فتحت عيني، فوجدت الظلام يخيم على غرفتي. لعل نومي كان ثقيلا فجمعت بين النهار وجزء من الليل. فكرت في آخر ليلة قضيتها مع محمد شكري، بدت لي بعيدة وكأن شهوراً مرت عليها فغيبت بعض تفاصيلها عن ذهني، قد تكون مجرد حلم. لا أدري!
حاولت أن أغفو ثانية، فلم أحس بأدنى رغبة في النوم، امتدت يدي تبحث عن مفتاح الكهرباء، لم تجده في مكانه، فكرت في أنه كان على يميني، أعدت الكرة للمرة الثالثة والخامسة دون جدوى. داهمني بعض القلق، بعد أن اتضح لي أني أفترش الأرض ولا وجود لسريري، لا وجود أيضا لوسادتي. مسَّدتُ وجهي بيدي لأتحقق من وجودي أنا أيضا، فازداد ذعري، إذ حسبته وجه رجل آخر لم يقرب الحلاقة منذ شهور أوسنين.
اشتد نبض قلبي، وارتفع هديره إلى أن وصل أذني، تشتت ذهني. أسئلة كثيرة تزاحمت، فانحبست في داخلي. أغمضت عيني وسط الظلام علني أسترجع رشدي، لا يُعقل أن ألقي بجسدي فوق سريري وأنام، فأصحو لأجد نفسي أفترش الأرض، وتطول لحيتي، وكأني لم أحلقها منذ سنين.
أأكون بداخل قبري؟ من أين لي أن أدري! رفعت يدي لألمس سقف قبري. لا، هذا ليس به سقف.
لعله قبر ضخم يسع قامة رجل واقف أو ممدد.
تحاملت على نفسي إلى أن انتصبت واقفا، ففطنت إلى أني خائر القوى. بصعوبة أقف على رجلي. أرسلت يديّ في كل اتجاه دون أن يعترضني سقف أو جدار، لكن قدمي تعثرتا بقطعة قماش صلب حسبتها وسادتي أو جزءاً من سريري، وحين انحنيت لألتقطها تبيّن لي أنها سرج حصان، وبجانبها قطع حديدية لم تكن سوى ركاب سرج الحصان.
من جاء بها إلى غرفتي؟
لم أفهم شيئا، أو بالأحرى أجّلت أن أفهم.
لكني حين تعثرت رجلاي بالخنجر، وتحسست مقبضه وغمضه والحجرين الماسيين المرصَّع بهما، تطاير صوابي من شدة ذعري.
لم يبق ما يمكن تأجيله، باغتتني أجوبة متخفية تفضح ما احتبس في داخلي.
صرخت مستنجدا بإله السموات والأرض، عسى أن يدرأ عني كابوس هذا الحلم، فأنا لست في المغارة بل في غمرة وهم الحلم.
عفى الله عن المغارة منذ أن أخرجوني منها، وأركبوني الباخرة العملاقة محاطاً بحارسين، وكأني من قطاع الطريق.
كل شيء كان واضحاً جلياً. مفوضية شرطة الميناء، الحاج ابراهيم ضابط الشرطة الممتاز ذو العينين الصغيرتين المطلتين من وجه طويل بشارب ممزوج بالشيب، والشرطي البدين المكرش الذي جرني من قفاي كأنني كلب، والآخر النحيل أصفر الوجه من تولى تدوين محضر استنطاقي. لا لست في المغارة. إني في حالة حلم عابر سأصحو منه قريبا، سيكون لي معه شأن.
جرجرت رجلاي خطوات باحثا عن منفذ أغادر منه الغرفة، سأكسر بابها حتى وأنا في حال الحلم، لكن جبيني ارتطم بأحد الجدران لينبهني ألمي إلى صحوي، إلى أنني حقيقة قائمة في أقصى حالات وعيي وإرادتي وشعوري، في كامل إحساسي بالألم والخوف والقلق والتذكر.
