يوشك هذا القسم من باب علامات أن يكون ملفا مصغرا تكرسه الدكتورة أثير لإحياء ذكرى الراحيلين الكبيرين وإرهاف ذاكرة القارئ فيما يتعلق بدورهما المهم في الحياة الأدبية والثقافية، حيث تعود لبدايات العالم كشاعر، ثم للمقال الذي ردا فيه على طه حسين وكان فاتحة طرح مغاير لصورة الأدب ومفومه أحدث تغيرات جذرية في الثقافة العربية وبدل طبيعة المنهج النقدي فيها، كما تقدم فيه دراسة مضيئة للعالم قدمها في مدريد عن فكر طه حسين.

محمود أمين العالم.. عبد العظيم أنيس

تداعيات تاريخيّة

أثير محمد على

أطلق محمود أمين العالم رنين ضحكته الموحية، بينما كان يتكئ على ذراع مرافقه اليسرى، ودون أن ترتحل عينيه إلى الفراغ، تابع قائلاً: "أصل أنا يساري..". كانت الردهة في الطابق الثاني من كلية الآداب والفلسفة في جامعة آوتونوما بمدريد مزدحمة بالطلاب والأساتذة في ذلك اليوم الخريفي من اكتوبر عام 1999. حينها كان العالم قد وصل إلى العاصمة الاسبانية للمشاركة بالاحتفال بالذكرى الخمسين لتأسيس المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد على يد طه حسين. واقتران اسم طه حسين مع محمود أمين العالم يستدعي عبد العظيم أنيس، صديق الحياة وتضامن الموت، ليكتمل شتات تلك العلاقة الثلاثية التي جمعت فيما بينهم جدلياً أيام التقلبات الحادة، والانفتاح على مقولات التاريخ.

تبدأ الوصلة التاريخية لعلامات "الكلمة" في هذا العدد بمقالة "صورة الأدب" لطه حسين والمنشورة في جريدة "الجمهورية" عام 1954، ومن ثم الردّ عليها من خلال مقالة "الأدب بين الصياغة والمضمون" التي حبّرها عبد العظيم أنيس بالاشتراك مع محمود أمين العالم ونشرت في نفس العام في جريدة "الوفد المصري"، وكانت بمثابة بيان معلن عن وجهة نظرهما حول "مفهوم الأدب". وكما هو معروف جاء الردّ التالي عليهما من قبل عميد الأدب في مقال عنوانه "يوناني فلا يقرأ"، في إشارة تهكميّة مبطنة لحاجتهما لروح الناقد وتروي الباحث، رغم أن "الأيام" التي خاضا دوامتها أثبتت أنهما مارسا القراءة المولّدة بجدارة فريدة.

لاحقاً نسّقت مقالة عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم المذكورة، إلى جانب مجموعة أخرى من المقالات لهما جمعها الناقد محمد دكروب، لتصدر في كتاب قدّم له حسين مروّة وحمل عنوان "في الثقافة المصريّة"، وظهرت طبعته الأولى في بيروت سنة 1955. أثار الكتاب ردود أفعال عاتية وشديدة التباين لدى كتّاب ونقّاد الأدب في تلك المرحلة، وأثّر في كواليس ومنصات الثقافة، حتى أن البعض اعتبره، ويعتبره نقطة علاّم في توجيه دفّة النقد الأدبي العربي نحو الواقعيّة الجدليّة. ولعل كتاب "في الثقافة المصريّة" لأنيس والعالم، يحيل إلى "مستقبل الثقافة في مصر" لطه حسين والمنشور عام 1938، وكأن كل من أنيس والعالم اعتبرا موضوعياً أنهما ضمن هذا "المستقبل" التعليمي التربوي التطوري في كتاب طه حسين، أي الجيل التفاؤلي الثاني، الذي عناه طه حسين في كتابه، والذي أخذ يتطلع "في الثقافة المصرية" لحاضرٍ يطال القضايا النقديّة والاجتماعيّة والمواقف من حركة التاريخ.

أما المادة الثالثة التي ينشرها باب علامات فمعنونة بـ "على هامش رؤية طه حسين التاريخيّة"، وهي محاضرة لمحمود أمين العالم ألقاها في احتفاليّة المعهد المصري للدراسات الإسلاميّة في مدريد بمناسبة مرور خمسين عاماً على افتتاحه. وفيها يقدم محمود أمين العالم عند عتبة القرن العشرين الأخيرة نظرة نقدية، يلتفت بها إلى الخلف بقوة إلى أدبيات مؤسس المعهد: طه حسين، مدرجاً توجهات جيله الحداثيّة كامتداد تاريخي جدلي لتأثيرات منهجيّة عميد الأدب في عالم الفكر والبحث العلمي.

أما المادة الأخيرة التي تختتم بها علامات الكلمة وصلتها التاريخية فهي قصيدة "لا ولا" لمحمود أمين العالم الشاب والمنشورة في مجلة "الأديب" اللبنانية لصاحبها ألبير أديب عام 1948.

وتبوح القصيدة كبحر تراجع عن شاطئه بشاب ذي ظلال سيزيفية، كانه العالم:

"كما ترقص الريح فوق اللهيب فيرتجف الشيخ فرط الهرمْ!
كما يزحف الإثم فوق القلوب فيجمد فوق الجباه الندم!
كما تتمشى ظلال الصباح على خاطر ساهر لم ينم،
فما يكشف الصبح سر الحياة وما يكشف الليل سر العدم!!
كذاك تعرّيت ـ يا وحدتي ـ بشط الحياة ولم أستحم!"

*  *  *

صورة الأدب

طه حسين

أما اليوم فإنني أريد أن أثير خلافاً جديداً بين الأدباء، بعد ذلك الخلاف القديم الذي لم ينقض بعد، وما أرى أنه سينقضي اليوم أو غداً، بل ما أرى أنه سينقضي قبل أن ترضى حاجات الناس عن حياتهم، إن أتيح لحاجات الناس أن ترضى في يوم من الأيام. فقد تعلمنا فيما تعلمنا أن الجنة التي وعد الله عباده المتقين هي التي سترضى فيها حاجات الناس إلى أقصى ما يمكن أن يبلغ الرضى، لأن فيها كل ما يمكن أن يشتهى وكل ما يمكن أن يلذ، وما لا يخطر على قلوب الناس.

وقد صور أبو العلاء في رسالة الغفران طرفاً من هذا الرضى، الذي سيتاح لأهل الجنة المتقين، فأحسن التصوير وجوّد فيه، سواء أكان قد قصد به إلى الجد أم قصد به إلى الدعابة والفكاهة، والمهم هو أن حاجات الناس في هذه الدنيا لن تنقضي، لأن حاجة من عاش لا تنقضي كما قال الشاعر القديم. وإذن فسيكون بين الناس دائماً قوم يريدون الأدب على أن يكون وسيلة إلى إرضاء الحاجات وطريقاً في بلوغ المآرب. وسيكون بينهم قوم آخرون يرتفعون بهذه الحاجات عن الأغراض والأعراض التي يبتغي الناس في حياتهم اليومية المادية إلى أغراض أخرى تبتغيها العقول والقلوب والأذواق. ولن يكره هؤلاء للأدب أن يصور بؤس البائس وجوع الجائع وحرمان المحروم، بشرط أن يفرض ذلك عليه فرضاً، ولا يأخذه بذلك قانون أو مرسوم أو مذهب سياسي محتوم.

سيختلف الناس إذن دائماً في معنى الحياة التي ينبغي أن يكون الأدب وسيلة إليها، أهي حياة الجسم أم حياة الروح، أم حياة الجسم والروح معاً؟ وكم أحب للأستاذ مظهر وله خاصة أن يتفكر في هذا في أناة ورويّة، وأن يخلو به إلى نفسه ساعة من نهار أو ساعة من ليل. فقد يتغير رأيه شيئاً، وقد يحتاج إلى أن يحتاط ويستأني فما أعرف أنه من الذين يريدون أن ينزلوا بالأدب إلى حيث يكون وسيلة إلى إرضاء الحاجات المادية للناس في حياتهم هذه التي يحبونها. وإني لأقرأ له بين حين وحين أحاديث تروقني وترضيني، وهي مع ذلك لا تطعم جائعاً، ولا تسقي صادياً، ولا تكسو عارياً، ولكنها تسلي البائس عن بؤسه، والمحروم عن حرمانه، إن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لأنها لا تمس مسائل تغني الروح وحده ولا تعني الجسم من قريب أو من بعيد. تسمو إلى ما بعد الطبيعة، وتنأى عن الطبيعة نفسا نأياً شديداً. ليفكر الأستاذ في هذا كله، فقد يأخذ أمر الأدب على طبيعته كما ينبغي أن يؤخذ. وقد يراه فينا يلتمس الجمال حيثما وجد إليه سبيلاً. يأخذه من بؤس البائس وسعادة السعيد ويأخذه من المادة المظلمة ومن الروح المشرق، ويأخذه من الأرض إن وجده في الأرض، ومن السماء إن وجده في السماء. ويخترعه اختراعاً من أعماق نفسه إن لم يجده هنا أو هناك. لنختلف إذن في الأدب وسيلة هو أم غاية، وإذا كان وسيلة فإلى أي شيء نتوسل به؟ ولكني أريد أن أثير اختلافاً آخر، فما أحب للأدباء أن يطمئنوا ولا أن تستقر نفوسهم في الوسائل والغايات. وإنما أحب لهم أن يختصموا وأن يختصموا دائماً لأني أجد في خصومتهم رضى ومتاعاً وعسى أن يكون في خصومتهم للناس مثل ما أجد فيها من الرضا والمتاع. فما عسى أن تكون صورة هذا الأدب الذي يريده بعضنا على أن يكون وسيلة طيعة، ويريده بعضنا الآخر أن يكون غاية سامية نبيلة. أتكون هذه الصورة شيئاً نأخذه كما نجده؟ ونقول فيه مثل ما قال ذلك التاجر العامي للجاحظ في بعض عروض التجارة: كما يجئ يكون. أو نأخذه كما يقول العامة في هذه الأيام حيثما اتفق. أم تكون شيئاً آخر فنتأبى به ونتلطف له، ولا نخرجه للناس إلا شائقاً رائقاً حسن الوقع في الأذن والقلب والعقل والذوق جميعاً.

هذه هي القضية التي أريد أن أعرف فيها رأي الشباب من أدبائنا لأني أعرف فيها رأي الشيوخ. أريد شبابنا أن يأخذوا الأدب كما يجيء، وأن يقولوا لنا كما يقول بعضهم لبعض، وعما كان يقول ذلك التاجر القديم: كما يجيء يكون. أم يريدون أن يكون الأدب جميلاً في مادته وصورته جميعاً. والجمال لا يأتي عفواً إلا في القليل النادر، وهو يحتاج أكثر الأحيان إلى فنون من الجهد وصنوف من العناء، وإلى كثير من الوقت وكثير من المحاولة والمزاولة والمطاولة. وما أحب أن يظن الشباب من الأدباء أني أثيرهم رغبة في إثارتهم، أو تلهياً بما يكون من أمرهم حيث يثورون، فإني أجد في ذلك شيء من الرضى والمتاع من غير شك. ولكن الرضى والمتع وحدهما ليسا هما اللذان يدفعانني إلى إثارة هذه القضية، وإنما يدفعني إليها ما أراه من ميل الشباب إلى التهاون في التعبير، كما يتهاونون في التفكير أحياناً. تخطر لكثير منهم القضية فيسرع إلى تسجيلها، ثم يسرع إلى إخراجها للناس، لا يحقق معناها ولا يتأنى به حتى يتم نضجه، ولا يتأنق في صورتها، ولا يجدّ في تسويتها حتى تخرج نقية رضيّة تستهوي النفوس، ويحسن موقعها في القلوب.

