في قراءته لرواية الكاتب العراقي سهيل سامي نادر يكشف الناقد المغربي عن أهمية هذه الرواية التي تقدم بفنية عالية بطلا أشكاليا يواصل الحفر في ذاته وفي المكان، ويعيد قراءة الموروث والتاريخ بغية استشراف المستقبل.

الحفر في الذات والمكان

«التل» رواية في حكايتين لسهيل سامي نادر

محمد برادة

قليلة هي الروايات العربية التي تسعى إلى أن تضع مسافة كافية ومبرّرة تجاه الأحداث الظرفية وما يفرزه «الواقع الراهن» من مكونات تتسلل لتؤطّر عوالم النصوص الروائية، أقصد تلك الرواية التي لا تنأسر داخل العناصر البنائية الملتصقة بالعالم الخارجي، وإنما تتطلّع إلى توظيفها في نسْجِ عالمٍ روائي يتسع لهموم الذات وأسئلتها الميتافيزيقية، كما يشمل العلاقة الملغزة مع الآخر والصراع الأبدي بين الفرد والمؤسسات المتحدّرة من إهاب السلطة. وقد وجدت في «التل» لسهيْل سامي نادر (دار المدى 2007)، نصاً ينطوي على هذه التطلعات التي تتخذ من الرواية وسيلة معرفة وتفتيش في خبايا النفس، والغوص في «سوسيولجيا الاستذكار وتاريخ الخسارة» الهادف إلى وضْع المسار الحياتي موضع تساؤل.

أول عنصر يلفت في هذه الرواية، بنيتها العامة القائمة على التوازي والمراوحة بين حكايتين أو مسارين يلتقيان عند السارد بوصفه الفاعل الأساسي في الأحداث وردود الفعل، ومصدر التّأمّل المتفلسِف. الحكاية الأولى هي عن رحلات السارد إلى تلّ الزعلان للإشراف على بعثة أثرية تنجز حفريات واسعة لاستكشاف دفائن إسلامية تعود إلى ألف سنة مضت. وقد اختار السارد بنفسه الأشخاص الذين سيساعدونه في إنجاز الحفريات، فكان في مقدّمهم صديقاه زهير وبرهان لأن تواطؤاً ثقافياً ووجودياً يجمع بينهم... والحكاية الثانية تتصل بقصة السارد مع مطلّقته «فاتن» وتعلّقه بابنتهما ليلى الطالبة بكلية الطب والتي تعاني من رقابة أمها وتجد نفسها قريبة من والدها.

غير أن هذا التوازي بين قصتين ومسارين ما هو إلا مظهر تأطيري لبنيتين عميقتين تنتسج خيوطهما وقماشتهما من تفاصيل تتعدى المعيش والظرفي إلى أغوار النفس وأسئلتها الحياتية الموزعة بين رغائب وتطلعات، وصراع بين العواطف والأخلاق، وسعي إلى إعادة تحديد العلاقة بالماضي. ومن خلال الرحلات المنتظمة التي يقوم بها السارد إلى قرية الزعلان للمشاركة في حفريات التلّ، نلمس حرصه على الانغمار بكليته في أجواء الحفر والمفاجآت التي تتبَدّى كلما تقدم العمل. إلا أن تعلّقه بابنته ليلى التي تعيش مع أمها في بغداد، يحفزه على العودة من حين لآخر ليحظى بزيارتها والحديث إليها. وطوال الفترات التي يكون فيها مع مجموعة الحفر الأركيولوجي، يخوض مناقشات متجددة مع صديقيْه حول الزمن والماضي والحب والموت... وحين تمّ العثور على مخطوط «البيان والتبيين» للجاحظ، ومعه نصّان نسخهما «الزماني» وأوْدعهما الدفينة نفسها، انطلق الجدال حول مهمة الناسخ والكاتب، وبدأ تحليل النص الذي كتبه طباخ اشتغل مع طبقة الخاصّة وحكى عن طبائعهم وسلوكهم، وكذلك الكراسة التي حكى فيها أبو حامد عباد قصة حياته قبل أن يقتله جند أبي طاهر الذي كان يسترزق وينهب اعتماداً على جيش خليط من أعراب وديْلم وترك.

