يمزج الكاتب الأردني في هذه القصة بين تقنيات السرد وتقنيات المسرح ويستخدم معهما إحالات تناصية إلى نصوص أولية دون أن يمنعه ذلك من التحليق في آفاق الفانتازيا للكشف عن بعض المسكوت عنه في التجربة العربية المعاصرة.

حَقَّاً قَام؟

هشام البستاني

الوجوه التي تخَلّصت منها

بقيت تحت وجهك

وفي بعض الأحيان تنْتُؤ

كأن جلدك لا يستطيع أن يحتويها.

الأيدي التي تخلصت منها،

تنتفخ أحيانا في يديك

وتمتص أشياء أو تُخرجها

مثل اسفنجات متنامية.

الحَيَوات التي تخليت عنها

تبقى بعدك في ظلك

وذات يوم سوف تداهمك

لتموت ربما في الحال

روبرتو خواروس

[مقدمة اولى]

حنين تفضل الراحة النفسية على ما تسميه هي "وجع الرأس". "بشتري راحة راسي بالدنيا" تقول دائماً وتبتسم.

[مقدمة ثانية]

حنين تفضل الهجرة الى قطر أو أميركا (وربما الى كوكبٍ آخر!) على البقاء في عَمّان. في قطر، تقول، الامورُ أكثر رتابة، ومملة، ناسٌ مملون، شوارعُ مملة، مكانٌ مناسبٌ لنومٍ هانئ، أفيون. أميركا: عالمٌ آخر، كوكبٌ آخر، ينغمس فيه الانسان الى أذنيه في العمل (أو أشياء أخرى) وينسى. ما العامل المشترك بين قطر وأميركا و(الكوكب الآخر)؟ كُلها لا تحتوي على واثق.

[الفصل الأول]  

الاشخاص:          حنين

الديكور:              مرايا كثيرة وصورة لواثق.

الاضاءة:            ازرق خافت.

اغنية أصالة "يا مجنون مش انا ليلى" في الخلفية عالقة على المقطع "بحبك بس مش قايلة".

حنين تقف أمام الصورة. تبتسم. تحسُّ بالدفءِ في الداخل. دمٌ حارٌ يسري في العروق. ينعكس وجهها في زجاجِ الصورةِ فتتراجع ابتسامتها قليلاً.

يخفت الضوء أكثر. يختفي الانعكاس، فتعود الابتسامة الى سابق عهدها. تلتمع عيناها ويخفق قلبها بشدة، وتشعر بقشعريرة غريبة. تلمس الصورة. ترسم باصبعها استدارة الوجه، وتداعب الانف والشفتين. تقتربُ بوجهها وتطبعُ قبلةً هناك.

الشفتان دافئتان، تنبضان. ليست صورة! إنه هو! بلحمه ودمه وجنونه وحبه!

تهرب حنين لتصطدم بصورها في المرايا.

انعكاسات متوالية لشخصٍ واحد. "أين أذهب من نَفْسي؟" تتساءل. "أيُّهُم نَفْسي؟".

الصورةُ ما تزال هناك معلّقةً على الحائط، وحنين ما تزال تبحث عن نفسها بين انعكاسات المرايا.

[الفصل الثاني]  

الاشخاص:          واثق

الديكور:              عمارة من اربعة طوابق مكتوب عليها "عمارة الرضا".

الاضاءة:            ضوء نهاري عادي.

هدوء تام يلف الجو.

يمشي هنا وهناك. ينظر الى ساعته كثيراً، كما ينظر الى شرفة الشقة في الطابق الثالث. لا أحد.

الساعة الثامنة والربع صباحاً. انه الموعد تماماً. ينظر مرة أخرى، لا أحد، لكن الستارة تتحرك قليلاً. يقرر أن يصعد. يدق الجرس. لا جواب. يطرق الباب. لا جواب. يطرق بعنف. لا جواب. يطرق بعنفٍ أكبر. لا جواب.

يقرر واثق أن يكسر الباب. يستجمع قواه الى مداها، يُرَكِّزها في كتفه وينفجر. الباب ينهار كخرقة بالية، والبيتُ فارغٌ كالسكون. يركض واثق باتجاه الشرفة. لا أحد. شبّاك الشرفة مفتوحٌ على آخره، وخيالُ فتاةٍ رائعةٍ يركضُ في الأفق.

ينزل واثق. تنهار عمارة الرضا.

[الفصل الثالث]  

الاشخاص:          حنين وواثق.

الديكور:              سماء وأرض.

الاضاءة:            ازرق خافت وأحمر.

واثق في السماء ينادي: "اصعدي قليلاً. رائعٌ هنا. بعيدٌ عن القذارات والأوساخ. إصعدي. قليلاً فقط. سنرجع معاً الى الأسفل، لكن لا بدّ أن تصعدي أولاً".

حنين تردّ من الأرض: "واثق يا مجنون، أنا مش ليلى".

 يقول واثق: "بحبك".

تقول حنين: "بس مش قايلة".

يقول واثق: "اشتقتُ اليكِ كثيراً".

تقول حنين: "الله يرضى عليك".

يقول واثق: "اريد أن أراكِ. أريدُكِ".

تقول حنين: "انزل الى الارض".

يقول واثق: "تأكلنا الوحوش وتبتلعنا المستنقعات. إصعدي أنتِ".

