يقدم الباحث المصري هنا إطلالته الشاملة على إبداع الشاعر المصري الشهير، يتناول فيها سيرة الشاعر ومسيرته الثقافية والأدبية من شاعر البلاط إلى شاعر الواقع الوطني والاجتماعي، والأسباب التي أدت إلى مبايعته أميرا لشعراء عصره، ثم يتريث عند ملامح شعره وأغراض هذا الشعر المختلفة.

في حضرة أمير الشعراء أحمد شوقي

إطلالة على إبداعه الشعري

يسري عبد الغني عبد الله

حياته:

أحمد شوقي المتوفى سنة 1351هـ = 1932م، هو أحمد شوقي بن علي بن أحمد شوقي، ينتهي نسبه من جهة أبيه إلى الأكراد فالعرب، ومن جهة أمه إلى الأتراك، وفيه عرق جركسي من جهة جدته لأبيه، وعرق من اليونانية من جدته لأمه، فكان كما قال عن نفسه: "أنا إذا عربي، تركي، يوناني، جركسي". كان مولد شوقي بالقاهرة، في عهد الخديوي/ إسماعيل في 16 أكتوبر سنة 1870م، وقد وصل والده في مراتب الدولة إلى أن صار أمينًا عامًا للجمارك المصرية، ولكنه كان مبذرًا متلافًا، أضاع كل ثروته، فكفلت أحمد شوقي السيدة/ (تمراز) جدته لأمه منذ أن كان في المهد، وكانت وصيفة في قصر الإمارة.

وقد قضى شوقي سنوات حياته الأولى في حي (الحنفي) الذي يقع في حي السيدة زينب جنوب القاهرة، ولما بلغ الرابعة من عمره أُدخل مكتب (كتاب) الشيخ/ صالح (مازال موجودًا حتى الآن)، وجاز مرحلة التعليم الابتدائي، ثم التعليم الثانوي بتفوق، مع صغر سنه، ثم دخل إلى مدرسة الحقوق العليا، ومكث بها لمدة عامين، التحق بعدهما بقسم الترجمة الذي أُنشئ فيها، ومكث بها عامين آخرين، ولما نال الإجازة أٌرسل في بعثة إلى فرنسا سنة 1887 م، لكي يدرس الحقوق والآداب الفرنسية.

في فرنسا مكث شوقي أربع سنوات كاملة، حتى نال إجازة الحقوق العليا، ثم أُعطي فرصة أخرى لمدة ستة أشهر، يتعرف فيها على باريس وحضارتها، باريس العاصمة الفرنسية أو عاصمة النور في تلك الآونة. وقد رحل شوقي أثناء دراسته إلى جنوبي فرنسا، والجزائر، وانجلترا، وشغف حبًا بالمسرح الفرنسي، وعاصر في أثناء مقامه بفرنسا عددًا من كبار أدبائها وأعلام القصة والمسرحية فيها، من أمثال: (اسكندر ديماس) الابن، و(جي دي موباسان ) وغيرهما، وتأثر بهما في أدبه، بعد أن اطلع على إبداعهما وتمثله جيدًا. عاد شوقي إلى مصر من بعثته الفرنسية سنة 1891م، وقد تشبع ذوقه وعقله بحضارة الفرنسيين وثقافتهم وأدبهم، وكان يتقن اللغات: العربية، والفرنسية، والتركية، ولما عقد مؤتمر المستشرقين بالعاصمة السويسرية / جينيف، سنة 1894 م، أُوفدَ شوقي إليه ممثلاً لمصر، وأنشد فيه قصيدته المعروفة: (كبار الحوادث بوادي النيل) التي مطلعها:
همت الفلك واحتواها الماء
وحداها بمن تقل الرجاء

وتدرج في مناصب الحاشية، حتى تولى رياسة (القلم الإفرنجي) وصار شاعر القصر أو شاعر الأمير الرسمي. وتزوج أحمد شوقي وهو في العقد الثالث من عمره، وحملت إليه زوجته ثروة ضخمة عن أبيها، فأفاد ثروة مزدوجة من جاهه وزوجته، ورزق أولادًا ثلاثة هم: أمينه، وعلي، وحسين. وكثيرًا ما تردد على الأستانة التركية عاصمة الخلافة العثمانية في مواسم الصيف، وكان ينزل أحيانًا ضيفًا عزيزًا مكرمًا على دار الخلافة. ولما شبت الحرب العالمية الأولى، وقام الإنجليز بخلع الخديوي/ عباس حلمي، أبعد شوقي عن مصر، واختار مدينة (برشلونه) الأسبانية (الأندلسية) دارًا لمنفاه، فلما وضعت الحرب أوزارها عاد إلى مصر في أخريات سنة 1919م، وقد تغيرت مصر وشبت فيها الثورة الوطنية، فاستطاع شوقي أن يتحرر من سلطان القصر وقيوده المكبلة لحرية الفكر والرأي والإبداع، وخرج من نطاق البلاط السلطاني الضيق إلى النطاق القومي العام، وأخلص ولاءه لأمته وفنه وأدبه، فأخذ مكانته في القيادة الوجدانية للأمة المصرية والعربية والإسلامية، وناضل بشعره في الدفاع عن قضايا أمته الكبرى، واستثار الوعي العام، ونقد الفساد السياسي، والتصدع الحزبي. وفي سنة 1927م أقيم في دار الأوبرا القديمة بوسط القاهرة مهرجان كبير لتكريمه، اشترك فيه عدد كبير من الشعراء والأدباء والعلماء والمثقفين وأهل الحل والعقد وأهل الفكر والرأي من كل الأقطار العربية والإسلامية والأجنبية، وقد بايعوه بإمارة الشعر العربي، وسجل الشاعر/ حافظ إبراهيم (شاعر النيل) هذه المبايعة بقوله:

أمير القوافي قد أتيت مبايعًا

وهذي وفود الشرق قد بايعت معي

ثم قضى حياته ملء القلوب والأسماع، شاعرًا أكبر للعربية في عصره، حتى توفاه الله في 13 من أكتوبر سنة 1932م، وتولت وزارة المعارف العمومية بمصر (وزارة التربية والتعليم الآن) الإشراف على حفل كبير تم فيه تأبينه، وقد اشترك فيه صفوة الأدباء والشعراء من أقطار العروبة جمعاء، وكان يومًا مشهودًا في تاريخ الأدب العربي الحديث.

