الخير، ان الوحدة الختامية جاءت تكرارا للوحدة الرابعة عشرة، بتحريف بسيط حيث تتغير الخاتمة إلى «سيهطل المطر»، وفي ذلك إشارة إلى ديمومة الصراع وأبديته، ونهاية مفتوحة الدلالات على كل ما تتضمنه مفردة المطر من معاني تاريخية وأيديولوجية.

* * *

مصادر البحث
الأسطورة: نبيلة ابراهيم: بغداد: 1979.
أسطوريات: رولان بارت: ت د قاسم المقداد: حلب: 1996.
أشكال الزمان والمكان في الرواية: ميخائيل باختين: ت يوسف حلاق: دمشق: 1990.
أنشودة المطر: بدر شاكر السياب: بيروت: 1969.
عقائد ما بعد الموت: د. نائل حنون: بغداد: ط2:1986.
علم النص: جوليا كريستوفا: ت فريد زاهي: المغرب: 1991.
الفكر الديني القديم: تقي الدباغ: بغداد: ط 1: 1962.
مدخل إلى السيميوطيقا: 2: اشراف سيزا قاسم ونصر حامد أبو زيد.
من ألواح سومر: صموئيل كريمر: ت طه باقر: بغداد والقاهرة.
نظرية المنهج الشكلي (نصوص الشكلانيين الروس): جماعة: ت: ابراهيم الخطيب: ط1: 1982م: بيروت.
نظرية البنائية: د. صلاح فضل: بغداد: 1987.
أبحاث:
مجلة آداب البصرة: العدد 35، لسنة 2002: المهيمنة في شعر نازك الملائكة: عبد الهادي أحمد الفرطوسي: (من بحوث المؤتمر العلمي الاول لكلية الآداب في جامعة البصرة: 2002).

* * *

ملاحق
جدول 1
توزيع الألفاظ على الحقلين الدلاليين

مخطط 1
التذبذب الدلالي في أنشودة المطر

جدول 2
توزيع علاقات المجاورة والمشابهة على الوحدات

مخطط 2
التذبذب البياني في أنشودة المطر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ من بحوث المؤتمر العلمي الرابع لكلية التربية جامعة ديالى، كما شارك في مهرجان الجواهري الثالث. ونشر موجزه في جريدة المؤتمر.
(2) ـ أنشودة المطر: 143.
(3) ـ ينظر أشكال الزمان والمكان في الرواية: 6.
(4) ـ مدخل إلى السيميوطيقا: 2: 52.
(5) ـ ينظر: مدخل إلى السيميوطيقا: 56 ـ 62.
(6) ـ نفسه: 62.
(7) ـ نفسه: 68.
(8) ـ نفسه: 56.
(9) ـ أنشودة المطر: 142.
(10) ـ أنشودة المطر:142.
(11) ـ نصوص الشكلانيين الروس:81.
(12) ـ أنشودة المطر: 143.
(13) ـ أنشودة المطر: 143.
(14) ـ أنشودة المطر: 144.
(15) ـ أنشودة المطر: 144.
(16) ـ أنشودة المطر: 144.
(17) ـ أنشودة المطر: 144.
(18) ـ أنشودة المطر:145.
(19) ـ أنشودة المطر:145.
(20) ـ أنشودة المطر:145.
(21) ـ أنشودة المطر: 146.
(22) ـ أنشودة المطر: 146.
(23) ـ أنشودة المطر: 146.
(24) ـ أنشودة المطر: 149.
(25) ـ أنشودة المطر: 149.
(26) ـ أنشودة المطر: 149.
(27) ـ أنشودة المطر: 150.
(28) ـ ينظر: نظرية البنائية: 305.
(29) ـ عقائد ما بعد الموت: 46.
(30) ـ الفكر الديني القديم: 27.
(31) ـ علم النص: 79 .
(32) ـ من ألواح سومر: 161.
(33) ـ يقول رولان بارت في أسطوريات «الأسطورة... أفضل أداة قادرة على القلب الأيديولوجي الذي يحدد ذلك المجتمع ـ 279»
(34) ـ أسطوريات: 282.
(35) ـ ينظر: الأسطورة: نبيلة ابراهيم: 23.
(36) ـ أسطوريات: 283.
(37) ـ مجلة آداب البصرة: العدد 35، لسنة 2002: المهيمنة في شعر نازك الملائكة: 553 ـ 581.
(38) ـ أسطوريات: 283.
(39) ـ أسطوريات: 279.
(40) ـ أسطوريات: 280.
(41) ـ أسطوريات: 280.
(42) ـ أسطوريات: 280.