وأنا أعلم أننا نعيش في عصر السرعة، وأن وقتنا يعدل الأضعاف المضاعفة من وقت القدماء، فيومنا يعدل شهوراً من شهورهم، وشهرنا يعدل أعواما من أعوامهم، وعامنا يعدل من أعوامهم عشرات. أعلم هذا، وأعلم أن حاجاتنا كثيرة، وأنها عاجلة، وأنها تزدحم وتختصم، وتتدافع ويفضل بعضها بعضا، ويناقض بعضها بعضا، في كثير من الأحيان. وهي بذلك تستغرق وقتنا أكثره، ومن جهدنا أعظمه، وتوشك ألا تترك لنا شيئا من الجهد لنستأني بالتفكير أو ثمة شيئا من الجهد لنتأنق في التعبير. وأعلم بعد هذا كله أن كثيراً منا يكتبون أدبهم لينشر في الصحف، وللصحف ضروراتها التي تقتضيها السرعة والدقة والنظام. فالكاتب رهن بكل هذه الضرورات. ولكني مع ذلك، بل على رغم ذلك، أريد للأدب أن يكون عصياً أبياً، لا يكتب لينشر في الصحف، بل ينشر في الصحف لأنه كتب. وأنا أريد أكثر من هذا، أريد ألا يكتب الأدب لينشر في الكتب، وإنما ينشر في الكتب لأنه قد أنتج وأصبح نشره يسيراً.

ومعنى هذا كله أني أريد للأدب أن يكون قبل كل شيء، وعلى رغم كل شيء، مقاومة بأدق ما لهذه الكلمة من معنى. مقاومة للنفس التي قد تكره الجهد وتضيق بالعناء، وتنوء بالمشقات. ولابد للأديب من أن يروضها، ويسوسها حتى تألف الجهد والعناء والمشقة. وترى أنها أيسر ما يجب لإنتاج الأدب الرفيع الذي يستحق وحده أن يسمى أدباً. ومقاومة للحاجات الكثيرة العاجلة المزدحمة. كما لا ينبغي أن يكتب الأدب ليتيح إرضاء حاجاته مهما تكن هذه الحاجات. بل ينبغي أن يكتب لأنه ألح على الأديب واشتد فيه الإلحاح حتى شغله عن حاجاته وألهاه عن منافعه، وأنساه أنه في حاجه إلى الطعام والشراب، وغير الطعام والشراب من حاجاته الملحة. ومقاومة بعد هذا كله لمرض السرعة الذي تفرضه حياتنا الجديدة، فليس الأديب محتاجاً إلى أن يسرع في الإنتاج لأن الدنيا من حوله تجري حتى توشك أن تنقطع أنفاسها. وإنما الأديب محتاج إلى أن يستأني ويستأني وإلى أن يجد ويكد ويحتمل صنوف العناء ليخر أدبه كما ينبغي أن يكون، لا ليجيء أدبه كما يمكن أن يكون. ومقاومة بعد هذا وذاك للضرورات الصحف والمطابع، فلا على الأديب أن تفوته صحيفته إذ لم يتح له أن يمدها بما تنتظره منه، ولا على الأديب أن يغضب أصحاب المطبعة إن أبطأ به الإنتاج عما ضربوا له من موعد. ذلك كله خير له من أن يتعجل فيرضي الصحيفة والمطبعة، فيفسد أدبه وقد يفسد معه ذوق كثير من القراء.

وهنا تنكر الصحف وتثور، فهي لا تستطيع أن تنتظر الأدب حتى يتم نضجه، ويصبح نشره شيئا لا حرج فيه. فمن أراد أن يكتب لها على شرطها فليفعل، ومن أبى إلا أن يكتب لها على شرطها فليفعل، ومن أبى ألا يكتب على شرط الأدب فليلتمس لنفسه مذهباً آخر من مذاهب النشر، وطرقاً أخرى من طرق الكسب. وهذه مشكلة عرضت للأدب منذ كانت الصحف، وكلت نفسها بنفسها فنشأ لها من فن بين ذلك. ليس هو بكلام السوقة الذي لا قيمة له، ولا هو بالأدب الرفيع الذي يكلف صاحبه الكد والجد والعناء، وإنما هو فن وسط يحتل منزلة بين المنزلتين، في أكثره من الأدب روح، وفيه مع ذلك من اليسر والسهولة واللين والمؤاتاة ما يلائم السرعة والانتظام.

والخطر كل الخطر الذي يتورط فيه كثير من الناس، وقد تورط فيها جيلنا الذي نعيش فيه إلا قوماً يحصون، هو أن نكتفي بهذا الفن الوسط، فنراه الأدب كل الأدب. ونقنع به لنرضى حاجة نفوسنا إلى الجمال الرفيع، وحاجة قلوبنا وأذواقنا إلى الغذاء الممتاز. شتان ما بين أدب يكلف صاحبه جد النهار وأرق الليل، قبل أن يظفر منه بما يبتغي وبما يرضى ذوقه أن يقدمه إلى الناس، وكلام آخر يكتب لأن الحاجة والصحيفة والمطبعة اقتضت أن يكتب، ويقدم وينشر في أوقات معينة، وفي موضوعات لعلها لم تكن تخطر للكاتب على بال. ولعل كثيراً منها أن يكون قد فاجأ الكاتب على غير توقع له. ولعل بعضها أن تفرض الكتابة فيه على الكاتب فرضاً. ولست أدري أي كتابنا القدماء ذلك الذي أعجب الناس ببراعته ومهارته، وأراد بعض الأمراء أن يختبر طبعه وقدرته على الاستجابة لدعوة الفن، فطلب إليه أن يكتب لساعته بعض ما تعود من فصوله الجميلة الرائعة، فأقبل على دواته وقرطاسه وانتظر وأطال الانتظار، وجد وكلف نفسه من الجد ما لم تتعود، ولكنه لم يصنع شيئا وسخر الناس منه ولم يكن من حقهم أن يسخروا.

فالأدب لا يستجيب لكل دعوة ولا يطيع كل أمر، وهو لا يجيب الأديب نفسه كلما دعاه، وإنما الأديب هو الذي ينبغي أن يكون على أهبة لإجابة الأدب حين يدعوه، ولأمر ما قال ذلك المعلم القديم من شيوخ المعتزلة لبعض الطلاب: خذ من وقتك ساعة نشاطك وفراغ بالك. وساعة النشاط وفراغ البال هذه لا تأتي حين تريدها الصحيفة أو المطبعة، ولا حين يريدها الأديب نفسه، وإنما تأتي حين تريد هي أن تأتي. والأدب بعد ذلك يستطيع أن يؤاتي الأديب في هذه الساعة كما يستطيع أن يعرض عنه إعراضاً. وبين الأدب والأديب فنون من الخصام والعناد يعرفها الأدباء المطبوعون. فما أكثر ما يشعر الأديب بالحاجة إلى الكتابة، وبالميل إليها، والرغبة الشديدة فيها، فيتهيأ لها ويدعوها بما ألف من وسائل الدعاء، ولكنها لا تحفل به ولا تستجيب له، فيشغل نفسه بما شاء له من ألوان العمل. وما أكثر ما يكون الأديب ماضياً فيما يمضي الناس فيه من أمور الحياة، لا يفكر في نثر ولا في شعر ولا في شيء يشبه الشعر أو النثر من قريب أو بعيد. ولكن داعي الكتابة يدعوه ويلحّ عليه ثم يملك عليه نفسه، وإذا هو ينصرف عما كان ماضياً فيه إلى الكتابة والإنشاء. وربما كان من أخص خصائص الأدب أنه هكذا عصيّ أبيّ متمنع متشدد في التمنع حين يراد على نفسه، ثم هو بعد ذلك رضي سمح طيع، حين لا يدعوه داع ولا يفكر فيه مفكر.

والأدباء يعرفون هذا كما يعرفون أنفسهم. ولهم في سياسة الأدب ورئاسته وتذليله وتجليله فنون ومذاهب يمكن أن يطول فيها القول الذي لا يخلو من طرافة ولا يتعرض لسئامة أو إملال.

وإذن فكيف ينبغي أن يكون هذا الأدب العصي الأبيّ حين يخرج للناس، ليهدي إليهم الراحة والروح، ويرفعهم إلى حيث يستمتعون بالجمال الصفو الذي تأنس إليه وتنعم به كرام النفوس. يجب أن يكون جميلاً ما في ذلك شك. وما رأيك في شيء نقرأه فيشعرك بالجمال الذي لا يلبث أن يملأ نفسك وقلبك، وأن يأخذ عليك حياتك من جميع أقطارها، مع أنه قد يريد إلى أن يصور لك القبح القبيح، وأقرأ شعر بودلير فسترى في ذلك الأعاجيب. وقد ذكرت بودلير وفي ذهني آخرون من معاصريه، أو الذين جاءوا بعده من الفرنسيين والانجليز. ذكرت هؤلاء متعمداً، ولم أرد أن أذكر القدماء من شعرائنا، فقد ينبو كثير من شبابنا، عن هؤلاء القدماء لأسباب منها ما يقال، ومنها ما لا يقال. يجب إذن أن يكون الأدب جميلاً، ولكن أين يكون جماله: أيكون في معاينه؟ أم يكون في ألفاظه؟ أم يكون في نظامه وأسلوبه؟ أم يكون في هذا كله أجمع؟.

في هذا يختلف النقاد اختلافاً شديداً منذ أقدم العصور التي فكر فيها الناس في الأدب وتحدثوا عنه، فقد كره كثير من قدمائنا شعر أبي تمام لأنه احتفل لمعانيه، وأكره الألفاظ على أن تذعن لهذه المعاني، وذهب في جمال الألفاظ والمعاني مذهباً لم يألفه الشعراء الأقدمون، فقالوا أنه أسرف في الاستعارة والمجاز، ودفع إلى كثير من الأغراض، وأتى الناس بما لم يألفوا، وانحرف عن السنة الموروثة، وعنف باللغة حتى كلفها شططاً. وقوم آخرون أحبوا أبا تمام لهذه الخصال نفسها. ورأوا أنه قد مال به عن الطرق المطروقة والمذاهب المألوفة، وأطرفهم بأشياء جديدة شغلتهم عما كان القدماء يبدؤون فيه ويعيدون، ولم يتجه إلى آذانهم وحدها، ولا إلى قلوبهم وأذواقهم وحدها، وإنما اتجه إليها وإلى العقول فاضطرها إلى أن تعنى بالشعر، وأن تقف عنده فتطيل الوقوف، وأن تستخرج مكنونه وتنعم بنتيجه ما تكلفت من جهد وما احتملت من عناء، وتشعر كلما فهمت بيتاً أو ذاقت قصيدة أنها قد استخرجت كنزاً من أعماق الأرض، أو لؤلؤاً من أغوار البحر. ولم تصل إلى استخراجه إلا بعد المشقة الشاقة والعسر العسير. وقوم ضاقوا بمسلم ابن الوليد لأنه احتفل بالألفاظ أكثر من احتفاله بالمعاني، وجعل يتكلف بينها نعوتاً من الموسيقى التي تأتي من المطابقة والجناس وما إليهما من هذه المحسنات المختلفة التي تزين اللفظ في الأذن وتخضع المعنى لهذه الزينة. فتجعله تابعاً ومن حقه أن يكون متبوعاً. وآخرون ألفوا بمسلم لهذه الصفات نفسها، فهم قد ألفوا الاستمتاع بالموسيقى، وأحبوا أن يجدوا هذه الموسيقى في كل ما يرون ويسمعون.

