بعد أيام من رحيل الناقد والمفكر الكبير محمود أمين عالم رحل رفيق عمره العالم والكاتب الكبير عبد العظيم أنيس، هنا يكتب لنا الناقد المصري المرموق لمحات من حياة هذا العالم والمفكر الوطني، ويعرض لبعض أعماله.

لمحات من حياة وأعمال عالم ومفكر كبير

فاروق عبد القادر

لفت هذا التزامن في رحيل الأستاذين محمود أمين العالم، وعبد العظيم أحمد أنيس أنظار الكثيرين، وقد سبق لهما أن تزاملا في كثير من وجوه نشاطهما العملي، خاصة نضالهما ـ العلني والسري ـ في صفوف اليسار المصري منذ أربعينيات القرن الماضي. ولنجعل سبيلنا إلي تتبع حياة أنيس، ما كتبه، هو عن نفسه: في تقديم كتابه (ذكريات، 2003) يكتب: «أنا لا أصدر كتاباً شاملا عن حياتي وإنجازاتي بالمعني الذي يقصده الأوروبيون تحت اسم autobiography لأنني، أولا، لم أتعرض لكل ظروف مسيرة حياتي، وثانيا لأنني مقتنع أن حياتي هذه وأحداثها لا تستحق كتابا من النوع الذي يصدره الغربيون. فمن أنا حتي أطمع في كتاب من هذا النوع؟ «...» واليوم، وأنا أقترب من الثمانين، لست نادما علي أي شيء، فقد كان همي طوال حياتي الدفاع عن الفقراء والمظلومين، وعن استقلال مصر وحقها في حياة كريمة، وعندما أتأمل هذا الشريط الطويل من حياتي، من طفولتي في حي الأزهر، إلي اليوم، أجدني راضيا عما قمت به وضحيت من أجله، مهما كانت قسوة الأيام..». وحسنا ما فعل الدكتور أنيس، حسنا أنه لم يستسلم لتلك الفكرة الخاطئة ومؤداها: «من أنا حتي أطمع في كتاب من هذا النوع؟، فلاشك أن في حياته ما يستحق أن يروي، وما يستحق أن يكون نموذجاً وقدوة، وفي رضاه عما قام به ما يعيد إلي الذاكرة قولة طه حسين في نهاية (الأيام)، وهي قولة الراضي عن نفسه، الذي يري نفسه مصيبا في كل ما أخذ من الأمر وما ترك: «لو استؤنف الأمر من حيث ابتدأ، لاستأنف مسيرته التي سارها، لم يغير منها شيئا، ولم ينكر منها قليلا أو كثيرا..» تلك مرحلة من مراحل الرضا عن النفس، لا يبلغها إلا من خاض نضالا طويلا متصلا من أجل مبادئ آمن بها، كانت هاديته في هذا النضال، ولاتزال.

ولعل تحفظ أستاذ «الرياضيات العليا» ـ يقول باعتزاز، إنه قام بتدريسها في الجامعات الرئيسية الثلاث: الإسكندرية، والقاهرة ثم عين شمس علي التوالي ـ علي وصف ما يقدمه بالسيرة الذاتية، هو ترتيب المواد المنشورة وطبيعتها، فهي قد سبق أن نُشرت متباعدة في مجلات مصرية وعربية، وفي أوقات وسياقات مختلفة. بعد «الباب الأول».. وعنوانه «التكوين».. ويضم فصولا عن حياته وعمله الجامعي، ثم الصحفي، ومظاهر اشتغاله بالعمل العام، وموقفه الفكري والعملي من نظام عبد الناصر، ويصل بقارئه إلي السنوات الأولي من حكم السادات «1974 علي وجه التحديد» حين طلبه «القصر الساداتي» لأن السيد جمال السادات كان ـ سنتها ـ متقدماً لامتحان الثانوية العامة «ولديه أسئلة في الرياضيات» (اقرأ الحكاية كلها، من فضلك واستنتج منها ما شئت) أما هو فكان حزيناً: «كان أشد ما أحزنني أن مصر تدار كعزبة، وعلي الخولي والتملي والأنفار أن يكونوا في خدمة السيد صاحب العزبة، وأن الحديث عن سيادة القانون هو عبث في عبث» شهادة للتاريخ، ص 149.

الباب الثاني، يتحدث فيه الدكتور أنيس عن بعض الشخصيات التي عرفها، وكان لها دور في حياته: طه حسين، ثروت عكاشة، إحسان عبد القدوس (يخصه بالكتابة أكثر من مرة، ويراه مستنيراً، واسع الأفق، وشجاعاً في الدفاع عن رجل لا يشاركه قناعاته السياسية، ليس هذا فقط بل إن له رأياً سلبياً ومنشوراً في أدب إحسان! وشقيقه الأكبر عالم اللغة الكبير الدكتور إبراهيم أنيس، والدكتور مشرفة، كما يثبت لقاءً جمعه وشي جيفارا في بيت إحسان في 1960، الباب الثالث والأخير يدور في معظمة حول اعتقاله بين الشيوعيين واليساريين من يناير 1959 إلي أبريل 1964.