إذن، لا غبار على حقيقة وجودي في المغارة بمدينة المنقب، سرج حصاني وركابه وخنجري وثيابي يشهدون بذلك، ولكن، لمَ لا أكون بأحد السجون؟ نقلني القضاة إليه أثناء نومي، وأحضروا أغراضي من المغارة! كل شيء محتمل الوقوع.
أن أكون سجينا بداخل حجرة في أحد السجون، محتمل جدا، إنما أن يتولى القضاة حبسي دون محاكمة، فهذا بعيد الاحتمال، لكن الشرطة يمكنها ذلك، ولو من قبيل الانتقام، فهي الوحيدة التي لم يقنعها دفاعي عن نفسي، فبعد أن أحالتني على القضاء متلبساً بجريمة الهجرة السرية، تلقت أمراً بحراستي والحفاظ على سلامتي من كل مكروه وأنا أقيم في أضخم فندق في البلد! شيء يدعو إلى الارتياب، على الأقل من وجهة نظرها.
لا، لا يعقل أن أكون في المغارة، فأغراضي كوسائل إثبات على وجودي في المغارة لن ترجح على شهود عيان عاشرتهم في طنجة، وما شاهدته وما خبرته. أعمدة الكهرباء المبثوثة على جوانب طرق معبدة. فندق السراب المطل على بحر الظلمات. دركات ثلاث تفضي بك إلى داخل مطعم ريتز في شارع موسى بن نصير. أخرى تصعد بك إلى مطعم بيركولا المواجه للميناء والبحر الأبيض المتوسط. هناك في الصالة المشرفة على البحر، قمت بدوزنة العود الذي جاءني به شكري، وأنشدت الحضور أحلى أغاني عُليَّه بنت المهدي البغدادية، آه عُليَّه! إنها من جيلي، ضمتنا مجالس عامة وأخرى خاصة رفيعة. غنت لنا وغنينا في حضورها أنا وصديقي أبو ناصر الفارابي، لكن ابن مسكويه الحاضر دوما، لم يكن له في الغناء بالرغم من إجادته الاستماع، تلك حكاية قديمة حقيقية، أما ما يشغلني الآن فهو أيام طنجة، تلك التي تتماهى بين الحقيقة والحلم، هل يمكن أن تكون مجرد حلم؟
في مطعم بيركَولا، ارتمى علي شكري مقبلا رأسي ويدي، اغرورقت عيناه بالدموع وهو يخاطبني:
ـ أنت أعظم فنان في هذا العصر.
في تلك الليلة ذاتها، بعد منتصفها، والسيارة تختال بنا في طريق الجبل الملتوي، أسرّ لي قصة حبه الأول، تلك الحكاية المثيرة التي لم يبح بها لأحد غيري.
إذن عشت في طنجة، واقع يشهد به وكيل الملك والوكيل العام ووزير العدل نفسه، من أين لي بهؤلاء الشهود؟
أعياني وقوفي، فتهالكت على الأرض، جلست القرفصاء، وهمت مفكرا، زكمت أنفي رائحة رطوبة عطنة، هي الرائحة ذاتها الموجودة بالمغارة القديمة. عدت لأقف على قدمي، ودلفت بين أرجائها باحثا عن منفذ بها، فلم ألمس سوى ما لمسته في المغارة السابقة، أتكون هي ذاتها؟ بماذا يمكن لي تفسير عثوري على نفسي بها مرة ثانية؟
أيعقل أن أُحمل من فوق سريري بفندق السراب بطنجة ويُلقى بي داخل مغارة لا منفذ بها في مدينة أندلسية نائية؟
إما أني عشت في طنجة حقيقة وعودتي للمغارة حلما، وإما أني لم أغادر المغارة أبدا فتظل أيام طنجة حلما!
ذلكم هو المنطق القويم، هو ما يدل عليه سرج حصاني الذي حملني من فاس إلى طنجة، وخنجري الذي رافقني من بغداد إلى هذه المغارة في الأندلس، وسراويلي وثيابي ولحيتي الكثة الطويلة، بمعنى أني لم أغادرها منذ أن ولجتها بإرادتي لأستريح بها ليلة واحدة.
