تقدم الناقدة العراقية هنا قراءة تكشف عن كيفية تجسيد كاتبات عراقيات بارزات من لطفية الدليمي إلى ميسلون هادي، وبتول الخضيري وهدية حسين للمأساة العراقية وللجورنيكا الخاصة بهذا البلد المكلوم.

شهرزاد والجورنيكا العراقية

وجدان الصائغ

هل ما نقرأه من روايات أنثوية عراقية هو نسق سردي أم صياغة جديدة لصرخات شهرزاد بوجه شهريار وليله المضاء بازيز الطائرات وحمم القذائف؟ لحكاياتها الملبدة بدخان المفخخات وصرخات الضحايا؟؟ لنواحها وهي تتأمل حركة أنامل علي بابا والاربعين حرامي وهم ينزعون عن مفرق بغداد تاج سيادتها، لنشيجها وهي ترقب اخفاقات الشاطر حسن في ان يخلص معشوقته بد البدور من براثن العفريت الشرير، وخيبة علاء الدين بمصباحه السحري الذي علاه الغبار وغادره مارده، لنحيبها وهي ترنو لانكسارات سندباد وهو ينأى بعيدا عن الامكنة المفخخة بالفجيعة بحثا عن ضفاف مخضلة بالامان؟! وكيف تحولت هذه المتون الروائية إلى مرايا سحرية نبصر من خلالها بشاعة اللحظة الراعفة التي تشهد اجتياح طوفان الموت والدمار بلاد وادي الرافدين وسورياليته في تفتيت حضارة المكان؟

كل هذه الافكار قفزت إلى ذهني وأنا اتأمل باقة من المنجز الروائي الانثوي العراقي وحركته لتأسيس ميثاق جديد للقراءة يبلور من ذبذبات الفجيعة على جسد الورقة جورنيكا جديدة تعكس عمق الدمار النفسي الذي خلفته الحرب وعلى مدار ثلاثة عقود ومازالت لنبصر من خلالها وجوهنا المثخنة بالانكسار والمرارة ونصغي لبوحنا الراعف ونلمح تنامي الاحداث وتفاصيل الزمكانات المحفوفة بالوأد والنفي و... فها هي الروائية لطفية الدليمي في روايتها (حديقة حياة) ـ الصادرة عام 2004 ـ والتي أرّخت فيها لاغتصاب بغداد 2003، ولحرمتها المستباحة وعبر استصراخ واع للذاكرة الحضارية المنهوبة تستدعي لوحة الجورنيكا من خلال وعي بطل الرواية غسان الفنان التشكيلي الرافض لثقافة الحرب، وثمارها المرة التي ترمد كل شيء، تأمل صرخة غسان الراعفة بوجه بطلة الرواية سوزان الأنوثة المحاصرة بالموت والدمار:

«ـ ومن أنبأك بأني لا أصدق.. أصدق.. رأيت بعيني كيف غطى الأمريكيون لوحة الجورنيكا لبيكاسو بشرشف أزرق وراء ظهر (كولن باول) وهو يلقي معلوماته لكي لا تظهر ورائه صور الأشلاء وضحايا الفاشية... هكذا تخفى الحقائق.. ويشوه الفن.. ويحولون بينه وبين إبلاغ حقيقة الأمر.. الحرب... حربهم محو للإنسان والفن والحقيقة..، ص100»

بالضرورة فان المدينة المدمرة (الجورنيكا الاسبانية) التي صاغتها ريشة بيكاسو باقلام الفحم والحبر واللون الاسود رفضا لبربرية القتل وبشاعة الموت قد شكلت معادلاً سرديا لبغداد المحاصرة بوقوع الحدث الكارثي ـ التفاتا إلى احداث الرواية ـ الذي سيعيد للذاكرة الكونية تفاصيل المجزرة الوحشية التي كان ثمنها الانسان الاعزل. زد على ذلك فان حركة تغييب عتمة الجورنيكا بزرقة الشرشف تحيل إلى تزييف حقيقة الحرب واهدافها.

