في إطار حفرها في طوايا الذاكرة النسائية العربية وتأسيسها لأركيولوجيا معرفية خاصة بدورها في رفد النهضة بأفكارها التنويرية والنهضوية على السواء، تقدم لنا الباحثة السورية هنا دراسة لسياقات اعتلاء أول ممثلة مصرية مسلمة خشبة المسرح، ونصوصا دالة تقرأ هذا الحدث وتموضعه في واقعه.

كيف اعتلت أول مصرية خشبة المسرح

أثير محمد على

اعتباراً من منتصف القرن التاسع عشر، يمكن بوضوح الإحساس بأن جبرية البارحة أخذت بالابتعاد عن إرادة فعل اليوم. أدرج الرواد فن المسرح في سياق الثقافة العربية، واعتبروه مؤسسة تربوية وتعليمية تطلّعوا بها لنشر مفاهيمهم الأخلاقية، وانتفعوا من شرطه الجمالي اللعبي وبعده الذهني في إيصال صوتهم التنويري للجماعة. من المعروف ما لتحرر المرأة الأوربية من صلة وطيدة مع الثورات الليبراليّة البرجوازية، وفكر التنوير، والطلاق النهائي مع الأخلاق الاقطاعيّة، والجماليات الطهرانيّة الكنسيّة، والتفتيشيّة التي كانت تهيمن على المجتمع الأوربي القروسطي.

على نحوٍ ما، يمكن القول بأن فكر التنويريين العرب، في القرن التاسع عشر، أفسح مكاناً في المشهد الاجتماعي والثقافي الإصلاحي لحركة تحرر المرأة العربية. لكن لابد من الأخذ بعين الاعتبار بأن المسار التاريخي للمجتمع العربي تحمّل ضغوطاً تموضعت كإعاقاتٍ خطيرة في حراك الحداثة العربية: النمو المتصاعد للرأسمالية الأوربية، والتي حوّلت العديد من أجزاء العالم ومنها العربية، إلى شبكة عنكبوتية من المصالح الاستعماريّة، ومناطق النفوذ الجيوسياسيّة، والاحتكارات الاقتصاديّة. هذا يعني أن نصيرات وأنصار تحرّك النسوة التحرري لم يواجه أتباع استرخاء ربات الخدور في مضاجعهن فقط، وإنما وجد نفسه أيضاً أمام السلطة الاستعماريّة العسكريّة بثقافتها المأخوذة بسحر الوسن خلف حُجب الحريم المسدلة.

بني الواقع الذي نشدته الحداثة العربيّة على تحديات تفكيك أخلاق المجتمع القديم، وعرض رؤية مغايرة تجعل من "المرأة الجديدة" وجوداً محتملاً وممكناً. وارتبطت العلاقة التاريخيّة للمرأة العربيّة بفن المسرح مع الحداثة، وإمكان تحرر المرأة التنويري في المجتمع العربي. وكما هو معروف، فقد اتفقت الرؤية التقليديّة ذات الروح المحافظة على أن قواعد لعبة التواصل بين الجنسين سرمديّة الأصول، وطبيعيّة الجوهر، وخارج إمكانيّة الشك، الذي توحي به النسبة إلى الزمان والمكان، كي لا نقول بأنها منزّلة البيان. لذلك فإن الوقع المخزي الذي مني به من يحلّ السكون في تعاقب الدهور أمام حداثة النهضة العربيّة، وردة فعلهم الخانقة التي شعروا بها، يدلّ بجلاء على توقّعهم السوء، أمام احتمال التغير والتحول في إدراك المرأة لكينونة جنسها في المحيط العائلي والاجتماعي، وما يتبعه في التاريخ ككل، فأزمنة النهضة كانت تبرهن كل يوم على أنه ما من شيء في الدنيا يبقى على دوام.