صفاته:

كان شوقي شديد الحياء، يكره الدخول في زحمة الناس، كما كان قليل الكلام في المجالس العامة، ولذلك كان لا يستطيع إنشاد شعره بنفسه، بل يكل إلى سواه إلقاء قصائده، لأن حياءه يمنعه من مواجهة الجماهير، ولسانه لا يسعفه بالنطق الجيد وحسن الإلقاء. كان وديع النفس، رقيق المزاج، لا يعنف، ولا يستفزه الغضب، ينفر من ذكر المآسي، ويتحاشى رؤيتها ما وسعه الجهد، وقد راض نفسه على الصبر واحتمال أذى الدنيا والناس، فقلت شكواه، وإن تكن محنة النفي قد غلبت صبره، فنفس عن حزنه بقصائد مثيرة، تفيد مرارة  وشجنا:
وطني لو شغلت بالخلد عنه

نازعتني إليه في الخلد نفسي
وصهرته المحنة، ولم يجد ما ينفس عن لوعته إلا الشعر، يخفف عن انفعاله، ويرجع نجوى فؤاده الذي يذوب شوقًا وهياما، حتى إذ أن له أن يرجع إلى مصر استقبلها هاتفًا من صميم روحه التي ردت إليه:
فيا وطني لقيتك بعد يأس
كأني قد لقيت بك الشـبابا

المؤثرات في شعره:
ذكر شوقي أنه بدأ نظم الشعر وهو طفل، وكان يخطئ ويتعثر، ولكنه ما لبث أن تعلم اللغة العربية على يد أستاذ قدير، هو المرحوم الشيخ حسين المرصفي صاحب كتاب (الوسيلة الأدبية) ـ وقد كتبنا دراسة عن هذا الرجل المتميز، نأمل أن ترى النور، فاستقام له ميزان الشعر، بين العشرين والخامسة والعشرين. وسافر شوقي إلى فرنسا ليتم دراسته، ومكث بها زهاء خمس سنوات، وفتن بالمسرح، وقرأ كثيرًا من روائع الأدب الفرنسي، وظل أثر هذه الفترة ماثلاً في نفسه أمدًا طويلا، وإليها يرجع فضل كبير فيما استحدث من جديد الشعر، إذ أنها هي التي وجهته إلى المسرحية الشعرية التي لم يكن للأدب العربي عهد بها من قبل. وأفاد شوقي إفادة كبيرة من قراءة الشعر العربي القديم في مختلف عصوره، وحفظه لروائع آثاره، ومعارضته لكبار شعرائه في أجود قصائدهم، وقد قيل: إن (شوقي) كان يحفظ ما ورد من كلمات في أبواب المعاجم اللغوية العربية القديمة مثل: (الصحاح) للجوهري، و(لسان العرب) لابن منظور، وغيرهما، حفظًا عن ظهر قلب.

وكان قبل منفاه يؤثر المعنى على اللفظ، ويقتبس كثيرًا من معاني الأدب الربي دون احتفال بالصياغة، ثم أتيحت له في منفاه الأندلسي الفرصة لكي يزيد من محصوله من الأدب العربي الرفيع وبالذات الأدب الأندلسي بشتى فنونه، فرجع قوي الديباجة، رائع الموسيقى، متمكن من الأداء المعبر بأروع لفظ، وأقوى بيان. ومما لا شك فيه أن (شوقي ) أفاد أيضًا من صحبته للشاعر الوديع النبيل إسماعيل صبري، وكان شاعرًا مرهف الحس، دقيق الذوق، فاعتاد في مبدأ حياته الشعرية أن يعرض عليه شعره، فلا يزال يعالج معه ما عسى أن يقع فيه من قلق في اللفظ، أو ضعف في المعنى، أو نشوز عن مواقع الجمال، ثم ما لبث أن استقل بمراجعة شعره، وتمكن من نظمه، حتى كان ينظم في كل مكان وزمان، جالسًا أو ماشيًا، وحده أو مع الناس.

وربما أتم شوقي نظم قصيدة رائعة في ساعة واحدة، كما فعل وهو في مدينة دمشق العاصمة السورية، ليلة تكريمه في المجمع العلمي العربي، ومثل قصيدته (النيل) التي مطلعها:
من أي عهد في القرى تتدفق؟
وبأي كف في المدائن تغدق؟

ويقال إنه نظمها في ليلة واحدة، وهي تربي على 150 بيتًا من أروع ما قيل في الوصف. وشوقي نشأ وعاش مترفًا منعمًا، فكان لهذه الحياة الأثر الكبير في أخيلته وصوره الشعرية، وإليك ـ أيها القارئ الكريم ـ مثلاً وصفه للجزيرة التي تقع على الجانب الغربي من نهر النيل بالقاهرة:
وخميلة فوق الجزيرة مسها         ذهب الأصيل حواشيًا ومتونا
كالتبر أفقًا، والزبرجد ربوة          والمسك تربًا، واللجين معينًا
وقف الحيا من دونها مستأذنًا      ومشى النسيم بظلها مأذونــًا
وجرى عليه النيل يقذف فضة       نثرًا ويكسر مرمرًا مسنونـًا
يغري جواريه بها، فيجسنها         ويغر
رهن بها فيستعلينــــا
راع الظلام بها أوانس ترتمي       مثل الظباء من الربا يهوينـا
يخطرن في ساح القلوب عواليًا     ويملن في مرأى العيون غصونا
عفن الذبول من الحرير وغيره      وسحبن الآس والنسرينـــا

لقد كان لاتصال أحمد شوقي بالقصر أو بمقر الحكم، واطلاعه على خفايا السياسة المصرية، ووجوده في تلك الفترة التي اشتد فيها الصراع بين الوطنيين والاحتلال الإنجليزي، ثم نفيه إلى إسبانيا، ثم عودته والثورة المصرية الشعبية سنة 1919، على أشدها، وما أعقبها من إعلان رفع الحماية عن مصر بتصريح 28 فبراير سنة 1922، كان لكل هذا أثر محسوس في شعره موضوعًا وعاطفة. كان شوقي كثير الأسفار، وكان وثيق الصلة بالباب العالي أو الأستانة عاصمة الخلافة العثمانية بتركيا قبل أن تسقط الخلافة، وقد أفادته هذه الأسفار المتنوعة تجربة واسعة، وأطلعته على مناظر باهرة ساحرة، وعلى بيئات مختلفة للطبيعة والناس، نضيف إلى ذلك أن شوقي كان يجيد أكثر من لغة غير اللغة العربية، فقد كان يجيد التركية، والفرنسية، ويقرأ روائع آثارها كأهلها تمامًا، ولعل ذلك ما وسع آفاقه الشعرية، وأغنى رصيده الفني، وزاد أفقه وخياله، مما هيأه لأن يكون بحق شاعر العربية الأول في العصر الحديث.

