كأن الروائح آثارٌ مسجلة على سطح كُثيـْب، وعصـفتْ رياحٌ فأضاعتها، عدا رائحة الاحتراق، حفرت أخاديدها بذاكرتي.
كانت أمي تحذرني من اللعب بأعواد الثقاب، وإلاَّ بللت فراشي ليلاً. لم أرتدع. أخي، الذي لا يشاركني مغامرات إشعال أعوادِ الثقاب، يتلقى تعنيفَها كل صباح، وهو يفرُّ من أمامها ومنامته مبلَّلة.
وكانت جدتي لأبي تسمحُ لي ـ خِلْسـة ـ بمساعدتها في إشعال موقد الكيروسين .. تدفع المكبس عدة مرات حتى ينْفِـطَ الوقودُ من ثقب برأس الموقد، فأسارعُ أنا بإشعال العود، لتنطلق شعلة الموقد، ناراً كبيرة ذات فحيح، أظل محدقا في استعارها، تملك عليَّ حواسي. وأوقدتُ مع جدتي، أيضاً، ناراً كبيرة. أخلت سريرها الحديدي الكبير من كل الحشايا والمفروشات، وأتيتُ أنا بكومة من أوراق صحيفة (الجمهورية)، المفضَّلة عند جدي، وضعتها على بلاط الغرفة، وسط الهيكل الضخم للسرير، وأشــعلتُ فيها النار. كانت الفكرة فكرتي؛ فلما رأت جدتي بعينها طوابير البَـقِّ تفزع من شــقوقها ومخابئها، والدخان يطاردها، والنار تمسك بها، قالت لي : " والله، عفارم عليك يا واد رجب، أفكارك شيطانية !". كانت لا تكف عن الشكوى من (الأكلان)، الذي نقله جدي إلى سريرها من بيت زوجته الأخرى (النتنة)؛ وأخذت تكنس جثث البق في كومة صغيرة، وكان بينها صرصارٌ طالته النارُ. كانت أمي بالخارج، فلما رجَعتْ أخذت تتشـمَّمُ الهواءَ، وقالت وهي تنظرُ إليّ متشككة : ريحة حريقه. انبرت جدتي تبعد عني ريبتها : حريقه ؟ .. تفي من بقك .. الشر بـرّه وبعيد !.
وكان الأولادُ في الشارع يعرفون أنني لا أمشي إلاَّ وفي جيبي علبة ثقاب من صنف (الهلب). وكانوا يغنون معي للعلبة، في هتاف له نغمة، مع التصفيق : كبريت الهلب أحسن كبريت .. كبريت الهلب أحسن كبريت !. كانت أعواد الثقاب هي الحل في مواجهة مشاكل كثيرة، ولم نستخدمها – أبداً – في أذىً. وحتى عندما كنا نشعل قطعا من الخشب المهمل لنتدفأ بها إن جمعنا اللعب في الشارع بليل شتوي، كنا لا نترك الجذوات مشتعلة عند انصرافنا إلى بيوتنا، فيسارع الأولاد يرفعون أذيال جلابيبهم ويبولون عليها، والبنات يتضاحكن. ولما صنعنا دمية كبيرة للإنجليزي (إيـدن)، عهدوا إليّ بمهمة إشعال النـار بها، وحملناها – مشتعلة – ودرنا بها في شوارع غيط العنب، نهتف بحياة جمال عبد الناصر، وسقوط العدوان الثلاثي. ورآني عمي عبد السلام أقود مظاهرة الأطفال الحفاة، فابتسم، وأثنى عليَّ فيما بعد، وكان حماسه لجمال عبد الناصر يدهشني، وكنت أراقبه وهو جالس بين رفاقه بالمقهى يتكلم في السياسة، ولم يلبث أن انضم إلى الاتحاد القومي، ثم نجح – فيما بعد - في انتخابات الاتحاد الاشتراكي عن دائرة كرموز. كان يعرف أنني أحب ثمار (أبو فروة)، فيشتريها لي من حين لآخر، ويجلس ينتظرني وأنا أشويها في نار المدفأة الفخارية الهادئة. والحقيقة التي لم يعرفها أحد هي أن أكثر ما كان يمتعني من أبي فروة هو رائحة احتراق غلاف الثمرة الخشبي الواهي المغطى بزغب دقيق، وكان يطقطق ويتشقق بين جذوات الفحم، فأسحب الثمار المشوية الناضجة بملقاط من الصفيح، وأوزعها على أفراد الأسرة، وأكتفي أنا بثمرة أو اثنتين، فقد أخذتُ حظي من رائحة الاحتراق العطرية.
