في إطار حفرها في طوايا الذاكرة النسائية العربية وتأسيسها لأركيولوجيا معرفية خاصة بتلك المسيرة النسوية ودورها في رفد النهضة بأفكارها التنويرية والنهضوية على السواء، تقدم لنا الباحثة السورية هنا باقة من كتابات تلك الرائدة المجهولة، يوشك بعضها أن يبدو وكأنه يتناول بعض تجليات حالنا الراهنة.

إستر أزهري مويّال في المرآة العربية

أثير محمد على

 

لهذا العدد من الكلمة تم اختيار ثلاث مقالات وخطابين لرائدة من رواد الحركة النسوية العربية: استر أزهري مويّال. نشرت تلك المختارات لأول مرة في مجلة (الحسناء: مجلة نسائية علمية أدبية تاريخية أخلاقية اجتماعية). كما هو معروف أصدر جرجي نقولا باز (الحسناء) في بيروت عام 1909، وهي مجلة شهرية مارست دوراً مميزاً في التنوير النسوي العربي. ومن بين المساعدات في تحرير المجلة تبرز أسماء: وردة اليازجي، استر مويال، انسطاس بركات، سلوى سلامة، اسما سيور، مريم زكا، وجوليا طعمة. نشرت المجلة دراسات مقالات لكاتبات وكتاب من مقام: أديب اسحق، لبيبة هاشم، أميرة زين الدين، راحيل مسعود، أمين ناصر الدين، ماري عجمي، فيلكس فارس، أسما بللمع، عفيفة كرم، يعقوب صروف، عفيفة الشرتوني، وسلمى طراد من بين آخرين.

يذكر يوسف أسعد داغر في (مصادر الدراسة الأدبية) أن استر أزهري مويال ـ على الأغلب تعود كنية "الأزهري" للأب و"مويال" للزوج ـ ولدت عام 1873 لعائلة يهودية بيروتية، وتلقت تعليمها في المدرسة التابعة للإرسالية الاستكلندية التبشيرية. مارست الكتابة للصحافة في كل من مدن بيروت والقاهرة ويافا، إضافة لعملها في مجال الترجمة من الفرنسية حيث ترجمت لاميل زولا، وهنري كيرويل. ويبدو أنها كانت من أوائل الرائدات المثقفات في ارتقاء خشبة المسرح كممثلة. انخرطت في العمل لنهضة المرأة العربية منذ عام 1893، ويشير داغر إلى أنها شاركت مع إحدى مواطناتها اللبنانيات لتمثيل لبنان في المؤتمر النسوي العالمي المقام في شيكاغو. وقد تعرفت في بيروت على طالب طب من مدينة يافا، اقترنت به لاحقاً، وهو شمعون مويال. بعد زواجها عام 1894 أقامت في القاهرة، وأصدرت مجلتها (العائلة) عام 1898، مجلة شهرية في البداية ومن ثم أسبوعية اعتباراً من عام 1904. كما أنها نشرت العديد من المقالات في صحيفة (الأهرام) اليومية وفي مجلة (الهلال) الشهرية.

انتقلت إلى فلسطين سنة 1908، وساهمت في نفس العام بإنشاء جمعية نسائية يهودية في مدينة يافا. ويجدر بالذكر أن عامي 1908 و1909 شهدا زخماً واسعاً فيما يخص تأسيس الجمعيات الدينية الخيرية، والوطنية الثقافية؛ خاصة بعد صدور القانون الخاص بتأسيس الجمعيات وقانون المطبوعات، إثر انقلاب حركة الإتحاد والترقي على حكم عبد الحميد الثاني، وإعادة الحياة الدستورية للدولة العثمانية. وفي عام 1914 تشارك استر مويال زوجها في تحرير مجلة (يافا صوت العثمانية)، ولا يدوم عملها هذا طويلاً بسبب وفاة الزوج، فتسافر إلى مرسيلية عام 1915، وتقيم فيها لحين عودتها إلى يافا مع منتصف الأربعينات حيث بقيت هناك حتى وفاتها سنة 1948.

المواد المنتخبة لاستر مويال، لباب «علامات» في هذا العدد من (الكلمة)، تعكس تنوع اهتمام كاتبتها بين خصوصية الشأن النسوي وعمومية الوضع الثقافي والسياسي لزمنها.  

من جهة تعكس لغتها النسوية الخطاب التنويري لرجال النهضة، الذي طالب بامرأة متعلمة قادرة على مهمة تربية الأجيال الجديدة، وأعلى من شأن الأم وقدس تجربة الأمومة، حتى أن قيمة المرأة تدرّعت ـ ولا تزال لدى كثير من أنصار ونصيرات الحركة النسوية ـ في المجتمع العربي بامتياز دورها كأم. بنفس الوقت يتفرد حوار الكاتبة النسوي مع المتلقي بنبرة تعكس قدرتها على تكوين موقف حرٍ خاص بها. موقف قادر على عقد الصلة بين التحرر النسوي والنهضة الثقافية والسياسية في المجتمع. ومن الواضح لقارئ استر مويال أنها امتلكت لغة ثقافية عربية بامتياز، لغة إصلاحية تربوية تنويرية، لا تغفل في خطابها "نهضتنا" الفريد عام 1912 عن مناهضة الاستعمار في الذي بدأت أخطاره تلوح في الأفق بعد قصف البوارج الإيطالية الحربية لطرابلس واحتلال ليبيا، وعندما تتطرق إستر مويال للمهاجر المزارع الألماني في فلسطين فإنها تتحدث عنه بمنطق الآخر قومياً وثقافياً، ولا تذكر من قريب أو بعيد أنه يهودي. أخيراً وكي لا يطول التقديم نترك للقارئ المواد المختارة لاستر أزهري مويّال في المرآة العربية.

*    *    * 

مملكة المرأة:

حديث في السياسة المنزلية 

إستر مويال (يافا)

 

لا دولة ولا مملكة تملكان صميم الامرأة كما تملك دولتها وسلطانها على داخلية منزلها، فأية سيطرة تفوزان بعواطفها كما تفوزان سيطرتها ونفوذها على من حولها من الأعداء، وفلذات الكبد. عندما نشعر بأن ما بين يديها اللطيفتين من السلطة إنما هي مصروفة لإسعاد أولئك الأعزاء المحبين والمحبوبين. مما يوجب الدهشة والاستغراب أن المرأة مهما كانت وضيعة حقيرة، ومهما كانت غلطات الهيئة الاجتماعية في حقها وخصوصاً في الشرق؛ حيث ضاقت حريتها، وهضمت حقوقها، فهي لا تزال قادرة أن تدعي الملك في المنزل، وأن تستعمل سلطانها هذا في سبيل نشر ألوية السعادة والهناء فوق رؤوس رعيتها العزيزة.

فالمنزل مهما ضاقت أرجاؤه، والبيت مهما أظلم مضاؤه، فهو دائماً أبداً يستنير مشرقاً بابتسامة من ربته. ومثلها فيه الشمس المشرقة التي تبعث أشعتها بالحرارة الحيوية وسرور الصحة إلى ما في الكون من الموجودات. فابتسامة المرأة تنبعث منها أشعة تنشط النفوس، وتطيب القلوب. كيف لا واهتزازات أثير تلك الأشعة إنما هي المحبة الخالصة، والحنو رقيق الوداد الثابت.

أجل فأولاد الأم الحنون، وزوج المرأة الودود، ليحملون دائماً أبداً على جباههم سيمياء الفرح والسرور، وعلائم الارتياح والحبور، ويكونون مهما اشتدت عليهم وطأة الحياة ومتاعبها ناعمي البال، قريري الخاطر. كيف لا وهم يشعرون أن لهم من منزلهم مأوى أميناً هادئاً. وأن لهم من ربته ملاكاً حارساً ساهراً على راحتهم أناء الليل وأطراف النهار. لأنها تجد من قلبها وعواطفها ألف دافع، يدفعها إلى أقرب الطرق لتخفيف آلام الوجود على أعزائها، ولدرء صعوبات الحياة وأوجاعها عنهم، فتزيل بحنوها العقبات التي تعترض نمو أجسادهم، ونشوء وارتقاء عقولهم ومداركهم، برغم ما تكون فيه من الضائقة المادية والعسر المالي، إن كانت من قليلات المال. وبرغم الملاهي والمسرات الموفورة لديها إن كانت من المعرّضات لغواية الثروة ودوار المال.

فإسعاد الزوج والولد يجب أن يكون المحجة الكبرى، لساعي كل امرأة تستحق الوصف بالنسائية في هذا العالم. فمتى نحت هذا النحو، وسعت هذا المسعى، تكون قد فاقت بأجلّ أمر وأقدس عمل، وجدت المرأة لأجله في هذا الكون. إذ به وحده تجد هي نفسها سعادتها الحقيقية، وبواسطته فقط تلقى الهناء وراحة النفس وسعة الصدر. ولكم يكون خطاؤها عظيماً وغلطها فادحاً، إن هي جعلت همها الوحيد وشغلها الشاغل مجرد التزين والتبرج، مستسلمة لشيطان "المودة"، لا يهمها سوى البحث عما يزيد جمالها رواءً، وحسنها بهاءً، فتهمل في سبيل هذا الغرض الزائل زوجها وأولادها، الذين لا يلبثون هم أيضاً إلا ويعرضوا عنها، مهملين أمرها، فتخسر احترامهم ومودتهم، خسارة لا يعوضها عنها إعجاب الآخرين بها، واستحسانهم جمالها. وما أحقر ذلك الإعجاب الذي يبدو للحسناء من جماهير لا يهمهم من أمرها شيئاً، وما أكذب ذلك الاستحسان الذي تسمع عباراته من أفواههم بمرورها بهم. فهو لا يدوم أكثر من دوام تموجات الهواء بالنبرات، ثم يزول كما تزول تجعدات أوجدها سقوط حصوة على صفحة الماء الراكد. فكل ذلك مما لا يجبر كسراً، ولا يشرح صدراً، إذا ما مستها يد المصائب والأحزان، أو رماها الدهر برزيئة لا يخفف وطأتها سوى القلب المشفق والفؤاد المتأثر المشاطر بالآلام والأحزان.