وليس المحدثون من الأوربيين أقل اختلافاً في ذلك من القدماء، فمنهم من يؤثر جمال اللفظ والمعنى، على أن يكون هذا الجمال قريباً داني القطوف. لاتجد العقول والأذواق والقلوب جهداً ولا مشقة في فهمه وذوقه والاستمتاع به. ومنهم من ينأون عن هذا كله وينهون عنه ويضيقون بالحياة كما يحياها الناس وبكل هذه الأشياء التي ألفها الناس مصبحيين وممسيين، ويلتمسون الجمال الأدبي في حياة يبتكرونها هم، ويخترعونها اختراعاً، وهم يأتون في ذلك الأعاجيب التي أقرأها أنا ويقرأها كثير غيري فلا نفهم منها شيئاً ولا نذوق منها شيئا، وربما دفعتنا إلى الإغراق في الضحك المتصل.

والذين درسوا الآداب الأجنبية يعرفون من هذا الاختلاف شيئاً كثيراً، ولعل منهم من حاول أن يصنع في أدبنا العربي مثلما صنع بعد المحدثين من الأوربيين في آدابهم. وقد حدثت في أعقاب الحرب الأخيرة بأن فتى رومانيا أقبل ذات يوم إلى باريس، وله مذهب في الفن الأدبي طريف، أراد أن يقنع به شيوخ الأدب، فلم يجد عنهم شيئاً، وحاول أن يفتن به الشباب فاستجاب له بعضهم وقتاً قصيراً ثم انصرفوا عنه، ولم يعودوا إليه. ولست أدري إلى ما صار أمر هذا الفتى، وأكبر الظن أنه عاد إلى حظيرة الأدباء المألوفة أو التمس وجها آخر من وجوه الحياة. وكان مذهبه يسيراً جداً ولكنه سخيف جداً. فهو قد ضاق بالحياة التي يحياها الناس، وضاق بالأدب الذي يألفونه، وباللغات التي يتكلمونها، وأراد أن يحدث الموسيقى الأدبية بالملاءمة بين الألفاظ التي تأتلف منها اللغات، بل بين الحروف التي تتكون منها الألفاظ، وتستطيع أنت أن تتصور هذا النوع من الهوس، وأن تقطع بأنه قد انتهى إلى ما لم يكن بدا من أن ينتهي إليه.

الأدباء إذن يختلفون منذ أقدم العصور في جمال الأدب أين يكون، أيكون في ألفاظه؟ أم يكون في معانيه؟ أم يكون في الألفاظ والمعاني جميعا؟. وقد رأيت بعض الشعراء المعاصرين من الفرنسيين من كان يقول ويكتب في غير كتاب من كتبه أن بين الشعر والنثر فرقاً خطيراً. فالنثر يقتل بمجرد أن يفهم، فأنت لا تكاد تقرأ نثراً في كتاب أو مقالة فتفهمه إلا قتلته، وأسلمت روحه واستأثرت بها، وأصبح الكتاب أو المقالة شيئاً هامداً لا حياة فيه بالقياس إليك. فهو كدم أبي نواس حيث يقول:

مازلت أستل روح الدم في لطف   وأستقي دمه من جوف مجروح
حتى انثنيت ولي روحان في جسدي   والدم منطرح جسماً بلا روح

فأما الشعر فله شأن آخر لأن جماله لا يأتي من فهم معانيه، فلا سبيل إلى قتله، ولا إلى استلال روحه، وإنما يأتي جماله من ألفاظه وصوره، وهذه الأخيلة التي تثيرها ألفاظه وصوره في نفسك، والتي لا سبيل إلى أن تستل منه أو تفصل عنه. كما أنه لا سبيل إلى أن تجرد الشعر من ألفاظه أو تنتزع منه صوره انتزاعاً. فالشعر باق لأنه أقوى وأشد امتناعاً من أن يفهم، وهو من أجل ذلك أقوى وأشد امتناعاً من أن يدركه الفناء. كذلك كان يقول بول فاليري، وكذلك كان يكتب في كثير من كتبه ورسائله.

وأظن هذا كله يكفي لبيان ما أردت تبيينه من اختلاف الأدباء في جميع العصور حول الجمال الأدبي أين يكون؟ ومن أين يأتي؟ ولكنهم متفقون على أن الأدب لا يكون إلا جميلاً لأن طبيعته تقتضي ذلك. وهو لم يوجد إلا للسمو بالنفس إلى حيث تشهد المشاهد الرفيعة من الجمال، شأنه في ذلك شأن غيره من الفنون الجميلة. فأنت لا تدري من أين يأتي جمال الصورة التي تعجبك وتروقك؟ من اللون أم يأتي من شيء آخر وراء اللون؟ وما عسى أن يكون هذا الشيء. وأنت تعلم حق العلم أنك قد ترى شخصاً من الأشخاص، فلا يروقك ولا يشوقك ولا يقع من نفسك موقعاً ذا بال، ولكنك ترى لهذا الشخص نفسه صوره قد أتقن المصور تصويرها، فتقف عندها وتطيل الوقوف، ولا تكره أن تعود إليها لتراها حيناً بعد حين. وأنت لا تدري ما مصدر الجمال الذي يروقك ويبهرك حين ترى تمثالاً رائعاً. أهو مادة التمثال: هيهات! إنك ترى هذه المادة على أصلها فلا تثير في نفسك شيئاً. هو موضوع التمثال: هيهات! إن أمر موضوع التمثال كأمر موضوع الصورة، وما أكثر ما يصور المصورون ويمثل المثالون معاني لا ترى وقيماً تحسها النفوس والعقول. وأنت حين تسمع لحناً رائعاً فيسحرك ويخطف نفسك فيسمو بها إلى حيث لم تكن تقدر أن تبلغ، لا تستطيع أن تحدد هذا الجمال ولا أن تعرف معرفة دقيقة من أين أتى.

فخذ الأدب إذن كما تأخذ الموسيقى والنحت والتصوير. خذه على أنه متعة لروحك، وغذاء لقلبك، وعند ذلك وليكن جمال الأدب حيث يمكن أن يكون، ليكن في الألفاظ، أو في المعاني، أو في النظم والأسلوب، أو في هذا كله. والأدب آخر الأمر فن من الموسيقى يأتلف من هذه الأشياء كلها، من الألفاظ والمعاني والأساليب، وما يعرض من صور وما يثير من عواطف، وما يبعث من شعور. فليكن جماله شيئاً شائعاً، لا يستطيع أحد أن يقول أنه ينحصر في اللفظ أو في المعنى أو في الأسلوب. وإنما الشيئ الذي ليس فيه شك هو أن الكلام لا يكون أدباً حتى يوجد فيه هذا الجمال الذي تجده فيما تنتجه الفنون الجميلة الأخرى. وليكن في الأرض أو في الجو أو في نفس الإنسان وأعماق الضمير. وليكن موضوعه جميلاً أو قبيحاً، أو بغيضاً. فليس يعنيني من الأدب ألا أن يحدث في نفسي ما يحدثه الأثر الفني من هذا الشعور الرفيع بالجمال. فأين نحن من هذا كله حين نستحضر الأدب وحين نفكر فيه أو نتحدث عنه. أترانا نستحضر كل هذه المعاني؟ أم ترانا لا نستحضر إلا حاجاتنا ومآربنا، والوسائل التي تبلغنا هذه الحاجات وهذه المآرب؟. وكذلك نعود إلى حيث ابتدأت، مع أنني لم أفكر قط في أن أعود إلى حيث ابتدأت، ولا في أن أتحدث عن الأدب، أوسيلة هو أم غاية؟ وإنما أردت أن أتحدث عن صورة الأدب، وقد استبان لك، كما استبان لي، أن من أعسر العسر أن تفصل بين صورة الأدب ومادته. فالأدب يوشك ألا يخضع لهذا النوع من التحليل الذي يعمد إليه العلماء، وأصحاب الكيمياء منهم خاصة. فإذا عمد النقاد إلى تحليله فهم يقارنون ولا يحققون. وآية ذلك أنهم لا يتفقون، ولا سبيل إلى أن يتفقوا على حقائق مقررة للنقد كتلك الحقائق المقاربة في الطبيعة والكيمياء وغيرها من العلوم. ومن هذه الحقائق المقاربة التي يتحدث فيها النقاد فيكثرون فيها الحديث، هو أن اللغة هي صورة الأدب، وأن المعاني هي مادته. وهذا كلام مقارب لا تحقيق فيه. فكثير من النقاد القدماء خاصة تصوروا أن المعاني تشبه الأجسام وأن الألفاظ تشبه الثياب، وأن المعنى الجميل كالجسم الجميل: أن يختار له الزي اللائق الذي يظهر فيه، وهذا كلام إن حاولنا تحقيقه لم نجد وراءه شيئاً. فنحن نعرف الأجسام قبل أن نلبس الثياب، ونعرف الثياب قبل أن تسبغ على الأجسام. وتستطيع أن تحقق الفصل بينهما. ولكننا لا نعرف المعاني المجردة التي لم تتخذ ثيابها من الألفاظ. ولا نعرف الألفاظ الفارغة التي تنتظر المعاني لتلبسها وإنما نعرف الألفاظ والمعاني ممتزجة متحدة لا تستطيع أن تنفصل ولا أن تفترق. وما أعلم أننا نتبادل المعاني مجردة دون ما يدل عليها من لفظ أو صورة أو رمز. وما أعلم أننا نستطيع أن نتبادل الألفاظ الجوف التي لا تدل على شيء فليس ذلك من شأن العقلاء، وإنما هو شيء قد يعرض للمحمومين والمجانين.

وإذن نصور الأدب ومادته شيئان لا يفترقان، أو هما شيء واحد إن شئت، وأضف إليهما عنصراً ثالثاً إن صح أن يستعمل العدد في مثل هذا الوضع، وهذا العنصر يلزمهما لزوماً لافكاك منه، وهو عنصر الجمال. فالناس يتحدثون بالألفاظ التي تدل على المعاني، وهم يتبادلون ما يدور في رؤوسهم من الخواطر، ويحققون بهذه الألفاظ ذوات المعاني ما يحتاجون إليه من الأغراض والآداب، ولكنهم في أحاديثهم وفي قضاء أغراضهم وأرائهم لاينشئون أدباً إلا أن يتعمدوا ذلك، ويستأنوا به ويقصدوا إليه حين يكتب أحدهم إلى صاحبه رسالة يضع فيها خلاصة نفسه. وفي هذه الصورة الجميلة الرائعة التي نسميها أدباً. وحين يكتب أحدهم لخاصة الناس أو عامتهم رسالة، يتهيأ لها ويتأنق فيها، ويريد أن تبلغ قلوبهم وأن تثير فيها ما يريد أن يثير من العواطف والشعور.

وقل مثل ذلك في التحدث إلى الأفراد والجماعات، وفي الأسفار التي تكتب ويراد ببعضها إلى الفن الرفيع وببعضها الآخر إلى أداء ما يمكن أن يحتاج الناس إلى أدائه من المعاني. حيثما وجد الجمال في الكلام كان الأدب. وحيثما خلا الكلام من هذا الجمال كان ما شئت أن يكون.

كذلك فكر الأدباء منذ أقدم العصور، وما أرى إلا أنهم سيفكرون على هذا النحو ما أتيحت لهم الحضارة، وما أرى أننا نستطيع أن نتصور أمة بادية أو حاضرة تعيش وتتخذ الكلام لغة دون أن يكون لها من هذا الكلام أدب على هذا النحو: دون أن يكون لها من هذا الكلام صور تحمل الجمال إلى القلوب والأذواق والعقول.
وما أدري أيفهم أدباء الشباب هنا الأدب على هذا النحو، أم لهم فيه مذهب آخر. فإن تكن الأولى فعند الصباح يحمد القوم السري كما يقول المثل القديم، وإن تكن الثانية فما أشد حاجتي إلى أن أقرأ لهم، وأفهم عنهم، وما أشك في أني سأنتفع وسأستمتع بما يكتبون.

