يستعرض الباحث الأردني في هذا المقال تحولات الرؤية النظرية الغربية من الارتكان على الاستقصاء الفلسفي إلى النزعة ما بعد الحداثية، وصولا إلى جدلية الأنا والآخر التي بدأت تسفر عن تجليات مغايرة في نصوصنا الإبداعية، ويتوقف عن اثنين منها نص روائي وآخر فيلمي.

النص: الذات والآخر

رامي أبوشهاب

النص والمرجعية
في تتبع أفقي للمشهد الأدبي والثقافي منذ مطلع القرن العشرين إلى لحظتنا المعاصرة، سنجد أن التكوينات المؤسسة للنظريات والمقولات الأدبية والنقدية على حد سواء في مخاض وحراك مستمر، ولاسيما أنها كانت ومازالت تعاني من ثقافة ردة الفعل التي ميزتها، مما أدى بالتالي إلى اتخاذها أبعاداً شديدة التنوع والاختلاف تبعا للمؤثر، وبناء على ذلك نجد المؤثرات السياسية والفلسفية والتاريخية التي ساهمت بدورها في بروز تصورات أدبية غير بريئة، ابتدأت منذ التوجهات الكلاسيكية إلى مراحل ما بعد الحداثة التي بدأت بالتلون في محيطنا الجديد.

إن المتتبع لهذه التيارات الأدبية والنقدية سيلحظ ارتباطها الدائم بالمرجعيات الفلسفية ضمن ديالكتيك الإزاحة والإحلال الممارس بين النظريات الأدبية والنقدية، بالإضافة إلى دعم فلسفي لوجستي فكري، يعمل على تمكين النظرية الأدبية والنقدية والثقافية من الانتشار. فبداية كان التوجه الأيديولوجي إلى المركز باعتباره بؤرة للنص، إذ جاء كردة فعل على تراجع القيمة الإنسانية للإنسان، بكل ما يحمله من حمولات أيدلوجية، خاصة بعد هيمنة الفلسفات الجمالية والشكلية على البنية النصية، فالمد البنيوي والشكلاني بدأ في تفكيك تلك التوجهات الإيديولوجية في توجهها لنزع الإنسان من المركز، والعمل على إحلال النص ببنيته اللغوية وصولا إلى دراسة علمية للنص، مدعمة بإجراءات عملية صارمة، وقد اتخذت تلك الموجة عقدين من الزمن وتحديدا في مطلع الستينيات وانتهاء إلى الثمانينيات وتحديدا بعد سيطرة الفلسفة الوجودية وتنظيرات جان بول سارتر الذي ساهم في انبعاث أدب يتسم بالوجودية والقلق الحاد، وقد واكب ذلك تيارات الأدب الواقعي، الذي رفع شعار الأدب الملتزم، ومارس قمعا فكريا على كافة النصوص التي لا تلتزم بمقولته الإيديولوجية الصارمة.

ولم يلبث ذلك طويلا، لتبدأ فيما بعد مرة أخرى الإزاحة من جديد، من خلال تسلل الدراسات التاريخية والثقافية، التي بدأت بممارسة أبجديات جديدة في قراءتها للنصوص وتكوينها من منطلقات نسقية، تعمل على التقاط النص وربطه بالأطر الثقافية المحيطة به، لتعمل على تكوين ثقافة الفضاء للنص بالتوجه نحو تناول أي معطى إنساني من زاوية ثقافية، فلم تكن تجد من ضير بالاعتماد على صيغ جديدة تتكئ عليها وعلى كل ما سبق من إرث منهجي كالتوجه النفساني، والتاريخي، والأيدلوجي، والبنيوي والجمالي، وكان من أبرز ممثليها "رايموند ويليامز"، و "ميشيل فوكو"، و "إدوار سعيد"، وتيري إيجلتون على اختلاف توجهاتهم التي تنوعت ما بين التاريخية الجديدة والماركسية الجديدة ونظرية ما بعد الاستعمار. وهنا لا يفوتنا أن نشير إلى أن تلك المراحل لم تسلم من توجهات موازية في التعاطي الأدبي والنقدي كبروز علم السرديات الذي بات توجها قائما بحد ذاته، وقد اتسمت تلك المحاولات بمسمى ما (بعد الحداثة) حيث عرفتها الموسوعة الأدبية بأنها حركة هلامية قادرة على استيعاب أي شيء وكل شيء، وبالتالي فهي مراوغة في توجهها لتشمل كل ما هو متاح في المعطى الإنساني، ولكنها في النهاية كانت قائمة على منظور فلسفي جملته الوحيدة الإحساس بالضياع بعد إفلاس مقولات الوجوديين والماركسيين ورفض استلهام التاريخ.