أجل سيدتي إن ماتحتاجين إليه هي تلك النظرات الملأى بالحنو والانعطاف. يرنو بها إليك رب بيتك وشريك عمرك. إن ما يتطلبه قلبك وتبتغيه جوارحك هي تلك الأذرع الصغيرة تحوط عنقك، وتلك الشفاه الرقيقة تقبل وجنتيك. وتلك العبارات المتقطعة يتلفظ بها أصغر أولادك شاكراً بها عنايتك وحسن اهتمامك. أجل سيداتي إن هذه هي الأمور الوحيدة التي تجلب سعادتنا نحن النساء، وتسبب هناءنا، وهي لا تأتينا عبثاً وبدون مشقة ونحن جالسات على مسند الراحة، متجليات بأثواب الدمقس والحرير، متعطرات متبخترات. بل إنما تأتينا عن طريق ملؤه العناء والمشقة وإنكار الذات، وتقديم صالح من يحيط بنا أو راحتهم على أنفسنا ناسين ذواتنا. قائمات على ترتيب بيوتنا ومعانيات أصغر الأمور وأحقرها إلى أعظمها وأسماها بذواتنا غير متكلات على خادمة أو طاه، إلا بما يخفف عنا بعض متاعب الخدمة البيتية لا كلياتها. ساهرات على النفقات بحيث لا يزيد صرفنا على دخلنا. مقتصدات «القرش الأبيض إلى اليوم الأسود» بشرط أن لا نضيق بتوفيرنا هذا على الأهل والولد بحاجياتهم التي لا يمكن الاستغناء عنها، ليظهروا بمظاهر الترتيب والنظافة، سالكات بأمور ملبسهم ومطعمهم بحسب الدرجة التي أوجدتنا بها الأقدار في الهيئة الاجتماعية العائشات نحن فيها. ومتى قمنا بذلك (ولكن دون أن نهمل ذواتنا بالكلية بل علينا أن نتلفت من وقت لآخر لكل ما يحفظ جمالنا ويبقينا متمتعات بالصحة والعافية التي إنما أهملنا أمرها) نكون قد خدمنا بيتنا وأولادنا بمقدار ما خدمنا نفوسنا. فلنتخذ الحكمة رائدنا في كل الأمور اليومية والرشاد قائدنا ولنتذرع بالصبر والثبات نجد أعمالنا بعد حين قد تكللت بالنجاح. إذ نقدم للوطن العزيز رجالاً ونساءً أشداء أقوياء يتمكنون من نفعه وخدمته عندما تشتد سواعدهم وتقوى عضلاتهم وتتقدم مداركهم. وفقنا الله وإياكن لكل ما يسعد بيوتنا ويزيدها سعة وترتيباً فتزهو بذلك مملكتنا وتزهر ويخيم فيها السلام وتخفق عليها أعلامه.

(الحسناء، مج1، ج2، بيروت، 20 تموز 1909).

*    *    * 

جمال الزوجة وجمال الأم

إستر مويّال (يافا) 

 

قال تولستوي الفيلسوف الروسي ما معناه: تظل المرأة عبدة الرجل وأسيرة هواه طالما تعيش لتكون زوجة له غايتها مرضاته وإعجابه ولا ينجيها من أسره ويخولها حق التساوي به إلا متى كانت أماً حنوناً تعيش لتسعد أولادها وتسهر على تقدمهم جسماً وعقلاً. خلقت المرأة لتعيش لغيرها وليس لنفسها. خلقت لتمتلك قلوب من هم حولها وتكتسب محبتهم وصداقتهم. وبكلمة واحدة خلقت لتكون محبوبة من غيرها وتهب هي محبتها لهم وبما أن المرأة تتصور أن جمالها هو العامل الوحيد الذي جذب إليها قلب زوجها وحمله على اختيارها دون سائر البنات لتكون شريكة له فهي لا تألو جهداً للمحافظة عليه ولو كلفها ذلك كل تعب وعناء حاسبة أنها كلما تفننت في زيادة وجهها إشراقاً ورواءًا يزداد زوجها محبة لها وتعلقاً بمحاسنها فتصرف الأيام وتطوي السنين ولا همَّ لها إلا أن تبدو على أتمّ ما يمكن من الزينة والبهرجة فتبخل بالحركة في البيت كي لا تضعف قواها وتكسل عن لبس ملابسها حتى لا يذهب احمرار وجنتيها.

كل ذلك عوامل تؤول بها لكراهة الأمومة وعمل ما بالوسع لعدم الوقوع تحت سنن الطبيعة التي لا تهتمّ برغائبها ولا تنتبه لمطالبها بل توقعها تحت نواميسها وترميها تحت عذاب الحمل ووحامه وكل نتائجه المشؤمة على صحتها لكن أيام الحمل معدودات لا بد من تحملها رضيت أم غضبت إذ لا سبيل للهرب منها لكنها لا يكاد ولدها يرى نور الوجود حتى تدفعه إلى أيدي المراضع والدادات يفسدن تربيته ويدخلن الأمراض المتنوعة في جسمه النحيف. ولقد سمعت مؤخراً عن سيدة من علية القوم كادت طفلتها تموت جوعاً لأنها لم ترغب أن ترضعها مدة يوم أو يومين حين ولادتها إلى أن يتوفقون لمرضع سليمة الجسم وذلك بحجة أنها متى أرضعت ابنتها ولو يوماً واحداً يذهب جمال صدرها ويضيع رونق هندامه.

ولكن هل تنال المرأة بغيتها إذا هي حرمت نفسها من لذة الأمومة وحنان الرضاعة ومحبة الولد الذي يعيد لوالدته أضعاف أتعابها عليه بنظرة من نظراته وابتسامة من فمه؟ هل تكتسب هي محبة الزوج إذا هي تفانت في سبيل إعجابه بالظهور أمامه على أتمّ ما يمكن من الزينة والبهرجة وتذكيره بكل حركاتها وسكناتها وهندامها أنها زوجة؟ ثم هل تظلّ محاسنها وهي ابنة خمسين كما كانت وهي ابنة خمسة عشر؟

تلك مسائل حبذا لو تأملت فيها كل سيدة جمعت المحبة الزوجية في معنى واحد مادي. البهرجة تهيجها والبساطة تطفيها. أجل إن المرأة لو بذلت في سبيل اكتساب محبة زوجها القلبية وصداقته نصف ما تبذله على جمالها الذي لا بد من زواله مهما تفننت ومهما أبدت من الحيل (لأن الأيام ومتاعبها والسنون ومصاعبها لا بد أن تنال منها ما تبخل هي بإعطائه لأولادها الذين إذا أحسنت تربيتهم ولم يصرفها عن محبتهم الميل لإعجاب الناس) قضت العمر بأجمعه جنباً لجنب زوجها سعيدة برفقته مسرورة بعشرته وأماً حنوناً فرحة بمحبة أولادها. تلك المحبة التي لا يعتريها فتور ولا يؤثر عليها مرور السنين بل تظل كما هي جميلة كانت الأم أم قبيحة الشكل شابة في مقتبل العمر أو عجوز شمطاء قد أحنتها الأيام.

وهذا ما يذكرنا بقصة من قصص هنود أميركا وهم سكانها الأصليون نذكرها هنا على سبيل الفكاهة والاستشهاد: قيل أن والدة تفردت بالبشاعة ودمامة المنظر ذهبت يوماً ومعها ولدها إلى العين لتملأ جرتها فرأت هناك الحسان والكل يتودد لهنّ والكل يطلب رضاهنّ. أما هي فلم تكد تظهر أمامهم حتى رأت الكل يتحاشى النظر إليها فحزنت لذلك حزناً عظيماً وذهبت لخلوة وبكت بكاء مراً. فأتاها ملاك الخير وقد رقّ لها وعطف عليها وقال: خففي ما بك يا خالة ولا تجزعي وسأجعلك آية بالبهاء والحسن والجمال لأني علمت أنك لم تحزني إلا بسبب ما ترينه من نفور القوم منك عندما يرون بشاعتك.

ولم يكد ينهي كلامه حتى رأت أن بشرتها تساقطت عنها وجاء مكانها بشرة لطيفة صبحاء فسرت لذلك وذهبت لوقتها إلى العين فلم تكد تبدو للعيان حتى رأت القوم قد احتاطوا بها من كل جانب يتأملون محاسنها ويتزلفون إليها. وفيما هي كذلك سمعت ابنها يبكي وهو يناديها من وقت إلى آخر فأسرعت إليه وحملته بين ذراعيها وقبلته مراراً ثم نادته بأحلى الأسماء غير أنه لم يكد ينظرها حتى أعرض عنها وعاد لبكائه الأول وهو يقول أين أمي خذوني لأمي. أما هي فباطلاً أخذت تقنعه بأنها أمه وترجوه أن يعود معها إلى البيت فلم يصدق بل تركها وذهب ليفتش على أمه في الغابات والفلوات عندئذٍ هاجت مخاوفها واشتدت وساوسها وجرت وراءه وهي تبكي وتنتحب خوفاً عليه من أن يأتيه أو يداهمه شر يؤدي بحياته فسخطت على نفسها ولعنت حماقتها وتمنت لو تعود إلى بشاعتها الأولى لتسترجع ولدها لها. وللحال جاء ملاك الخير وعطف عليها كالأول وقال لها: بما أنك رجعت إلى صوابك وشعرت بأن محبة الولد أفضل من إعجاب الناس واستحسانهم فسأعيد إليك هيأتك الأولى فاقتنعي بما قسم لك ولا تطلبي المزيد.