بدايةً، مع مارون النقاش في بيروت انحصر وجود المرأة على عالم الوهم المسرحي، أي على كونها شخصيّة دراميّة أُديت من قبل الممثلين الشبان على الخشبة. بينما استعان القباني في إحدى مراحل تجربته الدمشقية بفتاتين لتقوما بالأدوار النسائية، ولم يطل الوقت حينها، حتى ارتفع صوت الشيخ سعيد الغبرة، من تحت عمامته مستغيثاً "بصاحب العرش والصولجان" بأن "اختلطت النساء بالرجال" في مسرح هذا "الأفاق عدو الله"، مما اضطر القباني لإغلاق مسرحه، والهجرة إلى مصر. أما في تجربة يعقوب صَنوَع الفنية الناقدة، لكثير من الظواهر السياسية والأعراف الاجتماعية، فقد شاركت ممثلتين في أداء الأدوار النسائية في العروض، التي أقلقت الخديوي في مضجعه، إلى أن عمل على إيقاف هذه التجربة، بنفي الفنان صنوَع خارج مصر.

عند انتهاء القرن التاسع عشر، تبنى مثقفون عرب قضية تحرر المرأة في سياق مشروعهم الإصلاحي الاجتماعي والثقافي والسياسي من أمثال قاسم أمين، فرح أنطون، أحمد لطفي السيد، الخ...

وفي هذه الجولة الموجزة هناك شخصية رفيعة المستوى تستحق التوقف عندها، لما لها من بصمة في تاريخ التحرر النسوي، نقصد بها الأميرة نازلي فاضل، فصالون بيتها في القاهرة كان من أوائل صالونات ثمانينات القرن التاسع عشر، التي فُتِحت لاستقبال الشخصيات الأدبيّة والاجتماعيّة، التي صنعت تاريخ تلك المرحلة، نذكر منهم محمد عبده، سعد زغلول، فارس نمر، قاسم أمين من بين آخرين. في بهو منزلها، قابلت نازلي فاضل ضيوفها بوجه عاري من الحجب، وشاركت في النقاشات والسجالات التي تمس الشؤون السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة. وأسماء الضيوف والمدعوين الآنف ذكرهم تعرّف بنفسها، وبالدور الحاسم الذي مثّلته فيما يعلق بتحرر النساء، خاصة قاسم أمين الذي دعم بقلمه قضية المرأة في المجتمع العربي، عن طريق مقالاته ودراساته، وكتابيه المشهورين: "تحرير المرأة"، و "المرأة الجديدة".

إن الموقف الفردي لبعض نساء القرن التاسع عشر، من مثل الذي اتخذته الأميرة نازلي فاضل، وجهد بعض الرواد الذين دعموا شيئاً من حقوق النساء، عمل على تمهيد الطريق أمام انعتاق المرأة من قوقعة السلب الرخوية، إلا أن إنجاز ذلك كان مشروطاً بمشاركة النسوة أنفسهن في تظاهرة اجتماعيّة جماعيّة واعية لتحرر الجسد والفكر. رغم أن صروف وأحوال الحياة اليومية كانت في تغير ملحوظ، إلا أن مشاركة المرأة في الحقول الثقافيّة، أو حتى مساهمتها في النشاط الفني توقف على الموقع الذي كانت تحتله في المجتمع، كما كان يعتمد بدرجة حاسمة على الخبرة والوعي الذي امتلكته هي نفسها حول إرادتها الحرة، وقدرتها على الفعل، فحرية العبور بعالم الأنوثة إلى فضاء يتجاوز عتبة البيت الذكوري، كانت ولا تزال محفوفة بالمخاطر، وتعرّض المرأة للرجم بالشبهة، والاتهام في أخلاقها الحميدة، تقليد قائمٌ استمد القوة، لسريان مفعوله، من التفسير البرغماتي لنص العرف غير المكتوب، وللنص المقدس على السواء. بالطبع هذا لا يعني أن البعض من النساء لم يخرجن من "بيت الدمية"، وارتقين خشبة المسرح، فنانات جابهن وجهاً، وجسداً جمهور الصالة، وقبل كل شيئ أنفسهن في فضاء التراتبيّة الأبويّة والدينيّة والاجتماعيّة. من المؤكد أنهن اكتشفن الصعوبات الجمة التي يفترضها كيان المرأة، إضافة لكونهن عضوات في مجتمع لن يطول به الوقت إلى إدانة كل فنانة تجرؤ على عرض نفسها، جهاراً وعلانيةً، أمام ناظر الرجال.