وإذا تجاوزت تلك الليلة التي قصاها في «قسم الوايلي» وهو في الثانية عشرة لمشاركته في مظاهرات 1935، نفس المظاهرات التي جرح فيها جمال عبد الناصر، الذي يكبره بخمس سنوات، وعمله التطوعي ذا الطابع الاجتماعي أثناء دراسته الجامعية (40 ـ 1944) فقد تعرض للاعتقال أكثر من مرة، واعتقل بالفعل بعد إعلان «الأحكام العرفية» في 15 مايو 1948 «كنت بالطبع واحداً من المعتقلين الذين أودعوا في معتقل «أبوقير» بالإسكندرية، ومنه إلي معتقل «الهايكستب»، ثم «جبل الطور» علي البحر الأحمر».

قضيت في تلك المعتقلات نحو عام ونصف، حتي أفرج عني في 10 يناير 1950، عندما أجريت الانتخابات العامة، وعادت الحكومة الوفدية، فأفرجت عن جميع المعتقلين، رجع إلي عمله بجامعة الإسكندرية ونشاطه العام، لكنه أعاد النظر في جدوي نشاطه السياسي العملي، وروعته الانقسامات في صفوف اليساريين، خاصة بعدما أضافت إليها أحداث فلسطين.. لقد تمزقت قوي اليسار إلي كيانات صغيرة بلا وزن حقيقي، واتضح لي سذاجة تفكيري السياسي، الذي كان يتوهم أن ثورة بقيادة قوي اليسار هي علي الأبواب، ومن ثم اتخذ قراره باتمام تكوينه العلمي، فسافر إلي لندن للحصول علي الدكتوراه، واستطاع الحصول عليها في عامين اثنين، بتواضع لا يصدر إلا عن عالم حقيقي يكتب: «وفي العادة يستغرق الإعداد للدكتوراه في الفروع المعملية للعلوم الطبيعية حوالي أربع سنوات أو أكثر، ولكن في الرياضيات بالذات يصبح من الممكن ـ ولو أنه نادر ـ أن ينتهي الطالب من إعداد رسالته خلال عامين ميلاديين، إن ساعده الخط في موضوع البحث، وأرهق نفسه بالعمل المتواصل، وهو ما حدث معي» وعاد في سبتمبر 1952 إلي كلية العلوم بجامعة القاهرة، يدرس ويبحث ويكتب وينشر مقالات في (المصري) و (روز اليوسف)، حتي وقعت أزمة مارس 1954، فانحزت إلي دعوة الديمقراطية مع خالد محيي الدين، ومحمد نجيب، وكنت من الموقعين علي العريضة التي طالبت بعودة الجيش إلي ثكناته، وكان أن صدر قرار مجلس قيادة الثورة في 24 سبتمبر 1954 بفصلي مع 42 عضواً من هيئات التدريس بالجامعات، معظمهم من الذين اتخذوا هذا الموقف، وتذكر دعوة أستاذه في جامعة لندن للعمل بها، والتي كان قد اعتذر عن قبولها، وكتب إليه بالقبول، وقضي في بيروت عدة شهور، ومن بيروت سافرت إلي بريطانيا في فبراير 1955، وبقيت فيها نحو عامين محاضراً بكلية «تشلسي» للعلوم والتكنولوجيا، حتي تأميم قناة السويس في يوليو 1956، عندئذ قررت أن أقدم استقالتي من عملي لاتفرغ للدفاع عن قرار التأميم أمام الرأي العام البريطاني»، وقام بدوره هذا علي خير وجه «اتخذت الموقف الذي أملاه علي ضميري الوطني، وهو الدفاع عن التأميم وعن عبدالناصر في موقفه من الجزائر وباندونج». لن تكون أبداً المرة الوحيدة التي يتخذ فيها الدكتور أنيس الموقف الذي يمليه عليه «ضميره الوطني»، بل ستكون لها شبيهات ونظائر فيما يلي، ولم يكن للنظام المنتفش أن يتراجع ويعيده إلي الجامعة بعد ما فعل، وبعد اجتماع «ميدان الطرف الأغر» في قلب لندن، الذي حضره أكثر من خمسين ألفاً، وخطب فيه الدكتور أنيس ونواب من «حزب العمال» ضد العدوان علي مصر الذي كان قد بدأ، رجع إلي مصر في ديسمبر 1956 ليجد عرضاً من خالد محيي الدين بالعمل معه في جريدة «المساء» وظل في عمله هذا حتي ألقي القبض عليه في اليوم الأول من الشهر الأول من سنة 1959، ليقضي خمس سنوات وثلاثة أشهر وراء القضبان.