وفضلاً عن ذلك فالأم تثق وتتأكد أنها تظلّ الشخص المحبوب المحترم المقدس عند ابنها ولو أعرض عنها جميع الناس. يؤيد ذلك ما قاله الاسكندر عندما جاءه أحد رجاله وقال له أن أمه أساءت فقال فوراً أن دمعة واحدة من دموع والدتي تمحو بحر آثام. مما مرّ نرى أن السيدات اللواتي يكرهن الأمومة حريات بالشفقة والرحمة لأنهن يضعن حياتهن بين المرآة والمشد والمشط والشريط والأقمشة والدانتلات فلا يصلن إلى السن الذي لا بد به أن يفارقن جمالهن الزائل حتى يجدن ذواتهن فريدات. ولا صديق يعتمدن عليه ولا قلب محب تسرهنّ رؤيته وتفرحهنّ عشرته ويجعلهن إن يعشن ثانية به. كيف لا وقد قالت الحكماء إن ما ولد الإنسان إلا نفسه وقد أعيد إلى الصغر وأعطي حكم المستقبل. فهنيئاً للسيدات اللواتي سلكن في بيوتهن بحسب إلهاماتهنّ الطبيعية فعاشرن أزواجهن عشرة حبية قلبية يربطها الوداد وتزيد متانتها الإلفة ويشد عراها الاشتراك مع أزواجهن في عمل كل ما من شأنه أن يسعد البنين ويصلح أحوالهم حالاً واستقبالاً.

(الحسناء، مج2، ج2، بيروت، آب 1910).

*    *    * 

خطاب للسيدة إستر مويال في كلية البنات الأميركية في الثغر 

إستر مويّال (بيروت) 

 

أيتها العزيزات:
إنني بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن بقية أعضاء جمعيتنا الزاهرة أهنئكن بالفوز المبين الذي أحرزتنه بعد أن قضيتن السنين الطوال مكبّات آناء الليل وأطراف النهار على التحصيل والدرس والبحث والتنقيب حتى نلتن نصيباً وافراً من العلوم والمعارف وأرحب بكن لدخولكن في سلك عضوية جمعيتنا التي تقبلكن على الرحب والسعة فاتحة لكنّ ذراعيها آملة أنكن سوف تتممن العمل العظيم الذي بدأت فيه المدرسة التي هذبت أخلاقكن وثقفت عقولكن ورفعت مدارككن فتحملن عَلم الرقي في كل صقع سوف تطاءه أرجلكن وتنشرنّ بذور المدنية الحقيقية والتهذيب الصحيح في أرجاء هذا الوطن المحبوب.

أجل أيتها العزيزات إنكنَّ حتى الآن لم يكن لكنَّ سوى همّ واحد هو حفظ دروسكن لترين علائم البشر والسرور تبدوا على محيا معلماتكن حين أعادتها على مسامعكن فتكتسبن بذلك رضى الأهل وثناء الأقارب. لكنكن اليوم سوف تدخلن عالماً جديداً وميداناً واسعاً عتيداً تتبارين فيه وتشغلن في فضائه المراكز التي يؤهلكن إليها استعدادكن العقلي.

كل منكن بحسب فطرتها وموهبتها وطباعها وذوقها فإذا تمكنتن من إظهار مميزاتكن بها على الذين يعلمون والذين لا يعلمون. أما إذا اكتفيتن بالعلوم التي اقتبستنّها من المدرسة وتركتنّ أنفسكن للأقدار والظروف وأهملتن الدفاتر والمحابر لا تلبثن أن تساوين اللواتي لم يحمل بنانهن قلماً ولم تلمس أيدهن كتاباً لأن العقل ككأس فضة إذا أهملت علاها الصدأ. إذاً لرأيتن جماعة القهقريين الذين طمس الله على قلوبهن ينادون قائلين لا فائدة من تعليم المرأة وكل درهم يصرف في هذا السبيل يذهب هدراً لأن عوائدنا الشرقية قد قضت عليها أن تكون قعيدة بيت فلا كسب يحرك دماغها ولا فن يرفع مداركها ويوسع دائرة تصوراتها كالرجل الذي تفرد بالصنائع والفنون وكان العضو الوحيد العامل في جسم هيئتنا الاجتماعية الشرقية.

كلا أيتها العزيزات. سوف تبرهنَّ لهؤلاء المستبدين أنهم عن الصواب بمراحل وأن العوائد ما وضعناها نحن النساء. والأخلاق بثثنا بين بني الوطن الذين هم آباؤنا وأخوتنا وأزواجنا وبنونا. سوف تظهرين لهم بمظهر المصارع القوي الذي أعد للأيام عدتها واستعد لاقتحام الأخطار ومحاربة الأهوال فتتمنعن بحصن من الفضيلة حصين ليرتد كل جسور وقح عنكن خاسئاً خاسراً فتمددن أيدكن لكل شغل شريف وعمل نبيل يستغرق أوقاتكن ويعود عليكن بالخيرات والبركات وينيلكن الحرية والاستقلال الذاتي. إذ لا تعود الواحدة منكن كلاً على البيت الذي منه درجت بل تكون له بمثابة الذراع الأيمن من جسد الإنسان. عندئذ تؤسسن مدينة جديدة نحن بحاجة إليها احتياجنا للطعام الذي يغذي جسدنا والهواء الذي ينقي دمنا. مدينة تكون المرأة فيها مساوية للرجل شريكة له تسايره في معترك الحياة التي لا يفوز فيها سوى الأقوى. مدينة عربية شرقية قوامها الفضائل الموروثة وعمادها حب الشغل والتفوق فيه.

أمثالنا الآن أيتها العزيزات مثل الفتيات الروسيات اللواتي هببن من رقادهن منذ العشرات من السنين وأخذن يبارين الرجل في كل طرقه، فقد امتلأت بهن مدن فرنسا وسويسرا وكل مدائن أوربا ساعيات سعياً حثيثاً للتعمق في العلوم العالية لا يقعدهن عن ذلك فقر ولا عوز ولا يوقفهن في سيرهن ضيق وفاقة بل يقتحمن الأسفار وأخطار الاغتراب ويطرقن أبواب الطب والمحاماة ويتعمقن في الكيمياء وفلسفة اللغات. ويعدن بعد أن يكن اكتسبن مهنة تدفع عنهن شر الفاقة وتكسبهن مركزاً سامياً بين مواطنيهن ينسينهن ما تكبدن من المشاق وتحملنه من الأتعاب أثناء التلمذة والتعليم. فيا حبذا لو تقتدين بهن وتقتفين آثارهن فتتعلمن النقش والتصوير والموسيقى وطب الأسنان. فتؤدين بذلك مساواتكن فعلياً بالرجال الذين لا يروقهم الاعتراف لكنَّ بذلك البته.

قالت مدام دي ستال في كتابها كورين مهما كان الرجل راقياً ممتازاً لا بد أن يداخله بعض ما يشوّش عليه ويسلبه اللذة التي يذوقها عند مجالسته امرأة سامية العقل ذكية الفؤاد فهو إن كان يحبها قام له في فؤاده عامل الحذر والحسد. وإن يكن يحبها تهيأ له أن عزة نفسه تمس عندما تظهر لديه مميزاتها عليه. فالرجل والحالة هذه لم يجد من مصلحته أن يقرَّ بمساواتكن به لأنه طبع على الأثرة وحب السؤدد فهو يود أن تبقى نسبتكن إليه نسبة القاصر إلى وليه.

أخواتي. لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. فنحن نساء الشرق لا مفرّ لنا ولا مهرب من هذه الوصايا التي أبهظنا حملها إلا متى تذرعنا بالشغل وطرقنا أبواب العمل التي تسيل بين أيدينا المال أسَّ العمران الحالي وركن المدنية العصرية. فيا ما أبعد البون بين من يقول أعطني وبين من يقول هاك يا نفس رغائبك. هذه الوصاية قد آن لنا خلعها عن عواتقنا ونبذها ظهرياً كأنها لم تكن لأنها أسُّ شقائنا وسبب بلائنا. ورحم الله الشاعر القائل:

والظلم من شيم النفوس فإن تجد          ذا عفة فلعله لا يظلم

لقد قيل. رحم الله امرءًا عرف نفسه ووقف عند حدّه. فنحن الآن قد آن لنا أن نعمل بوصية هذا الحكيم ليكون نصيبنا من بني الإنسان نصيب الأحياء التي تأخذ بقدر ما تعطي وتنال بقدر ما تهب. فالمرأة ولا فخر هي رونق الحياة وبهجتها. بل هي شعر الوجود وبؤرة كل جمال وكمال فيه. فكما أن نفسنا تعلو وتسبح هائمة في طبقات اللانهائية وتصعد في سماء الخيال والحقيقة عندما ننشد قصيدة من قصائد المعري أو المتنبي أو أبي تمام الطائي هكذا يكون مجموع شعورنا وإحساساتنا عند مجالستنا ومكالمتنا امرأة سامية العقل متهذبة الأخلاق تتخذ إلهاماتها النسائية وكمالاتها النفسانية قائداً لها. فهي تحمل جليسها على الإفتكار بكل ما هو سام عظيم وتوجه تصوراته نحو كل مستحسن نبيل. وهاك ما قاله كثير الشاعر الشهير "بعزة" ممدوحة الشعراء:

رهبان مدين والذين عهدتهم         يبكون حذر العقاب سجوداً
لو يسمعون كما سمعت كلامها         خرّوا لعزة ركعاً وسجوداً

وهي مع ذلك قوة فعالة في الوجود. فلولا حنانها وإنكارها نفسها ونسيانها مسراتها الذاتية ما بقي على وجه البسيطة نافخ نار. هذا أمر مقرر لا يحتاج إلى برهان. هذا قدر المرأة وهذا تعريفها. وما هضمت حقوقها وأهملت ضمن جدران المنازل كمتاع يباع ويشرى إلا لأنها استسلمت لعواطفها وانقادت لضعفها الذي رمتها فيه أمها الطبيعية القاسية تلك التي جعلت في ثدييها ينابيع الحياة وفي أحشائها مصنع الإنسانية. فكيف يمكنني يا ترى أن أترك ولدي الرضيع يمزق أحشاءَه الجوع ويضني جثمانه اللطيف البرد وأذهب برفقة زوجي كل مساء أصرف في الحانات والقهوات ومحلات الملاهي أوقاتي ومالي. زوجي ربما يفعل ذلك بسرور ولذة لأنه لا يجد نفسه مسؤولاً لديَّ ولدى عيلته ولو بلغت عشرة أولاد عدا إلا بتأديته النفقة.

