يتناول الناقد والشاعر المصري هنا بالنقد رواية الكاتب المصري المرموق الذي رحل أخيرا وهو في شرخ العطاء والإبداع، ويدير عبرها وعبر عالمه الريفي الأثير حوارا يكشف عن مدى وعي الكاتب بأدواته ومكونات رؤيته. وهو حوار تودع عبره (الكلمة) الراحل قبل الأوان، يوسف أبورية، رمع مقال مغربي في باب كتب عن رواية أخرى له.

يوسف أبورية: «عطش الصبار».. الرواية والحوار

أحمد فضل شبلول

 

يحاول يوسف أبو رية في روايته "عطش الصبار" ـ الصادرة عن سلسلة روايات الهلال بالقاهرة العدد484 ـ يحاول أن يقول كل شيء يحدث في الحياة الريفية أو المجتمع الريفي المصري بكل بساطته وتعقيده، بكل عفويته وتحولاته المركبة ونزوعه إلى التشبه بعالم المدينة بكل عاداته وتقاليده الاجتماعية والدينية، ولكن هيهات ليوسف أن يتحقق له ذلك، لأن الفن الروائي له تقاليده وأصوله، وله حدوده الزمنية والمكانية، وله شخوصه الواقعية التي يعرف الكاتب حدودها وقدراها داخل العمل الروائي الذي يبدعه، تماما مثلما الخيط الفاصل بين الفن والحياة.

وهو في محاولته لصب الحياة داخل بوتقة الفن أو داخل بوتقة الصراع الروائي الذي يتجسد أمامنا في "عطش الصبار" يحشد أكبر قدر ممكن من الشخصيات الحية التي تلتحم وتتكتل أمامنا بطريقة تجعلنا لا نتبين أحيانا عمن يتحدث الكاتب في سطور الرواية، ونتساءل هل هو يتحدث عن يسري أم ياسر؟ وهل الذي فعل هذه الفعلة حسن أم حسين؟ وهل زبيدة أم إبراهيم غير زبيدة أم محمد؟ أم أنهما شخصية واحدة وحدث خطأ مطبعي في أسم إحداهما؟ وماذا يقصد الكاتب من تشابه الأسماء في رواية تعددت شخوصها على نحو لافت ومربك، وعلى نحو يجعلك تحسد بطل الرواية "العجوز والبحر" لأرنست هيمنجواي لأنه لا يوجد غيره من البشر في الرواية، أو تحسد الفتاة بالومي في رواية "حسناء بحر كورتيز" لبيتر بنشلي لأن أكثر من ثلاثة أرباع الرواية ملك لها، إن كثرة شخوص رواية "عطش الصبار" وتشابه أسمائها يجعلك تقرأ الرواية بحذر شديد وتعيد قراءة بعض الصفحات لتتأكد أنك أمام شخصية معينة وليس سواها في هذا الجزء الذي وصلت إليه أثناء القراءة، أو تختار حلا آخر يجعل القراءة متعة أخرى وهو رسم شجرة للعائلة التي يتحدث عنها الكاتب، ولكن سيصادفك ـ في هذه الحالة ـ أشخاص آخرون لا ينتمون إلى شجرة العائلة، وهم على أية حال يلعبون أدواراً ثانوية مثل المأذون الذي قام بطلاق يسري وسعدية، وعبده داود كاتب العقود.

