يقدم الكاتب هنا مراجعة لآخر كتب الراحلة نعمات البحيري بعد تجربة قاسية مع المرض، حيث يكشف عن تعانق الشعر والنثر في سردها الشفيف لأنتاج خطاب الاختلاف والمصالحة مع الآخر ومع العالم.

تعانق الشعر والنثر وخطاب المصالحة

في «ارتحالات» نعمات البحيري

عمر شهريار

قد يندهش القارئ المبرمج علي تصنيفات نوعية محددة واضحة المعالم حين يطالع نص (ارتحالات اللؤلؤ)، كواحد من النصوص المائزة لنعمات البحيري. فهذا النص يصعب تصنيفه وفق قناعات ذلك القارئ الذي تربي علي آليات الفصل الحاد بين الأنواع الأدبية، إذ يدمج في داخل ثناياه بين الشعر والسرد. فرغم تصنيفه علي أنه مجموعة قصصية، فإنه ينطوي علي عدد من الخصائص الشعرية، ليس فقط اللغة المفعمة بشعريتها الخاصة، أو اللجوء إلي استخدام السطر الشعري علي مستوي الشكل الكتابي والطباعي، بل تتعداه إلي الطابع الغنائي الذي يميز المجموعة ويمنحها تللك الطاقة الشعرية التي لا تخطئها العين. ومن ثم فقد لا تجد حدثا مركزيا تدور حوله هذه القصة أو تلك داخل المجموعة، فضلا عن تنامي هذا الحدث بطبيعة الحال، وكذا لن نجد طبيعة زمنية متنامية ومتراتبة، فالخط الزمني داخل النص الواحد شبه مغيب تقريبا. فقد حرصت البحيري علي أن يأخذ نصها خصوصيته الجمالية من الطاقة الشعورية التي يمنحها لقارئه. فعبر نص قصير يشبه الومضة، أو ما يصطلح علي تسميته بالإبيجراما، يصاب القارئ بقدر هائل من الاندهاش الممتد وطويل المدي، رغم الفترة الزمنية القصيرة التي يستغرقها في قراءة النص. ومن هنا تبدو تلك المفارقة الواضحة بين الزمنية القصيرة لفعل القراءة، والزمن الطويل لفعل الاندهاش، فهي تراهن علي ذلك الأثر الشعوري والنفسي الذي يتركه نصها في وعي المتلقي وروحه.

لا توجد، إذن، داخل (ارتحالات اللؤلؤ) تلك المساحة الفاصلة الوهمية بين الشعر والسرد، والتي دائما ما تثير اللغط والتساؤلات، فقد تعانق الطرفان المتعاركان دوما، بفضل هذا الطابع الغنائي والذاتي، فالذات داخل النصوص السردية لا تسرد جملة من الأحداث المرتبة منطقيا وبنائيا، بل تنشغل ـ بدرجة أكبر ـ بسرد مشاعرها نحو تلك الأحداث والأثر النفسي الذي تركته فيها، دونما انشغال حقيقي بمنطقية الأحداث أو أن يؤدي بعضها إلي بعض. ولكن هل المزج بين الشعر والنثر والمصالحة بينهما هي المصالحة الوحيدة عند نعمات؟ في ظني أن فكرة المصالحة هذه تمثل جزءا رئيسا من الخطاب الثقافي عند نعمات البحيري. فقد نجد مصالحة بين الذاتي والعام أو الفرد والجماعة، وهي تلك الإشكالية البلهاء التي تثور في وجوهنا من آن لآخر. فنري الذات الساردة/ الشاعرة داخل المجموعة تعبر عن همومها الذاتية غير المنبتة عن هموم الوطن والجماعة التي تعيش فيها، بوصف هذه الذات الوحيدة تمثل جزءا من ذات الوطن والجماعة، ومن ثم فإن الهم الذاتي مثل الإقامة في مدينة جديدة، والوحدة التي تعانيها هذه الذات، ليس منقطع الصلة، بحال، عن هموم العالم أو بوصف هذه الذات جزءا من العالم وأحد مكوناته، والتعبير عن هذه الذات ومشكلاتها لم تعتبره البحيري ـ ولا يجب أن نعتبره ـ تنحيا عن ممارسة الكاتب لدوره، بل باعتبار الذات تمثيلا للعالم أو العالم وقد تم تصغيره كي يمكن القبض علي ثغراته العميقة، دونما مقولات أيديولوجية كبري تصدع الرؤوس.