أما أنا فيضطرب جناني ويخفق قلبي ويبكتني ضميري وأعدُّ نفسي سارقة كل دقيقة من حياتي لا أقضيها في نفع بنيَّ أدبياً ومادياً. أنا أصرف في سبيل عائلتي نشاطي وذكائي. وأهب لها قلبي وروحي. وزوجي يدفع لي دراهمه. أما ذكاؤه ونشاطه وكل قواه العاقلة إنما يصرفها في مطامعة التي لا تحد سعياً وراء السؤدد والسلطة. أنا إذا وجدت من زوجي ظلماً أو إهمالاً رفعت بناظري إلى السماء. وتعزيت بقولي. هذا نصيبي. هذه قسمتي. هذا بختي. كلا. أيتها الأخوات قد آن لنا أن ننبذ هذه العبارات ظهرياً ونتذرع بعلة الشاعر. لنقي أنفسنا هذا الظلم وذياك الإهمال. نتذرع بمهنة نتقنها وحرفة تدفع عنا معاملة أزواجنا لنا معاملة السيد للمسود والقاضي الذي لا يقبل حكمة الاعتراض. فننجو من شركة زوجية إنما تعقد على حدّ قول الشاعر:

منك الدقيق ومني النار أضرمها          والماء مني ومنك السمن والعسل

اعلمن أيتها العزيزات أن الزواج لا يجب أن يكون المحجة التي يجب أن تشدّ إليها الرحال وتتجه نحوها العزائم. لا يجب أن يكون الدعوة التي يجب أن تهيئ لها الفتاة نفسها فتقضي أوقاتها وتصرف ذكاءها بالبحث عما يزيد وجهها إشراقاً ومحاسنها نضارة ورونقاً فتجعل من إعلانات البرنتان والبون مارشه والسامارتن كتباً تدرس منها أسماء الأزياء والألوان والحلى والحلل.

مهلاً أيتها الفتاة. أنت يا من جعلت نفسها أشبه بآلة موسيقية لا تهتز أوتارها إلا متى فتحت سيرة الأزياء. حولي أنظارك إلى ما هو أسمى من زي يزول. أنا لا أكتمك أن ما بي كما بك. لأن الميل لإعجاب الغير ومعاونة الطبيعة بإضافة بعض المحاسن المكتسبة من الفنون والذوق الحسن أمر غريزي في الإنسان. ذكراً كان أم أنثى. لا يجحده إلا كل متقشف متصوف أو عجوز فان. لكن جعل الأزياء شغلنا الشاغل وعملنا الوحيد أمر مكروه فيه كل حطة وضعة. خصوصاً إذا كان القصد منه البحث عن زوج. كأنما في اكتسابه نيل السماء وهنائها. والفردوس ونعيمه. فتجعله الفتاة محط أمانيها ومحور أعمالها. وتقتصر على التصورات الغرامية أو الخيالية وتترك كل حقيقة تمرّ أمامها مرّ السحاب دون أن تكتسب منها عبرة أو تربح لنفسها درساً نافعاً. حتى متى تزوجت ورأت البون الشاسع بين تصوراتها السالفة والحقيقة التي وقعت فيها غلب عليها اليأس واستسلمت للقنوط وأهملت نفسها. كأنها لم تكن بالأمس تلك الغانية التي كانت تجتذب القلوب رؤيتها ويسترق الأسماع منطقها العذب وصوتها الرخيم.

إياكنّ أن تعلقن كل آمالكن على الزوج وتتكلن عليه في حمل شقاء الوجود عنكن. لأن الحياة ليست حياة سرور ولذة فقط. بل حياة واجب وعمل. فالسعيد السعيد الذي قام بواجباته لنفسه وذويه ومواطنيه بطيبة خاطر وراحة بال. والشقي الشقي من اعتمد على غيره وأسند سعادته إليه ولو كان أغنى من قارون وأحكم من إياس.

تأكدن أن الإنسان لم يخلق فرداً وأن الجنسين وجدا ليتحدا وينشئا العائلة ويتعاونا في سراء الحياة وضرائها لا ليعيشا منفردين. تأكدن أن الزوج لا بد أن يأتي يوماً دون بحث ولا عناء. فيا حبذا لو تصرف الفتاة الشرقية الحديثة وقتها منذ تخرج من المدرسة إلى حين زواجها باتقان مهنة كما تفعل شقيقتها الأوربية فتنال بعض السعة في داخليتها وتكفي نفسها ظلم زوجها... حتى متى رأت منه إهمالاً واستباداً أو لو جارت عليها الأيام وحرمتها من حنوّه ومحبته عادت إلى حرفتها وأنقذت بنيها من مخالب الفقر وعبوديته المنهكة.

أجل أيتها الأخوات هلمن معي لنجول جولة بين منازل الأوربيين القاطنين بين ظهرانينا نجد عائلة أخنى عليها الدهر ونزلت بها المصائب والمحن فنرى المرأة فيها قد وثبت وثبة الأسد فأخذت تدرّس البيانو إن كانت موسيقية. أو تدخل كاتبة أو حاسبة في إحدى المحلات التجارية. أو تفتح لنفسها تجارة إن كانت ذات رأس مال فتبيع وتشتري وتعقد العقود وتؤلف الشركات كالرجل وهي مع ذلك تجد أولادها على غاية من العزّ والرخاء إذ تقوم بواجباتها لكل فرد منهم فتضعهم في المدارس وتنفق عليهم بحسب الوسائط التي أعطيت لها. وبذلك تكاد الذرية لا تشعر بما حلّ بها من الفواجع بل تظل سائرة من حسن إلى أحسن. حتى متى اشتد ساعد كل فرد منهم وصاروا رجالاً ونساءً كانوا أعضاء عاملة في الوجود يفتحر فيهم.

أكفيكن شرح ما يحل من الخراب والدمار وسقوط الذرية فيما لو نزلت تلك النازلة ببيت شرقي فهذا أمر طالما أسالت عبراتنا رويته وأذاب قلوبنا سماعه. أما إذا قدّر لأحدكن أن يمر في هذه الحياة دون زوج تستند إلى ذراعه فليكن لها من الطبيعة التي قضت سني شبابها وزهرة صباها في درس نواميسها وإدراك أسرارها ومكنوناتها أكبر صديق وخليل. تسامرها كواكبها ونجومها. وتخاطبها أشجارها ونباتها. وتشغل تصوراتها معادنها وأترابها. فكتابها أبداً مفتوح لديها. وذراعاها أبداً ممدودتان لاستقبالها ثم لتخصص نفسها لإتقان فنّ تجد بالإجادة فيه تعزية وسلوى. وتترك بعدها آثاراً تنطق ببراعتها ومهارتها وتحفظ لها ذكراً حميداً تكرره الألسنة المقبلة. والأجيال العتيدة. فكما أن الزواج يكرّم لأنه يهيء للمتزوجين السبل لإظهار القوة المبدعة المركوزة فيهم فيلدون النسل إحياء لذكرهم هكذا تتكفل الفنون والأعمال بحفظ ذكر كل آنسة تتقنها وتتفوق فيها. وإني متيقنة أن ذكر عزيزتنا المرحومة مس افرت لن يمحى من أفئدة تلميذاتها أبد الدهر. وهكذا قل في عزيزتنا مس طمسن أمد الله أيامها ووهبها هناء الدارين وسعادتهما.

أراني قد أطلت عليكن الكلام فأختمه ببعض عبارات كنت أودّ التوسع فيها لولا خشية الملل.

تعلمن أيتها العزيزات أنكن سوريات عربيات وأن معرفتكن اللغة الانكليزية أو الافرنسية لا تصيركن انكليزيات أو افرنسيات ومهما حاولت الواحدة منكن إخفاء جنسيتها لا بد أن ينمَّ بها وجهها وتظهرها ملامحها ويشهد عليها دمها وتعلنها أخلاقها وإن نسيت كل ذلك ذكرتها به الغربية بمعاملتها لها وترفعها عنها وتطاولها عليها إذ تظل معها على حد قول الشاعر:

مغاني الشعب طيباً في المغاني         بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيهم                غريب الوجه واليد واللسان

فلنكف عن متابعة الغربيين في حركاتهم وسكناتهم حسنت أم ساءت. ولنعد لدرس لغتنا وتهذيب عباراتنا عند التخاطب فيها وتحبيبها إلى أطفالنا وتشويقهم لحفظ أقوال شعرائنا وأمثال حكمائنا. ولنعد لتسمية بنينا وبناتنا بأسماء تذكرنا بتاريخ سلفائنا المجيد وقصائد شعرائنا البليغة فيا ما أبعد البون بين اسم سلمى وليلى الذي يجمع كل رنة الشعر وطربه واسم هالاي وكينبكوند الذي لا يعني لدينا شيئاً. فهيا بنا لنؤسس مدينة عربية شرقية يكون للمرأة فيها نصف المساعي الآيلة لترقيتها وتعظيمها في أعين الشعوب المتمدنة التي تعدّنا في مصاف الهنود والصينيين عندما تذكر الأقوام النصف همجية. وما ذلك إلا لأننا لا نحترم أنفسنا فنهون على غيرنا والمرء من طبعه لا يحترم من لا يعرف لنفسه قيمة.