يمكن القول، أن مجرد عمل الفنانة في المسرح لم يكن محض تحدٍ لسلفيّة الهجر في المضاجع، وللتمييز الجنسي والاجتماعي فقط، بل كان أيضاً فعلاً تربوياً مارسته المرأة الفنانة، في المكان المسرحي، أمام الرجال الذين احتلوا مقاعد الصالة. بمعنى أن علاقة اجتماعيّة جديدة كانت قد طرحت بين الجنسين عبر قناة الفن المسرحي، ففعل أداء ممثلة لدورها الدرامي على الخشبة يعني رسالة اجتماعيّة ذات أهمية كبيرة تضاف أيضاً لرسالة العمل الفني نفسه.

إذا أدرنا بقعة النور نحو صالة المسرح في المدن المصريّة، و "الديار السوريّة" في نهايات القرن التاسع عشر يمكن التأكد من غياب المرأة من بين صفوف الجمهور، باستثناء مسرح "دار الأوبرا" في القاهرة الذي كانت ترتاده الأميرات ونساء الحاشية الملكيّة وسيدات المجتمع الأرستقراطي كي يشاهدن من قمراتهنَّ ومقاصيرهنَّ الأعمال الفنيّة التي كانت تقدم على خشبة المسرح المذكور، والتي كانت في معظمها موجهة لإمتاع هذه الأقليّة الاجتماعيّة. أما رجال الطبقتين الوسطى والشعبيّة فلم يرافقوا نساءهن إلى المسارح، فحتى ذلك الوقت كان محيط نشاط الرجال منفصل عامةً عن قرينه المتعلق بالنساء، إضافة إلى أنه كان من غير المستحب إن لم نقل المستهجن أن يرافق رجل من الطبقتين المذكورتين زوجته أو أمه أو ابنته أو أي سيدة أخرى إلى المسرح أو حتى إلى الأماكن العامة الترفيهيّة الأخرى.

حقيقةً، ولزمن لا يستهان به اقتصر جمهور المسرح على الذكور، حتى الدرجة التي تبيح القول بأن الصالة كانت بمثابة مؤشر ينوس بمستوى تطوّر أو تراجع قضية تحرر المرأة في المجتمع العربي. يبدو وكأن المسرح كتظاهرة ثقافية واجتماعية معلنة وسافرة، أقام جدله التاريخي مع نساء عالم الحريم غير المرئي والمنقّب. ففي تموز 1905 أعلنت صفحات جريدة "الأهرام" عن إصلاحات كانت تجري على قدم وساق في بناء المسرح الذي استأجره الشيخ سلامة حجازي في منطقة الأزبكيّة في القاهرة لإنجاز مشروعه الفني بتقديم الأعمال الدراميّة على خشبته. ما يلفت الانتباه في الإعلان يتعلق بعمارة هذا المسرح، حيث أُفردت فيه ألواج وشرفات حجزت للنساء خصيصاً. ومن المتعارف عليه في تاريخ العمارة المسرحيّة أن أي تعديل أو تغيير في البناء ارتبط بشكل حاسم مع الحاجات الفنيّة أو الاجتماعيّة، وهو ما ينطبق على نموذج مسرح حجازي المشار إليه. من الجائز أن المتفرجات المحتملات مارسن ضغطاً خفياً فيما يتعلق بهذا الشأن، مما دفع حينئذ الفنان سلامة حجازي أن يأخذ على عاتقه إنجاز هذا التجديد. وكأنه أراد إرسال دعوة مبطنة على الملأ للنساء لارتياد مسرحه.