لا يُعقل أن أنام عشرة قرون، لا يعقل أن يعيش المرء حاضرين في زمانين يبتعدان عن بعضهما عشرة قرون!
الآن، ولو أني كنت في حالة حلم، أتفطن إلى سبب رفض المغاربة تصديق قدومي إليهم من عصري العباسي البائد، أنا نفسي لم أقبل بذلك!
إن الحقيقة الصارخة القاسية هي التي أواجهها هذه اللحظة، هي استيقاظي في المغارة بعد نومي بها ليلة أو ليلتين، ولربما قام أحدهم بسد منفذها فبقيت محاصراً بداخلها.
أما صحوتي السابقة وخروجي من المغارة فقد كان مجرد حلم، تماماً مثل أناس طنجة، فلم أتعرفهم سوى في الحلم.
من يؤكد لي حقيقة وجود رجل يدعى محمد شكري مقيم في طنجة؟
إنه شخص هلامي من الشخوص الحاضرة في الحلم، وبالرغم من ذلك فإن مرافقته أدفأت أيامي وليالي، وكأني عاشرته حقيقة!
ما يؤكد أن ما حدث كان حلماً، هو قوله ذات ليلة إن الحضارة الحقة تأتي من وراء البحر، من لدن الغرب المسيحي، ونحن العرب مجرد مستهلكين لها، الغريب أني صدقت ذلك!
أتذكر في السياق نفسه، جواب وزير العدل بعد أن سألته:
ـ من تعني بغير العرب؟
ـ أقصد الغرب المسيحي، فمنذ النهضة التي شرع فيها قبل خمسة قرون، ونحن ظاهرة لأبحاثه واكتشافاته، ويكفي إخبارك بأنك أنت شخصياً أبو حيان التوحيدي وقع التنبيه إليك، وإلى مؤلفاتك من لدن الغرب قبل العرب.
يا لضعفي الإنساني وهشاشة عقلي في غمرة الحلم، فقد سلمت بهذه الأخبار وهي تنافي المنطق!
من يصدق أن من كان وراء اكتشاف قيمتي العلمية والفكرية ونبه إلى مؤلفاتي هو الغرب المسيحي؟ مهزلة! بهتان!
أما الشخص الآخر وكيل الملك، أحد الشخوص الهلامية في مشهد الحلم، فقد توغل في الهذيان، حين زعم أن الأندلس سقطت في قبضة النصارى إمارة إمارة، خرافة، لدغة أحلام! هذيان حقيقي!
أحمدك يا ذا الجلال والإكرام، أن ما وقع كان مجرد حلم، وأن الأندلس مفخرة العرب لا تزال عدوة مغربية عربية إسلامية منبثاً للعلماء والأدباء والشعراء، إنها هناك، مثلما العراق الحبيب قوة شامخة هناك.
أي معتوه هذا، سيخطر بباله تعرض العراق للدمار والنهب؟ ومن قبل من؟ من لدن دولة غير موجودة! أوجدوها في حلمهم وسموها أمريكا! أو بالأحرى أنا من استنبطها في حلمه، أنا من خلقهم جميعا في حلمه! يا لخرافة أحلام المغارات!
من يقوى على هزم خلافة إسلامية عربية مسيّجة بأشقاء مسلمين عربا؟ دولة عمرها كما قيل في الحلم، خمسمائة عام، تهزم العراق، منبع حضارات الدنيا من سومر إلى حضارة الإسلام؟ خرافة، هراء، كلام قيل في لحظة لا وعي!
استقمت واقفا وخطوت إلى الأمام ورجعت إلى الخلف، ثم عدت فجلست على الأرض وأنا لا يشغلني سوى هذا الحلم.
لكن الأحلام لا تتداعى بهذه التفاصيل الصغيرة الدقيقة الواضحة، وكأنها الواقع المعيش.