ولكننا ـ بصفة عامة ـ نستطيع أن نحدد شخصيتين رئيسيتين في "عطش الصبار" هما يسري وأخته زبيدة، وتشاء رغبة الكاتب في أن يقع الطلاق المادي بين يسري وزوجته سعدية، والطلاق المعنوي بين زبيدة وزوجها كمال بسبب عدم إنجاب الأطفال، فلئن كان يسري يطلق زوجته بعد زواج دام عشر سنوات، فإن كمال يتزود بأخرى لعدم قدرة زبيدة على الإنجاب، وحين يبلغها الخبر يكون ذلك سببا في التعجيل بموتها بعد أن أصابها مرض ذات الرئة وظلت قعيدة عند أخيها يسري، ولعلنا إذا أردنا تحديداً أكثر للشخصيات التي تمور بها الرواية، فسوف نجد أن شخصية زبيدة هي الشخصية الأكثر دورانا في الرواية رغم أنها شخصية مريضة وغير فاعلة، ولعل فعل الموت كان أكثر أفعالها حضوراً في الرواية، وقد برع يوسف أبو رية في تصوير مشهد موت زبيدة في الجزء الثامن من الرواية (ص166 ـ 172) حيث تبلغ الرواية ذروتها الفنية عند هذا الجزء، وبموت زبيدة تتراجع آمال أخيها في الحصول على نصيبها من ميراث أبيها وأمها بعد أن وافقت هي على تسجيل عقد بيع وشراء لأخيها حتى لا يكون لزوجها الحق في ميراثها، ولكن عدم قدرتها على المثول أمام الشهر العقاري قبل التوقيع على عقود البيع والشراء بسبب مرضها ثم وفاتها جعل آمال وأحلام أخيها تتبخر في الهواء ومن ثم تنتهي الرواية عند هذا الحد من الحياة الريفية الطافحة بالصراعات الإنسانية العميقة بسبب التكالب على قطعة أرض أو إرث أو مال أو إنجاب ذرية من البنين والبنات وهي صراعات تدور في كل زمان ومكان، ولكن استطاع أبو رية أن يجسدها بين مجموعة من البشر المهمشين بطريقة تكاد تتطابق فيها الرواية مع الحدث المعيش.

إن الرواية تبدأ في صفحاتها الأولى بمشهد دفن زبيدة وتنتهي أيضا بمشهد موت زبيدة ودفنها، وما بين الصفحة الأولى والصفحات الأخيرة تدور الرواية بكل أحداثها وتفاصيلها الملتقطة بعين واعية وراصدة وخبيرة بالحياة، وهي بذلك تنتمي إلى ما يسمى بالرواية الدائرية أو الرواية المغلقة التي تبدأ ن نقطة معينة ثم تبدأ في الدوران والانفتاح لتنتهي عند النقطة نفسها التي بدأت منها ليتم إغلاق أو إحكام الدائرة التي أدخلنا فيها الكاتب وهي تذكرنا في ذلك برواية "إنسان" للكاتبة الإيطالية أوريانا فالاتشي التي بدأت روايتها بوصف جنازة وجها الكيوس وأنهتها عند النقطة نفسها.

إن "عطش الصبار" رواية لا يستطيع أن يكتب مثلها نجيب محفوظ على حد قوله، فقد قال نجيب محفوظ عن الرواية "أحب أن أوضح أنني لا أستطيع أن أكتب عن الريف بمثل هذه الكاتبة الفاتنة" وهي تشكل إضافة حقيقية للروايات والقصص التي كتبت عن الريف المصري بدءاً من رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل ومروراً بأعمال كل من محمد عبد الحليم عبد الله ومحمود تيمور وعبد الرحمن الشرقاوي وثروت أباظة ويوسف أدريس.بعد هذه الوقفة مع رواية "عطش الصبار" رأيت أن أناقش مؤلفها يوسف أبو رية في بعض الأفكار والآراء حول روايته، ومن ثم التعرف على آرائه وأفكاره حول بعض القضايا الأدبية والنقدية المتعلقة بفن القصة القصيرة والرواية في عالمنا العربي، فكان هذا الحوار:

ـ في روايتك"عطش الصبار" عدد كبير من الشخصيات المهمشة، ولا يوجد بطل روائي واحد يتجسد فيه الحلم الإنساني النبيل والجميل.. لماذا هذا العدد الكبير من الشخصيات؟ ولماذا ينعدم البطل الروائي بالمفهوم المطروح سلفاً لديك ولدى معظم مبدعي جيلك من الروائيين؟

* اختلف معك فيما أسميته "شخصيات مهمشة" لأني اعتقد أن لكل

شخصية ضرورة في نسيج العمل ككل، فأنت بين يدي عمل يحتفي بالمكان، وبالعلاقات الاجتماعية المعقدة، في مدينة صغيرة، يتم التعبير عنها لأول مرة في أدبنا المعاصر. فأنا أردت أن أقول كل شيء عن هذه المدينة ـ المركز ـ من خلال قضية أساسية، ومن خلال شخصيات أساسية. ففي أحيان تناول النقاد شخصية "زبيدة" المريضة العائدة إلى بلدتها بعد حياة زوجية فاشلة في المدينة الكبيرة، وهي الإسكندرية، وبعد رحلة عمل خارج الوطن، وكتبوا عن بطلة الرواية التي استدعت كل ما حولها، فهي البؤرة التي تجمعت حولها كل الأحداث، والشخصيات الأخرى، داخل بلدتها أو خارجها.