وقد تصرف في جميع فنونه الشعرية بأصالة واقتدار قلما نعثر عليهما في مطالعتنا لعديد من الشعراء، ولذلك بهر معاصريه بخصب شاعريته، ورحابة أفقه، وعلو بيانه، وعارض عن بينة ومقدرة أدبية وفنية كبار شعراء اللغة العربية في أروع قصائدهم، فما تخلف عنهم، ولا شابت معارضته شائبة قصور أو ضعف. كما أنه تأثر بالأدب الفرنسي، وأخذ منه ما أضاف جديدًا إلى الشعر العربي، وحذا حذو الشاعر الفرنسي (فيكتور هوجو) في الموضوعات السياسية والوطنية، وفي التاريخ القومي، وأساطير القرون، كما حذا حذو الشاعر الفرنسي (لافونتين) في الحكايات الخرافية، وإن كنا نؤكد هنا على تأثر (لافونتين) نفسه بحكايات كليلة ودمنة التي عربها الأديب والمترجم العباسي عبد الله بن المقفع، ونؤكد أيضًا على أن (شوقي) قرأ هذه الحكايات قراءة واعية هاضمة، رغم نفيه ذلك لأسباب غير واضحة. كما أنه حذا حذو الشعراء الفرنسيين الكبار / (كورني) و(راسين) و(موليير) في التمثيليات أو المسرحيات الشعرية التي كتبها شوقي.

ولكنه مع تأثره بكل هؤلاء في ألفاظه ومعانيه ـ ظلت شخصيته قوية محتفظة بأصالتها، مسيطرة على شعره، تلمس فيه روحه، وثقافته الواسعة العميقة، وخياله المجنح، وموسيقاه العذبة. لقد ترك شوقي لنا ديوانًا ضخمًا من الشعر العربي البديع الجميل في أربع أجزاء كاملة، وبقى من شعره قر غير قليل لم ينشر في هذه الأجزاء الأربعة من ديوانه، وقد عكف الدكتور محمد صبري السربوني على جمعه من قديم الصحف والمجلات، ونشره في مجلدين بعنوان: (الشوقيات المجهولة). كما أضاف شوقي إلى الشعر العربي جديدًا بمسرحياته الشعرية: (مصرع كليوباترا ) و(مجنون ليلى) و(قنبيز) و(على بك الكبير)، و(عنتره). وله من التراث الشعري أيضًا (دول العرب وعظماء الإسلام )، وأما النثر فمن آثاره فيه كتاب (أسواق الذهب ) ومسرحية (أميرة الأندلس).

شعر شوقي:
ونحاول الآن أن ننظر في شعر شوقي، فنبدأ بالأغراض التقليدية التي جرى فيها على سنن الشعراء السابقين، من: مدح، ورثاء، وحكمة، ووصف، وغزل.
المديح:
كان شوقي في أول أمره لا يرى خيرًا في المديح لأنه من وجهة نظره الخاصة يقيد المواهب، كما صرح بذلك في مقدمة الجزء الأول من ديوانه، ولكنه اضطر إليه بحكم صلته الوثيقة بقصر الخلافة العثمانية في تركيا، وكذلك صلته بالبيت الحاكم في مصر، وكأنما إزدهاه في شبابه أن يرقى إلى مرتبة (شاعر الأمير) لما في ذلك من شهادة بتفوقه وامتيازه:

شاعر العزيز وما     بالقليل ذا اللقب

وعلى الرغم من نفوره الطبيعي من المديح فقد جادت شاعريته بغرر القصائد في مدح الخليفة العثماني، والجالسين على عرش مصر، وسر إجادته فيها أنه كان يمدح عن انفعال صادق، إذ كان يرى في الخلافة الإسلامية رمز وحدة بين الأقطار العربية والإسلامية، تحاول الدول الاستعمارية تمزيقها، كما كان مقرًا بفضل الخديوي إسماعيل عليه، فهو يمدح أمراء بيته اعترافًا بالجميل، واستجابة لما في طبعه من سجية الوفاء.

أأخوان إسماعيل في أبنائه         وقد ولدت باب إسماعيلا؟

وهذا الصدق الفني هو ما أعوز أكثر شعراء المدح، ممن صاغوا آيات الثناء والتمجيد في الحكام والأمراء نفاقًا وتملقًا، والتماسًا للحظوة، واستجداءً للرضا والعطاء. وشوقي مع ذلك كان موزع الوجدان بين وفائه لأولياء نعمته، وولائه لفنه ولأمته، وقد حاول ـ ما وسعه جهده ـ أن يوفق بين العاطفتين، فكان يزجي النصائح إلى الحكام، ويذكرهم بحقوق الشعب في أدب جم ولباقة متفردة، يبدو معها كأنه يجعل هؤلاء الحكام موضع الرجاء لرعاية هذه الحقوق، أو يتطلع إلى أن تستعيد مصر بهم ما كان لهم من مجد ورفعة.

وعندما نقرأ قصائد شوقي في المدح والتي كتبها في الشطر الأول من حياته الفنية ـ قبل نفيه إلى إسبانيا تبدو في ظاهرها مسرفة في الثناء على ممدوحيه بما لا يستحقون ـ في بعض الأحيان ـ وادعاء فضائل ومكارم هم، لم يكونوا قط أهلاً لها، لكننا لو تأملناها بتعاطف وجداني ألفينا الشاعر يقدم فيها صورة مثالية للحاكم الصالح الذي افتقدته البلاد طويلاً، وهذه رؤية خاصة من جانبنا نتمنى أن ينظر بها كل من يدرس شعر شوقي في المديح، وبذلك نعيد الحق إلى نصابه، ونحكم البعد الموضوعي في أحكامنا النقدية. لقد كان شوقي ـ من ناحية أخرى ـ يرضي ولاءه لأمته العربية والإسلامية في مجال الشعر القومي، كلما ألم بالوطن حادث أو مات من رجال الأمة زعيم مخلص. وعندما تحرر شوقي بالنفي من قيود الوظيفة الرسمية في القصر، وتخلص من أغلالها الباهظة، وهب نفسه للشعر ولشعب، وأخذ مكانه قائدًا وجدانيًا للأمة، ينافح عن مشاكلها، ويناضل عن قضاياها، ويخصب وجودها الفني، ويحدو الجماهير إلى آفاق النور والحرية.