لعل الأمر يتعلق برؤية وليس بحلم. أحداث الرؤى ترسخ في أذهان أصحابها دون أن تتباهت أو تتلاشى كالأحلام.
بكل تأكيد هي رؤية حقيقية، من تلك التي يخص بها الله عباده من الصفوة الصالحة الزاهدة في الدنيا.
ألم أكن زاهدا في حياتي العراقية والإيرانية؟
لكن الآخر الموجود بداخلي يلح أن أعتبرها مجرد حلم، ذلك أن الرؤى غالبا ما تتحقق، وإذا ما كتب لهذه أن تنفذ إلى الوجود فتتجسم واقعاً عينياً، حينذاك سلام على الأندلس، سنغادرها لتصبح حضارتنا في خبر كان، سنتحول إلى قبائل مستضعفة، بشرا، حيوانات ترعاها حضارة مسيحية جديدة، لا لا لن تكون رؤيا، أنا في صف الآخر الموجود بداخلي، أقول معه، أن من يملك ذرة منطق، لن يصدق أنها رؤيا، لن يصدق أننا العرب مصدري العلم والوعي سنصبح منقرضين، ظاهرة لتجارب غيرنا، أبدا أبدا، ليست رؤيا، ليست عالماً ممكنا، إنها مجرد حلم عابر منفلت، حلم مضحك، يدعو إلى الشفقة!
إني في المغارة الأندلسية، ليس لي من مؤنس سوى أحلامي، حلم طنجة كان متنفسي الوحيد لأظل حيا، أما ما يحدث في الواقع، هو أن خلاني المغاربة في انتظاري يبحثون عني، سوف يهتدون إلى مكاني، وسأنضم إليهم لنكمل رحلتنا إلى غرناطة المسلمة العربية، سنتبارى في سرد أحلامنا، فجميعنا أقمنا في مغارات يشبه بعضها البعض.
آه نهاوند، الحبيبة البغدادية الغالية، لا ريب أنها في طريقها إلى غرناطة تنفيذا لاتفاقنا، سألتقي بها صباح يوم جمعة في جنة العريف، سأقص على مسامعها تفاصيل حلمي المغربي، وكيف تعرفت إلى محمد شكري ونبأ ضياع الأندلس، وتعرض العراق للدمار والنهب، ستضحك مثلي.
لكن حتى ألتقي بها، عليَّ أن استجمع قوتي لأعود إلى قرع الجدار.
ياله من حلم غريب!
بحثت عن خنجري، أمسكت به وطفقت أقرع الجدار وأصرخ، لكن لا أحد انتبه إلى قرعي أو سمع صراخي، فاستبدلت بخنجري سرج حصاني، نزعت الركاب عنه وصرت أقرع به ذا الجدار وذا الجدار، محدثا ذوياً يخترق سمع الأصم، لا أتوقف إلا بعد أن يكلَّ مثني، وأعيد القرع والصراخ مرات تضيع في العد، إلى أن صار يقيني بأن هذا الجحر المسكون بالظلام والأحلام، سيكون لا محالة قبري.
بعد أن استسلمت لقدري، وسقطت على الأرض ناطقاً بشهادتي، ذوى في أذني صدى لطرق من الخارج، بعد لحظات تأكد لدي الطرق بوضوح لا لبس فيه، ففاضت عيني بالدمع إعلانا عن ولادتي من جديد، إذن أنا حي أرزق. وقفت، وعدت لأقرع الجدار وأصرخ:
ـ أنا أبوحيان، أغيثوني.. أغيثوني.
هذه هي رواية الكاتب المغربي الثانية، بعد روايته الأولى (البعيدون) التي رسخت مكانته كأحد أبرز كتاب الرواية المغربية، يجوب فيها مع التوحيدي مدينته الأثيرة، يعكس صورتها على مرايا زمن مضى منذ ألف عام فيشع الزمنان بدلالات ورؤى تحرك القلب وتثير العقل.
أبو حيان في طنجة (رواية)