ونقاد آخرون آثروا الحديث عن ثلاث شخصيات أساسية هي "زبيدة، وياسر، ويسري" وعقدوا المقارنة فيما بينهم، وبحثوا عن المتشابه والمختلف، ومن هؤلاء د. محمد برادة الذي قدم جهداً عظيماً في هذا السياق، وكانت دراسته الهامة، حول هذه الشخصيات الحالمة المحبطة، فقد كان لكل منهم حلمه الخاص وأفقّ يريد الوصول إليه، ولكنهم جميعاً سقطوا في الإحباط العام، ولهذا دلالته الفنية، وأنا معك في أن حكاية الشخصيات في الرواية تشغل المتلقي، بل لديّ الشجاعة لأقول أنها قد تنفره من العمل، ولكن القارئ الجاد الذي يصبر عليه، سيجد لنفسه مخرجا، وسيعثر على التبرير المناسب، فمثلا الناقدة اعتدال عثمان في دراستها المتفحصة رصدت التشابه الاشتقاقي في اسمي "ياسر ويسري" و "حسن وحسين وحسان" و "زبيدة وزينب وزينات" ووصلت إلى السر الذي يخفيه الكاتب، فهذه الاشتقاقات المتقاربة، تبرز الشخصيات المتطابقة، ككتلة واحدة، تجسّد المغزى الذي أريده، فتشابه المصائر، والأحلام، يربط بين أفراد كل كتلة على حدة، ورغم أنني لا أميل إلى تسميه الشخصيات الهامة في العمل الروائي "بطلاً" لأنها ـ على ما يبدو ـ دخلت الأدب من باب السينما، أو ربما جاءت من الملاحم القديمة التي تدور حول أبطال مغاوير، فإنها تصير ـ بشكل عام ـ غير ذات معنى في الكتابة الأدبية الحديثة والمعاصرة، فلا أبطال هناك، لأنه لا خوارق ولا معجزات تطرحها الإبداعات الأدبية الجديدة، وإن كنت تلمح إلى الشخصية النفردة التي تتمحور على ذات وحيدة ومعزولة، يستطبن الكاتب أغوارها، ولا يرى العالم إلا من خلالها، مثل أعمال الكتّاب المنتمين إلى "تيار الوعي" فأنت محق في نفيي من هذا النوع من الكتابة، لأنني أرصد واقعا موضوعيا، لا واقعاً ذاتياً، محوره اللاشعور الفردي.

وأنت محق ـ مرة أخرى ـ في أن هذه السمة إحدى سمات الكتّاب من جيلي، والأجيال السابقة علينا، أو قل: كل كاتب يميل إلى تتبع الحياة الاجتماعية، ويهتم يجعل عمله الأدبي وثيقة تاريخية، دالة على مرحلة بعينها. صحيح أن القارئ قد يرتبك لبعض الوقت ساعة التلقي، ولكن مع الصبر سيأخذه العمل رويداً رويداً، فيعيش من خلال النص المكتوب في عالم حي، وتدنو منه الشخصيات بحميمية، ويعايش مصائرهم وأقدارهم، ويستطيع التمييز بسهولة فيما بينهم، ولا يخلط أوراقه أبداً. هكذا حدث مع من تعاملوا مع هذه الرواية بجدية كاملة، وهكذا حدث مع النقاد الذين تناولوا هذه الرواية بأدوات نقدية جديدة وتخلوا عن الأحكام السابقة، والمناهج البالية.