وتنسج الروائية ميسلون هادي في روايتها (نبوءة فرعون )، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2004، من الحدث الكارثي «سقوط بغداد 2003» مناخات تراجيدية تؤرخ للجرح العراقي، للمكان المدنس ببساطيل المارينز، وعبر أنوات اثخنتها الحروب بالفجيعة، تأمل مثلا المشهد التالي منعكسا على وعي بطلة الرواية «بلقيس» الأرملة الشابة التي التهمت حرب الخليج الثانية زوجها ليضيع ابنها يحيى بعد اندلاع حرب السقوط الاخيرة، ولاحظ كيف استدرج المتخيل الانثوي مرتكزات جورنيكا بيكاسو ليخطفها ـ وعبر بحث بلقيس الدائب عن ابنهاـ صوب اليومي المغموس بالخذلان والانكسار: «مضت قُدماً.. أكوام الأنقاض والنفايات والعربات العسكرية المحترقة وهياكلها المتروكة على قارعة الطريق... تهافتت لافتات أسماء المحال التي مرت أمام عيني بلقيس... وحلت محلها لافتات سوداء... تمضي إلى قلبها كالنبال. رددت في سرها الأسماء التي قرأتها في تلك اللافتات لكي لا يمحوها اسم «ابنها يحيى» ويموت مأسوفاً على شبابه أو في حادث مؤسف كما مدوّن على سواد تلك اللافتات التي ظلت بلقيس تردد ما ورد فيها من أسماء لمسافات طويلة، حتى وصلت السيارة إلى حاجز أمريكي آخر منصوب على الطريق، فلمحت بلقيس حصاناً ميتاً مرمياً بين الرصيف ومنتصف الشارع قرب ماء راكد، فلم تطق النظر إليه وأزاحت نظرها بسرعة عنه إلى حيث يقف الجنود الذين حملقت في وجوههم ملياً... أدارت بلقيس عينيها إلى الشارع مرة أخرى، فرأت حصاناً آخر أكثر موتاً وانتفاخاً من الأول، مسجى على مسافة أمتار من الحصان الميت الآخر، فلم تطق بلقيس صبراً، ولم تعرف أين تنظر، أو ماذا تقول وداخت وشعرت بالغثيان. ص113»

أنت بالضرورة إزاء اكثر من مستوى ترميزي يستدعي مناخات الجورنيكا، فثمة الأم المنتحبة على وليدها القتيل، وهي متجلية في بطلة الرواية بلقيس المخلوعة عن عرش أمومتها بضياع ابنها يحيى في اتون القصف والقذائف وبحثها العبثي عنه، وثمة اللون الاسود الذي هيمن على الجورنيكا وتجده في حركة المتخيل الانثوي إلى استدعاء «الخرائب، هياكل العربات المحترقة» ونزع الالوان الزاهية عن المكان ولافتاته المزركشة التي تحيل إلى فضاءات مترعة بالفرح لتضع مكانها يافطات الموت السود التي تطبق بشراسة على المكان المستباح، وثمة الحصان المجروح المفتوح الخاصرة الرامز للشعب الاسباني بعد المجزرة، تجده في مناخات المشهد موؤودا مسجى في قارعة الطريق ملطخا بوحل الهزيمة بل وتجد الحاح المتخيل الانثوي على استدعائه مرة اخرى تكريسا لموت المكان وقيمه وتكثيفا للاحساس العارم بالانكسار والهزيمة حد اليأس.