في هذا السياق لم تستطع الظروف التي فصلت بين عالمي الأنوثة والذكورة أن تحيل بعض النساء من الفعل من خلف ستور خدورهن، وبعث رسائلهن للمجتمع في شكل دواوين شعر، مقالات صحفية، دراسات أدبية، قصص، وأعمال مسرحيّة، الخ.. كن محميات الحريم، وعاصيات طقوسه في آن واحد، فيهن اجتمع مقام القديم مع هامة الجديد. فكن بامتياز استهلال للنسوة الناشطات مستقبلاً، اللواتي انتمين لروح القرن العشرين.

من بينهن تميزت الأديبات الطليعيات عائشة التيموريّة (1840 ـ 1902) وزينب فوّاز (1846 ـ 1914)، وفيما يبدو، أنهما مارستا الكتابة المسرحيّة أيضاً. عائشة التيموريّة، مولودة في القاهرة، غذى لديها والدها منذ الصغر رغباتها في تعلم القراءة والكتابة. تزوجت وترملت وهي لا تزال شابة. أن تكون المرأة العربيّة أرملة كان، ولا يزال وضعٌ له قنطاره من الصعوبة كما هو الحال بالنسبة للمطلّقة، طالما أن القيمة الاجتماعيّة التقليديّة للنساء تتمثل بشكل حقيقي تحت ظلال الرجل سواء كان الأب أم الزوج. رغم هذه الحال حاولت عائشة التيموريّة تجاوز وضع ترمّلها المبكر بالشروع في تلقي العلم والدروس في الآداب العربية. لعلها أرادت بهذه الوسيلة منح نفسها قيمة ذاتية جديدة تعود لجهدها الخاص. عائشة التيموريّة شاعرة وكاتبة مقالات، عبرت في كتاباتها عن آراءها حول مواضيع لحظتها التاريخيّة لاسيما السفور والحجاب. البعض يؤكد أنها كتبت للمسرح، وأن معظم نصوصها المسرحيّة فُقِد، وإلى أن بعض من هذه الأعمال شاهد النور فوق خشبة العرض الدراميّة.

أما زينب فواز فولدت في جنوب لبنان، عاشت شبابها الأول في مناخ منغلق تحكمه عقلية ذكوريّة تعتبر التعليم مسألة مقتصرة على الذكور. يبدو أن زينب فوّاز امتلكت أفكاراً، وأحلاماً خاصة، حلقت أبعد من تخوم محيطها المقيد. بعد طلاقين مبكرين، وهي لاتزال شابة، هاجرت إلى مصر، وهناك شقت الطريق لتطلعاتها التجديديّة بنشر دراساتها وأشعارها في أهم صحف ومجلات المرحلة. جادلت بقلمها في الفضاء الثقافي والصحفي الذي كان، بشكلٍ عام، حكراً على الرجال في زمنها. قبل دعوة قاسم أمين لتحرر النساء طرحت زينب فوّاز في مقالاتها وأعمالها الأدبية، رأيها ووجهة نظرها الإصلاحيّة فيما يتعلق بوضع وحقوق المرأة العربيّة. كتبت للمسرح العمل المعنون "الهوى والوفاء" والمنشور عام 1892. كما خطت قصة "حسن العواقب"، أو "غادة الزهرة" المنشورة سنة 1895، وقصة "ملك قورش"، أو "ملك الفرس" المطبوعة عام 1905. لعل ميل زينب فوّاز لكتابة أعمال تنتمي للأجناس الأدبيّة الجديدة في الثقافة العربيّة، المسرحيّة والروايّة، يعكس جانب من اهتمامها الحداثي الذي أولى عنايته لفك حصار لوائح العرف الأدبي والاجتماعي المحافظ. من المحتمل أن عائشة التيموريّة وزينب فوّاز، عندما قررتا الكتابة للمسرح، كانتا تشعران بالتوق لعرض أفكارهن حول عالم كل ما هو متصل فيه بالمرأة يباح خلف أبوابٍ مغلقةٍ. لا بد أنهن أردنََ لشخصيات أعمالهن المسرحيّة الفنيّة أن تتجسد في قالب إنساني حي على خشبة المسرح، وتتحرر من محدودية النص المكتوب بالنظر للظروف التي عاشتها كل منهما، ألا يحتمل التساؤل فيما إذا كانت مغامرة الكتابة المسرحيّة تظاهرة لرغبة دفينة، حيث يطابق النص داخل الخدر بينما خشبة المسرح توعز بالخارج؟!.