ـ ما رأيك في قول نجيب محفوظ عن "عطش الصبار" ومثيلاتها: "أحب أن أوضح أنني لا أستطيع أن أكتب عن الريف بمثل هذه الكتابة الفاتنة"؟

* اعتقد أن حيوية نجيب محفوظ وتواصله الإبداعي مرجعه الأساسي عدم انقطاعه عن متابعة الكتابة الجديدة، وتواضعه الجم في التعامل معها، فلم يحدث أنه تعالى عليها، أو صعد إلى تلة مرتفعه ليلقي من ذروتها الاتهامات الظالمة، أو حاول احتواءها لتكون على شاكلته، فهو مؤمن بالجديدة المتغير، لا بالقولبة الجامدة. وفي تجربتي الشخصية معه، حين أصدرت مجموعتي الأولى "الضحى العالي" أهديته نسخة "من باب الواجب" لا غير، وظننت أنه لن يطالعها، ولكني فوجئت بأنه ينوه بها في أكثر من حديث صحفي، وفي لقاء تلفزيوني وفي مقابلة إذاعية، وأطلق عليّ "آخر العنقود" وفرحت بإشارته المتكررة للمجموعة، وكذلك فعل مع المجموعة الثانية "عكس الريح" ومع الرواية "عطش الصبار".

ولقد جاءت كلمته في سياق حديث أجرته معه مجلة "الثقافة الجديدة" حين سُئل عن إحجامه عن الخوض في تجربة الكتابة الريفية، فقال أنه لا يعرف الريف إلا من نافذة القطار، ولم يحدث أنه عايش حياة القرى، هو لا يكتب شيئا خارج خبرته الحياتية، وقد كان للريف رجاله، ثم تحدث عني، وذكر هذه العبارة التي أعتز بها جداً، وسجلتها على غلاف الرواية، عند صدورها ضمن سلسلة روايات الهلال. أما الكتّاب الذين يتعاملون بمنطق "وبعدي الطوفان" فتتكلّس شرايينهم، ويستحيل الكون بالنسبة لهم مرآة كبيرة لا يرون فيها غير ذواتهم المتضخمة، ونجيب محفوظ ليس من هذا الصنف النرجسي.

ـ هل قدم يوسف أدريس وإدوار الخراط وغيرهما شيئا لجيلك؟ وهل ما زالت عبارة "نحن جيل بلا أساتذة" التي أطلقها في الستينات محمد حافظ رجب يتردد صداها بين أدباء جيلك؟

* كنا نرى يوسف أدريس تجربة كبيرة مكتملة، وتراثا صار بعيداً في إطار تاريخي محدد، أما إدوار الخراط فقد كان ملتحماً بالكتابة الجديدة، فهو يقدم عطاءه الإبداعي الهام في نفس الحقبة التي تقدمنا فيها إلى مشهد الحياة الأدبية، بل هو أول المساهمين بإلقاء الضوء عليها، بدراسته التاريخية "قراءة في ساحة القصة القصيرة في السبعينات" التي قدمت لعدد من نصوص الأدباء الشبان، لم تكن الساحة قد احتضنتهم بعد. إذن يوسف أدريس نأى بنفسه عن الحدث الأدبي، ولم يؤمن بالكتابة الأخرى، بل كان يناصبها العداء، ويشعر أن الكتابة الجديدة منذ الستينات هي تهديد لمكانته الأدبية، وإذا رغب في تقديم كاتب جديد، فيشترط أن يتسم ملامحه الفنية، أو بملامح من حياته الشخصية، فقد اعتنى بأن يقدم الأطباء الذين يتعاطون الكتابة الأدبية، وحين ساهم ـ بمقالات سريعة نشرت في مجلة "الهلال" و "شموع" ـ في تقديم أصوات جديدة، فإن هذه الأصوات قد خذلته ـ للأسف ـ ولم تتقدم المشهد القصصي أو الروائي، والأصوات التي قام إدوار بالتعريف بها هي ـ إلى حد بعيد ـ التي تمثل الإبداع القصصي في مصر الآن، وباعتراف الجميع، أما على المستوى الفني فإننا سنرصد حالة عجيبة، فمن حيث ينتهي يوسف أدريس يبدأ إدوار الخراط، مع بداية السبعينات كان الأول قد أنجز أهم إبداعاته التي ختمها بمجموعته البديعة "بيت من لحم" والثاني لم يكن قد اصدر غير مجموعة واحدة هي "حيطان عالية" وتعال لنرى لعبة الفن وقانونه، وحيله لتحطيم هذا القانون، كاتب يقدم إنجازاً هاما بدفق هائل في فترة تمتد من 1950 حتى 1970م، والآخر يقدم مجموعة وحيدة، ثم يبدأ تدفقه بعد سن المعاش فيبدع "ساعات الكبرياء" و"محطة السكة الحديد" و"رامة والتنين" و"الزمن الآخر" و"ترابها زعفران" و"بنات إسكندرية" و"أمواج الليالي" و"كائنات الأشواق"، إن الفن تجلى لنا في حالتين متناقضتين، هذا هو الدرس الذي ينبغي أن ندركه، وأنه ليتسرب في أعماقنا دون أن ندري، وعليك أن تتخير إحدى الحالتين.