وتجعلك الروائية بتول الخضيري في روايتها (كم بدت السماء قريبة) ـ الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1999 ـ ازاء بلورة سيرية تعكس اتقادات انسان المكان إبان حرب الخليج الاولى وعلى مدار ثمان سنوات عجاف وعبر تشغيل واع للبعد التشكيلي الذي يستدعي مناخات الجورنيكا الا انه يهبها نكهة الوجع العراقي، تأمل المشهد التالي منعكسا على وعي البطلة التي وقفت مبهورة امام منحوتات (بطل الرواية) سليم النحات والتشكيلي المطحون بجحيم الحرب:

«القطعة الاولى كانت لوليد... يمتد من بطنه حبل سري يربطه بمشيمة منحوتة على شكل خوذة حرب، والقطعة الثانية كانت لأم ترضع طفلها بدلا من تكورات نهديها الاملسين، توجد خوذتان خاكيتان بمثابة صدر المرضع، الهيكل الثالث لبروفيل مصل على سجادته يسلم في يأس، على طرف المنضدة البعيد مجموعة من منحوتات اصغر حجما لحمار في بدلة سهرة، جرذ يضرب بالسوط، خنزيرة ترضع رجلا، قطة تضاجع كلبا، يتدلى من الجدار راس غزال بعينين ناقمتين، وقناع افريقي من خشب غامق مزين بقش مصفر، كأنهما ينظران إلى رف الحديد، حيث تزحف ايد مصنوعة من جبس ابيض، يد متمردة واخرى مسترخية، يد ترفع شارة النصر، اخرى تنزف، الثالثة تتسول، يد تتضرع، يد على شكل قبضة غامضة، يد تفكر، اخرى تلعب، يد تعبت من الانتظار، و يد تفيض حنانا،...، احدى القطع عبارة عن خوذة كبيرة على شكل مهد طفل دون ملامح، تهزه يد مبقعة بسوادات خفيفة، حمامتان من نحاس مطروق مغروستان في الجدار من جناحيهما بدبوس صديء، ص27».

انت ازاء اربعة انساق تستدعي الجورنيكا، فثمة الايدي المتضرعة المستغيثة التي جعلتها بتول متناشزة الدلالات «أيد مصنوعة من جبس أبيض، يد متمردة واخرى مسترخية، يد ترفع شارة النصر، اخرى تنزف، الثالثة تتسول، يد تتضرع، يد على شكل قبضة غامضة، يد تفكر، اخرى تلعب، يد تعبت من الانتظار، ويد تفيض حنانا». وثمة الأمومة الثكلى والطفولة المشهمة التي تموضعت في الجورنيكا خطفتها بتول لتتوقف تارة عند الطفولة الموؤودة «مشيمة لطفل منحوتة على شكل خوذة حرب + خوذة كبيرة على شكل مهد طفل دون ملامح»، وتارة أخرى عند الأمومة المبتلاة بالحرب عبرت عنها بـ«الام التي ترضع طفلها بدلا من تكورات نهديها الاملسين، توجد خوذتان خاكيتان بمثابة صدر المرضع»، وثمة رأس الثور الذي يضيء ذاكرة المكان الاسباني تستبدله بتول بالغزال وذاكرته العربية المكتنزة بالجمال لتجعله راسا مجزوزا «يتدلى بعينين ناقمتين» اشارة إلى قتل الجمال والقيم، وثمة اللون المهيمن المتحرك بين الكاكي المرمد والبياض وقد كثفه استجلاب حمامة بيكاسو الا انها حمامة مصلوبة «بدبوس صديء» وربما تستدعي في مكبوتها الدلالي حمامة نوح الباحثة عن الأمان، إلا أن طوفان الحرب سلبها حياتها. فضلا عن المتخيل الانثوي يهب اللوحة بعدا سورياليا يكشف عن لامنطقية الأحداث ولاعقلانيتها من خلال «الحمار في بدلة سهرة... خنزيرة ترضع رجلا، قطة تضاجع كلبا».