الرثاء:
يشغل الرثاء في ديوان شوقي قدرًا أكبر وأخصب من المديح، ذلك لأنه قصر مديحه على الخلفاء والأمراء والزعماء، أما الرثاء فكان مجاله رحبًا برثاء رجال الأمة العربية والإسلامية ودعاة الصلاح والإصلاح، من مختلف المشارب والاتجاهات والميول والطبقات، ولقد عاب عليه بعض خصومه إسرافه في الرثاء، فرد عليهم بقوله:

يقولون: يرثي الراحلين، فويحهم !         أأملت عند الراحلين الجوازيا؟!

هذا، وقد انتقل شوقي في مراثيه بشعر الرثاء إلى مرحلة أخرى، أضافت بعدًا جديدًا إلى الخطوة التي حققها رب السيف والقلم ورائد الشعر العربي الحديث محمود سامي البارودي، كان الرثاء في العصر التركي يكاد يكون محصورًا في نطاق ذوي الجاه والسلطان، وخرج به البارودي من ذلك المجال الضيق الذي يعوزه صدق الانفعال، فرثى من مات من أهله وأحبائه عن معاناة عميقة، ثم جاء شوقي، فوسع من مجاله، وانطلق به في الأفق القومي العام، وقلما وقف شوقي الراثي باكيًا منتحبًا أونادبًا متفجعًا، وإنما كان الرثاء ـ في الغالب الأعظم ـ مناسبة قوية لالتماس العظة والعبرة وتمجيد السجايا الكريمة والمثل العليا. ونحس مدى اندماجه في الموقف الشعري أو التجربة الشعرية، وقوة انفعاله به في ملائمة المرثية للفقيد، بحيث لو حاولت نقلها إلى شخص آخر لما استطعت إلى ذلك سبيلا، كقوله في رثاء أمير الغناء في عصره، المطرب عبده الحامولي:

ساجع الشرق طار عن أوكاره             وتولى فن على آثاره

ومنها البيت المشهور الذي يقول فيه:

يسمع الليل منه في الفجر يا ليـ .... ـل، فيصغي مستمهلاً في فراره

وقوله في رثاء ولده علي شوقي:

أنا من مات، ومن مات أنا          لقى الموت كلانا مرتين

 نحن كنا مهجة في بــدن           ثم صرنا مهجة في بدنين

ثم عدنا مهجة في بـدن            ثم تلقى جثة في كفنيــن

ثم تحيا في علي بعــدنا             وبه تبعث أولى البعثتيــن

وقوله في إحدى مراثيه للزعيم الوطني الشاب مصطفى كامل:

المشرقان عليك ينتحـبان            قاسيهما في مأتم والدانـــــي

يا خادم الإسلام، أجر مجــاهد      في الله: من خلد، ومن رضوان

يا طاهر الغدوات والروحات والـ     خطرات والأسرار والإعـــلان

هل قام قبلك في المدائن فاتح      غاز بغير مهند وســــــنان؟

لفوك في علم البلاد منكسًا         جزع الهلال على فتى الفتيـــان

والخلق حولك خاشعون كعهدهم     إذ ينصتون لخطبة وبيـــــان

يتساءلون، بأي قلب ترتقى         بعد المنابر؟ أم بأي لســــان؟

لو أن أوطانًا، تصور هيكلاً         دفنوك بين جوانح الأوطــــان

لقد رثى شوقي كل من له مكانة أدبية أو سياسية أو اجتماعية في مصر ممن كانت له بهم صلات، كما رثى زعماء العروبة والإسلام، نضيف إلى ذلك براعته في رثاء المدن المنكوبة والممالك الإسلامية  الزائلة، ونرى أن هذا جانبًا مهمًا يستحق الدرس والاهتمام.

الحكمة والأخلاق:
أكثر شوقي من أبيات الحكمة على عادة كبار شعراء العربية، وبخاصة شاعر العربية الأكبر أبو الطيب المتنبي، وكان لثقافة شوقي الواسعة وتجاربه العميقة أثرًا واضحًا في اتجاهه إلى شعر الحكمة والأخلاق وتفوقه الكبير فيه، ولم يكن لشوقي مذهب فلسفي خاص، يدعو إليه، ويبسطه في شعره، ولكنه كان مثقفًا ثقافة موسوعية عالية، وملمًا بالفكر والفلسفة، نضيف إلى ذلك كثرة تأمله في الكون والحياة، وفيما وراء الموت. وأكثر شوقي من الحديث عن الأخلاق، ورآها إحدى الدعائم الأساسية التي تبني عليها الأمم قوتها، واشتهر له في هذا المعنى أبيات منها قوله:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت       فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وقوله:
وليس بعامر بنيان قوم             إذا أخلاقهم كانت خرابـــا

وقد ردد هذا المعنى الجميل في صيغ كثيرة، يمكن لنا أن نتتبعها في دوانه الشعري. أما أبيات حكمه التي جرت مجرى الأمثال فكثيرة، سنحاول أن نذكر لك بعضها فيما يلي:

وللحرية الحمراء باب               بكل يد مدرجة يــــــــدق

وليس بالفاضل في نفسه           من ينكر الفضل على ربـــــه

والجهل موت فإن أتيت             فابعث من الجهل أو فابعث من الرمم

ترك النفوس بلا علم ولا أدب        ترك المريض بلا طـــب ولا آس

إن الغرور إذا تملك أمة            كالزهر يخفي الموت وهـــو زؤام

إن ملكت النفوس فابغ رضاها      فلها ثورة وفيها مضـــــــاء

ولو زاد الحياة الناس سعيًا         وإخلاصًا لزادتهم جمـــــــالا

ولا تكاد قصيدة من قصائد أمير الشعراء أحمد شوقي ـ على اختلاف أغراضها ـ تخلو من بعض أبيات الحكمة، يرسلها إرسالا في سهولة ويسر، وبعضها قد ألم به القدماء، وصاغها شوقي صياغة جديدة، وبعضها من وحي تجاربه الخاصة، وتأملاته الذاتية. وشاعريته المواتية هي التي نحت عن حكمه وأخلاقياته جفاف الوعظ المباشر، وهيأت له الظفر باستجابة قراءه وسامعيه، والنفاذ بها إلى مواطن التأثير دون تكلف أو إملال.