والخلاصة أن إدوار كان معنا، ويشاركنا الهمّ الإبداعي، يوم بيوم، وأدريس كان تاريخا عريقا، ولم يكن حاضراً، نجادله. وفي ظل الحالة الادريسية انطلقت صرخة حافظ رجب "نحن جيل بلا أساتذة" فهي تعبر عن مطلب التغيير على المستوى الفني، فقد صارت أدوات الرواد غير كافية لاحتواء الهم المغاير. أما نحن فيحق لنا أن نبدلَّ الصيحة لنعلن "نحن جيل بلا نقاد" لأن المشروع الذي بدأه حافظ رجب وجيله هو الذي نقوم باستكماله معا، لأننا لم ننقض ـ جذريا ـ إبداعات الستينات، فقد بدأوا قبلنا بقليل ثم لحقنا بقطارهم، وما زلنا نتوزع في عرباته، منّا من نزل في المحطات القريبة، وهناك من التحق به في محطات أخرى، ولكنه على نفس الخط يسير، إلى أين؟ إلى محطة لم يبدُ لها أفق بعد.

ـ قال د. عبد الحميد إبراهيم في معرض تعليقه على بعض إنتاجكم القصصي: "هذا الجيل افهموه أو احذروه".. ماذا تعني هذه العبارة لك؟ وهل بالفعل تنطبق على كتّاب القصة الجدد؟

* إن د. عبد الحميد إبراهيم حين طالع أحد عشر نصا قصصياً لكتَّاب جدد هاله ما رأى، ويبدو ـ والله أعلم ـ أنه دخل على هذه النصوص بمعايير نقدية وبأحكام مسبقة، تمردت عليها الإبداعات الجديدة، فأسقط في يده. وربما أفزعته الرؤى التي تجلوها هذه النصوص، فلم تكن كتابة اعتيادية، بل كانت أقرب إلى الكتابة التي تستعصي على قوالب نقدية جاهزة، إنها نصوص خشنة، فيها شراسة، وتشرع في وجه من يتقدم إليها مخالب حادة، وأنيباً قاطعة، ومن هنا جاء عنوان د.عبد الحميد إبراهيم في الدراسة التي نشرها في مجلة "إبداع" ثم في مجلة "أوراق" الخليجية، وقد نقل د. عبد الحميد إليّ فزع نجيب محفوظ من هذا العنوان، لأنه حين التقاه قال له: "يا دكتور إن دراستك أرعبتني، وأشعرتني بأن هناك وحوشاً صغيرة انطلقت بلا ضابط في حياتنا الأدبية". هذا ما قاله د. عبد الحميد..

أما الدراسة فقد تناولت التبدلات الفنية التي تطرحها الكتابة الجديدة، وعلى سبيل المثال حين تناول قصتي "الضيف" لم يعثر على الريف الذي اعتادت عليه الكتابات السابقة، فلا شجر مورق هناك، ولا عصافير مغردة، ولا مشاهد طبيعية تسرُ العين، فالريف لم يعد مكاناً لرحلات البشوات القدامى، كما عند هيكل وتيمور مثلا.