(الحسناء، مج3، ج1، بيروت، تشرين الأول 1911).

*    *    * 

فتاة فلسطين 

إستر مويّال (يافا) 

 

رويدك أيها الشاب الفلسطيني. أنت يا من شربت مع اللبن احتقار المرأة واعتقاد الخفة فيها. اغضض من طرفك واخفض بصرك وسر في سبيلك متأدباً رزيناً إذا قابلت فتاتنا السائرة ذات القبعة الكبيرة الحجم المملؤة بالأزهار والأطيار التي تكاد تخفي وجهاً صبوحاً تنيره عينان براقتان تبعثان نوراً ينبئ عن نفس عالية وفؤاد ذكي. وإن هزّك الطيش وحدت بك الخفة لرشقها بكعب سيكارتك المشتعلة أو لترميها ببعض عبارات تدرك هي قبحها دون أن تفهم مغزاها فإن عصاها التي علمتها على استعمالها سوف تلمس جلدك فترغمك على احترامها ولو لم تعتد عليه وإن سألت علمت أنها قادمة إما من باريس أو من تولوز أو من لوزان.. الخ حيث تلقت العلوم العصرية بكل فروعها فلم تدع قوة من قوى دماغها العاقلة ولا عاطفة من نفسها حتى ثقفتها وهذبتها ورقتها فأدركت ما لها وما عليها وكيفت حياتها على الطريقة المثلى التي تجلب لنفسها ولذويها السعادة والهناء.

دعها تسير بجانبك وهي آخذة بتقسيم قطعة موسيقية قد لحنها فاكنر أو بيتهوفن أو شوبان. أو تخاطب كبار الكتبة المتفننين وتراجع في ذاكرتها أقوالهم وآراءهم. كيف لا ومبادئ فيكتور هيكو وزولا ولوتي وغيرهم قد أخذت من نفسها كل مأخذ فطربت بها واستخفها السرور فمالت للنزهة وتسريح الخاطر بمشاهدة أعمال الله في خلقه فخرجت من بيتها بعد أن اكتملت زينتها وزادت وجهها إشرقاً بملابس تناسب قوامها ولون بشرتها زياً ولوناً. ومشت وهي مملوءة بالأماني والآمال لثقتها بأن كل حيّ يحمل وجهاً إنسانياً له الحق الأكيد الثابت بالاحترام والاعتبار. لأنه مهما كان ساقطاً في سلم المدنية تبقى به قوة كامنة وميل للخير خفي يدفعه متى توفرت لديه الأسباب للقيام بمنافع عديدة للإنسانية، فكيف بها وهي تعلم أنها أجمل الكائنات خلقاً وأكملها خلقاً.

على محبتها ونشاطها يتوقف عمار البيوت وإنشاء العائلات. وعلى حنانها وإنكارها نفسها ونسيانها مسراتها الذاتية تتربى الصغار وتقوم أخلاق الفتيات والشبان، فإن كنت لا تنكر أن المجرم الساقط يسهل لديه أن يفتدي نفسه ويكفر عن جنايته بندامة أكيدة وأفعال نافعة تحملك على اعتباره واحترامه بعد أن كنت تعدَّه أشدّ ضرراً من الأفعى وأعظم أذية من العقرب فتوسع له مجالاً بجانبك ليتمتع بملذات هذا الكون وينال نصيبه من نعيمه فلماذا لا تريد أن تعترف بالحق الثابت الأكيد الذي وهبه الخالق لكل الأحياء على السواء ومن جملتها ذلك الكائن الأدبي العاقل ألا وهو الفتاة ذلك الحق الذي يخوّلها حرية القول والفعل فتذهب حيثما تريد وتسير كيفما شاءت وتشتغل بما تحب وتقضي وقتها على الطريقة التي تجد فيها الفائدة والصلاح لها دون أن تتعرض لها وتسيطر على حركاتها وسكناتها وتجبرها على الانزواء ضمن جدران البيوت خوفاً من أمثالك، كأنما الطبيعة وجمالها والمخلوقات ومنافعها لم تخلق إلا لتكون طوع بنانك ورهن إشارتك فيا أيها الرجل أنت يا من يصرعك درهم من الكينا تأخذه علاوة عن القدر المعين لك وشوكة دقيقة تدخل في إبهامك تقعد عن السعي والحركة كيف جاز لك أن تتسلط وتسيطر على أخت لك حملتها الطبيعة كل شقاء وجودك فتأسرها وتستعبدها لأهوائك وتسجنها ضمن جدران منزلك بينما أنت تسرح وتمرح فتصبح وتمسي وتروح وتغدو حراً كالهواء لا يعارضك في أقوالك وأعمالك معارض.

لقد آن لك أن تنبذ المبدأ الذي سرت عليه وسيرت فتياتك مكرهات على اتباعه (إن البنت قبرها بيتها) فنزلت وإياها إلى أدنى دركات الشقاء لأن ما من أذية وما من ضعة يرمي الرجل المرأة فيها إلا ونصيبه أعظم نصيب منها وكل سلطة يستعملها الرجل ليضع من شأن المرأة لا تؤدي إلا لإسقاطه وتحقيره وكل عمل يأيته لرفعها يزيده قوة وعظمة ومجداً.

نعم أيها الشاب الفلسطيني لقد آن لك أن تنبذ أهواءك جانباً عندما ترى فتاتنا وتفتكر لأنها إنسانة كما أنك إنسان وأنه لا يحق لك أن تنظر إليها نظرة شريرة كما لا يحق لك أن تعتدي على رفيقك وتسلبه جوهرة في صدره تزين عقد رقبته.

انتبه لشؤونك واهتم بما يعنيك اترك الأمور الزهيدة التافهة وحوّل عزائمك للانتفاع بتلك الدروس العظيمة التي يلقيها عليك جيرانك الأغراب الذين يحتاطون بك من كل جانب أولئك الذين جاؤك منذ مدة قليلة وهم لا يملكون سوى نشاطهم وحبهم للشغل وإتقانهم معرفة كل مهنة يطلبون مزاولتها فجمعوا كلمتهم وألفوا الشركات وهيأوا رؤوس الأموال الكافية للقيام بمشروعاتهم الزراعية على أحدث طرز واتحدوا سوية لجلب كل أمر يهيء لهم سبل النجاح.

اشتروا أراضيك القاحلة التي لم يكن ينبت فيها سوى الأشواك والأدغال وحولوها لجنات تجري من تحتها الأنهار بينما أنت في بحار الجهل غارق وللكسل مستسلم. تشتغل من السنة ربعها أو ثلثها وتقضي باقيها بما لا يجلب لك نفعاً ولا يدرأ عنك ضراً. صناعتك في بوار، وما راج منها سوى صناديق البرتقان التي لا تقتضي ذكاءًا ولا مهارة ولا تتطلب اتقاناً.

برتقانك الذي يهيء معيشة أكثر قومك يرمى نصفه حين وصوله للمدن القاصية التي يبتاع فيها لتطرق الفساد والعفونة إليه وذلك لعدم وجود سفن تحمله رأساً منذ قطافه إلى تلك المدن النائية بل يطوف على كل شطوط البحر المتوسط والأتلانتيك في سفن الدول الغربية التجارية التي تضع عليك كل الحقوق ولا تتحمل أقل مسئولية.

قمحك يطحن في مطاحن لا نصيب لك فيها سوى ما يقبضه منك بعض العملة الذين يديرون رحاها.

كرومك عليلة سقيمة بينما ترى كروم جيرانك كمروج سندسية تسر الخاطر وتشرح الناظر وإن أردت أن أعدد لك عوامل انحطاطك لأعوزني الوقت. وفوق كل ذلك فإن نساءك اللواتي هم أمهاتك وأخوتك في استعباد معيب (رأيت رأي العين شاباً من الوجوه يلبس الزي الإفرنجي وقد تعلم في مدارس الفرير في يافا حتى بلغ سن الثامنة عشرة يمدُّ رجليه لوالده لتقلع له نعليه).

فإن كنت بيارياً أي مزارعاً في جنائن البرتقان لم تشتغل إلا بما طاب لك ولذّ وحالما تلاقي جهداً تكف عن العمل وتكلف نساءك بكلما زاد عناؤه وكثر شقاؤه فهن يساعدن بالفلاحة والسقي والقلع والقطاف وعلف الحيوانات وإدخالها إلى حظائرها. فضلاً عن خدمة بيوتهن الحقيرة بحيث لا يجدن دقيقة واحدة يستنشقن بها النسيم البليل أو يسرحن النظر في مناظر تلك النباتات والأشجار التي بذلن عرق القربة لانمائها وشقيها وتعهدها بالعناية. وبينما تكون أولادهن حفاة عراة ذكوراً وإناثاً ترى أنت على كراسي القهاوي مرتدياً بالبياض تدخن الشيشة وتتعرض للفتيات. وإن سمعت يوماً من امرأتك تزمراً أو تقريعاً تهددتها بالضرب والطرد فترغمها على السكوت مكرهة.