الغزل:
يذهب بعض النقاد أن غزل شوقي لا ينبئ عن عاطفة قوية صادقة، وأغلبه متكلف، وإن صحت له فيه أبيات سارت مسير الأمثال، من مثل قوله:
خدعوها بقولهم حسناء             والغواني يغرهن الثنــــــاء

وقوله:
صوني جمالك عنا إننا بشر        من التراب، وهذا الحسن روحانـي

وقوله يصف مراحل الحب أو الغزل:
نظرة، فابتسامة، فسلام            فكلام، فموعد، فلقـــــــاء

وقد يصدق هذا المأخذ على قصائد المرحلة التي كان فيها مقيدًا مكبلاً بتقاليد القصر، وبالطبع فإن تلك التقاليد تحول بينه وبين الإفصاح عن لواعج نفسه، وخلجات فؤاده، وتدعوه إلى التريث والتستر، مهما تملكه الحب، أو تملكته المشاعر. وقد افتتح شوقي بعض مدائحه بالنسيب (الغزل) على سنة القدماء، ولكن القصر أوعز إلى مدير المطبعة فأسقط النسيب كله وأبقى المديح، ولذلك فترت همة الشاعر في هذا الباب، فلما تخلص من ربقة القصر وتقاليده كان شبابه قد ولى، لكنه استطاع مع ذلك أن يعبر عن مواجد الحب وأشواقه بمعاناته الوجدانية، لما كان يضطرم في قلوب المحبين الذين تمثلهم، ونطق بألسنتهم في مسرحياته الشعرية، مثل: مجنون ليلى، وعنترة بن شداد، وغيرهما. ونجد له بعض القصائد الغزلية يعارض فيها الأقدمين، كمعارضته للحصري القيرواني في قصيدته المشهورة:
ياليل، الصب متى غده..
فيقول شوقي:

مضناك جفاه مرقده
وبكاه ورحم عوده

والمعارضة الشعرية في ذاتها ضرب من التقليد، ولا سيما في الغزل، ولكنك تحس في قصيدة شوقي حرارة الانفعال والمكابدة. وكثير من قصائده الغزلية اختارها المغنون لرقتها وجمال موسيقاها، كقصيدته:

يا شراعًا وراء دجلة يجري          في دموعي تجنبتك العوادي

وقصيدته:

يا جارة الوادي طربت وعادني       ما يشبه الأحلام من ذكراك

وشوقي في غزله المبكر مقلد، كثير الاحتفال بالجمال الحسي، لكنه تطور في غزله المتأخر تطورًا كبيرًا يستطيع القارئ أو الدارس أن يلمحه بسهولة، وبخاصة تعبيره عن عواطف أبطال مسرحياته الشعرية: كقيس بن الملوح وليلى العامرية، والملكة كليوباترا، وتيتاس بطلة مسرحية قمبيز، فالتمس أسرار الجمال وراء الظواهر الحسية، والصور المادية، وأصغى إلى نبض القلوب والمشاعر موقعًا على أوتار شجية من الشوق الجائح، والجوى المكتوم، مرهف الشعور بأفاعيل الهجر    والصدود، وفرحة اللقاء وصدمة الحب اليائس. ويجدر بالذكر هنا أن لكاتب هذه السطور دراسة عن الغزل عند كل من شاعر العربية الأكبر المتنبي، وأمير الشعراء أحمد شوقي، نأمل أن ترى النور.

الوصف:
من أهم الأغراض التي برع فيها أحمد شوقي الوصف، ولا سيما وصفه الطبيعة بعامة والطبيعة المصرية بصفة خاصة، وقد قضى شوقي حق مصر وحق الطبيعة المصرية، وبخاصة بعد أن ذاق مرارة الغربة في منفاه بإسبانيا، فتمثلت له في خاطره جنة الدنيا وزينة الوجود. وشوقي يكثر من الالتفات إلى المشاهد الحسية، لكنه يجيد تشخيصها ويبث الحياة في المادة الجامدة. وقد أبدع شوقي في وصف الآثار إبداعًا عظيمًا، وله في دمشق السورية، وبلاد الأندلس (إسبانيا)، وروما الإيطالية، والبسفور التركي، وغيرها من الأماكن قصائد تمتاز لجمال الوصف ودقته. ولشوقي قصائد في وصف المخترعات الحديثة، ومجالس الأنس واللهو والخمر... وغيرها. كما أن له قصائد من الشعر التعليمي نظم فيه بعض الأساطير والخرافات والحكايات على ألسنة الطير والحيوان ذات المغزى، واجتمع له منها عدد صالح، وكان يود في مطلع حياته الأدبية أن يستمر في هذا المنهج، ولكن لما صار شاعر البلاط الحكومي ترك.

التجديد في شعر شوقي:
إذا كانت الأغراض التي أشرنا إليها في شعر شوقي مما قال فيه بعض القدماء فإنه أضاف إليها، كما يعترف بذلك المؤيدين والمعارضين لشوقي، أضاف إليها أبعادًا جديدة، وترك فيها شخصيته وأصالته. ثم كان له إلى جانبها ما أضاف به إلى المجال الشعري جديدًا لم يسبق إليه، نوجز الإشارة إليه فيما يلي:
التاريخ:
شغف شوقي بالتاريخ منذ نشأته الأدبية، وزاد ولعه به حين اطلع على الثقافة الغربية، وقرأ ديوان للشاعر الفرنسي فيكتور هوجو، وليس شعر شوقي التاريخي مجرد أحداث تسرد، وأشخاص تذكر على ما كان مألوفًا من قبله ولكنه ينتخب منها ما فيه موعظة وذكرى لقومه في محنتهم، وما يذكرهم بعظمة أسلافهم، وما كان لهم من سبق حضاري مشهود. وقد عكف شوقي على تاريخ مصر القديم، فألهمه قصائد وملاحم رائعة، كما اهتم كل الاهتمام بتاريخ مصر الإسلامية، حتى بلغ به الحرص على تخليد مجد الإسلام أن خصص له جزء من ديوانه، واهتم كذلك بتاريخ الترك ن وهو في قصائده التاريخية شاعر يرنو إلى هدف، ويقصد عمدًا إلى أن يضع التاريخ أمام قومه معلمًا وهاديًا. كما صرح بذلك في مثل قوله:

غال بالتاريخ واجعل صحفه         من كتاب الله في الإجلال قابا

قلب الإنجيل وانظر في الهدى      تلق للتاريخ وزنًا وحسابا

واطلب الخلد، ورمه منزلا           تجد الخلد من التاريخ بابا

مثل القوم نسوا تاريخهم            كلقيط عي في الناس انتسابا

أو كمغلوب على ذاكرة             يشتكي من صلة الماضي انتسابا

ومن أشهر قصائده التاريخية مطولته المشهورة (كبار الحوادث في وادي النيل)، التي ألقاها بمؤتمر المستشرقين سنة 1894، واستعرض فيها تاريخ مصر المجيد منذ فجر التاريخ، وقد قاربت 300 بيت، لا نجد فيها إي إسفاف أو ضعف. وله القصيدة الثانية المشهورة في وصف الوقائع العثمانية، في مطلعها:

 بسيفك يعلوا الحق والحق أغلب          وينصر دين الله أيان تضرب

وقد جاوزت 250 بيتًا محكمة النسج والصياغة، ثاقبة الفكرة، بارعة الخيال، وله قصائد غراء في بطولات إسلامية، أشهرها قصائده النبوية في مدح رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم) ومنها: نهج البردة، والهمزية، وهذه القصائد وإن كانت مدحًا منبعثًا عن عاطفة دينية إلا أن الشاعر ألم فيها بتاريخ الأمة العربية، ووازن بين ماضيها المجيد وحاضرها القاسي، ووزان بين حال الناس بعامة قبل البعثة المحمدية، وحالهم بعد أن آتاهم الهدى من رب العالمين، كقوله يناجي الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم ):

أتيت والناس فوضى لا تمر بهم           على صنم قد هام في صنم

والأرض مملوءة جورًا مسخرة              لكل طاغية في الخلق محتكم

مسيطر الفرس يبغي في رعيته            وقيصر الروم من كبر أصم عم

يعذبان عباد الله في شبه                  ويذبحان كما ضحيت بالغنــم

وموجز القول أن التاريخ كان لأحمد شوقي نبع إلهام سخي، وشعره التاريخي يتميز بعمق العاطفة الدينية، وحرارة العاطفة الوطنية، حتى يكاد يتلظى حمية حين يتعرض لذكر أمجاد مصر القديمة والإسلامية، ويكاد يتفطر حزنًا ولوعة حين يذكر ما حل بمصر وديار المسلمين من النكبات والأرزاء.

وقد وقف شوقي على روائع الآثار: ووجد فيها مثارًا لأشجانه ولواعجه، وأسمع في مناجاته لها ومحاوراته إياها أبلغ العظات وأروع العبر، وقال في الأندلس (فردوس العرب والمسلمين المفقود)، قصائد رائعة منها القصيدة النونية التي يعارض فيها الشاعر الأندلسي ابن زيدون، شاعر الطبيعة العاشق، ومطلعها:

يا نائح الطلح أشباه عوادينا       نأسى لواديك أم تشجى لوادينا؟!

السياسة:
كان شوقي في المرحلة الأولى من حياته الفنية شاعر القصر، والقصر له سياسته الخاصة بها، وكان لزامًا على شوقي أن ينهج هذه السياسة، وقد كان يرى أن ارتباط مصر بالخلافة الإسلامية يجعل مركز الإنجليز في البلاد غير شرعي، وإلى هذا المعنى يشير بقوله مخاطبًا الخليفة العثماني:

أبا القمرين، عرشك في قلوب       تجاوز في الولاء المستطاعـا

نرى فيه الصيانة لحق مصر       فلولا العرش يعصمه لضاعـا

ويقول في قصيدة أخرى يستنجد بالخليفة العثماني ويستصرخه:

نستميح الأمام نصرًا لمصر         مثلما ينصر الحسام الحسام

فإذا هوت الخلافة العثمانية ارتاع شوقي، ونصح لمن قاموا بعد الانقلاب أن يبقوا على وشائج القربى بيننا وبينهم، فيقول لهم قبل أن تنسلخ تركيا من شرقيتها:

فنحن إن بعدت دار وإن قربت      جاران في الضاد، أو في البيت والحرم

أما موقفه إزاء الإنجليز فكان فيه متحفظًا إلى حد ما، قبل أن يظهر الخديوي عباس حلمي الثاني ميلاً إلى عداء الإنجليز والتعاطف مع الحركة الوطنية، ولما اشتد الخلاف بين عباس حلمي والمندوب السامي البريطاني كرومر الطاغية والحاكم المطلق في مصر، انطلق شوقي يتهجم على هؤلاء الذين يوالون الاحتلال، ويتملقون عميده (كرومر) بمصر، واستجاب لما كان يملأ قلبه من بغض للاحتلال الذي يهدر كرامة وطنه، ولم يحم منصب رئيس الوزراء مثل (رياض باشا) من غضب شوقي وسخطه عندما ألقى رياض خطبة عام 1904 مدح فيها اللورد كرومر، فرد عليه شوقي قائلاً:

خطبت، فكنت خطبًا، لا خطيبا      أضيف إلى مصائبنا العظـــام

لهجت بالاحتلال وما أتاه           وجرحك منه ـ لو أحسنت ـ دام

ولما وقعت كارثة (دنشواي) المشهورة، صمت شوقي عامًا كاملاً، أو بدا أنه صمت، لكنه في الواقع كان يرسل إلى الصحف والمجلات قصائد بإمضاء مستعار، وقد ظلت هذه القصائد مطوية حتى نشرها الدكتور محمد صبري السوربوني في الشوقيات المجهولة، ثم بعد عام نشر شوقي قصيدته في ذكرى المأساة الفاجعة، والتي كان مطلعها:

يا دنشواي، على رباك سلام               ذهبت بأنس ربوعك الأيام

وعندما رحل اللورد كرومر، المندوب السامي البريطاني، وأساء في خطبة وداعه إلى مصر والمصريين وإلى الخديوي عباس حلمي الثاني كل الإساءة، قال شوقي مخاطبًا كرومر:

أيامكم أم عهد إسماعيلا           أم أنت فرعون يسوس النيلا

أم حاكم في أرض مصر بأمره      لا سائلاً أبدًا ولا مســئولا

لما رحلت عن البلاد تشهدت       فكأنك الداء العياء رحيــلا

ثم اختلف موقف أحمد شوقي تجاه الحوادث الوطنية بعد ثورة 1919 الشعبية، فقد تحرر الكروان من الأغلال التي تشده إلى القصر، وصار شاعر الوطنية ينظر إلى السياسة المصرية نظرة بعيدة عن الحزبية المقيتة الضيقة، التي صدعت وحدة الأمة المصرية ومزقت شملها. ولم يدع شوقي حادثة سياسية تمر إلا قال فيها شعرًا يفيض بالوطنية الصادقة: قال في الدستور، ونجاة سعد زغلول من الموت إثر حادث الاعتداء عليه، وعيد الاستقلال، ومشروع ملنر... وغير ذلك. ولم يقصر شوقي شعره على الوطنية المصرية، بل تعدى إلى شقيقاتها من البلاد العربية والإسلامية، يشجعها على طلب الاستقلال والتحرر من ظلم الاستعمار، ويأسى لما تصاب به من نكبات، ويرثي كبار زعمائها وقادتها، حتى صار شعره كما وصفه هو:

كان شعري الغناء في فرح الشر    ق وكان العزاء في أحزانـه

قد قضى الله أن يؤلفنا الجر        ح وأن نلتقي على أشجانـه

نقول: لقد خدع الحلفاء العرب إبان الحرب العالمية الأولى، ووعدوهم بالاستقلال التام، وعودًا زائفة كاذبة، وبعد انتهاء الحرب أعلنت سوريا الاستقلال من طرف واحد سنة 1920 م، ولكن فرنسا لم تمهلها، بل زحفت بجيوشها على الجيش العربي الناشئ، ووضعت سوريا تحت الانتداب الفرنسي، ومزقت البلاد العربية إلى أوطان صغيرة، وظل الشعب السوري يقاوم الاستعمار الذي يعمل على خنق حريته بعنف ووحشية. وفي شهر يوليو سنة 1925 تجددت الثورة، ونجح الدروز في إبادة كتيبة فرنسية كاملة وملك الثوار ناصية الأمر مدة، وقد شاعت أنباء هذه الثورة في الأقطار العربية كلها، فقال شوقي في ذلك قصيدته النونية التي نعرفها باسم (نكبة دمشق)، والتي مطلعها:

قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا   مشت على الرسم أحداث وأزمان

ولكن الفرنسيين ما لبسوا أن دخلوا العاصمة السورية دمشق في 18 من أكتوبر 1925، بعد أن ضربوها بالمدافع 24 ساعة كاملة، فتركوا كثيرًا من مبانيها ومن معالمها التاريخية خرابًا، وبلغ عدد القتلى من الشعب السوري نحو عشرة آلاف، فروعت النكبة أبناء الوطن العربي في كل مكان، وتداعوا لإغاثة المنكوبين، وأقيم احتفال كبير بمسرح حديقة الأزبكية في وسط القاهرة، في شهر يناير سنة 1926، حيث ألقيت قصيدة أحمد شوقي (نكبة دمشق)، وهذه القصيدة تعد من قصائد شوقي الوطنية التي عبر فيها عن الوجدان العربي في غضبته وأساه، ويؤدي بها وبمثلها من قصائده الغراء ـ رسالته التي عرفناها. ونذكر من أبيات هذه القصيدة:

سلام من صبا بردى أرق          ودمع لا يكفكف يا دمشــق

ومعذرة اليراعة والقوافي            جلال الرزء عن وصف يدق

وذكرى عن خواطرها لقلبي          إليك تلفت أبدًا وخفــــق

وبي مما رمتك به الليالي           جراحات لها في القلب عمق

الاجتماع:
كان لشوقي عناية كبيرة بالشعر الاجتماعي، وهو غرض يكاد يكون جديدًا على الأدب العربي، بل لعله لم يظهر إلا في ديوان الشاعر العباسي الفيلسوف أبي العلاء المعري، وأما الكسرة المطلقة من الشعراء فكان اهتمامهم محصورًا في مدح الملوك والأمراء والقادة والزعماء والحديث عنهم، وقلما نجد شاعرًا التفت إلى الطبقة الكادحة أو الفقيرة، أو اكترث بهموم المجتمع وقضاياه ومشاكله المعاشة، ولكن أحمد شوقي قد جاء في عصر اليقظة القومية، فاستجاب عن قناعة تامة لدعائها، وعرف دوره كشاعر ومثقف فيها، وقد كان الشعب المصري على أيامه يئن من التصدع، والفقر، والجهل، والمرض، وخنق حرية الرأي، فاختار شوقي من هذه القضايا ما يستطيع النضال في ميدانه على قدر ما تسمح به ظروفه.

شوقي لم ينكر النظام الطبقي الذي كان موجودًا على أيامه، لكنه استشرف لحق أفراد الشعب في الحياة الحرة الكريمة، وكما نعلم فإنه لم يشعر بوطأة الفقر والحرمان، وقد نشأ وعاش منعمًا مترفًا أو كما قال البعض: إن شوقي ولد وفي فمه ملعقة من ذهب! لكنه لم يرفض رجاء الجمعيات الخيرية في أن يساعدها بماله وبقصائده التي يكون لها أكبر الأثر في إقبال المحسنين للتبرع من أجل هذه الجمعيات الأهلية أو مؤسسات المجتمع المدني كما نقول في أيامنا هذه. أما الذي اهتم به حقًا فهو ذلك الجهل الفاشي الذي يعد من أخطر أمراض البلاد، وأسباب ضعفها وانهيارها وتخلفها. يقول شوقي في الحث على مساعدة جمعية الهلال الأحمر:

جبريل هلل في السماء وكبر        أكتب ثواب المحسنين وسطر

سل للفقير على تكريمه الغني      واطلب مزيدًا في الرخاء لموسر

ونرى شوقي يعتني عناية كبيرة بمظاهر النهضة والإشادة بها، فيقول في إنشاء الجامعة المصرية قصيدتين رائعتين مهمتين، وهو ينتهز كل الفرص وكل المناسبات ليغري الأمة بالعلم والمعرفة، لتستعيد مجدها، وتبني حياتها، وقد وضع المعلم في أسمى مرتبة، ومن منا لا يحفظ بيته الشهير:

قم للمعلم وفه التبجيلا             كاد المعلم أن يكون رسولا

واهتم كذلك بالصحافة التي يجب أن تقوم بتوعية الأمة وإرشادها وتوجيهها إلى الأحسن والأفضل، وتسعى إلى حل مشاكلها، والتعبير عن آرائها وأفكارها وآمالها وتطلعاتها، كما اهتم بمشروع (بنك مصر) الذي دعا إليه الاقتصادي الوطني الكبير طلعت حرب، واعتبر شوقي هذا المشروع حجرًا أساسيًا في صرح الاقتصاد الوطني والبناء القومي، كما خاض معركة الحجاب والسفور إلى جانب قاسم أمين، متحفظًا في بادئ الأمر كعادته، ثم متحمسًا جهير الصوت. يقول في ذلك:

خذ بالكتاب وبالحديـــ               ث وسيرة السلف الثقاة

وارجع إلى سنن الخلـــ                     يقة، واتبع نظم الحياة

هذا رسول الله لم                  ينقص حقوق المؤمنات

العلم كان شريعة                  لنسائه المتفقهــات

رضن التجارة والسياســ             ة والشئون الأخريات

كما كتب شوقي عن العمال، وحثهم على العمل بمصر، والتمسك بمكارم الأخلاق، كما كتب عن بعض الآفات الاجتماعية: كانتحار بعض الطلبة، والميسر، وزواج الشيب بالفتيات الصغيرات، وغير ذلك .. مما لا يتسع المجال للاستطراد فيه.