وتتوقف الروائية هدية حسين في روايتها (مابعد الحب) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2003 ـ التي عكست احداثها عذابات الانسان العراقي مابعد حر ب الخليج الثانية ـ عند الجندي «الذات المستلبة والمحشورة غلبة وقهرا في أتون الموت» في اكثر من موضع لترسم من احتشاده على ارض الهزيمة جورنيكا للموت الجماعي، وصورة للرهانات السياسية الخاسرة التي قامرت باعمارنا تستدعي وجه الجندي الذي تمدد على أرضية جورنيكا بيكاسو، وهو يصرخ متالما بعيون مفتوحة، بذراعين وشمتهما الحرب، تأمل المشهد الآتي، ولاحظ كيف امتزج الصوت الانثوي بصوت بطل الرواية أمير، الذي لم يمنحه الاسم إلا إحساسا مضاعفا بالنبذ والخذلان، وعبر استبطان دقيق لعذابات الرجولة المنكسرة والمستلبة: «عائد من الموت، عائد من كرات النار، من الشظايا، من حرائق العجلات، من القنابل العنقودية، عائد من أرتال الموت المتنقل حين أصبحت أرتال العجلات المنسحبة هدفا شهيا للطائرات المغيرة، فاحترقت العجلات والاجساد، وقذف عصف الانفجارات بالجنود على الطريق، قتلى ممزقين، جرحى... ساهمين يتطلعون صوب الافق بانتظار موتهم، عائد من كل هذه الفوضى المرعبة، من كل هذه المصائر، وبالمصادفة وحدها خرجت من المجزرة... مجانية وعبث لاترقى لهما أي سريالية خالصة حين اسرع احد الكلاب لاحدى الجثث وراح ينهمك في نهشها... من عجلة حمل... متروكة على الجانب، تدلت جثة قتيل من جنودنا بللتها مياه الامطار، لتنزل القطرات الحمر منها لتشكل على الوحل خطا ورديا. وجه القتيل يواجه الارض، لذا لم اشاهد من ملامحه سوى جذع متدل واطراف متورمة، ص 141».

اذا كان متخيل بيكاسو قد انتقى مدينة (الجورنيكا الاسبانية) المدينة الوادعة والآمنة التي هطلت عليها حمم الموت، فان متخيل هدية حسين قد توقف عند الارض المستعرة والمتخمة برائحة البارود والموت ليرصد وقع الفجيعة وعمق المحنةالجماعية لانسان بلاد وادي الرافدين المحشور غلبة وقهرا في خضم عارم من الحروب، وهو ماينسحب على وجه الجندي الذي جعلته أنامل بيكاسو متجها إلى الاعلى بملامح واضحة، وحركة أنامل هدية حسين لتجعل وجهه منكسا إلى الاسفل باطراف متورمة، ومثل هذا يصدق على الالوان، فاذا كان بيكاسو قد انتقى اقلام الفحم ليهيمن السواد وتدرجاته على اللوحة فان هدية حسين قد انتقت الاحمر بتدرجاته وصولا إلى الحمرة المغلفة بالدخان، لتبلور جورنيكا بسعة الجرح العراقي الراعف.

خلاصة القول: فاذا كان بيكاسو قد عكس في جورنيكته صرخة احتجاج بوجه الفاشية التي اباحت دم الانسان الاعزل نهارا جهارا، فان المتخيل الانثوي العراقي قد نجح في أن يصوغ جورنيكا جديدة تضيء ليل بغداد الطويل المضاء بسعير القذائف والتكنولوجيا الحربية المتطورة وحركة هطولها لتحرق شقاوة الطفولة ورؤوس النخيل وأحلامنا وأعمارنا التي صارت حطبا لحرب الثلاثة عقود لنأكل ثمارها المرة شتاتا وتشظيا. ولنردد بشكل جماعي مرة أخرى مع شاعر سومري مجهول بقيت صرخته رهينة الرقم الطينية: «لقد نفتنا الآلهة/ غرباء حتى مع انفسنا/ نجوس ازمنة التاريخ/ والمستقبل/ بلا قيثارات». 


ناقدة عراقية