أما إذا كنت تاجراًً وكان رأسك مفعماً بالمبادئ السقيمة التي ملأ دماغك بها أستاذك من أن النساء ضعيفات الإرادة ضعيفات العقول لا قوة لهن على مقاومة التجارب ولذلك يجب عمل كل ما بالوسع لعدم تخويلهن الحرية للسير في الشوارع ومحلات النزهة، قفلت على امرأتك ولم تسمح لها أن ترى شخصاً لم تكن قد استأذنتك قبلاً برؤيته ويا ويلها لو خالفت الأمر. بينما تقضي أنت وقتك بما لا طائل تحته وقد فاتك بالكلية ذاك الحديث القائل: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لدينك كأنك تموت غداً. وعندما تقفل مخزنك لا تكاد تزدرد عشاءك في بيتك حتى تغادره وتعاود الكرة إلى القهوة حيث تصرف السهرة مجتمعاً برفقائك بينما تكون الذكور من أولادك مجتمعين في الشوارع والمنعطفات بقتبسون معائب بعضهم البعض ونقائض لم تكن تحلم بها قبلاً. فيملأون جدران منازل الغرباء جيرانك بعبارات تشمئز منها النفوس ولا بلدية تهتم بمحوها أو ملاحظة كاتبها لردعه عنها.

هذه جروح وأيم الحق أودُّ لو لم أذكرها لو دريت سبيلاً آخر لشفائها ولم يحملني على كتابتها سوى حسن نيتي ورغبتي الشديدة وشغفي العظيم لأرى مواطني عفيفي اللسان والقلب منصفين عادلين. مجدين نشيطين ليزيدوا توارد الثروة وليتمتعوا بنعيم الحياة وهنائها كأشخاص راقيين. كيف لا وهم القوم الذين عرفوا منذ القدم بالذكاء وحدة الذهن ورقة الطباع ولين الجانب. فلا ينقصهم سوى الإرادة القوية والعزم الأكيد لنبذ كل فكر سقيم يبعدهم عن الاقتدار بكل فضيلة تأتيهم من جيرانهم ويهتموا نظيرهم بالأمور الجدية الآيلة لإنشاء عائلات راقيات يعيش واحدها للكل وكلها للواحد فينكر الزوج نفسه بإزاء الزوجة والأولاد ويسعى لتحسين ذريته وتهيئة دواعي الراحة والهناء لأفرادها ويعمل ما بوسعه لتعليمهم صبياناً وبنات العلوم العصرية التي تجهز لصاحبها السلاح الحاد والعزم الثابت لمقاومة الصعوبات التي تعترضه في جهاد هذه الدنيا. وليعلم بناته مهنة يلتجئن إليها متى أهملهن أزواجهن أو توفاهم الله عنهن كي لا يعدن إليه أو يكن خادمات عند نساء إخوتهن. بل عليه أن يخولهن الحرية ليقتدين بتلك الفتاة الغربية الفلسطينية جارتهن التي ذهبت إلى أوروبا وتعلمت فيها طب الأسنان وفتحت بالقرب منهن محلاً تقاطرت إليه الزبائن من كل صوب وناحية. هكذا تقتضي المدنية العصرية وبهذا تحكم. والويل ثم الويل لمخالف نوامسيها إذ يسقط تحت عجلات أتوموبيلها فتطحنه طحناً.

(الحسناء، مج3، ج2، بيروت، تشرين الثاني 1911).

*    *    * 

نهضتنا

خطاب السيدة إستر أزهري مويال صاحبة مجلة العائلة المحجوبة في حفلة جمعية شمس البر(1)  

إستر مويّال (بيروت) 

 

أيها السيدات والسادة ـ أنقول قضي الأمر وجف القلم ـ وكتب على شرقنا التعس أن يكون آلة صماء في يد الغرب. يديره كما يشاء ويلعب به ويساكنه كما يريد ويتصرف فيه تصرف المالك بما تملك يده. فيقتسم أراضيه عابثاً بكل الحقوق الدولية هازئاً بكل القرارات السلمية. حتى متى عنَّ لأي دولة منه توسيع نطاق أراضيها هجمت علينا بخيلها ورجلها واكتسحت بلادنا بعد أن تنشر في أرجائها الخراب والدمار. وتنظر إلينا نظر المولى إلى عبده الجبار القادر إلى حيوان حقير أمامه. أباحت له الأيام إذلاله وأحلّ له الدهر استعباده. أم نقول. لنا عقول مفكرة ورؤوس مدبرة وأذرع قوية وأيد عاملة فما علينا إلا أن نستعملها في السبيل القويمة التي اختطتها هذه الشعوب المقتدرة لأنفسهم قبلنا ليكون نصيبنا في هذا الوجود نصيب الأحياء العاقلة القابلة للفلاح العلمي والعملي. والقادرة أن تحمي ذمارها وترد كيد أعدائها وتدفع عنها طمع الطامعين فيها.

أنقول قد ورثنا الذل عن أسلافنا وسرى العجز في عروقنا مع الدم الذي يغذي أدمغتنا فحرمنا العزيمة الذاتية التي تدفع كلاًّ منا ليقاوم العثرات ويغالب الشدائد التي تعترضه دون الوصول إلى اتقان الفن الذي يزاوله. أو الحرفة التي يرتزق منها من غير أن يكون مدفوعاً إليها بحكم الضرورة أو لإرضاء أب أو أخ. أو بداعي الميل إلى المجد الفارغ أو بعامل حب الظهور أو ما شاكل ذلك. أم نقول كلا جبلنا من نفس الطينة التي جبلت منها هذه الشعوب الناجحة الذين انقادت العناصر لإرادتهم وصيروا المادة الجامدة طوع بنانهم. وإننا قد أعطينا نفس المواهب التي أكسبتهم رفعة وعظمة فما علينا إلا أن نستعملها لنبرهن للملأ أجمع على استعدادنا للوصول إلى ما لا يحد من الكمالات النفسية السامية التي تفتح لنا مغلقات أسرار الطبيعة وخصائص موادها ودقائق حوادث الأرض وأحوالها اليومية. وإن ميلنا للكمال عظيم وشغفنا بالوصول إليه شديد. وإننا نقدر الفنون الجميلة حق قدرها. نعلي قيمة أربابها بيننا. وإننا نفهم معنى الجمال الحقيقي ونسعى جهدنا لنتحلى به ونحلي أوطاننا العزيزة بمجاليه التي تفرح النفوس الشاعرة. وتبهج القلوب الحساسة وتخلق الأفكار العالية والآراء الصائبة.

أننظر إلى هؤلاء الأوربيون وهم محلقون في الجو وقد امتلكوا أعنة الريح فنمنحهم صفة الألوهية كما نظر اليونان القدماء إلى هرقلهم ومن قفى على أثره بينهم فجعلوا حداً بين ضعفهم وقوة هؤلاء الأبطال وبين عجزهم ومقدرة أولئك الجبابرة العظام فوضعوهم في مصاف الآلهة. ووهبوهم صفة الخلود مع أنهم بشر مائتون. فنيأس ونقنط ونقول بهذا حكم الدهر ولا مرد لحكمه. وما الشعوب على الأرض إلا الكواكب في السماء. هذا عظيم متألق نوره هائل الكبروذاك حقير ضئيل متناه في الصغر. كلا. أيليق بنا أن نخدر أعصابنا بمثل هذا المنوم ولنا عزائم شديدة ورؤوس مفكرة لو سيرت بحسب إلهامها وعملت بما توحيه إليها لزعزعت الجبال من أساساتها وصيرت البحار صعيداً جرزاً أي ينبت نباتاً. إن بلادنا إن انحطت وموارد ثروتها إن شحت وأهاليها إن أرغموا على هجرتها. فالذنب ذنب كل واحد منا وكل منا مسؤول عما يصيبها من الخراب. وما ينتاب سكانها من المحن ودواعي الاضمحلال. ولا عتب في ذلك على الأقدار وهي قد وهبتنا بلاداً يضرب المثل بصفاء سمائها وطيب هوائها وجمال موقعها وخصب تربتها. انظروا إلى الجنس الأصفر وما كان يوصف به من البلاهة والبلادة وصغر العقل. هل وقفت اليابان عند هذا الاعتقاد وطأطأت الهام صاغرة تحت تأثير ذلك الحكم الذي استحقته أسلافها بسبب كسلهم وتهاملهم وجهلهم. ألم تروا كيف أنهم هبوا يداً واحدة وساروا في سبيل العلم النيرة التي جعلتهم يضاهون أعظم دول الأرض عظمة ومجداً.

أم هل استسلمت البلاد الالمانية لعوامل تفرقتها وظلت متباينة في لهجاتها اللغوية وفي مصالحها السياسية وفي إماراتها المتباعدة. أم وحدت مصالحها كما وحدت لغاتها بأن استصفت من بينها تلك التي وضع فيها شيلر وجيتي منظوماتهما البليغة وجعلتها لغة البلاد بأجمعها هازئة بالقديم ساخرة به. انظروا أولئك الفلاحين منهم الذين قدموا بلادنا منذ العشرات من السنين واستعمروا في مدينتي حيفا وياقا بقاعاً قاحلة صيروها بشغلهم ونشاطهم واتحادهم جنات خضراء تسر الناظر وتشرح الخاطر لاقوا فيها عيشاً ورزقاً طيباً بينما فلاحها الوطني يفترش الأرض ويلتحف السماء لفقره. أفلا نهتف عندما نرى هذا الفلاح الالماني يحسن الفلاحة والنجارة والحدادة وكل عمل يتوقف عليه رفاهية منزله وراحة زوجته وأولاده أن بين أصابع هذا الرجل كنزاً لا يفنى وأن لمثله ملكوت الأرض أفلا يشتد عجبنا حين نرى أن فلانة منهم التي هيأت لابنتها الجميلة مهراً مهماً (دوطة) تضعها في مدرسة المطبخ مدة سنتين بعد أن تتم دروسها في جامعات برلين وإن أعياها الأمر تضعها في بيت أحد الوجهاء لتتعلم فيه شغل المنزل وإدارة البيوت. أجل سادتي إذا رأيتم المانيا عظيمة بجنديتها. عظيمة بتجارتها. عظيمة بصناعتها. واسعة بمستعمراتها فهي مديونة بذلك لأحقر فلاح من سكانها الذي يهتف بأنشودة "دوتشلاند أوبرالليس" أي المانيا فوق الكل من خط الاستواء إلى قطبي الأرض.