أليست ثنائيات المفاهيم (الداخل، الخارج)، و (المكبل، الطليق)، و (المؤلفة، الشخصية المسرحية)، و (الخفي، المرئي)، و (غير موجود، موجود) تحبك جميعها نسيج فعل كتابة النص، وإرساله كي يرى النور فوق الخشبة؟!. تتوالد الأسئلة، وتتعدد الفرضيات، إلا أن ما هو مؤكد بأن الجمال ينبثق أيضاً من معنى امرأة تشهر إرادتها، وتعلن الخطو بتجاوز الغياب، والمانع الذي يعيق محاكمتها وكلمتها عن الحضور الحي. إنهن امرأتين استثنائيتين، ومثالين لعبا دوراً لايغفل في نساء العقد الثالث من القرن العشرين. من جانب أخر، تعارفت ذهنية زعامات الماضي، وفحول الأصول على أن كل ما يتصل بالمرأة محرم إظهاره للعلن. موسومات لأن يكن شخوص يؤدين دور فاضلات محجبات (أمهات، أخوات، زوجات، بنات، قريبات)، أو عديمات الشرف (عاهرات سافرات منحطات). يتحركن في مشهد يتوخى أن يعيّن لهن شخصيّة، أو يميز لهن فرديّة، أو ينطق لهن اسماً على الملأ.

بكل الأحوال، وكي يظهر اسم نسائي على الملصقات، والمنشورات الفنيّة، وفي الإعلانات التي تروّج للأعمال المسرحيّة كان لا بد من مرور زمن لا يسيتهان به، حتى عام 1904، ليكتب اسم الممثلة للمرة الأولى على اللوحات المخصصة للدعاية وأعمدة الإعلانات. كان فن التمثيل عامةً مقصوراً على اشتراك الفنانة من "الشوام" من بين معتنقات الديانتين اليهودية والمسيحية. ومع أن المرأة المصريّة المسلمة كانت تظهر بين الرجال على "تخت الغناء"، كالمطربات ألمظ، ومنيرة المهدية، إلا أنهن اعتلين خشبة المسرح بوقت متأخر عن زميلاتهن القادمات من "بلاد الشام".

واشتهر من الفنانات السوريات، واللبنانيات، والفلسطينيات ماري صوفان، ابريز استاتي، مريم سماط، ميليا ديان، رحلو الشطاح، استر شكاح، وغيرهن. وظلت لهن السيادة على خشبات المسارح، والشهرة لهن فيها، حتى أوائل القرن العشرين حين بدأت المرأة المسلمة المصرية تخرج من حجابها، وتشارك الرجل في الحياة المسرحيّة.

يعود اسم المسلمة الأولى التي امتهنت حرفة التمثيل للمطربة المصريّة منيرة المهديّة. ففي سنة 1914 ارتقت خشبة المسرح، التي لم تكن في حال من الأحوال محبذة على بنات جنسها من المسلمات، وبقرارها هذا يمكن تثمين المبادرة الفنيّة لامرأة مسلمة، كما يمكن تقييم الدعم الذي قدمه الرجل، من موقع الصديق، والمتفرج، والمؤلف المسرحي، وهنا يشار إلى فرح أنطون الذي لعب دوراً هاماً في إطار تحرك المرأة التحرري سواء في المجتمع، أو في عالم الفن المسرحي. عند هذه النقطة، يمكن القول أن ارتقاء خشبة المسرح من قبل منيرة المهديّة هو ارتقاء اجتماعي وفني، فمن الغناء في التخت، كلغة فنية وترجمة للذائقة الأبويّة التقليديّة، إلى التمثيل والغناء في الفضاء الحداثي للمسرح ذي البعد التربوي. وبذلك تكون خطوة منيرة المهديّة قد فتحت الطريق، أمام كثير من النساء العربيات الموهوبات، لخوض الكفاح الفني والاجتماعي في القرن العشرين بعد ثورة 1919 من أمثال روز اليوسف، فاطمة رشدي، دولت أبيض، صالحة قاصين، سرينا ابراهيم، لطيفة نظمي، أمينة محمد، عزيزة أمير، فردوس حسن، زينب صدقي، فكتوريا موسى، الخ... 