(الجمهورية عدد 5 فبراير 1954).

*  *  *

الأدب بين الصياغة والمضمون

ردّ على مقال «صورة الأدب» لطه حسين

عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم

ضية أثارها عميد الأدب، ما كان لنا أن نحجم عن تحديد موقفنا منها، وهي قضية حمل أعباءها عميد الأدب وحواريوه من أدبائنا القدامى طوال ربع قرن من تاريخنا القومي الحديث. والقضية هي: طبيعة العلاقة بين صورة الأدب ومادته أو بين صياغته ومضمونه. ونحب أن نقرر أولاً أن ما تتهم به حركتنا النقدية من تغليب للجانب الاجتماعي، إنما يرجع إلى ما أشاعه هؤلاء الأدباء القدامى من فهم قاصر لهذه العلاقة بين صورة الأدب ومادته، وإلى ما يتميز به أدبهم من جمود وانفصال عن حركة الحياة، وإلى ما رسبوه في وجداننا القومي من قواعد نقدية فجة لا تفضي بالإبداع الفني إلا إلى أزقة مقفلة. ولهذا، فعندما نتقدم لتحديد موقفنا من هذه القضية، فإنما نحدد موقفنا كذلك من المدرسة القديمة، سواء في النقد أو الإبداع.

هكذا عرض عميد الأدب للقضية، وهكذا اهتدى إلى حل لها: "أن اللغة هي صورة الأدب، وأن المعاني هي مادته وأن صورة الأدب ومادته شيئان لا يفترقان، أو هما شيئ واحد، إن شئت، وأضف إليهما عنصراً ثالثاً، إن صح أن يستعمل العدد في مثل هذا الموضع، هذا العنصر يلزمهما لزوماً لا فكاك منه وهو عنصر الجمال".

ومن هذه المقومات الثلاثة: اللغة والمعاني والجمال الذي "لا فكاك منه" يتضح الموقف النقدي للمدرسة القديمة.

إلا أننا نرى أن قصر الصورة على اللغة، وقصر المادة على المعاني لا يكشف عن إدراك سليم لحقيقة الظاهرة الأدبية، ذلك أن اللغة أداة من أدوات الصورة، فإن قصرنا الصورة على اللغة، قد تحدثنا لا عن الصورة بل عن الأسلوب، إن "الأسلوب الشائق الرائق الذي يحسن موقعه عند سامعه" ليس صورة للأدب ولا صياغة له، بل هو مظهر خارجي، أو أداة من أدوات الصورة، وكذلك شأن المعاني، فليست مادة للأدب بل احدى أدواته كذلك. فلو قدمت لنا جملة جميلة رائعة شائقة تحفل بمعنى "لم يسبقه إليه أحد" لما كان في هذا وحده دافع إلى أن نعدها من الأدب، فالمعاني كالألفاظ سواء بسواء، وسائل وأدوات لما هو أجل وأعظم.
ولو راجعنا تاريخ النقد العربي القديم، لوجدنا أنه لا يخرج في مجمله عن البحث الجاد عن اللفظة الرائقة للمعنى الفريد. ولو تأملنا ما يقوله عميد الأدب اليوم في قلب القرن العشرين، وبعد أجيال من التطور الثقافي والتجارب النقدية التي لا حصر لها، لما وجدناه يخرج عن ترديد هذا الموقف النقدي القديم، المسرف في القدم. والحق أن أزمة التعبير الأدبي في مصر تقوم ـ إلى حد كبير ـ على هذا الاحتفال البالغ بالأسلوب، وهذا الوقوف الجامد عند حدود المعاني المنفردة المتناثرة، نجد هذا في الحكم النقدي، وفي التعبير الأدبي، نثره وشعره على السواء. وكما كان نقاد العرب القدامى يعدون بيتاً من الشعر أبلغ ما قالته العرب، وبيتاً آخر أهجى ما قالته العرب، وبيتاً ثالثا أمدح ما قالته العرب، وإلى غير ذلك من أفعال التفضيل، لايزال نقادنا وأدباؤنا من المدرسة القديمة يحتفلون كذلك بهذا المعنى الواحد، أو البيت المنفرد لما فيه من أسلوب رائق ومعنى شائق. فالعقاد مثلا يترنم بهذا البيت:

وتلفتت عيني فمذ خفيت   عني الطلول تلفت القلب

فلا نلبث أن نقرر أنه يساوي عنده ألف قصيدة، لماذا؟ لان العقاد، مثله في ذلك مثل بقية أدبائنا القدامى، لا يبصر بالظاهرة الأدبية الوحدة العضوية المتكاملة للعمل الأدبي، وإنما في البيت، في المعنى في النادرة اللطيفة، في العبارة المنفردة.

هذا هو جوهر أزمتنا التعبيرية في أدبنا المصري الحديث، وهذا هو مصدر ما يعانيه نقدنا الأدبي من جمود وقصور وعجز. من أجل هذا نكتب، لنحدد طبيعة الظاهرة الأدبية، وطبيعة العلاقة بين صورة الأدب ومادته.

إن الأدب صورة ومادة ما في هذا شك. ولكن صورة الأدب كما نراها، ليست هي الأسلوب الجامد، وليست هي اللغة، بل هي عملية داخلية في قلب العمل الأدبي لتشكيل مادته وإبراز مقوماته، ونحن لا نصف الصورة بأنها عملية، مشيرين بذلك إلى الجهد الذي يبذله الأديب في تصوير المادة وتشكيلها، بل لما تتصف به الصورة نفسها في داخل العمل الأدبي نفسه، فهي حركة متصلة في قلب العمل الأدبي، نتبصر بها في دوائره ومحاوره ومنعطفاته، وننتقل بها داخل العمل الأدبي من مستوى تعبيري إلى مستوى تعبيري آخر حتى يتكامل لدينا البناء الأدبي كائناً عضوياً حياً، وبهذا الفهم الوظيفي للصورة تتكشف أمامنا ما بينها وبين المادة من تداخل وتفاعل ضروريين فمادة العمل الأدبي ليست بدورها معاني ـ كما يقول عميد الأدب والمدرسة القديمة ـ بل هي أحداث، لا من حيث أنها أحداث وقعت بالفعل، ويشير العمل الأدبي إلى وقوعها، بل هي أحداث تقع وتتحقق داخل العمل الأدبي نفسه، ويشارك التذوق الأدبي في وقوعها وتحققها، وهي بدورها عمليات متشابكة متفاعلة يفضي بعضها إلى بعض إفضاء حياً، لا تعسف فيه ولا افتعال. والصورة ـ في الحقيقة ـ هي جماع هذه العمليات المفضية، هي هذه الحركة النامية المتجهة ـ في داخل العمل الأدبي ـ بين أحداثه لابرازها وربطها بالعناصر الأخرى التي يتكامل بها البناء الأدبي. وعلى هذا فالمعاني وحدها قيم متحجرة لا تصلح مادة للعمل، بل هي وسيلة من وسائله المختلفة لتحقيق أحداثه وخلق ارتباطاته المتكاملة.

ولنضرب على ذلك أمثلة من القصة والشعر. أما القصة فلجيمس جويس القصاص الايرلندي، وهي قصة "يوليسز" التي تصور فيما يقرب من ثمانمائة صفحة، يوماً واحداً من حياة رجل في دبلن. ومضمون الرواية أو مادتها، هي الانهيار والتناقض والتفسخ والانحلال التي تتميز بها الحضارة الحديثة، وأبطال الرواية عناصر مريضة مهزومة يحركها الانحراف والشذوذ، وتجمعها الفجيعة الحضارية الواحدة. ولقد استعان جويس على إبراز هذه المادة بعدة وسائل صياغة، منها المونولوج الداخلي والتداعي الحر للمعاني وتداخل الأخيلة وعكس اتجاه الزمن، وبهذه الوسائل تمكن جويس أن يصور بحق الانهيار والتفسخ، وأن يكشف عن عمق أعماق شخصياته المنحرفة، ولو اختار جويس صورة أدبية أخرى لمضمون روايته لما تمكن من إبرازه على هذا الوجه الفريد. وفي هذا العمل الأدبي نجد الصورة الأدبية، بوسائلها الصياغيّة المختلفة، تعمل علي تنمية أبطال الرواية والكشف عن باطنهم وما يتضمنه من انحراف، وإبراز المضمون المريض إبرازاً فائقاً، ولقد وقف جويس عند حدود إبراز الجانب المنهار من الحضارة الحديثة دون أن يكشف الجوانب الأخرى المترقية النامية في هذه الحضارة، ولهذا وقفت به الصورة الأدبيّة عند هذا المضمون الخاص.

ولو قارنا بين هذه الرواية ورواية "العاصفة" لايليا اهرنبرخ لوجدنا فارقاً ضخماً في المضمون وفارقاً ضخماً في الصياغة كذلك. فرواية اهرنبرخ لا تصور واقعاً مريضاً متحللاً، بل معركة... تتابع عملياتها المتطورة من الكفاح المرير للقضاء على الأخطبوط النازي في أوروبا، وما يواجه هذه العمليات من عقبات وصعاب، وفي خلال هذه العمليات تنمو الحياة في أشخاص الرواية نمواً طبيعياً، وتتآزر علاقاتها تآزراً سليماً يتفق مع الحركة المتجهة لأحداث الرواية. ولقد استعان اهرنبرغ على إبراز هذه الحركة، في أبطاله ووقائعه، بقطاعات سريعة من المشاهد لتي تتناثر في جبهة عريضة تمتد بين باريس وبرلين وكييف، ولكنها تتكامل جميعاً في وحدة نامية هي وحدة المعركة، ولو استعان اهرنبرغ بالصورة الأدبية لرواية جويس لتحولت أحداثه الروائية من حركة نامية صاعدة إلى حركة ناكصة داخل أبطاله، ولجمدت الحركة وثقلت ومات الاتجاه. وتذكرنا رواية جويس بشعر ت. س. إليوت، فإليوت سواء بسواء كجويس، يحمل على الحضارة الصناعية الحديثة ويتهمها بأنها أرض خراب لا خصوبة فيها، وبأن إنسانها كائن أجوف ملء بالفراغ والقش والتفاهة. وشعر إليوت دعوة ملحة لرفض هذه الحضارة وللعودة إلى سلطان الكنيسة كخلاص للإنسان من أزمته الراهنة، وشعر إليوت في معظمه لا يخرج عن هذا المضمون العام، ولقد تمكن من إبرازه والكشف عنه وصياغته في صورة أدبية فريدة كذلك، مستعيناً ببعض ما استعان به جويس من مونولوج داخلي، وتداع حر للمعاني، وفواصل شعورية مفاجئة وانطباعات سريعة، وبهذه الصورة الأدبية الخاصة وقف إليوت، عند الكشف عما يجتاح الضمير الإنساني الحديث من أزمات وتناقضات واستسلام، دون أن يكشف عن الجانب الآخر من هذا الضمير وما يتفاعل فيه من جهود صادقة للكفاح والتحرر والبناء.

ولو قارنا بين إليوت وشاعر آخر هو ماياكوفسكي لوجدنا كذلك فارقاً ضخماً في المضمون والصياغة، فماياكوفسكي فنان صائغ للشعر كذلك، ولكنه يمجد الحضارة الصناعية الحديثة، ويستبصر بالحركة الصاعدة للتاريخ ويصوغ كل هذا شعراً حياً دافقاً يعلي إرادة الإنسان، ويصور جهوده المظفرة من أجل البناء والحرية والحياة الفاضلة الصحيحة. وهو يستعين في صياغة هذا المضمون بوسائل تنبض بالحركة والحرارة والحياة. فالكلمة المفردة والمقطعات السريعة، والتداخل بين العمليات النامية تشارك جميعاً في إبراز هذا المضمون الشعري الجليل. ولو اتخذ ماياكوفسكي منهج إليوت الشعري سبيلاً له، لأراق دماء شعره، وأسكت نبضاته، ولا نطوي مضمونه مريضاً عاجزاً.