من كان يظن أن فرنسا تقدر أن تدفع لعدوتها بعد تلك الحرب الضروس سنة 70 خمسة مليارات فرنك لهذه السرعة. وتعود لزعامة البشرية وقيادة حركة الفكر بين أبنائها في العلوم والفنون والصناعة حتى كانت الأولى في إتقان فن الطيران. إنها برجال مثل باستور ورو وهايم وهيكو وكوري وغيرهم قد نالت مجداً وسؤدداً لا يفنى على ممر الدهور. بل انظروا إلى البلاد الاسوجية التي كاد المسكر يقضي عليها لو لم تبادر فتخلق لها ألعاباً رياضية مسلية. وتعليماً ابتدائياً مناسباً أعاد لها شبابها ووهبها نشاطاً جديداً وصحة متينة.

بقي علينا بعد أن علمنا ذلك أن نرمي نظرة إجمالية في أحوال بلادنا علنا نعرف بها المبلغ الذي وصلنا إليه التمدن العصري الذي اتخذ له المال أساساً وركناً فنقول: إن من ينظر إلى الأمور نظراً سطحياً يجد أننا قطعنا في سبيل العمران شوطاً بعيداً. وبلغنا منه شأواً قصياً. كيف لا وقد سكنا القصور الشاهقة وتزيينا بالأزياء الباريسية الجميلة. ودرسنا اللغات الأوربية. ولنا جرائد ومجلات تكاد تنقل أحبارنا إلى أحقر قرية من قرانا ولنا المصارف والمتاجر والمعامل. إلخ. ولكن أبمثل هذه المظاهر تعظم الشعوب وتسود الممالك؟

سادتي. إذا ظلت أخلاقنا على ما هي عليه الآن من احتقار الأعمال اليدوية والتشبث بحب المجد الفارغ وحب الظهور عبثاً نحاول الصعود ومهما علونا نظل بالحضيض لاصقين. وإلا فما بال أبنائنا تتهافت على درس الطب والصيدلة وتترك الصناعة جانباً نافرة من كور الحدار ونيرانه ومنشار النجار ونشارته. متباعدة عن الزراعة التي تؤتيهم رزقاً حلالاً طيباً رأساً من الله دون أن تلجهم إلى تملق زيد ومداجاة عمر أفلا يذوب القلب حزناً وحسرة عندما نجد نفراً بيننا من بنات الإفرنج اللواتي لم تعتد أناملهن إلا الضرب على البيانو وإثارة القلوب بألحانها الشجية قد أخذن في درس فن الزراعة لشغفهن به في حين لا يلاقي هذا الفن من أبنائنا على شدة حاجتنا إليه إلا الإهمال والترك. وأراضينا الزراعية بحمد الله واسعة وأنهارنا غزيرة فلو أعطيت شيئاً من العناية لفاضت على البلاد ينابيع الثروة وزادت أسباب اليسر وعم الرخاء وإلا فما نفع القصور التي شيدت من بيع حقل كانت محاصيله تقوم بنفقات العائلة.

وما نفع المعامل إذا كانت قاصرة على حل الشرنقة وسحب خيطها. وما نفع الأزياء إذا كان لابسها نظير الخياط والطبيب من التجار والصيارف الذين يعلنون إفلاسهم عندما يجدون خزائنهم ملأى بالنضار مفعمة بالأصفر الرنان فيستحلون لأنفسهم مال اليتيم والأرملة أو يضرمون النيران في مخازنهم لقبض المبالغ المضمونة لها. أما جرائدنا فأغلبها بحمد الله لا تهتم إلا بالتوافه والسخافات ولا تظهر بلاغة أصحابها إلا متى أخذوا بالشتائم. وإلا فما نفعها إذا لم يكن لأصحابها اخلاص متين وشجاعة أدبية مكينة تحملهم على إحقاق الحق وإزهاق الباطل. كيف لا وهي لسان حال الشعب وحامي حماه ورافع لواءه ومدرسته الثانية. فيها يتعلم حوادث الدهر وعبر الأيام. فإذا لم تقم مقام الأستاذ الحكيم الذي يهذب النفوس ويثقف العقول. ومقام الجراح الماهر الذي لا يتأخر عن استعمال مبضعه ولو آلم مريضه. ولم تجعل الحرية والمساواة والإخاء شعاراً لها ساء مصيرها وأدت إلى الشقاق والتخاذل بينما نحن في أشد الحاجة إلى ما يؤلف القلوب ويجمعها تحت لواء العدل حتى إذا ما رأت من الحكام اعوجاجاً أو زوغاناً عن الحق إما لعدم كفاءتهم للمناصب التي يشغلونها أو لكونهم قد باعوا ذمتهم بمال سحت يقبضونه شهروا بهم وسفهوا أحكامهم فيرغمونهم على أن يسلكوا سبل الرشاد أو يعتزلوا القضاء. أما من العار أن يشغلوا قراءهم مدة شهرين عن أبهما أفضل القبعة أم الطربوش حينما كانت ايطاليا تحشد الجيوش وتهيئ الأساطيل وترسل الهبات تتبرع إلى طرابلس الغرب شراءً لمودة سكانها علهم يمالئونها على خيانة أوطانهم ويسمونها لها غنيمة باردة.

وماذا أقول في متاجرنا التي تزيد وارداتها على صادراتها ولا تكسبنا إلا عمالتها. إنها إذا بقيت على هذه الحال كانت أضرارها جسيمة وتهددنا لفقر من كل صوب. لأننا إذا بعنا الرطل الواحد من بضائع الخام مثلاً بعشرة غروش ثم عدنا فاشترينا العشرة الدراهم منها بعد تهيئتها للاستعمال اليومي في أوربا بنفس هذه القيمة نكون كمن يلحس المبرد.

نعم إن المهاجرة قد سدت شيئاً من هذا النقص السنوي ونشرت في البلاد شيئاً من الرفاهية والرخاء ولكن كم يكون نفعها عمومياً وخيرها مقيماً لو كان هذا المهاجر الكريم لا يبادر حين عودته إلى الأوطان إلى بناء قصر منيف يستغرق كل رأسماله وربما استدان فوقه لإتمام بنيانه. فإنه مهما باهى وفاخر به الأقران لا يفيد البلاد إلا بتحسين هيئتها الخارجية لكنه لو عقل وعرف طريق الخير لنفسه ولوطنه لصب ماله في أسواقه تسهيلاً لمرافقه. أو لا اتحد مع إخوانه في الوطنية واتفق معهم بصفاء نية وحسن طوية وألف وإياهم الشركات وقاموا سوية بمشروعات تعيد لهم متى تسلمتها أناس عرفوا بحسن السيرة والاستقامة الغرش عشرة أو تزيد.

كفانا يا قوم ما نحن فيه من حب الأثرة التي لا تكون عاقبتها إلا الفشل والخيبة. كفانا انقساماً وشقاقاً وتحاسداً. إن المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه. إنه متى انفرد وتمادى بحب ذاته ولم يعبد إلا أنانيته ولم يرد الخير إلا لشخصه المقدسة ظل في مكانه جامداً لا يتقدم خطوة إلى الأمام. بينما الشعوب حوله قد حولت بلدانها باتحاد بنيها إلى فراديس أرضية فيها كل ما يحي القلوب المائتة. ويثقف العقول الخاملة. ويهب علماً للجاهل. وفطنة للبليد الأبله. فمن جنائن نباتية ومن حدائق حيوانية. ومن متاحف فنية. ومن آثار تاريخية. ومن تماثيل ومن أنصاب رفعت إحياءً لذكر رجالهم العظام وكلها آيلة لترفع ذوق الإنسان وتربطه بماضي قومه المجيد وأفعالهم الحميدة التي إذا اقتدى بها وسار في سبلها فتحت أمامه أبواب العظمة وكان ذريعة شرف ومجد للبلاد التي ينتمي إليها.

كيف يمكننا أن نلبي نداء الوطن الذي يستجير من الإهمال الذي رمته فيه عيشتنا الفردية وانشقاقاتنا العنصرية وعدم ثقة الواحد منا برفيقه طالما نحن بحالتنا قانعون وللأقدار مستسلمون. أفما كان من أواجب علينا أن نستبدل الزراعة القديمة وهي من أهم أركان ثروتنا بالزراعة الحديثة المبنية على العلم الصحيح. وأن نرسل المدرسة إلى الفلاح الذي لا تمكنه ظروفه أن يذهب إليها. وأن نبدل آلاته القديمة بالحديثة ونقدم له الأسمدة الكيماوية التي نعطيه 37 رطلاً لكل رطل من الغلة كما هو معدل محاصيلها في مستعمرات فلسطين الحديثة. أفما علينا ونحن أبناء هذا العصر عصر الكهربائية والطيران الذي يهزأ بالأبعاد ويخر بالمسافات أن نتخذ من حب الوطن دافعاً قوياً يدفعنا إلى تقديم مصلحته على كل مصلحة غيرها ونهب يداً واحدة وقلباً واحداً لجمع الأموال اللازمة لنقوم بشركات ومشاريع نبث أسهمها في طول البلاد وعرضها فنبعث الحياة في أراضينا الميتة وننشر في أرجائها الحركة بحيث لا نعود نرى فتراً واحداً منها لا تعمل فيه الأيدي التي تديرها رؤوس مستنيرة بالعلوم العصرية الكافلة لها سبل النجاح. رؤوس أفراد قضوا السنين الطوال وهم مكبون آناء الليل وأطراف النهار على درس الفنون التي خلقوا لمزاولتها والتي ترشدهم لمعرفة مكامن كنوزنا. ومخابئ معادننا التي متى أخذنا بتعدينها وصهرها وتحويلها إلى آلات حربية وصناعية وزراعية ومنزلية أفاضت على البلاد بالخير العميم وفتحت أمام أبنائها ميادين الأعمال الرايحة واسعة أمامهم. فيقلعوا عن ركوب الأهوال واقتحام مشاق الاغتراب طلباً للرزق الواسع الذي يقتضيه التمدن العصري وتتطلبه المدنية الحالية.