لم يلتفت أحد، غير جدتي، إلى احتفالي بروائح الاحتراق. تشكك أبي، لبعض الوقت، حين وجدني أقوم من نومي مفزَّعــاً، وأغمغم بأن رائحة احتراق تملأ فتحتي أنفي، ولم يلبث أن انضمَّ إلى باقي أفراد العائلة في إجماعهم غير المدبَّـر على ألاَّ يلقوا بالاً لحكاياتي عن الحرائق التي أشعر بها تندلعُ، وروائح الاحتراق التي لا يشعر بها أحـدٌ غيري. وذات مساء، أخبرتهم بأن ثمة حريقاً. لم يهتم أحد؛ وكان عليَّ أن أعود إلى فراشي، ولكني لم أجد للنوم سبيلا. كنتُ لا أزال أشمُّ رائحة لم أعهدها في بيتنا من قبل. وسرعان ما جاء الخبر بأن مخزن الأعلاف، غير البعيد عن بيتنا، يحترق. كانت الرائحة مميزة، وقد أتت النيران على كل المخزون، لأن قوات الإطفاء تأخرت كثيراً. تكرر ذلك أكثر من مرة .. ليلة أن أحرقت جارتنا الجميلة "فايزه" نفسها يأساً من التخلص من جني (يخاويها). سكبت الكيروسين على جسمها في الحمّام، وأشعلت في نفسها النار، وجاءتني رائحة احتراق ملابسها، أولاً، فصحت أنبه من حولي، وقابلوا جزعي باستخفاف، حتى تبدلت الرائحة، وأصبحت قريبة الشبه برائحة الدخان الذي كنت أهوى تشممه، من قرب، وهو يتصاعد من أسياخ الكفتة والكباب المتراصة على الجمرات في شواية (حاتي) يقيمها على الرصيف في شارع مجاور. أصبحت رائحة شواء. وسرعان ما اكتشفت أم فايزة طول مكوث ابنتها في الحمّام، فاقتحمته عليها، لتفاجأ باندلاع النار في جسمها، فانطلقت تصرخ وتولول. وحين جاءها من ينجدُها كانت الحروق تغطي معظم جسم فايزة، وماتت قبل أن تنقل إلى (الميري)*. واتخذت جدتي قراراً بالتكتم على تنبهي المبكر إلى وجود حريق، وذلك لكي لا (نروح في سين وجيم). ومضي كل شيئ في مساره المعتاد، وهم مثابرون، دون اتفاق، على أن يتجاهلوا أمري. اهتمت جدتي، فقط، بأن تلاحظ: (أصل مناخيره حساسه قوي).
وأحسبُ أن جدتي لم تكن على صواب، فإحساسي بالحرائق كان مختلفاً، وليس مجرد تشمم روائحها، وأزعمُ أنني كنت، قبل مقدم الحرائق، أعيشها، بل تيسر لي، أحياناً، أن أتخيل حجمها، فتتراءى لي ألسنة النيران تتعاظم، وتتدرج ألوانها كلما استعرت، من الأحمر للأصفر، فالأزرق، ورأيت ألسنة نيران بلون البنفسج.
على أي حال، لم تلبث تلك الجدة الرائعة أن دخلت دائرة غير المبالين بحرائقي، وأصبحت، معهم، تتلقى أخباري في صمت، ثم حدث أن انقلبت ضدي، وكأنني أنا الذي تسببت في موت أبي، مع أنني بادرت بتحذيرها .. طلبت منها ألاَّ يذهب أبي إلى (الفواريكا) في ذلك اليوم، فنهرتني وطلبت مني ألاَّ أتدخل في شئون الكبار، ثم عادت تنظر إليّ متشككة، تتساءل : قصدك إيه يا واد ؟. فأخبرتها بأن مخزن خيوط الغزل سيشتعل هذا المساء، فخلعت نعلها المنزلي تهددني به. لم تسألني كيف عرفت بذلك، وإنما أخذت تطاردني والنعل مرفوع بيدها، وأنا أدرك أنها، في دخيلتها، تصدقني. وعند مغادرة أبي البيت بعد الظهر، وكانت مناوبته من 3 لـ 11، كانت في وداعه عند الباب، يعتصرها الألم في تترددها أن تطلب منه البقاء بالبيت، ثم تحجم عن منعه من المغادرة إلى شركة الغزل في محرم بك.
أكلت النيران أبي مع خيوط الغزل، وفقدتُ صداقة جدتي، التي صارت لا تطيق النظر في وجهي، فإن فعلت كان الارتياب يكسو ملامحها؛ وكان ذلك يحزنني؛ غير أن الحال لم يستمر طويلاً، فلم تلبث أن ماتت. وجربت أن أستبدل جدتي بأشخاص آخرين، من الأصدقاء أو المعارف، حتى أنني حاولتُ مع زوجتي، لكن أحداً لم يكترث لي، كأنني لم أكن أخبرهم بشيئ، أو أكلمهم بلا صوت. وانتظرت، أكثر من مرة، أن يأتيني أحدهم ليسألني كيف عرفت باندلاع الحريق، فلم يسألني أحد، فأمسكت عن رغبتي في الإفضاء للآخرين بما يهبط عليّ من رؤى الحرائق، لأكابد وحدي مشقة انتظار أنباء الفواجع، وآلام أخبار الخسائر والضحايا.
وأنا أعيش الآن حالة رعب دائم من حريق موشك، لا أقدر – ويحدث ذلك معي لأول مرة – على تحديد مكانه، ولكني أراه هائلاً، تغطي نيرانه أرصفة كل الشوارع، وتتصاعد ألسنتها المتوهجة من النوافذ والشرفات وتسد أبواب المنازل، وكرة رهيبة من اللهب تتدحرج، ولها صوت، تطارد الناس، فيمسك اللهب بالآلاف منهم، أجد بينهم أبنائي وأحفادي، ووجوها عديدة لذوى القربى والأصدقاء؛ وأمواج مروعة من الدخان تتصاعد إلى السماء، تحجب عنها وحشية النيران، وأنا واقف مسلوب الإرادة، ودائرة النار تحيط بي وتضيق .. تضيق .. تضيق، ولا أملك غير الصراخ، وقد بُحَّ صوتي : الجحيم .. الجحيم !
* أي (الأميري)، وهوالاسم الدارج للمستشفي الحكومي التابع لجامعة الإسكندرية.