وفي أدبنا المصري الحديث نجد أولاً أن الصياغة الفنية تكاد تكون ظاهرة نادرة في الشعر، فالشعر لايزال أبياتاً منفردة متناثرة لا تربطها وحدة فنية وإن ربطتها وحدة في الموضوع. فهذا الشاعر الفحل ـ أمير الشعراء أحمد شوقي مثلاً ـ يؤلف القصيدة من ثلاثمائة بيت في الحرب أو في التغني بآثار مصر القديمة مثلاً، فلا يعالج الموضوع معالجة أدبية بحيث يكون له مضمونه المصوغ أو مادته المصورة، بل هي أبيات متناثرة لمعانٍ لا رابط بينها غير وحدة القافية أو وحدة الوزن أو حدة الموضوع من قريب أو بعيد، فهي أبيات منظومة كحبات العقد، يؤلف بينها خيط رهيف من قافية أو بحر أو موضوع عام. أما وحدة العمل، أما الترابط والتآزر بين عمليات الصياغة وعمليات المضمون، أما وحدة الصورة والمضمون، فظاهرة تكاد تكون معدومة ـ كما ذكرنا ـ حتى اليوم في شعرنا المصري الحديث.

وفي القصة المصرية الحديثة ـ القصيرة والطويلة على السواء ـ تقدم واضح نحو البناء الفني، نجد ذلك عند محمود تيمور ونجيب محفوظ بوجه خاص. وكذلك الشأن في الأدب المسرحي عند توفيق الحكيم. أما الجانب الأكبر من القصص الأخرى لأدبائنا القدامى، فأقرب إلى السرد أو الغناء النثري منها إلى البناء الفني المتكامل، الذي يتآلف من عمليات صياغيّة متآزرة. والشعر والقصة في مصر، لا يزالان بوجه عام يتعثران في مضمون اجتماعي محدود، يقفان عند الفئة المتوسطة من واقعنا الاجتماعي العام، يصوران مشاكلها وحياتها وآمالها تصويراً جامداً راكداً ينقصه الاستبصار بجميع ما يتفاعل به واقعنا المصري جميعاً من حركة وتطور ونمو... وهكذا يتضح موقفنا من العمل الأدبي، وصورته ومادته، إنه ليس لغة ومعاني، بل هو تركيب عضوي يتآلف من عمليات بنائية تتكامل فيها الصورة والمادة تكاملاً عضوياً حياً.

أما العنصر الثالث الذي يسميه عميد الأدب بالجمال، فإننا نعده مفهوماً غامضاً، لا يصلح للكشف عن مقومات العمل الأدبي، وحاجتنا إلى التبصر بهذه العملية المتآزرة التي يتألف منها العمل الأدبي، أشد من حاجتنا إلى الوقوف عند هذا المفهوم الغامض المطلق الذي لا تفضي دلالته إلى وظيفة واضحة. وإن جاز لنا أن نقول، أن تحقق الاتساق والتآزر بين الصورة والمادة، وتكامل العمل الأدبي، هو ما يمكن أن يسمى بالجمال الأدبي. على أن المهم لدينا هو أن ندرك ونتأمل ونتبصر بالعمليات المتفاعلة النامية، لا أن نقف عند حدود الكلمات المطلقة.

ونحب أن نستخلص مما سبق أن ذكرناه الأمور الآتية:

أولاً ـ أن مضمون الأدب في جوهره أحداث تعكس مواقف ووقائع اجتماعية.
ثانياً ـ أن الصورة الأدبية أو الصياغة، عملية لتشكيل هذا المضمون وإبراز عناصره وتنمية مقوماته.
ثالثاً ـ إن تحديد الدلالة الاجتماعية للمضمون الأدبي لا يتعارض مع توكيد قيمة الصورة أو الصياغة الأدبيّة، بل قد يساعد على الكشف عن كثير من الأسرار الصياغيّة.
رابعاً ـ أن النقد الأدبي ـ على هذه الأسس السابقة ـ ليس دراسة لعملية الصياغة في صورتها الجامدة، فحسب، بل هو استيعاب لجميع مقومات العمل الأدبي وما يتفاعل فيه من علاقات وأحداث وعمليات. وبهذا، يصبح الكشف عن المضمون الاجتماعي ومتابعة العملية الصياغيّة للعمل الأدبي، مهمة واحدة متكاملة.
خامساً ـ ومن هذا، نقرر كذلك أن العلاقة بين الصورة والمادة أو بين الصياغة والمضمون لا تكون علاقة متآزرة متسقة إلا في الأعمال الأدبية الناجحة، أما العمل الأدبي الفاشل فهو ذلك العمل الذي يقوم بين صياغته ومضمونه تخلخل وتنافر وعدم اتساق. وعلى هذا، فإن المدارس الفنية التي تهتم بالشكل قبل المضمون، كالتكعيبية مثلاً، أو بالمضمون قبل الشكل كالسورياليّة والمستقبليّة مثلا، مدارس فنية غير مكتملة.

هذه هي الأسس العامة التي تقوم عليها حركتنا النقدية والإبداعية على السواء، وبهذه الأسس نعد أنفسنا على خلاف بيّن مع أصحاب المدرسة القديمة.

إننا نؤمن أن الأدب بناء متراكب ينمو نمواً داخلياً ويصوغ واقعاً اجتماعياً صياغة متسقة. إننا لا نقف من التعبير الأدبي موقفاً جامداً، يخلي العمل الأدبي من صورته على حساب مادته أو العكس، بل إننا نؤكد ما بين الصورة والمادة من تفاعل وتداخل وتشابك، بدونه لا يقوم العمل الأدبي، ولا تتحقق له وحدة. ولكننا لا نستطيع أبداً أن نحصر الصورة في حدود اللغة، ونضيق المضمون في نطاق المعاني، كما يفعل عميد الأدب وتشايعه في ذلك مدرسته النقدية والإبداعية، لأننا نعدّ الإبداع الأدبي مرحلة تتجاوز طلاوة الأسلوب وتفوق لطافة المعنى، ولأننا نعدّ العمل الأدبي بناء تتكامل صورته ومادته بعملية باطنة فيه... هي كماله وحقيقته.

هذا هو موقفنا من الأدب... صورته ومادته، وهذه هي مقومات حركتنا النقدية.

من كتاب "في الثقافة المصرية"، محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، (الطبعة الأولى 1955، بيروت).

*  *  *

على هامش رؤية طه حسين التاريخية


محمود أمين العالم (مدريد)


ذهبنا للقاء طه حسين في بيته، في الأعوام الأولى التي تلت الحرب العالمية الثانية، لعله كان عام 1946 أو 1947. كنا ثلاثة أصدقاء: مصطفى سويف، ويوسف الشاروني، والمتشرف بالحديث إليكم. كنا في مطلع حياتنا الثقافية، يشغلنا الأدب والعلم كما تشغلنا السياسة فكراً وممارسة. على أننا ذهبنا إلى لقاء طه حسين عميداً للأدب لا أكثر، نعرض عليه بعض همومنا واجتهاداتنا الأدبية والعلمية. يستقبلنا طه حسين في حدب ومودة، وينصت إلينا في اهتمام وعمق، ثم يعلق ـ مصححاً أو مطوراً ـ بعض ما كنا نجتهد فيه من كتابات وتصورات. على أنه يلمح في ثنايا حديثنا أننا من أهل اليسار ـ فلا يلبث أن يدفع بالحديث دفعاً من قضايا الأدب إلى تلك السحابة السوداء من التعصب الديني، التي كادت أن تغطي على سماء مصر آنذاك. ويأخذنا هذا الحديث بعيداً في تفاصيله الفكرية والعلمية. وعندما يقوم المعلم في النهاية لودعنا، يتوقف قليلاً ليقول لنا فيما يشبه النقد أو التوجيه ما معناه: أحسب أنكم مصيبون في تحليلكم للواقع السياسي والاجتماعي القائم، وفي حرصكم على مواجهته وتغييره، ولكنكم فيما أظن لا تعرفون ولا تتقنون فن العمل الثوري. ما أحوجكم إلى دراسة التكتيك والاستراتيجيه. وهكذا.. ذهبنا إلى العميد نستأنس برأيه في اجتهاداتنا الأدبية والعلمية، فإذا به يلقننا درساً في فقه الثورة.

ما قصدت بهذا أن أحكي حكاية لقاء مع طه حسين، وإنما حرصت أن أقدم ـ منذ البداية ـ واقعة محددة أرى أنها قد توضح معالم رؤية طه حسين التاريخيّة. ولقد سبق أن أشرت إلى حكاية هذا اللقاء نفسه، في مطلع مقال قديم لي بعنوان "طه حسين مفكراً"، كانت خلاصته، بعد تحليل بعض دراسات طه حسين الأدبيّة والتاريخيّة وكتاباته الإبداعية، أن طه حسين مفكر عملي أساساً، وليس مفكراً نظرياً تجريدياً. وأشرت في هذا المقال إلى جملة صغيرة وقعت في أذنه ـ أول النوم وآخر اليقظة ـ وهو شاب صغير، يذكرها في الجزء الثاني من "الأيام"، لقد سمع من يقول معرِّفاً الحق: بأن الحق هو "هدم الهدم". وعقّبتُ على ذلك قائلاً: "إن هذه الجملة الغريبة في أيامه الأولى، تكاد أن تصبح خلاصة حياته كلها في مقبل أيامه. فقد أصبح العقل في حياته عملاً، وأصبح التفكير توجيهاً، وأصبح العقل فعلاً تنويرياً تغيرياً".