وفي الآونة الأخيرة أخذت مفاهيم ومفردات جديدة في الظهور، لتشعل فتيل التحولات من جديد، وتحرك الرؤى لتستمر نظرية الإزاحة والإحلال، ففي غمرة الانشغال بالدراسات الثقافية والتاريخانية والماركسية الجديدة، نلمح تحولا وبروزا لأنماط في التعاطي الأدبي والنقدي، وهذا التعاطي يتخذ من التكنولوجيات الحديثة (الرقمية) مرجعياته الأكثر حداثة، وهكذا يتحقق الفصم بين النظرية الأدبية ومرجعيتها الفلسفية النظرية التي ميزتها سابقا؟ وإذا ما أدرنا أن نبرهن على ذلك، علينا أن ندرس المستويات الرقمية الآخذة بالنمو والانتشار بتعالقها مع نمط الإبداع في المجتمعات المعاصرة، وهنا لا بد من الإشارة إلى الجيش الهائل من وسائل الإعلام والاتصال والتكنولوجيات الرقمية، التي شكلت نهجا جديدا في التشكيل الفكري والثقافي والأدبي للإنسان المعاصر. ومما لا شك فيه أننا نشهد الآن تكون جيل من الكتاب الرقميين، الذي بدؤوا بخلط الأوراق في تشكيلات النصوص، وخاصة بعد بروز آلية سهولة النشر الذي تتيحه الشبكة العنكبوتية مما ساعد في إبراز نمط كتابي جديدي من النصوص الأدبية، بالإضافة إلى خلق نمط تواصل جديد بين المبدع والمتلقي من خلال ميزة التعليق على النصوص. كل ما سبق يمكن أن يضاف له بروز نصوص أدبية رقمية عالية الجودة من خلال ابتكار القصيدة الرقمية والرواية الرقمية اللتين أفدتا من المعطيات البصرية والصوتية ذات السمة الرقمية. 

النص في قلق دائم
إن ما يهمنا هنا الإشارة إلى إن عملية الإزاحة مستمرة، وإن اختلفت المؤثرات المساهمة في تلك التحركات والتي في مجملها تتشكل على شكل حزم ومرجعيات ثابتة، مما يعني أن نبحث في تشكيلنا الثقافي والبدء في إعداد تصوراتنا للمراحل القادمة في صياغة النصوص الفكرية والأدبية ونقدها، مستفيدين من الحركة المستمرة للتاريخ، ولا سيما ونحن نقف في أتون فقدان التوازن في أكثر المراحل حرجا للثقافة العربية الساقطة في أتون الحروب، والحروب الداخلية، والانتهاك الثقافي المتموضع في عدة أشكال أبرزها الإعلامي، بأدواته كالقنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية، بالإضافة إلى الأنظمة الثقافية والتربوية، وتغير أنظمة التفكير في البنية العربية، بإسقاطها قاعدة الهوية والرغبة في الذوبان بالآخر، وتراجع اللغة العربية كلغة ثقافية حاملة للهوية، أو في النقيض من ذلك بناء الأنا والانقطاع عن الآخر، وكلا التوجهين يساهمان في تلاشي البنية الثقافية المميزة وتلاشيها.