في المقابل، يحكي السارد عن المكالمات التي كان يتلقاها من مطلّقته محاولة أن «تحميَ» ابنتهما من معاملته التسامحية، المتواطئة، مبررة تشدّدها معها. وفي الأثناء، يستعيد السارد مشاهد من صراعه مع زوجته فاتن التي تنتمي إلى عائلة بورجوازية، وتتمتع بذكاء وجمال، لكنها شكوكة حريصة على فرض وصايتها على ليلى وإثبات تفوقها عليه. وهذا الجانب من القصة العائلية يبرز الطابع الإشكالي المعقد للعلاقة بين السارد ومطلقته، ويحيلنا على سياق جيل مثقفي الثمانينات من القرن العشرين، حين كان تحقيق الذات عند تلك الفئات يسلك سبيل الثقافة المتشبعة بالقيم الكونية، ويخوض غمار تغيير بنيات المجتمع، ويعيش قصص الحب والزواج من منظور يربط العواطف بالأخلاق، ويتطلع إلى الملاءمة بين تحرير العقل وتحرير الجسد... ونستدلّ على التفاعل بين البنية السطحية والعميقة في النص، من خلال ما وردَ على لسان السارد: «تماهتْ مشكلتي بالتلّ، فكأني أردت الحفر في منطقتين متماثلتين من حيث العمق والاتجاه: حياتي والتلّ. لكن ليس هناك عمق حقيقي في التلال كما في عمق رجل يبحث عن نفسه وهو يهْوي» (ص 67).

وبالفعل، يبدو عمل السارد في تلّ الزعلان، وما واكبه من عثور على مخطوطات وهياكل لثلاثة أشخاص، وسراديب وقاعات وأقواس، بمثابة معادل موْضوعي لعملية البحث الاستبطاني التي يمارسها السارد ليل نهار، مستعيداً قصة حبه مع سميرة المثقفة، ثم علاقته مع زوجته فاتن وابنته ليلى، والتوغل في صراعات نفسية أحالتْ حياته إلى جحيم. كل مرحلة من حياته تسلمه إلى مرحلة يحسها أدنى، فيزداد ابتعاده عن مطامحه وتطلعاته الأقرب إلى الطوبويّة، ومن ثم يتولد ذلك الخطاب التأملي، التحليلي، المتفلسف في ذهن السارد وعلى لسانه، وهو يبذل قصارى جهده ليفهم ما عاشه وما اكتشفه في حفريات التلّ، مقارناً بين حيوات من عاشوا منذ ألف سنة وباتوا هياكل خرساء وبين سعادته المتعثرة مع زوجته المطلقة...

لكن ما يلحم النص المراوح بين قصتين وفضاءين، هو الموقع الذي يتكلم السارد منه: إنه يتكلم من موقع مثقف له قدرة على التفكير والتحليل والمقارنة، ويريد أن يفهم العالم ويغيره وفق مقاييس ذات مرجعية أخلاقية متطلبة، ليست معطاة مسبقاً ولا تقبل الخضوع لقيم ماضوية، وتتشبث بحرية الفرد. على هذا المستوى، يتقاطع البحث عن الذات المغيبة وراء الألم وأسئلة الكينونة، مع ما تطرحه دفائن التلّ من أسئلة تقدح زناد العقل النقدي، وتذكي التفاعل مع أفق الاختيار الصوفي الجذري الذي لامسه السارد أثناء ما كان يحلل بعض ورقات مخطوطة تمّ العثور عليها في التلّ.

الحفْر طريق لاستعادة الذات
أكثر من عنصر في بنية هذا النص وخطابه، يؤشر على المنحى المعرفي والفكري الذي يطبع هذه الرواية ويضعها ضمن خانة الرواية الشمولية المشدودة إلى استبطان الذات والعلائق النفسية المتشابكة بين السارد ومطلقته، وبينهما معاً وابنتهما ليلى، ثم بين السارد وأصدقائه... ويتجلى حرص الرواية على إنتاج المعرفة، في استثمار فضاء تلّ الزعلان وحفرياته لإدراج معلومات دقيقة عن الآثار ومعالجتها، وعن كتابات الجاحظ وأسلوبه، بخاصة عندما يعمد الكاتب إلى محاكاة النثر القصصي في القرن الثالث الهجري من خلال إيراد نصيْن زعم أنه تمّ العثور عليهما مع مخطوط «البيان والتبيين»... وهناك بضع صفحات (من 319 إلى 327) يحلل فيها الكاتب، على لسان السارد، ظاهرة الصوفية ومستويات تجاربها تحليلاً عميقاً هو من أجمل ما قرأت عن مقاصد الصوفية في اعتبارها مشروعاً توحيدياً للجسد الاجتماعي الممزّق...