ورحت أتكشّف هذا في بعض أعماله الرئيسيّة، فرأيت أولاً في انتقال هذا الشاب الصغير من الأزهر إلى الجامعة المصريّة عند افتتاحها، هذا الانتقال العملي الخارجي. رأيت فيه ملامح حركته الفكرية الباطنيّة. ورأيت في رسالته الأولى التي حصل بها على درجة الدكتوراه من الجامعة المصرية عام 1914 عن أبي العلاء المعري، انتقالاً جذرياً من الرؤية الدينيّة الأصوليّة القدريّة في أغلب الدراسات الأزهريّة آنذاك، إلى رؤية عقليّة تاريخيّة صارمة جبريّة، تفسر كل شيئ بالعلل والأسباب الموضوعية، أي الواقعيّة المتحققة والفاعلة معاً، هذه العلل والأسباب التي ـ على حد قوله ـ "لا يملكها الإنسان ولا يستطيع لها دفعاًَ أو اكتساباً"، ولكنه مع ذلك يستطيع أن يمتلكها معرفياً وأن يحيلها إلى فعل. ولا مجال هنا لتفصيل حول تأثره في هذا المنهج بمفكري عصر التنوير في القرن الثامن عشر وما بعده، وبعض الأساتذة الأجانب في الجامعة آنذاك، على أن المهم هو اختياره وتبنّيه وتطبيقه لهذا المنهج تطبيقاً شاملاً. "فالحادثة التاريخية والقصيدة الشعرية والخطبة.. كل أولئك ـ على حد تعبيره ـ نسيج من العلل الاجتماعيّة والكونيّة يخضع للبحث والتحليل خضوع المادة لعمل الكيمياء" ولهذا لم يقتصر طه حسين على تحليل شعر أبي العلاء تحليلاً محايثاً لغوياً أو دلالياً ليتعرف عليه ويتذوقه في ذاته فحسب، وإنما راح يغوص في حياة أبي العلاء نفسه وفي إنتاجه ومواقفه داخل سياق عصره، بأحداثه ووقائعه السياسية والاجتماعية والفكرية، أي أخذ يربط حياة أبي العلاء الذاتية وإبداعه الأدبي بالواقع الموضوعي، داخل نسيج متشابك من الأسباب والعلل، يُخضع فيه الخاص للعام، والذاتي والمعنوي والأخلاقي للموضوعي على نحو صارم. ولهذا يكاد مفهوم الجبرية في هذا الكتاب المبكر أن يكون معكوساً موضوعيّاً لمفهوم القدريّة الجبريّة الدينيّة الأزهريّة في ذلك الحين. على أن الأمر لم يكن مجرد رد فعل للمفهوم القدري الديني، وإنما ـ في تقديري ـ كان إعلاءً متشدداً صارماً للمنهج العقلي، الذي أخذ يضئ لطه حسين طريق البحث وأكاد أقول طريق الحياة أيضاً. وقد يكون من الأفضل أن نصف هذا المنهج العقلي بالحتمية Déterminism وليس بالجبرية Fatalism تفريغاً له من الشحنة الدينيّة في كلمة الجبريّة. ولهذا نستطيع أن نتبين في هذا الطابع العقلي الحتمي الصارم في تفسير الظواهر بهذه العلاقات العليّة والسببيّة، تحرراً في كثير من الأحيان من التفسير بالعلة الواحدة، ولهذا تتعدد العلل، وتتنوع كذلك في ممارسته لهذا المنهج، فتكون ذاتيّة ونفسيّة ومعنويّة، واجتماعيّة وماديّة في تشابك نسبي بحسب هذه الظاهرة أو تلك. لعلنا نفسر هذا بأن منهجه رغم صرمته العقليّة وبفضلها كذلك، لم يكن يعزل الظاهرة الخاصة المحددة المدروسة ـ في كثير من الأحيان ـ عزلاً كاملاً عن سياقها الاجتماعي التاريخي العام. فقد كان منهجه العقلي منذ البداية المبكرة أقرب إلى العقلانيّة الموضوعيّة التاريخيّة منه إلى العقلانيّة الصوريّة الاستدلاليّة، أو الجبريّة القدريّة. ونستبين من دراساته التالية أن هذا التوجه المنهجي قد أخذ يزداد ويتعمق بمستويات مختلفة دون أن يتخلى عن صرامته العقليّة. ولعل اختياره ـ بعد هذا البحث الأول ـ فلسفة ابن خلدون الاجتماعيّة موضوعاً لأطروحته لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون أن يكون بالفعل امتداداً لهذا التوجه العقلي، فضلاً عن اختياره أن يتخصص في دراسة التاريخ عامة والتاريخ اليوناني والروماني القديم خاصة.

على أن أطروحته عن ابن خلدون كانت متأثرة إلى حد كبير بالمدرسة الوضعيّة الفرنسية، عند أوجست كونت وتلاميذه، التي وجدت صرامته العقليّة فيها ـ إلى حد كبير ـ ركائزها النظرية. فهدف المؤرخ الحديث ـ كما يقول طه حسين ـ في هذه الأطروحة هو تقرير الحوادث التاريخيّة وعرضها بطريقة دقيقة واضحة قدر الإمكان، ولهذا لا بد من الاستناد أساساً على الوثائق والشواهد الصحيحة، وإدراك أسباب الحوادث الجزئيّة، أكثر من إدراك التحولات الكبرى في التاريخ، ذلك أن التاريخ "علم" بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

ولهذا كان من الطبيعي ألا يجد طه حسين هذا العلم في مقدمة ابن خلدون، أو في تاريخه العام، أو ما يسميه ابن خلدون بالعمران البشري، ذلك أن ابن خلدون، كما يرى طه حسين، يخلط بين التاريخ المباشر للأحداث والظواهر، وبين محاولة تنظيرها وتفسيرها بقوانين اجتماعيّة كليّة أقرب إلى التعميمات الفلسفية. ولهذا أطلق طه حسين على هذا العمران البشري الخلدوني اسم "الفلسفة الاجتماعيّة"، فلا هو ـ عنده ـ بعلم التاريخ ولا هو بعلم الاجتماع. على أن طه حسين لم ينكر مع ذلك ما في هذه الفلسفة الاجتماعيّة للتاريخ من قيمة كبيرة تتمثل أساساً في تخليص التاريخ العيني المباشر ـ أي علم التاريخ ـ من الاعتبارات الدينيّة والأسطوريّة والسحريّة والقوى المفارقة عامة.

وفي كتابه "الفكر" الصادر عام 1925 نجد محاولة أكثر انفتاحاً للتخفيف من صرامته أو حتميّته ـ ولا أقول جبريّته ـ التاريخيّة وذلك بإقامته جسراً من التفاعل بين العام والخاص، بين المجتمع والفرد في إطار نسق عقلاني أكثر مرونة. وفي عام 1926 يصدر كتيّبه التفجيري "في الشعر الجاهلي"، وهو كما ذكرت في دراسة أخرى أنه ليس مجرد كتاب في تاريخ الأدب، وإنما هو "مقال في المنهج"، لو صح استخدام عنوان كتاب ديكارت المعروف Discours de la methode، دون أن يعني هذا تطابقاً بين الكتابين في مفهوم الشك المنهجي رغم استفادة طه حسين من هذا المفهوم كخطوة إجرائيّة فحسب في منهج البحث العلمي، دون أن يكون لها نفس الدلالة الفلسفيّة للشك المنهجي الديكارتي. ويقوم منهج البحث العلمي في مجال التاريخ عند طه حسين وفي كتابه هذا عن ابن خلدون، على الاستناد أساساً إلى المعرفة الموضوعيّة المباشرة للأسباب والعلل في سياقاتها التاريخيّة والاجتماعيّة، بمعزل عن كل ألوان التعصب والتعميمات الكلية. وفي هذا الكتيب التفجيري الذي يدرس فيه ظاهرة الانتحال في الشعر ويفسرها، لا يقف طه حسين عند الأسباب الخارجية السياسية والشعوبية والعصبية القبلية والدينية فحسب، وإنما يكتشف كذلك هذه الظاهرة داخل البنية اللغوية للنص الشعري نفسه. وهو في البداية لا يخلي ذهنه من كل معرفة قبلية سابقة ـ بحسب منهج الشك المنهجي الديكارتي ـ وإنما يسعى أساساً لاستبعاد العوامل والدوافع غير الموضوعيّة في قراءته للظاهرة المدروسة، للإمساك بالوقائع التاريخيّة الموضوعيّة العينيّة المحددة. ولهذا نراه ينكر بحسم قصة ابراهيم واسماعيل كحقيقة تاريخيّة موضوعيّة رغم ورودها في القرآن، وإن لم ينكرها كحقيقة سياسيّة وإيديولوجيّة ذات فاعليّة تاريخيّة وإن لم تكن واقعة تاريخيّة عينيّة. وهنا نراه يجمع بين صرامة تحديد الوقائع التاريخيّة تحديداً عقلياً مشخصاً كشرط لصدقها، وبين الإقرار العقلي بالأثر العملي الفاعل للأيديولوجية السياسيّة والاجتماعيّة. وبهذا ترتفع دلالة الظاهرة التاريخيّة عند طه حسين من حدود تحققها العيني المحض، إلى آفاق فاعليتها الأيديويولوجيّة المعنويّة في الواقع التاريخي الموضوعي. وهكذا يتسع ويعمق مفهوم العقلانيّة التاريخيّة عنده ويكاد يتخلص من صرامته الوضعيّة، إذ يصبح التاريخ لا مجرد وقائع عينيّة متحققة بل فاعليات معنوية مؤثرة كذلك.

ولعل كتاباته في الثلاثينات والأربعينات أن تكون أكثر تعبيراً عن هذه الرؤية العقلانيّة التاريخيّة التي تجمع بين كشف الظواهر الموضوعيّة وتحليلها معرفياً، والتصدّي العملي والفكري الفاعل لها. ولا شك أن أبرز كتاباته في هذا المرحلة، هو كتابه التاريخي "مستقبل الثقافة في مصر". وهو كتاب تاريخي لا من حيث قيمته الذاتيّة الرفيعة في تاريخ الثقافة العربية عامة فحسب، وإنما هو كذلك من حيث رؤيته المستقبليّة التي لم تقف عند تشخيص وضع قائم، وإنما تجازوت هذا التشخيص إلى التخطيط للمستقبل. وعندما نتأمل موضوعات هذا الكتاب سنجدها مقصورة على تخطيط مناهج التعليم لا التخطيط الثقافي، وهنا تبرز عقلانيته العمليّة التاريخيّة. إنه يقول لنا عملياً في كتابه وبكتابه هذا، إنه لا مستقبل للثقافة بغير تطوير للتعليم تطويراً يستطيع أن يؤسس ركائز لهذا المستقبل. إنها دعوة عقلانيّة إلى فعل ثقافي تاريخي، ولهذا يكاد يقدم هذا الفعل المستقبلي في نهاية كتابه كحلم نبيل في قوله": أرسل نفسي على سجيتها في هذا الحلم الرائع الجميل، فأرى مصر وقد بذلت ما دعوتها إلى بذله من جهد في تعهد ثقافتها بالعناية الخاصة والرعاية الصادقة، وأرى مصر قد ظفرت بما وعدتها الظفر به، فانجاب عنها الجهل وأظلها العلم والمعرفة، وشملت الثقافة أهلها جميعاً". وكان هذا الكتاب ـ كما أراده صاحبه أن يكون ـ مسعى لتحقيق الاستقلال الثقافي لمصر بعد أن تحقق استقلالها السياسي بمعاهدة 1936، مما يؤكد القول بالطابع العملي لفكره، بل أكاد أرى في هذا الكتاب الوجه الثقافي الآخر للصرح الاقتصادي الذي سبق أن أقامه طلعت حرب بمشروع بنك مصر. وهكذا يجسد هذا الكتاب العقلانيّة منهجاً، والرؤية التاريخيّة وعياً، والتخطيط العملي فعلاً مستقبلياً.

وتأتي الأربعينات باحتدام معاركها الوطنيّة والاجتماعيّة والديموقراطيّة، في مواجهة الاحتلال البريطاني والتسلط والفساد الملكي والأزمة الاقتصاديّة والتحركات الشعبيّة، التي تمثلت طليعتها في لجنة الطلبة والعمال عام 1946. وتكاد كتابات طه حسين طوال هذه المرحلة من الأربعينات وبداية العشرينات أن تكون مشاركة فكريّة تحريضيّة في كتاباته.

لم تكن دراسته "ثورتان" عن ثورة سبارتاكوس وثورة الزنج ـ في هذه المرحلة ـ مجرد تأريخ لهاتين الثورتين، بل كانت دعوة تحريضيّة ـ تكاد وأن تكون ـ صريحة ضد الواقع السائد آنذاك. تقول هذه الدراسة في نهايتها: "ما بال ثورة الزنج لم تُحدث في حياتنا الأدبيّة مثل ما أحدثته هذه الثورة الإيطالية القديمة (يقصد ثورة سبارتاكوس)... قال الشعراء في هذه الثورة كثيراً من الشعر، ولم ينظروا إليها على أنها تاريخ ليس إلا، وإنما جعلوه جزءاً من حياتهم، فهم يستلهمونه". ولكن طه حسن لا يقف عند المطالبة بالاستلهام في هذا النص، بل يضيف قائلاً: "وإنما أحب أن ألفت أدباءنا إلى أنّ لنا في المطالبة بالعدل الاجتماعي تاريخاً حافلاً عظيم الغناء يستحق أن نرجع إليه بين حين وحين".

