بلغة سردية صافية تشارف الشعر وبنية قصصية مركزة يكتب القاص السوري الكبير عن عالمنا العربي في هذا الزمن الردئ الذي يتمسك بالقشور والسفاسف، ويتجاوز عن الكبائر بل يصاب بالعمي إزاءها، في واقع فظ لا يستطيع فيه الإنسان أن يحقق أدنى مشاريعه وأكثرها بساطة.

العورة

زكريا تامر

نظرت أمينة بقلق إلى أبيها العجوز الذي كان يعتزم مغادرة البيت، وسألته وهي تبتسم: من أنا؟

فدهش من سؤالها، وقال لها فوراً: أنت طبعاً ابنتي، ولست بنت الجيران.

: ـ وما اسمي؟
: ـ ما هذا السؤال؟ هل نسيت اسمك؟
: ـ سايرني وجاوب.
: ـ اسمك أمينة.
: ـ واليوم؟ أهو يوم الاثنين أم يوم الثلاثاء؟
: ـ اليوم هو يوم الجمعة.
: ـ وإلى أين أنت ذاهب الآن؟
: ـ سأذهب بسرعة إلى الجامع لأكسب صلاة الظهر جماعة، فالحسنات تمحو السيئات، وما أقل عدد حسناتنا!
: ـ وبعد الجامع؟ ماذا ستفعل؟ 
: ـ سأزور قبر المرحومة أمك.
: ـ ولكن المسافة بين الجامع والمقبرة طويلة.
: ـ سأستأجر سيارة تاكسي.
: ـ هل ستحكي مع أمي ساعات كعادتك؟
: ـ أعوذ بالله! أنا لست مجنوناً حتى أحكي مع الأموات.
: ـ كم ستبقى في المقبرة؟ 
: ـ مجرد دخول وخروج وقراءة سورة الفاتحة.
: ـ وكيف ستخرج من المقبرة؟ 
: ـ المقبرة لها باب دخلت منه، ومنه سأخرج إلى الطريق لأستأجر سيارة تاكسي توصلني إلى بيت أختك لأزورها، وأرى أولادها الشياطين وأراضي زوجها العاتب علينا لأننا لا نزوره إلا نادراً.
: ـ وكيف ستعود إلى البيت؟
: ـ ستطلب لي أختك سيارة تاكسي تعيدني إلى البيت.

وضحك الأب العجوز ضحكة مرحة، وقال لابنته: أنظري إليّ.. أنا كالحصان، ولا داعي إلى أي خوف على صحتي ونسياني وسهوي.

ففكرت أمينة لحظات صامتة مبتسمة، وقالت لأبيها: أفهم من كلامك أنك ستغيب عن البيت ثلاث ساعات أو أربعاً، فكيف يطاوعك قلبك على تركي وحيدة في هذا البيت الكبير كل هذه المدة؟

فضحك العجوز ضحكة طفل، واقترح على أمينة التفرج على برامج التلفزيون أو النوم، فتمطت أمينة بتكاسل، وقالت له بصوت واثق: النوم أفضل.

ورافقته حتى باب البيت وهي توصيه بالحذر حين ينتقل من رصيف إلى رصيف، فذكّرها بصوت ساخر بأنه ليس ولداً صغيراً، ووعدها بالسير في الفضاء الآمن هرباً من السيارات المجنونة، وغادر البيت على عجل، وما إن صار في الشارع حتى مشى بخطوات متمهلة قاصداً الجامع القريب، ودخله خاشعاً محنى الظهر، فوجد الرجال المتأهبين للصلاة ينظمون صفوفهم خلف الإمام، فحاول الوصول إلى الصف الأول حتى تتاح له الصلاة وراء الإمام مباشرة معتقداً أن صلاته آنذاك سيتضاعف ثوابها، ولكن الأيدي والأكتاف دفعته ليجد نفسه واقفاً في الصفوف الخلفية، فاستاء مما حدث، فهي صفوف يراها صالحة للمتدينين حديثاً لا لقدامى المصلين أمثاله، وترك الجامع غاضباً يتمتم: وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات... 

وما إن مشى في الشارع خطوات متوجهاً نحو المقبرة حتى شعر فجأة بضعف شديد يدهم جسمه كله، فتلاشت كل مشاريعه، ولم يبق لديه سوى مشروع واحد هو العودة إلى البيت، وسار ببطء نحو بيته وهو يئن ويتوسل إلى الله أن يميته في فراشه لا بين أقدام المارة، ودخل البيت وقد تزايد أنينه، وتنبه إلى أن صمتاً موحشاً يسود البيت، فاقتنع أن أمينة نائمة، وهرع إلى غرفته، فبوغت بأمينة في سريره العريض عارية، حاسرة الرأس، ملتصقة بشاب لا يعرفه وأصغر منها سناً، وتتحرك فوقه كأنها تريد أن تطحنه وترغمه على أن يستغيث ويعلن أنه ليس رجلاً، فشهق العجوز مستنكراً وفزِعاً، وتلفت فيما حوله بنظرات زائغة، فلمح منشفة حمام بيضاء اللون، فانقض عليها، وأمسكها بيدين مرتعشتين، وغطى بها رأس ابنته وهو يقول لها بصوت معنّف: ألا تعرفين أن شعر الرأس عورة، ولا يجوز لغريب أن يراه؟ يا ويلك من عذاب الآخرة!

وابتهج العجوز وهو يرى أن ما قاله لأمينة قد جعلها ترتجف ندماً وخوفاً من عذاب الآخرة، وبات وجهها بلون الليمون الأصفر، فحمد الله لأن البنات ما زلن يخشين النار وأهوالها، ولكنه استهجن سلوك الشاب غير المهذب إذ سارع إلى مغادرة الغرفة والبيت، تاركاً خلفه ثيابه الداخلية الرخيصة السعر، ومن دون أن يصافح أحداً مودعاً كأنه كان في بيت لا أصحاب له.