ولم يعد مكاناً للبطل الإيجابي (الثوري) كما عند الشرقاوي، ولا مجال فيه للفكاهة والمرح وخفة الظل كما عند أدريس، لقد صار مكاناً جهما، تدار فيه علاقات خفية وغامضة، وابن المدينة لم ينزل الريف للفسحة، وإنما لتحقيق أغراض بذيئة ودونية. كذلك ففي قصتي "عباءة الليل" انتظر د. عبد الحميد إبراهيم أن يرى الليل كما اعتاده في تراثنا الشعري والقصصي كزمان للعشاق، ولكن ليلي فاجأه، فالليل هنا تجسد في كائن كهل، يضع على منكبيه عباءة قديمة مهترئة، رأسه جمجمة، وأطرافه عظام مكشوفة، يسير وراء العاشقين لملاحقتهما كمخبر سري، وهما يرهبانه، ويودان اختفاءه، ولا يرغبان في ونسه، كما كان حال العشاق في الزمن الغابر. هذه هي رؤيتي في قصتين، وهذا هو رعب الدكتور عبد الحميد إبراهيم الذي عبر عنه في هذه العبارة الصارخة "هذا الجيل افهموه أو احذروه".

هذه الصرخة تتسق ورؤية د. عبد الحميد التي تنتمي في خطوطها العريضة إلى النقد الكلاسيكي، لم يصرخ غيره من النقاد الذين اعتادوا التعامل مع الكتابة الجديدة محليا وعالميا، لأنهم يدركون المنطلقات التي يتأسس عليها النص الجديد، ولذا فإنهم لن يلجأوا إلى إعلان وحشيتنا، أو إلى التنبيه على فقدان إنسانيتنا بل إنهم سيحفرون عميقا للوصل إلى النبع الإنساني التي تمتح منه هذه النصوص، صحيح قد تكون بعيدة الغور، ولكنها موجودة.

ـ ما الخيط الذي يفصل بين الإبداع القصصي والإبداع الروائي عند يوسف أبو رية؟

* أنا من الكتاب الذين يميلون إلى السيطرة على عالم قصصي واحد، يمتد ويشيع في كل إبداعاتهم، ويكون له سمات محددة، تميزه عن عوالم الآخرين، وأظن أن امتلاك هذا العالم الواحد، يتحقق لعدد قليل من الكتَّاب، فهناك من يميل إلى تناول كل ما يقع لهم، ويفتعل له صياغة فنية، فتبدو أعماله وكأنها شتات، ويصير الأمر وكأنه "من كل فيلم أغنية".. مثل هؤلاء يسقطون من الذاكرة، وعادة لا يفلحون في تحقيق أداء متميز، فوحدة العالم تستدعي أداءً خاصاً، يظل ملمحاً من ملامح الكاتب، يعرف بها، وتعرف به، وربما يصنف هؤلاء ضمن الكتاب الصحفيين الذين يزاحمون الأدباء في عملهم، ويستدعيهم إلى هذه الضرورة التأثير المباشر للسياسة التي يلبسونها لحماً ودماً، عبر شخصيات تردد مقولاتهم، وتعلق على الأحداث المتلاحقة، في كتابة تشبه النصوص الأدبية، وإن كانت ـ في الأساس ـ تلبي ضرورة الاستهلاك.

ومتابعتك لمجموعتيَّ والرواية ستؤكد صحة ما حلمت به، لأنك ستجد عالماً واحداً يتم التعبير عنه في القصة القصيرة، كما في الرواية، والاختلاف هنا في اختيار الشكل الفني، بل إنك ستجد في بعض الشخصيات المكتملة في الرواية سمات لشخصيات، سبق وأن تعاملت معها في قصة قصيرة، ومن هنا تنبع أهمية اتساع العالم، ورحابته، فما يمكن التعبير عنه عبر موقف واحد، وبلغة مكثفة حادة، أو اختيارك لزاوية واحدة من حياة الشخصية، تستطيع الرواية أن توفر البراح لاكتمال جوانب الشخصية، والتعبير عن مجمل حياتها. ولقد جاءت "عطش الصبار" تدشينا لكل ما كتبت، وبلغت فيها ذروة مؤقتة، جعلتني استشعر أنني قلت كل شيء عن هذا العالم الذي انتمي إليه، ولكن ـ بعد حين ـ فوجئت، بأنني أهبط مرة أخرى إلى السفح لأراها من جديد، وإذا بي اكتشف مناطق غامضة، لم أتمكن من رؤيتها من قبل، وها أنذا أستعيد التناول، ولكن من موقع آخر. 


كاتب من مصر