وسوف نجد هذا الحفز أو التحريض أو الدعوة بمستويات مختلفة في كتاباته الأدبية في الأربعينات. سنجدها في "المعذبون في الأرض"، وفي "شجرة البؤس"، وفي "جنة الحيوان"، وفي "أحلام شهرزاد"، وفي "الوعد الحق"، وفي "مرآة الضمير" هذا الكتاب الذي يهديه إلى الذين يحرقهم الشوق إلى العدل وإلى الذين يؤرقهم الخوف من العدل، وإلى الذين يجدون ما لا ينفقون وإلى الذين لا يجدون ما ينفقون. ولهذا نراه في مدخله يتحدث بشكل جهير بأن مصر مريضة، ثم يقدم صوراً من نماذج الفقر والقهر، مُؤكداً بوضوح باهر أنه "ليس إلى الإصلاح الاجتماعي من سبيل إلا إذا وُجدت الأداة السياسية الصالحة، التي تستطيع أن تنهض بعبئه وتنقذه من المشكلات".

وفي "جنة الشوك" نقرأ هذا الحوار الملهم برغم رمزيته بين الطالب الفتى وأستاذه الشيخ: قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ "فسّر لي قول القائل: فاض الإناء. قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: "هذا مجاز يا بني في كل أمر يتجاوز حده حتى أصبح لا يطاق. ألم تسمع قول الشاعر:

شكوت وما الشكوى لمثلي عادة   ولكن تفيض النفس عند امتلائها

قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فإني أعرف أوعية لا تمتلئ وآنية لا تفيض. قال الأستاذ مبتسماً: وما ذاك؟

قال الطالب الفتى: "خزائن الأغنياء التي مهما يُصبّ فيها من المال فهي ناقصة. وجهنم التي يقال لها: هل امتلأت فتقول: هل من مزيد، وعقول العلماء التي لا تبلغ حظاً من المعرفة إلا طمعت في أكبر منه.

قال الأستاذ الشيخ ضاحكاً: "لقد أصبحت حكيماً منذ اليوم.. ولكن تعلّم أن إناءً واحداً قد يفيض فيصبح مضرباً للأمثال، ومصدراً للعبر وبعيد الأثر في حياة الأجيال. ألا تذكر سيل العرم؟!"
والإشارة رغم رمزيتها واضحة عن أي سيل كان يقصد طه حسين.

وفي رد طه حسين على "علي الراعي" الذي اتهم طه حسين من زاوية بعض التيارات اليسارية في الأربيعينات بأنه مفكر برجوازي وأنه من المتحفظين المتشددين في المحافظة، يقول: "إني لا أحب الديموقراطية المحافظة ولا المعتدلة، ولا أقتنع بالاشتراكية الفاترة، وإنما أياسر إلى أقصى ما أستطيع، ولكن هذه قضية أخرى".. ثم يقول "لعل حظنا من حرية الرأي يعظم ويتسع في يوم من الأيام، وعندئذ نستطيع أن نقول شيئاً"...

ولم يكن الأمر مجرد رد على اتهام، بل لعلنا نقرأ في نهاية الجزء الثالث من "الأيام" ما يعبر بوضوح عن موقفه من العمل السياسي ودلالته عنده منذ عودته من الخارج، تقول "الأيام": "فليس غريباً أن يعود صاحبنا إلى وطنه مؤمناً بالثورة التي شبت فيه (يقصد ثورة 1919) ومؤمناً في الوقت نفسه بأن عبئاً خطيراً من أعباء هذه الثورة سيقع على العلماء والمثقفين من أبناء هذا الوطن"، ويقول في الفقرات الأخيرة من هذا الجزء: "كان صاحبنا يرى الحيرة في ذلك الوقت جبناً ونفاقاً، والمهم أنه غرق في السياسة وأحترق بنارها، ولم يكن له بد من أن يتحمل تبعات هذا الغرق أو هذا الحريق. وهل كانت حياته كلها منذ تلك الأيام إلا نتيجة طبيعيّة لإقدامه على السياسة، وغرقه فيها واصطلائه بنارها.."، ويختم هذه الفقرة الطويلة بقوله: "وعلى كثرة ما لقي من أهوال السياسة وما احتمل من أثقالها وما تعرض له لسخط المتطرفين حيناً والمعتدلين حيناً آخر، لم ينكر من سيرته شيئاً، ولم يندم على فعل فعله أو قول قاله".

ونستطيع أن نتبيّن هذه المشاركة الواعية المريدة الحميمة في العمل السياسي ذي البعد الاجتماعي في مختلف أعماله في الأربعينات كما سبق أن ذكرنا، ولعل كتابه "الفتنة الكبرى" الذي ظهر في أواخر 1938، و "علي وبنوه" في مطلع الخمسينات أن يكون امتداداً بارزاً لهذا التوجه، بل تأكيداً رفيع المستوى لرؤيته العقلانيّة التاريخيّة، وأضيف والسياسيّة أيضاً. ففي هذين الكتابين لا نقرأ تسلسلاً لتضاريس خارجيّة لأحداث ووقائع، وإنما نقرأ أحداثاً ووقائع متشابكة متحركة في ارتباط بعوامل وآليات ودوافع وصراعات مختلفة موضوعيّة ماديّة، وذاتيّة نفسيّة، وعشائريّة، ومعنويّة قيميّة، ودينية ولكنها في الجوهر صراعات مصالح اقتصادية وسياسية وإن اتخذت مظهراً عقائدياً، بل يؤكد طه حسن بحسم بأن الفتنة برغم مظهرها العقائدي كانت أبعد ما تكون عن هذا المظهر فجوهرها صراع اجتماعي اقتصادي سلطوي. ولهذا يأخذ ما وراءها من أسباب وعوامل، ويكاد يلبسها أحياناً ثوباً عصرياً في بعض مفرداتها الصراعيّة. يقول في "الفتنة الكبرى": "ما دام عثمان قد ذهب إلى سياسة تنحرف عن سياسة عمر.. وأنشأ طبقة "الرأسماليين"، فليس ما يمنع الثائرين من أن يكفوا عثمان وعماله عن هذه السياسة... وإذا لم يكن بد من السياسة التي تقوم على الأثرة لا الإيثار، وتنحرف عن هذه الاشتراكية المعتدلة التي مضت عليها أمور المسلمين، فلا أقل من أن يتحقق شيئ من العدل في هذه الأثرة... والمهم أن الثائرين أرادوا أن تكون "الرأسمالية" التي أحدثتها سياسة عثمان شاملة عادلة بمقدار ما يمكن أن تبلغ من الشمول والعدل ولكن شيئاً من هذا لم يحدث".

والملاحظ أن الجزء الأول من "الفتنة الكبرى" كتب بين يوليه ـ أغسطس عام 1947، في مرحلة الانتفاضات الشعبية التي سبقت الإشارة إليها، والتي تفجرت ضد الاحتلال البريطاني والفساد الملكي والأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة المتردية، ولهذا لم تكن "الفتنة الكبرى" مجرد تحليل لماض تاريخي بقدر ما كانت في العمق تحليلاً وإدانة لحاضرٍ يعايشه طه حسين، ويكابده ويسعى لتفسيره والتوعية بحقائقه ودلالاته.

أما الكتاب الثاني "علي وبنوه" الذي صدر بعد شهر واحد من قيام ثورة يوليه 1952، فإنه وإن لم يختلف عن الفتنة الكبرى في منهج تحليله التاريخي الاجتماعي، فإنه اختلف عنه في المعطيات وفي التأكيد على بعض العوامل المعنويّة والنفسيّة والقيميّة، وخاصة على النعرة القوميّة أو الشعوبيّة، إلى جانب العوامل الاقتصاديّة والاجتماعيّة. على أن الأمر الجدير بالتأكيد هو أن الكتابين، برغم موضوعهما التاريخي المتعلق بمرحلة ماضية، فإنهما يعكسان بشكل إيحائي الواقع المصري في أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات، وينمّيان حساً نقدياً عقلانيا تاريخياً في قراءة الواقع، ويؤكدان قيم الحق والعدل والحرية وضرورة الدفاع عنهما إلى حد الاستشهاد.

على أننا نستطيع أن نتبين هذه المنهجيّة العقلانيّة التاريخيّة ذات التوجه العملي في دراسته الأدبيّة الخالصة كذلك. ففي "حديث الأربعاء" نقرأ مقالاً لرفيق العظم بعنوان "إلى الأستاذ طه حسين" نشره في مجلة السياسة في فبراير 1923، ينتقد فيه طه حسين لتعجله فيما كتب عن أبي نواس والحكم عليه، مستنداً إلى ما نقل من أخباره وشعره، باعتبارها أخباراً صحيحة صدرت عنه. وهذا ـ كما يقول رفيق العظم ـ لا يصح للمؤرخ الممحص التسليم به والسكوت عليه، ويؤكد رفيق العظم أن أغلب ما نقل عن أبي نواس وأضرابه من شعراء المجون، إنما هي روايات قصصية بعيدة عن الصحة، وأنه لا يصح أن تتخذ دليلاً عن على حاله.

ويرد عليه طه حسين في مجلة السياسة أيضاً، بمقال يثير في البداية قضية منهجيّة خالصة هي "كيف نفهم التاريخ". وفي هذا المقال يدحض طه حسين ما يسبغه الكثير من العلماء المعروفين في الشرق على التاريخ الإنساني من صفة الإجلال والتقديس الديني، أو الذي يشبه الدين، مما يحول بين العقل وبين النظر فيه نظراً يعتمد على النقد والتمحيص والبحث العلمي الصحيح. ولا يقف طه حسين عند هذا الحكم المنهجي، وإنما يفسر هذا الإجلال والتقديس بأنه "ضرب من الغرور، يُخفى به ما نحن فيه من جهل وانحطاط وضعف".

وهكذا ينتقل من نقد المنهج إلى نقد وإدانة الواقع نفسه، الذي يتستر عليه هذا المنهج. ولا يرى في هذا المنهج مجرد تعصب أو خطأ وإنما يرى فيه تغييباً لرؤيتنا الموضوعيّة لحقائق ماضينا، بل لحقائق حاضرنا كذلك. ثم يواصل طه حسين في مقالات أخرى ظواهر المجون المختلفة في شعر هذه المرحلة وفي شعر أبي نواس، في ارتباطه بواقع الحياة والأوضاع والقيم والسياسات آنذاك، إذا لم تكن، ظواهر المجون هذه إلا انعكاساً ـ كما يقول ـ أدبياً وفنياً لها. على أن مفهوم الانعكاس عند طه حسين ليس انعكاساً مرآويّاً ميكانيكيّاً ـ كما تذهب بعض الدراسات ـ وإن استخدم دائماً رمز المرآة. وإنما هو انعكاس يجمع بين الصدق الموضوعي والرؤية الذاتيّة والإضافة أو الإضاءة الإبداعيّة. ولهذا فهو في دراسته وتقييمه للأدب وقراءته لنصوصه، يبحث عما يسميه الصدق الفني ويحتفل به، الذي قد يكون متناقضاً أم منافياً مع الصدق الواقعي العيني المباشر، ولكنه مع ذلك حقيقة فنيّة مؤثرة.