وفي واقع الأمر أن شعر الاجتماع لدى شوقي يدل على رغبة صادقة في إنهاض الأمة، ومشاركة لها في كل ما يحزنها ويفرحها، وكان يكثر من ضرب الأمثال، وأبيات الحكمة، أضف إلى ذلك أسلوبه الذي كان غالبًا ما يميل إلى السهولة والوضوح، لأنه يخاطب الجماهير ومن المهم أن يصل إليها ما يقول.

المسرحية الشعرية:
على أن أهم ما استحدثه شوقي من فنون الشعر العربي هو فن المسرحية الشعرية، والدارس لتطور الشعر يجب أن يتنبه جيدًا إلى مسرحياته الشعرية التي دخل بها تاريخ الأدب العربي رائدًا مبتدعًا، بعد محاولات قاصرة فجة لم تكتب لها الحياة، بل طويت قبل أن يظهر شوقي في الميدان، فيقدم مسرحياته على نسق عال من الشعر، لا عهد للأدب العربي به. وقد تطور الفن المسرحي بعد شوقي تطورًا كبيرًا واستحدث أنماطًا ومذاهب جديدة في فنية المسرح والإخراج، وحاول النقاد أن يدرسوا مسرحيات شوقي في ضوئها، فأخذوا عليها مآخذ لم تتعد فنية المسرح، أما من حيث الصياغة أو النص الشعري فلا تزال مسرحيات أمير الشعر العربي في العصر الحديث في القمة التي يحاول أتباع مدرسته أن يستشرفوها، ومهما يكن الأمر فلشوقي فضل الرائد المبتدع للمسرحية الشعرية، على كل فلسان الحال يقول: إن شوقي رائد، وللريادة أخطاء، ولكن أخطاء شوقي قليلة، كما اعترف بذلك النقاد منذ أيام شوقي حتى وقتنا الراهن.

ولنا كلمة:
لقد أحس العالم العربي من الخليج إلى المحيط بعد شوقي بالفراغ الكبير الذي تركه في عالم الشعر والأدب، ولا يزال حتى يومنا هذا يشغل مكان الشاعر الأول في الأدب العربي الحديث. إن شوقي ارتقى بالشعر العربي الحديث بعد رب السيف والقلم محمود سامي البارودي، رائد الشعر العربي الحديث درجات ودرجات، وجعل منزلة مصر في الشعر لا تدانى مهما زعم الزاعمون، وادعى المدعون، الذين أخذتهم العزة بالاثم، وحاولوا التعدي بالباطل على الحقائق الواضحة والأدلة الثابتة في تاريخ الأدب العربي.

كان لشوقي مدرسته الشعرية التي نهجت نهجه، وإن لم يصل أعلامها إلى ما وصل إليه الأمير، في سعة أفقه، وخصب شاعريته، وطول نفسه الشعري، ونصاعة ديباجته، وحلاوة موسيقاه، وحسن تصرفه في المعاني، ولا استطاع أي شاعر حتى هذه اللحظة التي نكتب فيها أن يظفر بلواء الشعر الذي أجمع أدباء وشعراء العربية على عقده لشوقي عندما بايعوه أميرًا للشعراء.

 

باحث ومحاضر في الدراسات العربية والإسلامية، وخبير في التراث الثقافي

Ayusri_a@yahoo.com

 

الأسانيد والمراجع

  1. إبراهيم رضوان، شعراء العرب المعاصرون، الطبعة الأولى، القاهرة، 1958.
  2. أحمد الحوفي، الاتجاه الروحي في شعر شوقي، مكتبة النهضة المصرية، 1967.
  3. أحمد الحوفي، وطنية شوقي، الطبعة الثالثة، مكتبة النهضة المصرية، 1970.
  4. أحمد شوقي، الشوقيات، القاهرة، 1898.
  5. أحمد شوقي، الشوقيات، مطبعة مصر، القاهرة، 1960.
  6. أحمد محفوظ، حياة شوقي، مطبعة مصر، القاهرة، 1968.
  7. أحمد هيكل، تطور الأدب الحديث في مصر، الطبعة الأولى، دار المعارف، القاهرة، 1969.
  8. أنطون الجميل، شوقي شاعر الأمراء، مطبعة المعارف، القاهرة، بدون تاريخ.
  9. حبيب زحلاوي، أدباء معاصرون، القاهرة، 1935.
  10. شوقي ضيف، شوقي شاعر العصر الحديث، دار المعارف، القاهرة، 1953.
  11. طاهر الطناحي، شوقي وحافظ، كتاب الهلال، دار الهلال، مايو 1967.
  12. طه حسين، حافظ وشوقي، الطبعة الأولى، القاهرة، 1933.
  13. علي النجدي ناصف، الدين والأخلاق في شعر شوقي، الطبعة الثالثة، 1964.
  14. ماهر حسين فهمي، أحمد شوقي، سلسلة أعلام العرب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، العدد رقم 20.
  15. محمد أبو الأنوار، الحوار الأدبي حول الشعر، مكتبة الشباب، القاهرة، 1974.
  16. محمد مندور، مسرحيات شوقي، القاهرة، 1956.
  17. محمود حامد شوكت، المسرحية في شعر شوقي، القاهرة، 1947.
  18. مجموعة من الكتاب والباحثين، مهرجان أحمد شوقي، المجلس الأعلى للفنون والآداب، القاهرة، 1958.
  19. مجموعة من الكتاب والباحثين، عدد خاص عن شوقي، مجلة الهلال القاهرية، دار الهلال، نوفمبر 1968.