يتجلي خطاب المصالحة، أيضا، في ذلك التقارب بين ذات السارد وذات الكاتب، وهي تلك المنطقة التي يتم السكوت عنها أو طمرها، وخصوصا لدي الكاتبات: ربما بفعل المجتمع القامع لهن ولحيواتهن. فنري نعمات وقد قدمت لمجموعتها بمقدمة تذكر فيها ملابسات سكنها في مدينة بعيدة، وتلك الوحدة التي عانتها وألهمتها هذه النصوص، في إلحاح علي إعلان أن هذه التجربة النصية هي تجربة حياتية خاضتها المؤلفة، دونما اصطناع تلك المساحة الوهمية بين الساردة والمؤلفة، علي عكس الاتجاهات السائدة في الكتابات النسوية. وقد أكدت البحيري هذه المصالحة في أكثر من عمل آخر مثل رواية (يوميات امرأة مشعة) أو (أشجار قليلة عند المنحني). ولا يعني الأمر أنه لا توجد مساحات للتخييل في هذه النصوص، فهذا التخيل من بديهيات الكتابة، ولا يغيب عن كاتبة في قامة نعمات البحيري، ولكنها مارست دورها الثقافي في الإصرار علي أن حياة الكاتبة المرأة ليست عورة يجب الخجل منها، أو مداراتها وإخفاؤها. فقد عقدت تلك المصالحة بين الأنا والعالم، إذ تبدو الأشياء متداخلة بالضرورة، تقول: «أحسني شبه جزيرة ليست منفصلة تماما/ وتمتلك الشجاعة الضرورية علي الاتصال/ ذلك الذي يجعل الكل في واحد/ وكل ما فيٌ يأخذ موقعه للتماس... والآن/ أحاول أن أتخلص من خجلي البائس» (ص93). لعل هذا المقطع يبدو ذا دلالة خاصة في خطاب المصالحة الذي ينظم تجربة البحيري الإبداعية، فكل الأشياء تمتلك ما يمكن أن نسميه استقلالها الذاتي، وفي الآن ذاته ليست منفصلة تماما عن نقائضها، فالذات ليست منفصلة عن العالم، والكاتب غير منفصل عن الشخص، ومن ثم فإن السرد غير منفصل عن الشعر، فكل الأشياء تمتلك قدرتها علي الاتصال والتماس، حتي يغدو الكل في واحد. هذا التوحد الذي يحدث رغم الاستقلال النسبي، ولا يحتاج الأمر إلا لمحاولة التخلص من ذلك الخجل "البائس" الذي يسيطر علينا.

يظهر خطاب المصالحة، كذلك، في أكثر من موضع داخل الخطاب السردي: إذ نجد المصالحة مع الرجل رغم الإرث التاريخي من القمع الذي مارسه ضد المرأة. ورغم تجربة الساردة مع الرجل، تقول: «رغم كل ما حدث/ مازلت لا أضمر شرا للرجال/ ومازلت أعمل وأفرح وأغني/ وأترك شعري للريح وأغني» (ص121). فثمة، إذن، أشياء كثيرة حدثت، وهي ذلك الإرث المعروف من القهر، ورغم ذلك فإن الساردة أو الذات الشاعرة (في الحقيقة هذا مأزق من المآزق الذي تضعنا فيه البحيري) تستطيع أن تتجاوز عن هذا الإرث، فتتمكن من الغناء والفرح الذي لا يحدث إلا مع مصالحة العالم وليس فقط الرجل. تقول: «أومئ للقطط/ بأن هناك قمرا لليل/ وشمسا للنهار/ وربا للسماء والأرض/ ورجلا لكل امرأة» (ص104). يبدو الأمر هنا كنوع من التلازم الطبيعي، الذي يشبه التلازم بين الليل والقمر أو بين الشمس والنهار، بعيدا عن العداء التقليدي الذي كرسته النسوية الراديكالية.

هذا الخطاب ـ خطاب المصالحة ـ يتواصل أيضا في مصالحة الطبيعة بوصفها مكملا للإنسان، فالذات تتوق إلي التماهي مع تفاصيل وجودها وتؤنسنها وتجعل منها رفيقا يؤنس وحدتها، تقول: «عبر إيقاع الصمت ورمال الصحراء/ أحلم بمقاعد حجرية/ بمظلات من شجر/ وكثير من البشر» (ص24). فالساردة تحلم بالبشر الذين يؤنسون وحدتها، رغم أن وجودهم قد يكون ضاغطا عليها ولكنها تحاول التصالح مع هذا الوجود الذي تتمناه، ربما بفعل التأمل الذي فرضه عليها إيقاع الصمت ورمال الصحراء. ورغم رغبتها في هؤلاء البشر والتواصل معهم، فإنها لم تنس الطبيعة متمثلة في المقاعد الحجرية والشجر، التي تتمني وجودها كجزء رئيسي في تكملة المشهد، وأيضا كجزء من خطابها التصالحي.

لعل تجليات المصالحة تمثل البنية المركزية في مشروع نعمات البحيري الإبداعي، وهو ما تجلي بعد ذلك في تصالحها مع الاغتراب رغم قسوة التجربة فنجدها في (أشجار قليلة عند المنحني) تكتب عن التجربة القاسية التي مرت بها الساردة/ الكاتبة، وفق الشروط الموضوعية، بمفهوم أنها حاولت البحث عن المعوقات السياسية والاجتماعية التي حولت تجربة الحب إلي تجربة قاسية، ولم تتورط في إدانة الحب أو السفر والتعرف علي الآخر، كما تصالحت مع تجربة المرض وحولته إلي شيء مثير للضحك والسخرية في (يوميات امرأة مشعة). يبقي أن نشير إلي أن إنسانة راقية ومثقفة عميقة ومبدعة فاتنة مرت من هنا وتركت أثرا عميقا لا يمكن تجاوزه بحال. وإذا كان المشهد الثقافي لم يعطها حقها في حياتها (جائزة الدولة جاءتها بعد مساخر كثيرة، وبعد تجاوزها في المرة السابقة بشكل مثير للغيظ والتساؤل)، فعلي هذا المشهد بمثقفيه أن يلتفتوا إلي نصوص بالغة الأهمية كتبتها مبدعة كبيرة اسمها نعمات البحيري. 


عن (اخبار الأدب)