كيف اعتلت أول مصرية خشبة المسرح

احتراف السيدة منيرة المهدية التمثيل ـ دعوة ابراهيم بك رمزي للمرأة المصرية إلى ممارسة هذا الفن

كانت المرأة المصرية محرومة من احتراف فن التمثيل إلى سنة 1914 حين تقدمت السيدة منيرة المهدية واعتلت خشبة المسرح وفتحت الباب للمصريات ليمثلن، ثم اجترأ الكاتب الروائي المعروف ابراهيم رمزي بك فدعا المرأة المصرية إلى احتراف التمثيل وقامت ضجة حول مقاله يرى القراء تفصيلها في هذا المقال:

المرأة المصرية والتمثيل
كان فن التمثيل في مصر مقصوراً على اشتراك المرأة السوريّة الاسرائيليّة (1)، أو المسيحية فيه. ومع أن المرأة المصرية المسلمة كانت تظهر بين الرجال على "تخت الغناء" كالسيدات ألمس ومنيرة المهدية وغيرهن إلا أنه كان يحرم عليها أن تعتلي خشبة المسرح مع حاجة المسرح إلى فنها واقترابها بذوقها وحركاتها وألفاظها من الوسط الذي يشهد التمثيل.

واشتهر من السوريات السيدات لبيبة ومريم ماري سماط وميليا ديان وغيرهن. وظلت لهن السيادة على المسارح المصرية والشهرة فيها إلى أوائل القرن العشرين حين بدأت المسلمة المصرية تفكر في الخروج من حجابها ومشاركة الرجل في الحياة الفكرية والعملية.

أول مصرية مثلت
وأصيب فقيد التمثيل الشيخ سلامة حجازي بالفالج وأصبح يجد عناءً في اعتلاء المسرح. وخشي الكثيرون أن يذهب بذهابه فن الغناء المسرحي ورأت سيدة الطرب المعروفة "منيرة المهدية"، وكانت ذائعة الشهرة في الغناء يومئذ، أن تؤلف فرقة تمثيلية وكاشفت أصدقاءها ومعارفها بما يجيش في صدرها، فلقيت منهم تشجيعاً كثيراً وكان المرحوم الأستاذ فرح أنطون أشد معارفها إلحافاً عليها ودفعاً بها إلى العمل في المسرح لتسد الفراغ الذي يتركه الشيخ سلامة حجازي بعد حياته.

وفي سنة 1914 أعدت السيدة منيرة عدتها وألفت فرقة تمثيلية واستأجرت مسرح بريتانيا القديم خلف محلات شملا وأخذت الصحف تكتب عنها مرحبة بعملها الجديد، مشجعة لها على خدمة هذا الفن الجميل المحروم من براعة المرأة المصرية وخفة ظلها. واختارت السيدة منيرة رواية صلاح الدين لحفلتها الأولى، وكانت تمثل فيها دور وليم.

الحفلة الأولى
وكان موعد الحفلة الأولى في الساعة التاسعة مساء، ولكن الإقبال الذي لم يعهد له مثيل من قبل اضطر إدارة المسرح إلى غلق شباك التذاكر في منتصف الساعة التاسعة. وظهرت السيدة في دورها فاستقبلها جمهور المتفرجين بحماس فاق حد الوصف. ولما كانت السيدة منيرة قد اعتادت منذ السنة التاسعة من عمرها الغناء والظهور في وسط الجماهير، فإنها لم تجد في التمثيل ومواجهة المشاهدين شيئاً من الرهبة. وكانت قد حفظت الرواية كلها في 15 يوماً وذلك لشدة شغفها بالتمثيل.