أفما آن لنا أن نأخذ في نصب الجسور ورفع السدود والقناطر ومد الخلجان والقنوات بين أنهارنا العظيمة التي تذهب مياهها بلا فائدة إلى البحار. فننظم الري ونسهل وسائط النقل بزيادة السكك الحديدة. أفما حان لنا أن نشرع في تحسين الفرض والمرافئ التي أعطتنا منها الطبيعة العدد الذي لو أعطي لروسيا أو لالمانيا لزادت موارد ثروتهما الضعف مئة. والتي هجم على بعضها البحر وأكل قسماً مهماً منها. إلى متى كتب على تجار مدينة كيافا التي هي فرضة للأراضي المقدسة أن ترمي أموالها بأيديها إلى البحار حين ارتفاع الأنواء واشتداد الزوابع تخلصاً من عفونة الفاكهة التي تنتظر في جماركها الشحن للبلاد القاصية. إلى متى تظل مياه البحر الميت مثقلة بمعادنها والأراضي المجاورة له لا تنبت سوى الأشواك والأدغال حينما نجد الخصب فيها يحول أعشابها إلى شجيرات باسقة.

إلى متى تظل البحار خالية من سفن مقل تجارية وطنية تحمل بضائعنا إلى البلدان النائية دون أن تطوف بها السفن الغربية كل السواحل والشطوط فيضيع على فاكهتنا الوقت ويتطرق إليها التعفن وترمى. بينما نجد السفن كالأطواد المشيدة في البحار لأصغر دولة بلقانية كانت بالأمس ولاية من ولاياتنا مع أن فن سلك البحار بقدر ما هو مفيد لا يخلو من الجمال لمن يجد من نفسه كلفاً به وشغفاً بدرس أسراره فعليه إذا أردنا لوطننا خيراً ولأنفسنا نفعاً أن نبذل فيه شيئاً من العناية ولا نترك لدولة كبلغاريا مثلاً الأسبقية علينا فيه. هل نعد قوماً ناهضين ونحن لا نادي عندنا يجمع أرباب الفن وأصحاب الصنائع والحرف وقت العطلة للتباحث في شؤنهم الحيوية. والنظر فيما يأول لنجاح مساعيهم وترقية أعمالهم وتبادل الرأي في أحوالهم اليومية. على حين أن أحقر بلدة من بلاد الله الواسعة ملأى بالنوادي التي تختلف إليها رصفاء الفن الواحد مثلاً يومياً. فيؤلفون الجمعيات وينيبون عنهم اللجان العاملة التي تدافع عن مصالح أصغر فرد من أبنائهم إذ تقوم سداً في وجوه الحكام المرتشين وذوي النفوذ لديهم إن أرادوا به شراً.

هل نعد قوماً ناهضين ونحن نهاب القوي الظالم ونتزلف إليه ونحتقر الضعيف ونتجنبه. فنتملق أرباب الأموال ونخلق لهم محامد ومكارم لم يحلموا بها ولو كانت قلوبنا منطوية على كراهتهم واحتقارهم لشحهم وشدة حرصهم على الدنيا.

هلموا بنا يا سادتي لنصلح ما فسد من أخلاقنا ولنضرب بالعوائد التي تحول دون نهضتنا الحقيقية عرض الحائط ولنتخذ لنا من العلم هادياً. والشغل قائداً. والاستقامة مرشداً والحرية نوراً يتألق شعاعه في البيت والمدرسة والسوق. فنؤسس العائلة على قاعدة المساواة بين الزوجين في الحقوق والواجبات. ولنجعلها شركة يعيش فيها الكل للواحد والواحد للكل. لا فندق أكل ومنام يلهو به الفرد الواحد أن يلهو يستأثر ما أمكنه بملذاته وقت السرور ثم يرمي أثقاله على غيره ليقوم بمشاق حياته التي لم تفرش كل طرقها بالورد والرياحين بل هناك أشواك وأدغال على كل فرد من أعضائها مد يده لاقتلاعها قبل أن يشعروا بوخزاتها. ونضع نصب أعيننا ذلك الواجب المقدس الذي يحتم علينا أن ننكر ذواتنا بإزاء راحة بنينا وتحسين ذريتنا فتنير طريق الحياة لهم بعلم يستوفون أقساطه وعمل يتقنونه فينصبون بكليتهم عليهم عن ميل غريزي فيهم إليه. لافرق في ذلك بين الذكور منهم والإناث وندربهم على الثبات والصبر والتجلد في الشدائد ونهبهم حرية الرأي والعمل شرط أن لا تمس حريتهم شعور الآخرين وصوالحهم ونعودهم الاستقلال الشخصي. ونفسح لهم ميادين الألعاب الرياضية واسعة بين أحيائنا ليقوموا بألعاب وتمارين تقوي عضلاتهم وتعودهم النشاط والسرعة وإصابة المرمى ورشاقة الحركة لتتروض أجسامهم وتتسدد خطواتهم ويكون لهم منها خير سلاح يلجئون إليه في الظروف العسرة التي يلاقونها في مستقبل الأيام. وبذلك نعد أطفالنا لأيكونوا رجال المستقبل ونساءه قد جعلوا حب الوطن إيماناً لهم ونجاحه وعظمته غرضهم ومحجتهم. حتى إذا ما أخذت أراضيهم تفيض لهم لبناً وعسلاً ومشروعاتهم تمطر عليهم سحائب المال تفرغت نوابغهم لاتقان الفنون التي خلقوا لمزاولتها دون أن يعيقهم عن ذلك مجرد البحث عن خبز الغد قلا يعود شاعرنا يجيد النظم ليستجدي ولا يخترع الموسيقي عندنا لحناً يتزلف به للأغنياء والعظماء. بل يكون لكل نابغة عندنا من حبه وشغفه بفنه دافع قوي يدفعه لتوخي درجة الكمال فيه.

فيقوم من بيننا العلماء والشعراء والموسيقيون والمغنون والمصورون والنقاشون والنحاتون والكتبة الأفاضل ليتمموا النهضة التي قمنا بها على ما فينا الآن من عسر وضنك إذ من يقدر أن ينكر التقدم الحسي الذي بدا في الشعر عندنا والغناء معاً. فإن الشعر منذ أمدٍ غير بعيد بعد أن كان معظمه عبارة عن كلام موزون مقفى أصبح بفضل الشاعر العصري ميداناً واسعاً تتسابق فيه جياد المعاني الشائقة التي تثير الشجون وتطرب النفوس. وبعد أن كان مغنينا بليداً محباً لذاته باحثاً عمن يفتش له عن الحبيب اصبح ينظر إلى حبيبه بعين الكمال ويتسرف بالانتماء إليه ويقدم فداءً عنه.

فواهاً ليوم نجد فيه فتياتنا وفتياننا يحسنون إيقاع الألحان العربية ويجيدون غناءها ويطهرونها من كل ما يشين لينبغ من بينهم من يكون نظير ادلينا باتي التي كان صوتها الرخيم يرن في آذان قواد أوربا فيما هم سائرون على رمال أفريقيا المحرقة ومجاهلها المميتة فينسون بإعادته مشاقها. وواهاً ليوم نجد فيه مناظر جبالنا الشاهقة وودياننا العميقة وسهولنا المتسعة قد وضعت على قماش المصور بألوانها الزاهية وسمائها النقية الدائمة الإشراق يزينها الجمال العربي الذي يتقد ذكاءً وفهماً.

وبعد أن نجد نحاتينا قد تعدوا نحت الأعمدة البسيطة إلى نصب التماثيل وأخذوا يظهرون اهتماماً بالآثار التي تركتها لهم نوابغ العصور الغابرة من أزاميل اليونان والرومان فيبحثون عنها ويجمعونها في متحف يحفظ جمالها ويبقيها كمثال ونموذج لينسجوا على منوالها تقوم علماؤنا وكتبتنا فتؤلف الكتب العمرانية والأخلاقية والفنية والعلمية بحيث لا تبقى شاردة ولا واردة حتى يدونوها بلغتهم العربية الواسعة الألفاظ الغنية بالتعبيرات التي لا تقل عن أعظم وأشهر لغات العالم اقتداراً على إظهار الأفكار الفلسفية وبذلك نؤسس مدنية عربية شرقية قوامها الفضائل الموروثة وعمادها حب الشغل والتفوق فيه فنوسع لنا بين الشعوب المتمدنة مكاناً رحيباً ومقاماً منيعاً يرد الطرف وهو كسير.

سدد الله خطواتنا إلى ما به الخير والسلام.

(الحسناء، مج3، ج9، بيروت، حزيران 1912).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ جمعية "شمس البر" هي جمعية ماسونية أسسها شاهين مكاريوس (1853 ـ 1910) مع فارس نمر (1856 ـ 1951) في بيروت عام 1870.