*   *   *

في الشهور القليلة التي قضاها في بيروت أعد الدكتور أنيس كتابه مع محمود العالم «في الثقافة المصرية» الذي صدر في منتصف 1955 ـ بتقديم الكاتب اليساري اللبناني حسين مروة ـ فأثار ضجيجاً هائلاً في الواقع الثقافي المصري والعربي آنذاك: مجموعة من المقالات كتبها صاحبها (كتب أنيس ست مقالات وكتب العالم خمسا واشتركا في اثنتين) في 1953 و1954، لكن الكتاب بقي يشار إليه ـ في أدبيات تلك المرحلة ـ باعتباره «مانيفستو» يعبر عن توجه جديد في فهم الأدب ونقده. كان الكتاب ـ في حقيقته ـ صيحة حرب في معركة: ضد الاستعمار، بشكليه القديم والجديد، من ناحية، وضد «الديكتاتورية العسكرية» من الناحية الأخري، وضد الفصل بين الأدب والحياة من ناحية ثالثة. لهذا جاءت الصيحة جهيرة خشنة عالية الصوت والنبرات، لكنها ألحَّت في تأكيد عدد من القواعد أهمها الدلالة الاجتماعية للعمل الأدبي، وإمكان الحديث عن مدلول طبقي محدد داخل هذه الدلالة، ولم يكن هذا وقتذاك شيئا قليلاً. بعدها، انصرف أنيس عن النقد الأدبي أو كاد، إلي ألوان أخري من العمل الفكري هي أقرب لطبيعة الأستاذ المتخصص في العلوم أشير هنا إلي كتابيه: «العلم والحضارة، 1976» وهو في قسمين: الأول عن العلم في الحضارات القديمة التي قامت في وديان الأنهار الثلاثة: النيل والفرات والسِنْد، والثاني عن العلم في الحضارة اليونانية. والكتاب بقسميه ـ فيما يقول المؤلف ـ «مقدمة لدراسة عن العلم في الحضارة العربية». الكتاب الثاني «علماء وأدباء ومفكرون، 1983»، ويضم فصولاً متفرقة كتبت ونشرت في أوقات مختلفة، بعضها عن التراث العلمي، وبعضها عن علماء غربيين وعرب: ابن الهيثم، جاليليو، مونج، أوبنهايمر، أينشتين، وبعضها عن موضوعات أقرب للأدب والفلسفة: جوتة، طه حسين، الوضعية المنطقية... إلخ.

*   *   *

كان بين معتقلي 1959 حشد كبير من الكتاب والمثقفين، وقد كتب كثيرون منهم عن تلك التجربة المعذبة: كتب طاهر عبدالحكيم «الأقدام العارية» وفتحي عبدالفتاح «شيوعيون وناصريون»، وفخري لبيب «الشيوعيون وعبدالناصر»، وإلهام سيف النصر «أبوزعبل» وحسن المناويشي «أوردي ليمان أبوزعبل».. (يختلف هذا الأخير عن سابقيه في أنه ليس كاتباً ولا جامعياً، لكنه عامل نسيج بسيط من «المحلة»، وهو ـ بالتالي ـ أكثر تلقائية وعفوية ومباشرة)، وكتب آخرون، ولكن تبقي لكتاب عبدالعظيم أنيس «رسائل الحب والحزن والثورة، 1976» مكانة خاصة: أثناء عمله مسئولاً عن «الشئون العربية» في جريدة «المساء»، وفي غمرة الانشغال بالعمل العام في تلك الشهور القليلة التي أعقبت أحداث 1956 حين كانت الآمال ممتدة، وشمس الحلم تهب الضوء والدفء وشهر العسل ـ قصر العمر ـ بين الشيوعيين وعبدالناصر، ربط الحب قلبي الدكتور أنيس والسيدة عايدة ثابت قامت بينهما علاقة شخصية تستند إلي أسس موضوعية عديدة وتزوجا رغم كل العقبات، فقد كان هو زوجا وأبا وحاول كثيرون من أصدقائه إقناعه بالتروي، وأن هذه العلاقة ليست سوي «نزوة عابرة»، تزوجا في 5 نوفمبر 1958 بعد قصة حب دامت عدة شهور قبل الزواج وعشنا ننحو شهرين من أسعد أيام حياتنا حتي فاجأتنا عاصفة الاعتقالات فوضعت حدا لكثير من أحلامنا وآمالنا فصلت عايدة ثابت من عملها في صحيفة «المساء» وإن لم تعتقل كما فصلت أنا أيضا إثر اعتقالي وأصبحنا نحن الاثنان نواجه الحياة بلا مورد، أنا في المعتقل وهي في الخارج..