إن المعرفة التي تتخلّل رواية «التلّ» في شكل متواتر، تبدو كأنها تضطلع بدور حماية السارد من الأخطار التي تتهدّده، سواء عند مواجهته لتحايلات مطلّقته أو لمناورات مدير الآثار أو عندما يكابد الألم والشوق والوحدة، ولذلك تبدو بمثابة ملجأ يستظل به السارد متخذاً من هذه المعرفة وسيلة لمقاومة الضحالة وفساد القيم. إلا أن هذا الدّفق المعرفي والتحليلي يتخذ، أحياناً، طابع الاكتظاظ والإحالات المكثفة على سجلات متباينة، ما يجعل القارئ يتساءل عن «ضرورة» بعض الاستطرادات ذات الحمولة المعرفية أو التأملية... وأظن أن هذه سمة كثيراً ما نصادفها في النص الروائي الأوّل، كما هي الحال بالنسبة الى سهيل نادر.

ويسند بناء «التلّ» المتشابك، الزاخر بالأحداث، لغة لها نكهة مميزة وقاموس دقيق ومستويات متعددة، خصوصاً في الصفحات التي يصطنع فيها الكاتب لغة وأسلوبَ عصورٍ عربية سالفة. وإذا كان البناء المتوازي قد حقق لشكل الرواية الانتقالَ من فضاء إلى آخر ومن الخارج إلى داخل النفس، فإن الكاتب اعتمد أيضا عنصر الميتا ـ سرد ليشرك القارئ في متابعة سيرورة الكتابة ويقيم معه جسراً من الحميمية يفضي له عبره بما استوعبه من قراءته لأعمال سارتر وهيغل والجاحظ والتوحيدي وريلكه... يطالعنا نموذج لهذا الميتا ـ سرد في الصفحات الأخيرة: «ثمة حقيقة أخرى انتبهت إليها على نحو جديد بعد أن رحت أراجع مسوداتي، فأنا على نحو ما، كتبت حكايتين منفصلتين من دون أن أجد في ذلك أية غرابة، بل لعلي كنت أثابر في الكتابة عن تلّ الزعلان وأتحمس لها ما أنْ تصبح عندي مادة جديدة في شأن علاقتي بليلى وفاتن» (ص 360).

ما يمكن أن نسجله أيضاً لهذه الرواية، أنها حافظت على طابع إنساني، إذ ظلتْ على مبعدة من السياق المباشر الذي قد يطمس أبعادها المتعالية عن المعنى الظرفي العابر. من هذه الزاوية، تبدو رواية «التل» أقرب ما تكون إلى مقاطع سيمفونية تعزف ألحان دفنِ الفرد العربي حامل رمز المعرفة والحداثة، الرافض «لسحْب الموتى إلى الحاضر»: «كنت متخبطاً ما بين العواطف والأخلاق وهذه الرواية عن حياتي وشخصيتي. كل شيء بدا صادقاً وكاذباً، مثل حياتي، مثل صورتي كيتيم، صورتي كبابٍ، صورتي وأنا فوق التلّ في فجر بارد، وصوري الأخرى يقبض عليها وعي متأخر فتبدو صادقة وكاذبة في آنٍ، والآن هاهي ذراعي تلوَى وتدخلني إلى ساحة الاعترافات. (ص335).

إن «التلّ»، بلغتها المميزة وشكلها المركّب، وتوظيفها للمعرفة والتحليل، تكتسب مكونات تعلو بها عن السياق المتصل براهن المجتمع العراقي الذي ينتمي إليه الروائي، على رغم أننا قد نستشفّ ما يحيل إليه من بعيد. ولا شك في أن استراتيجية الكتابة التي اختارها سهيل نادر قد جنبتْه الوقوع في التكرار وأبعدتْه عن أسلوب الرثاء واستنهاض الهمم. لأجل ذلك، أرى أن القراءة التي تحظى بالأولوية هي التي تعتبر «التلّ» رواية ذات بطل إشكالي لا يكفّ عن الحفْر في أعماقه، ملاحقاً أسئلة الوجود والأبوة والحب، شغوفاً بأن يحدد من جديد العلاقة بالتراث والتاريخ، من منظورٍ يرى: «أن لا أمل بالماضي، الأمل أن نتفق على الحد المعقول من الكفاية والأمن من أجل المستقبل». ولعل هذه البقية من أمل هي التي جعلت السارد، في ختام الرواية، يتجه إلى الهاتف ليتصل بمطلقته «وفي قلبه كلمتان: أحبك، أحبك».