وأثر التشجيع الذي صادفته في حفلتها الأولى تأثيراً شديداً في نفسها وساقها إلى مواصلة العمل بقوة. وكان فقيد المسرح الشيخ سلامة يزورها كثيراً ويسمع غناءها ويحضر تمثيلها وقد سمعته مرة يقول لها: "إنني سأموت مغتبطاً لأن سيدة مصرية ستخلفني في التمثيل الغنائي". وكان لهذا القول من الشيخ أثره الفعال في نفسها.

سيدات يمثلن
وتلقت السيدة منيرة رسائل من كثير من الفتيات المصريات بين مدرسات وحكيمات يعرض عليها رغبتهن في الظهور على المسرح، فكانت تشجعهن وتساعدهن على تأدية بعض الأدوار التي يتطوعن لتمثيلها. وبهذا تسنى لمصريات أن يشتركن في فن التمثيل شيئاً فشيئاً حتى أصبحت لهن السيادة التامة على المسارح المصرية ويرجع الفضل في ذلك إلى السيدة منيرة المهدية، وإلى جرأة بعض كتابنا الروائيين.

ابراهيم رمزي بك
كان الكاتب الروائي الأستاذ ابراهيم رمزي بك كثير العطف على المسرح. لا يفتأ يدرس نواحيه ويبحث عن علة تأخره ويكتب في الصحف منادياً بوجوب إصلاحه. وكان دخول السيدة منيرة المهدية إلى عالم التمثيل ونجاحها الباهر فيه مشجعاً له على المناداة باشتراك الفتاة المصرية في التمثيل. ولو أنه دفع مقاله يومئذ في هذا الموضوع إلى صحيفة يومية لأبت نشره خشية سخط الجمهور المحافظ ونفوره من فتح هذا الباب.

وكانت السيدة "سارة الميهتية" تصدر مجلتها الشهرية النسائية "فتاة النيل" فرأى أن ينشر دعوته في تلك المجلة باسم حرية النشر، ويترك لها رأيها فيها. فنشرت المجلة المقال وقد انحنى الكاتب فيه على التمسك بالعادات الممقوته التي أخرت تقدمنا وعطلت حركتنا، وجعلت العالم يسير ونحن وقوف كالمتفرجين، وقال أن التمسك بالقديم والزمن يتطور مدعاة للعبط والجهل.

ثم عطف على دعوته، فأظهر ما للمرأة المصرية من خفة الظل ورقة اللهجة في الحديث وحسن الأداء في التعبير، ولامها على تقصيرها في احتراف هذا الفن الجميل، واعتبر ذلك جموداً لا يجوز أن تبقى عليه المرأة المسلمة في عصر العلم والنور.

وجدي بك يرد عليه
وقرأ الأستاذ محمد فريد وجدي بك هذا المقال، فرد عليه بكلمة شديدة اللهجة حذر فيها من ظهور المرأة المسلمة على خشبة المسرح لما في ذلك من الفتنة ومخالفة أحكام الشريعة.

وأبى رمزي بك أن يرد على هذه الكلمة تاركاً للزمن تحقيق دعوته بعد أن رأى المرأة المسلمة تسير في طريق حريتها وسفورها بخطوات جريئة.

والآن امتلأت المسارح بالمصريات المسلمات، وأصبحن مادة حياتها وقوام شهرتها وجرف تيار التقدم ما وضعه المحافظون على القديم في طريقه من العقبات التي لا يأبه لها أصار الحقائق المادية.

(كل شيئ والعالم، ع236، القاهرة، السبت 7 يونيه 1930).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ يشير نعت "الإسرائيلية" بلغة المرحلة إلى مرادفه ذي السمة الدينية: "اليهودية"، ولا يوعز بأي معنى من المعاني في الثقافة العربية، في ذلك الوقت إلى أي مفهوم قومي.