وعمل الزوجان العاشقان علي أن يبقي التراسل بينهما متصلا غير منقطع، وتحايلا علي ذلك بأساليب مختلفة، يحدثنا عن بعضها في تقديمه للرسائل، علي سبيل المثال: كان من حق «المسجونين» أن يتلقوا رسائل في ذويهم أما «المعتقلون» فليس لهم هذا الحق، فكانت الرسائل ترسل باسم أحد الزملاء المسجونين وكان عليها أن تخاطبه باسم غير اسمه وأن توقّع رسائلها باسم غير اسمها أضف لذلك قسوة المعاملة من جانب أولئك الجلادين المحترفين اللذين يتحكمون في الأنفاس واحتمالات التفتيش المفاجئة والمتكررة التي أرغمته علي التخلص من رسائلها حتي عام 1962.

تلك الحقائق أصبحت اليوم جزءا من تاريخ مصر الحديث يروي الدكتور أنيس: «نقلنا في 7 نوفمبر 1959 إلي معتقل أوردي أبوزعبل، وفيه جرت أول تجربة تعذيب جماعية علي يد جهاز المباحث العامة وضباط مصلحة السجون.. «..» لقد تولي قيادة هذا العمل الوحشي الذي سوف يرد وصفه العميد حسن المصيلحي من جهاز المباحث العامة واللواء إسماعيل همت وكيل مصلحة السجون وانتهت هذه التجربة بفاجعة قتل الصديق العزيز الشهيد شهدي عطية في يونيو 1960، عندئذ تحركت الدولة لوقف التعذيب «...» وبعد توقف سياسة التعذيب في الأوردي نقلنا في يوليو 1961 إلي معتقل الواحات الخارجة، وبقينا هناك في ظروف معقولة نسبيا حتي أفرج عنا في أبريل 1964».

إن الباب الثالث من كتاب الدكتور أنيس يعتمد ـ في معظمه ـ علي تلك الرسائل فهو يثبت في كتابه الأخير «تقديم الرسائل» وخاتمتها وينتقي من بينها واحدة يعيد نشرها «الخطاب الثامن، ص 47 من «الرسائل»، ص230 من «الذكريات». وتبقي تلك الرسائل المتبادلة قطعا حية نابضة من المشاعر الإنسانية الصافية بين عاشقين قد لا يجدي معها اجتزاء. عليك أن تقرأها كاملة لتري كيف يعبر عاشق مثقف معزول، سجين محاصر عن مشاعره لرفيقته، رغم عوائق كل الرقابات القائمة والمحتملة وفي حياء صادق يعتذر الدكتور عن تأجج المشاعر: إن العواطف الملتهبة التي تبدو في هذه الرسائل ليس مصدرها فقط أنها رسائل زوجة كانت في الرابعة والعشرين من عمرها، وزوج كان في الخامسة والثلاثين بكل ما يعنيه هذا من التهاب العواطف وتأجج الأحاسيس بين عاشقين وإنما مصدرها أيضا رباط فكري قوي ظل يقرب بيننا ويبعث الدفء في حياتنا علي طول السنين في ظل الحرية.. عن أي شيء يعتذر؟ هل يعتذر عن قوله لها: «يا حمامتي الجميلة.. أنت دائما معي في القلب والفكر والخيال، أعيش علي ذكرياتي معك.. الكلمة الباسمة والعيون الضاحكة والقبلة المذيبة وأنفاسك البريئة وأنت نائمة في السرير كالملاك الطاهر: منذ أفتح عيني في الصباح حتي أنام ألفي خيالك كل دقيقة فإذا نمت عدت إلي في الأحلام لكن عايدة ماتت في 10 نوفمبر 1975، إثر فاجعة مروعة لم يقرر أي منا أنها سوف تنتهي إلي هذه النهاية.. والفاجعة، في ايجاز، وكما يذكر من عاش تلك الأيام وقد أفاضت الصحف في نشر تفاصيلها أن كلباً عقرها في مطار القاهرة ورغم أنها خضعت للعلاج الضروري في مثل هذه الحالة إلا أن حالتها تدهورت فجأة ثم رحلت. بعد رحيلها، فقط، عاد العاشق المحزون إلي رسائلهما، واختار بعضها للنشر في هذا الكتاب الجميل الحزين.

عاش عبدالعظيم أحمد أنيس عمراً طويلاً: علم وتعلم، أقام ورحل، عمل وناضل، تزوج وأنجب، وخلف وراءه ثروة من العمل الفكري المضيء وخلّف كذلك سيرة عطرة، وسرباً عظيماً من البنات والحفيدات.


عليه سلام الله!.