إن الدعوة لتشكيل أنظمة تفكير وصياغة جديدة من خلال إعادة خلق فلسفة جديدة تتخذ من المعطيات المعقدة المحيطة بنا مرجعية ثابتة وبإحساس عميق بقيمتها، ابتداء من رسائل الهاتف النقالة إلى الحرب في العراق مرورا بتهويد القدس. كل ذلك يلزمنا بالبحث عن قراءات جديدة لأنفسنا ثقافيا، وقراءة جديدة لتراثنا الثابت، ومن ثم قولبة كل ذلك في المعطى الثقافي الجديد لتشكيل نصوص فكرية وأدبية ونقدية، تعمل على المحافظة على التأصيل الثقافي والأخلاقي لنا، وهنا لا بد من عدم الارتكان دوما إلى التجارب الخارجية والنماذج المحيطة بنا، لأن ذلك غير مجدٍ ومن شأنه أن يحيدنا عن هدفنا المنشود، إنما الواجب التأمل العميق بخصوصية الجغرافيا والتاريخ والمحيط الثقافي المستجد والعمل على صياغة مبتكرة حقيقية أصيلة لا تابعة تقوض الموروث، أو تنقطع عنه، وخاصة ونحن نطالع التبدلات الفلسفية التي عانت منها أوروبا بعد كل هزة سياسية أو اجتماعية، ومن ثم البحث عن بدائل جديدة تقيم عثرة ما سبق.

هل نحن نمارس هذا الدور؟ أم نتحرك تبعا لإيقاع الخارج المحيط بنا، ونأتي بمسطرته كي تكون الأداة التي نحدد فيها ذاتنا؟ كل المحاولات التنويرية السابقة ارتبطت دوما بالفشل انطلاقا من حركات التنوير في مطلع القرن العشرين، مرورا بمشروع الحداثة العربية انتهاء إلى مقولات بمن ينادي بما بعد الحداثة في يومنا هذا، كلما تقدمنا زمنيا كان تراجعنا حضاريا وثقافيا أشد وطأة وأكثر مأساوية، ومع ابتعادنا عن الفكرة الأساسية لحركة المشروع الأدبي والثقافي لا بد من التأكيد على قضية أساسية وربما محورية أتى عليها إدوار سعيد حين نص على أن النصوص الأدبية تبقى نصوص مادية متشابكة بالظرف والزمان والمكان والمجتمع، وهكذا يبقى النص كمرآة نرى فيها أنفسنا إذ ما فقدنا بوصلاتنا الكثيرة، فالنص يسهم في بناء الشكل الثقافي لمجتمع ما، ومن هنا كان علينا لزاما أن نعمل تقنية الحفر المعرفي في الموروث والمحيط الجديد، وسبر أغوار النص على أكثر من مستوى، النص الديني والفلسفي والتاريخي والأدبي، والكشف عن تذبذات المعرفة الجديدة وصولا إلى النسق الخاص والمميز.

إن المشكلة الحقيقة هي التعويم الذي نعيشه ثقافيا، وحتى في أبسط الصور، ولنتخذ النص الأدبي الذي ما زال يراوح في فضاءات الآخر بعيدا عن الخصوصية والأزمات المحيطة في رقعتنا الجغرافية، فهو غير قادر على الانشغال بتأسيس نص أدبي قادر على التعبير عن المخاضات التي نعاينها في رقعة العالم العربي المتسع، فما أحوجنا الآن إلى نصوص متأملة في تحليل تردي الواقع، والجرأة على إخراج الأزمة والمعيب في وجودنا. 