ولعلنا في قراءتنا لكتاب "في الشعر الجاهلي" قد تبيّنّا كيف أن طه حسين في تحليله لقصة ابراهيم واسماعيل في القرآن ـ رغم دحضه لها تاريخياً ـ أكد حقيقيتها الفاعلة أيديولوجياً. وبصرف النظر عن بعض المعالجات الأدبية التي يطغى عليها الطابع الآلي الميكانيكي للإنعكاس، فإن الدلالة الحقيقيّة للانعكاس عند طه حسين تبرز في قوله عن القرآن: "إن القرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي"، ولم يكن ـ بالطبع ـ يقصد بهذا أن القرآن مرآة عاكسة بشكل ميكانيكي مباشر للعصر الجاهلي، بل كان انعكاساً إبداعياً، أي كان رؤية وتشخيصاً من ناحية، كما كان نقداً ونقضاً في الوقت نفسه، بل كان كذلك، وفي الجوهر، تجاوزاً إبداعياً مغايراً للعصر الجاهلي، بل يتضمن دعوة شاملة للتغيير البنيوي الجذري، في المعرفة والعقيدة والعادات والقيم لهذا العصر.

ولهذا فدراسته الأدبيّة لشعر المجون عند أبي نواس وغيره من الشعراء، وللانتحال في الشعر الجاهلي ليست مجرد دراسة أدبيّة خالصة، بل كانت كذلك كشفاً للعوامل الموضوعيّة والسياسيّة والتاريخيّة لهاتين القضيتين. وسنجد الأمر نفسه في دراسة أدبيّة أخرى في كتابه عن المتنبي. فتكاد دراسة المتنبي في هذا الكتاب أن تكون دراسة لتاريخ الحضارة العربية منذ أواخر القرن الثالث إلى أوائل القرن الرابع الهجري بكل ما اصطخب فيها من أحداث وصراعات وتناقضات اجتماعية ومصادمات سياسية، ويكاد هذا الكتاب أن يكون ضمنياً تغذية نقديّة معرفيّة وسياسيّة ووجدانيّة غير مباشرة لحقائق ووقائع الأوضاع المصرية في مرحلة صدور هذا الكتاب، فضلاً عن قيمته الأدبيّة الخالصة وإبرازه للفاعليّة الدلاليّة والجماليّة للإبداع الشعري العظيم.

وهكذا نتبين في هذه الأمثلة السابقة ـ برغم تناولنا السريع لها دون التفصيل والتعمق فيها وفي غيرها من الأعمال العديدة لطه حسين ـ أن رؤيته للتاريخ ليست مجرد رؤية عقليّة تشخيصيّة تحليليّة للوقائع العينيّة المحددة في سياق عللها وأسبابها، سواء في مجال الفكر أو المجتمع أو الأدب، وإنما هي كذلك في جوهر رؤية تاريخيّة تستهدف استهدافاً واعياً نقد الحاضر المصري في تجلياته الاجتماعيّة والثقافيّة ونقداً عقلانياً تاريخياً، مستنداً بشكل مباشر حيناً وغير مباشر حيناً آخر إلى قراءة نقديّة عقلانيّة كذلك للتراث العربي الإسلامي القديم، ولبعض الخبرات المتوسطيّة القديمة والغربيّة الحديثة، متطلعاً بحصيلة هذا كله إلى الارتفاع بالوطن المصري مجتمعاً وثقافة إلى مستوى حضارة العصر. وبهذا كان البعد العملي، بل السياسي بعداً أساسياً في رؤيته العقلانيّة التاريخيّة على اختلاف تجلياتها الفكريّة والأدبيّة والاجتماعيّة والسلوكيّة.

ولكن ما هي حدود هذا البعد السياسي في رؤية طه حسين العقلانيّة التاريخيّة؟ هل هي هذه الرؤية التي عرضنا لها، والتي تتسم أساساً بإدارة الفعل والتجاوز والتغيير، أم تتجلى في علاقاته مع الأحزاب السياسيّة وفي مواقفه إزاء بعض الأحداث السياسيّة والاجتماعيّة؟ لقد اقتصرت بعض الدراسات المكرسة للجانب السياسي في فكر طه حسين على علاقاته ومواقفه من الأحزاب السياسية، ولهذا انتهى بعضها إلى القول بفقدان الاتساق في مسلكه السياسي، بل إلى الحكم على هذا المسلك بالبرجماتيّة أو التوفيقيّة أو غلبة المصلحة الذاتيّة. ورأت بعض الدراسات في انتقاله بين الحزب الوطني، وحزب الأحرار الدستوريين، وحزب الوفد، ثم أخيراً حركة 23 يوليه الناصرية 1952 مظهراً انتهازياً غير أخلاقي أو مبدئي.

على أنه في تقديري أن ارتباطات طه حسين بالأحزاب وتنقلاته فيما بينها لا تعبر عن حقيقة البعد السياسي في فكره، فهو لم يرتبط بهذه الأحزاب جميعاً ارتباطاً عضوياً يلتزم بفكرها وسياساتها ومعاركها. كانت علاقاته بها علاقة بموقف أكثر مما هي علاقة انتماء حزبي، فكان ارتباطه في البداية بالحزب الوطني أقرب إلى الارتباط الوطني الخالص، وكان ارتباطه بحزب الأحرار الدستوريين أقرب إلى الارتباط بالعقلانية اللبرالية لمفكريه وقادته، وكان ارتباطه بحزب الوفد أقرب إلى الارتباط بالبعد الليبرالي الاجتماعي، وكان ارتباطه بحركة 23 يوليه في بدايتها أقرب إلى الارتباط بالتوجه القومي ذي البعد الاجتماعي التحديثي التغيري. ولهذا لم يكن متناقضاً مع نفسه في كل ارتباط من هذه الارتباطات، بل أكاد أقول إن تطوره الفكري الوطني والاجتماعي والسياسي والثقافي كان متوافقاً مع تطور الواقع المصري نفسه منذ بداية القرن العشرين حتى وفاته عام 1973. ولعلنا نجد نموذجاً آخر في ثقافتنا المصرية على هذا التوافق الحميم بين الواقع والمثقف في أدب نجيب محفوظ الذي يكاد أن يكون كذلك تاريخاً أدبياً فنياً متواكباً بشكل إبداعي مع تاريخنا السياسي والاجتماعي.

ولهذا فإن البعد السياسي في فكر طه حسين وسلوكه لا نتبيّنه في التضاريس الخارجيّة أو الجزئيّة لعلاقاته الحزبيّة أو معاركه ذات الطابع السياسي الخالص، بل لا سبيل إلى تحديده وتفسيره بهذه العلاقات وهذه المعارك وحدها، وإنما نتبيّنه ممتزجاً امتزاجاً حميماً برؤيته العقلانيّة النقديّة التاريخيّة ذات التوجه العملي، والتطلع الدائم لتجاوز السدود والحدود والقيود. إنه المنظومة المتسقة، والمنفتحة في آن واحد، الجامعة بين التنوير العقلي، والتحديث الاجتماعي، وحرية التعبير، وإرادة الفعل، والتجديد والتغيير على مختلف المستويات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة. ولعل هذا هو سر استمرار طه حسين في ثقافتنا العربيّة منذ البدايات الأولى لسنوات هذا القرن العشرين وحتى اليوم ملهماً ومحرضاً لمستقبل لنا لم يتحقق بعد..


لا ولا

(قصيدة)


محمود أمين العالم


كما ترقص الريح فوق اللهيب فيرتجف الشيخ فرط الهرمْ!
كما يزحف الإثم فوق القلوب فيجمد فوق الجباه الندم!
كما تتمشى ظلال الصباح على خاطر ساهر لم ينم!
فما يكشف الصبح سر الحياة وما يكشف الليل سر العدم!
كذاك تعرّيت يا فتنتي بشطّ الحياة، ولم استحم!!

*  *  *

وأدركت أني على قمتي أعاني الحريق.. ولا أحترقْ!
فلا أنا جاوزت ذاك المدى ولا أنا شارفت هذا الأفق!
فناديت.. ناديت "يا فتنتي" وناديت.. ناديت هل مَن نطق؟
على قدميك عصرت الحياة وخبأتها خلف هذا النفق!
وعانيت كيف تغور الحياة وأدركت كيف يموت الشبق!
ولا أنا جاوزت ذاك المدى ولا أنا شارفت هذا الأفق!!
تلظيت يا فتنتي بالحياة ويا فتنتي كيف لم أحترق!؟
وأدركت.. أدركت أني هنا ـ بعمر حطيم وقلب مزق
على مرشفيك أصب الحياة فأملأ ينبوعها المندفق!!
وأعرى.. وتعرين يا فتنتي ونمعن في العري حتى ندق!!
فأعصر.. أعصر يا فتنتي وأعصر.. أعصر حتى الرمق
ويا فتنتي كل هذي الدموع ويا فتنتي كل هذا العرق،
وأحيا!... وتحيين في وقدتي!! ونمضي. ونمضي ولا ننطلق!!

*  *  *

تلظيت يا فتنتي بالحياة ويا فتنتي كيف لم أحترقْ؟!
فلا أنا جاوزت ذاك المدى ولا أنا شارفت هذا الأفق!!

*  *  *

وناديت.. ناديت يا فتنتي وناديت.. ناديت. هل من نطقْ؟
بروحي لغاي.. وفي قمتي صداي.. ولحن دمي المنبثق
وحولي مواكب ألفاظه تراقص ترنيمه المتسق
ولكنها!! أين؟! ناديتها وناديتها!. كيف لم تستفق؟!!
أتنكر ما في دمي من لغي سوى رعشة الطرف والمعتنق؟!
أتنكر ألفاظي القائلات على غير ما لذة تستبق؟!
أتنكر معناي؟! معنى الحياة، معنى التمزق.. معنى الحرق؟!
تساؤلنا في مجالي القنوط وأرجافنا في مهاوي القلق!؟
سأهجر مسربها ما حييت! وثم افترقنا!.. ولم نفترق؟!

*  *  *

كما ترقص الريح فوق اللهيب فيرتجف الشيخ فرط الهرمْ!
كما يرتجف الإثم فوق القلوب فيجمد فوق الجباه الندمْ!!
كما تتمشى ظلال الصباح على خاطر ساهر لم ينم!
فما يكشف الصبح سر الحياة.. وما يكشف الليل سر العدم!
كذاك تعريت يا فتنتي بشط الحياة ولم أستحم!!

*  *  *

وأدركت أني في وحدتي أعاني الغروب ولا أغتربْ!
فناديت.. ناديت يا وحدتي وراء الحجاب ولا أحتجب!
تلهبت يا وحدتي بالحياة فيا وحدتي كيف لم ألتهب؟!
وما نضب الزيت يا وحدتي فما لذبالتيه لا تشُب!!
وناديت.. ناديت "يا وحدتي" وناديت "يا وحدتي". لم تجب!!
بروحي لغاي.. وفي قمتي صداي ولحن دمي المصطخب
وحولي مواكب ألفاظه تراقص ترنيمة المستحب
وناديت.. ناديت "يا وحدتي" وناديت "يا وحدتي". لم تجب!!
وأحسست أن لصورتي صدى هناك.. هنالك.. بل يقترب!
فأنصتُّ.. أنصت علّ المدى أضاف إليه صدى مغترب!
فأحنو عليه.. وأحيا له وليداً جديداً غريب النسب!!
وفي خاطري أنهل رجع الصدى.. حزين الخطى مثقلاً مكتئب!
وما فيه غير الذي قلته صداي السقيم الشقي النسب!!
فأدركت أني من وحدتي أعاني الغروب ولا أغترب!!

*  *  *

كما ترقص الريح فوق اللهيب فيرتجف الشيخ فرط الهرمْ!
كما يزحف الإثم فوق القلوب فيجمد فوق الجباه الندم!
كما تتمشى ظلال الصباح على خاطر ساهر لم ينم،
فما يكشف الصبح سر الحياة وما يكشف الليل سر العدم!!
كذاك تعرّيت ـ يا وحدتي ـ بشط الحياة ولم أستحم!

(الأديب، س7، ج7، تموز 1948، ص38).