تقول حنين: "يرانا الله".

يقول واثق: "الإله يُسامح، الوحوشُ لا ترحم. الإله يرانا أكُنّا على الارض أو في السماء".

تقول حنين: "لن أصعد، ولِيَكُن ما يكون".

تنفتح ثغرة في الاسفل، ينبعث منها لهيبٌ وأنين، يسقط فيها واثق. تبكي حنين قليلاً، ثم تصعد الى السماء.

[استدراك]

عبثاً قُلتُ لكِ: "الحبُّ ممارسةٌ خاصةٌ لا تُراعى فيها المصلحة العامة".

لن أوَدِّعكِ، لأنني سأظل فيكِ دائماً، دمغةً أبدية، تُدفِئُكِ حين تبرد الدنيا، تؤنسكِ حين يتحول العالم الى مجموعةٍ منتظمةٍ من الغرباء، تَقرُصُكِ حين تحاولين أن تنسي، وتحرقكِ حين تتذكرين ما فاتنا.

جِيء بنا كي نموت لكننا ـ أنتِ تعرفين ـ زرعنا بذرةً تركناها وحيدةً تحت طبقاتٍ من الأديم. حاولتُ أن أُحَوّل النهر البعيد الى مكانها، أن أستمتطر الغيم الشارد فوقها، أن أحفر لها من تحت الأرض بئراً، لكن لم تكن ربّةُ الماء لترضى. لا ماء ولا يحزنون.

لم استسلم، بل انفجرت غيظاً فاندفعت بقوةٍ الى حيث يستوي عرشها. "نَظَرُكِ ضعيفٌ" قلتُ لها. "يعميكِ الوهج القوي القادم من فوق. وهجٌ بارد يحمل أصفاداً وسجوناً. ويُرى من خلاله نساءٌ معَلّقات من أثدائِهِنّ. ويُرى رأسُ الحسين محمولاً على صينية مذهّبة الى يزيد، ويردد الصدى: ’من يدخل بيت ابي سفيان فهو آمن ...، فيما يُرى الحاكم الأموي خاطباً في العيد: ’أيها الناس، قوموا وضحوا، فإنّي مُضَحٍّ اليوم بالجعد بن درهم‘".

تنبثق الدوّامات، تتشعلقين بالوهج البارد وأتشبّثُ بجذع النخلة. ذراعي تؤلمني لكن لا يهم. ستجرف الدوامات ربة الماء، وأبقى أنا أهز جذع النخلة دون طائل.

كنت أريد أن أحفرك وشماً في عقلي. عندما أنظر في عينيك وتلتمع عيناي، تعرفين ... وأعرف أنك تعرفين ... وتعرفين أنني أعرف. تسري في جسدكِ تلك الكيمياء اللذيذة فتشيحين بوجهكِ وتبتسمين. تعرفين أنني قبَّلتُكِ بعينيّ آلاف المرات، تُحِسِّين بها دماً حاراً في العروق، توتّراً فجائياً في الهواء. تعرفين.

حين تغمضين عينيكِ في ليل الدّوحةِ البارد، سأكون هناك، أسري في دمكِ، وستندمين. لكني سآتي كلّما آلمتكِ الذاكرة، فعيناي تلتمعان في صدركِ، أغمضي عينيكِ لحظاتٍ، وسأقبّلكِ.

أنا؟ أنا تعبت. أسير في صحراءَ لا نهائية تختلط فيها الزوابع الرملية بأسراب الجراد. لا شمس ولا قمر هنا. يتشعبطُ العفنُ على أستار السماء، ويحلُّ ظلامٌ دامسٌ فقط، ورطوبة.

احيانا تنغرز قدماي، وتتكالب عليّ وحوشٌ مشوَّهة. أضربها حيناً، وحيناً أتركها تنهش لحمي، لكنني أنتفض في النهاية ـ ودائماً هناك نهاية ـ فأنفجر حمماً ملتهبة. وحين يتحول الكلّ الى خراب، ألملم نفسي وأتابع المسير. قلبي ليس أسود، لكنه قاسٍ كماسة.

أحيانا تنتابني خيالات غريبة: يسوع مترجّلا عن الصليب متوشّحاً بدمه المهدور، رأس الحسين ينبت له جسمٌ ويدانِ وسيفٌ يقطعُ رأس يزيد، أوجلان محطماً قيوده متحولاً الى علمٍ أحمر ذي نجمة صفراء، أبو ذر، كارلوس، علي، كوزو اوكاموتو، عمار بن ياسر، غيفارا... كلهم قاموا. محضُ خيالاتٍ غريبةٍ تتبخّر في لحظات، ولا يبقى سوى الصحراء. لكني أقوم.

[استدراك 2]

لم تَكُن. وعندما ظَهَر تَكوّنَت. جُبِلَت من عبق الياسيمنِ وضياءِ نجماتٍ بعيدة. صارت أُنثى.

ترتعش شفتاها حين يُذكر اسمه، تُحَلِّق في رأسها آلاف الصور وينبض قلبها عيوناً عسلية.

وعندما تكون وحيدةً أَرِقةً آخر الليل، تَنْبَعِث في الظلام شرارات الرغبة، تشتاق إليه، تَصُكّ أسنانها بحسرة وتنام.

من مجموعة "عن الحب والموت" الصادرة مؤخراً عن دار الفارابي، بيروت