نماذج خارج النسق
لعل الانشغال الذي عاينته الأوساط الأدبية في رواية "عمارة يعقوبيان" للروائي المصري (علاء الأسواني) دليل على الحاجة إلى الجنوح نحو أنماط جديدة في طرح الإشكاليات كون هذه الرواية خرجت عن المألوف لتؤسس نصا أدبيا مبتكرا بلغة تحمل أقل قدر من الحساسية الفنية، ومع ذلك شكلت كسرا للمحرم والمسكوت عنه، فنحن عملنا دوما وأبدا على تجاوز مشاكلنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في تمييعها في لغة غريبة تتخذ من العباءة الفنية جدارا يحول دون شفافيتها، إن المقروء في النص الذي صاغه علاء الأسواني ليلحظ النص بخلفية جديدة، فالكاتب أقام نصه من مرجعيات شديدة الوضوح واستطاع أن يحيل المتلقي على أسباب تراجعه ثقافيا وسياسيا واجتماعيا. "عمارة يعقويبان" نموذج للرقعة العربية المهزومة داخليا وخارجيا، المنخورة بالأمراض، وهنا مؤشر واضح إلى أنه قد حان الأوان إلى اعتماد نص جديد، يستقي من المتغيرات والمستجدات فلسفة منبتة الاتصال بما يمليه الآخرون عن ذاتنا بدلا من البحث عن مصادر مستوردة لتأسيس واقع أدبي جديد مشوه وغير موجه، أو شديد الالتصاق بالتابو الممتد والضارب الجذور في العقلية العربية التي عملت قمع توجهات الانتقاص من الأنا أو إظهارها بحقيقتها كما هي، وهنا يبدو إدوار سعيد في المشهد وخاصة في كتابه (الاستشراق)، حينما لخص بشكل ذكي وغير مسبوق كيفية فهمنا لذاتنا، لا بناء على حقيقته أو خصوصيته بمقدار ما نعتمد على أدبيات المستعمِر أو الآخر، وبالتالي فقد صنعنا نموذجنا الخاص، وفهمنا لأنفسنا بناء على تصورات الآخرين لنا.

وفي نموذج أخر نضيف عملا سينمائيا آخر ألا وهو الفيلم الفلسطيني "الجنة الآن" للمخرج الفلسطيني "هاني أبو أسعد" ففي هذا الفيلم معالجة لموضوع شديد الحساسية، لشخصين يخوضان في عملية انتحارية، واللحظات الأخيرة لبدء التنفيذ، إن الشكل السينمائي هنا قد تفوق على السائد حين انطلق من الداخل للخارج، فقد ابتعد كثيرا في مقاربة الإنسان الفلسطيني المقهور والمضطر إلى أن يكون انتحاريا بدلا من الأحكام الزائفة التي نسقطها من الخارج، أو الصورة التي أطرنا بها الآخرون، وفي هذا التوجه انقلاب عن ما كان ينبغي لنا كما يريد الآخر، فقد عملنا طوال سنين على فهم التعبير عن ذاتنا، ونحن نضع في الاعتبار ما تسرده لنا أدبيات الآخرين، وتحديدا الغرب فنعمل على تجميل قيمنا بناء على معطاهم القيمي الأخلاقي، أو السياسي، أو الاجتماعي،لا بناء على خصوصيتنا وحاجتنا نحن.

في هذين النموذجين بداية لتحقيق مفهوم أن النص لا يتأتى من مقولات جاهزة وخارجة عن العمق المحلي، أو لنكن أكثر وضوحا من مشكلاتنا، لأن المؤثر الخارجي ينتهي في النهاية في مصب المحلي ليعمل على إدخاله في تحولات وأشكال، وإذا ما تم أخذه بالحسبان (التصور الخارجي) فسيعمل على خلق تشوهات وتناقضا مريعا، مما يعمل على انتقاص المقولة وقتلها.

ومن هنا فإن على النص الأدبي أن يقيم امتداده في الأرض التي ينتمي لها، والناظر في معظم النصوص والإصدارات الأدبية يلمح أنها لا تترك مقولة واضحة في النهاية، كونها لا تصيب موضعا واضح الدلالة، فتبقى محايدة الحكم ومحايدة الطرح، باعتبارها تتخذ من المنظور العام إطاراً، فتسقط أسيرة فلسفة هجينة مسقطة خارجيا، أو أن الداخل المسيطر الأحادي التوجه، قد عمل على تكبيل مقولتها، وفي أسوأ الاحتمالات إشغالها بقيم جمالة غير مجدية بحجة استمرارية النص،التي تكون في أغلب الأوقات غير صادقة، لأن النص حينها يكون مفرغا، ولا قيمة حقيقية له.  

rami-shehab@hotmail.com