أصبح لقب «الزعيم» ملتصقاً بالرجل أكثر من اسمه، وهو بدوره تقمص هذا الدور أكثر من تقمصه لأدواره السينمائية، وفي تلك المرحلة الرسمية وإن كانت السخرية من المؤسسات التقليدية تتناثر هنا وهناك، إلا أنها تتم من خلال استثمار النجومية الشعبية لعادل إمام، وتحويلها لصالح المؤسسة الرسمية/ السلطة السياسية.

«سياسة عادل إمام رسائل من الوالي»

من البطل الشعبي إلى بطل السلطة

محمد عبد الرحيم

عادل إمام النجم الأكثر تأثيراً على المستوى الجماهيري والشعبي، ومهما كان الاختلاف والاتفاق معه ومع ما قدمه من أعمال فنية، إلا أنه ظاهرة قلما تتكرر وتستحق الدراسة والنظر إليها بعين النقد. زمن خلال تاريخه الفني الطويل وتحولاته الحادة كنموذج للبطل الشعبي، الذي تحوّل من أبطال الملاحم في السير الشعبية التي يتلوها الرواة على المقاهي قديماً، أصبح يتجسد على شاشة السينما، وتتاح له منصة القول والفعل أمام مجموع غارق في ظلام دار العرض، يستسلم تماماً لما يُتلى عليه من كلمات وإيماءات وصولاً إلى أفكار. عن هذه المسيرة وسياقها الاجتماعي والسياسي تأتي الدراسة الرصينة للكاتب والناقد السينمائي أحمد يوسف، في كتابه المعنون بـ «سياسة عادل إمام رسائل من الوالي»، الصادر مؤخراً عن مؤسسة دار الهلال المصرية، ضمن سلسلة كتاب الهلال.

النجم السينمائي وآمال الجمهور
يبدو النجم معبّراً عن آمال وطموحات الفئة العريضة من الجماهير، اتساقاً مع السياق الاجتماعي والتاريخي الذي ظهر من خلاله، وهو بذلك يقترب من البطل الاشكالي في الرواية كما ذكر جورج لوكاتش، وبما أن السينما أكثر جماهيرية من الرواية، فالأمر يبدو أكثر تأثيراً. هذا النجاح كان يتراوح بين التعبير الحقيقي أو الهروب من مواجهة الواقع. وفي ما يخص السينما المصرية يذكر الكاتب أشكال البطل السينمائي وتحولاته، بداية من محسن سرحان وحسين صدقي على سبيل المثال في الأربعينيات، وقد جسدا صورة ابن الطبقة/الفئة المتوسطة، التي تحاول أن تجد لها مكاناً في الحياة، ولا سبيل آنذاك إلا بالتعلق بأهداب الفئة الأرستقراطية، بينما في الخمسينيات نجد فريد شوقي القادم من قاع المجتمع، محاولاً اقتناص الحياة بالقوة وبعض الحيلة في ظِل مجتمع لا يرحم، يقابله عماد حمدي وعجزه الدائم عن المواجهة والتفاعل مع الواقع، وتأتي الستينيات حيث الإحساس بالتفاؤل والأمل في المستقبل كما في شخصيتي أحمد رمزي وحسن يوسف. أما السبعينيات وقد انكفأ الجميع في متاهات وسقوط سياسي حاد، فالبطل أصبح يجسد الهروب من السياق الاجتماعي، يعاني من آلام عاطفية وذاتية، وسيما أنيقا مترفعا، غارقا في فراغ، كما في حالة حسين فهمي ومحمود يس. وفي الثمانينيات، وفي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة والمستقبل الضبابي شبه المنعدم، يظهر نور الشريف وأحمد زكي، وكل منهما يجسد حال الجمهور الجديد.

الفهلوي
غيّر عادل إمام من تركيبة النجم السينمائي، بملامحه التي تشبه المواطن العادي، والانتماء إلى الفئة المتوسطة أو دونها. حزن عميق يخفيه خلف ضحكات ساخرة من الجميع ومن نفسه في المقام الأول، وهو بذلك أصبح النموذج المثالي للمواطن المصري بتركيبته النفسية والاجتماعية، هذا المواطن الذي وجد ضالته أخيراً في عادل إمام، وهو يبحث عنه على شاشات السينما طيلة نصف قرن. هذه التركيبة أجادها في أعماله، المتمثلة في الشخصية المصرية، والتي تحايلت على ظروف الحياة طوال تاريخها حتى تظل باقية، هناك المكر تحت قناع البراءة، وانتظار الفرصة المناسبة لتحقيق وجودها. لنلحظ ذلك في فيلم «الأفوكاتو 1984» لرأفت الميهي، فماذا يفعل المواطن/حسن سبانخ بين رجال السلطة في العهد الناصري، وبين رجال الأعمال في عهد السادات، ماذا يفعل سوى الرقص على الحبال ومحاولة الانتقام، التي تباركها الجماهير وتضحك وهو يتلاعب بهؤلاء، الذين استنزفوا حياته ولا يزالون؟

الانتقام
وتتغير الصورة ليصبح مجال الانتقام هو السبيل الوحيد، الانتقام من فئة لا يمكن التعاطف معها على الشاشة، بل سيصبح الثأر هنا مطلباً جماعياً يحققه البطل/النجم، فقير ولديه بعض من القيم الإنسانية، يمتهن مهنة أجبرته الظروف الاقتصادية والاجتماعية عليها، ومحاولاً تجسيد صور الانتقام بما لا يخالف شرع الخيال الشعبي، بداية من السخرية من الفئة العليا، ثم التحقق الجنسي من نساء هذه الفئة، حيث يصبح رجالها في شِبه عجز جنسي على الدوام ــ الصورة المغلوطة التي تؤصلها السينما دوماً، تعويضاً للعامة ــ فتأتي الأعمال متباينة، كما في «حب في الزنزانة 1983» و«حتى لا يطير الدخان 1984» و«سلام يا صاحبي 1986» و«المولد 1989». فالعنف الدموي أصبح هو الحل في تغيير حقيقي، وأصبح الأمل في ما يُسمى بالعدالة حلما عبثيا لا جدوى ولا طائل منه.

تزييف الوعي
وهنا يتساءل مؤلف الكتاب، هل هذه الأعمال تعبّر بصدق عن اللاوعي الجمعي للمصريين؟ أم أنها حيلة ذكية من صُناع الفيلم لتبني خطاب وأحلام الجمهور، لإفراغ شحنة الغضب في نفوسهم داخل قاعات السينما، وبالتالي تصير تزييفاً واعياً لوعي الجماهير؟ يجيب المؤلف أن هذه الأسباب تبدو مجتمعة، فالسينما تتاجر بهذه الآلام، وما نموذج البطل/النجم هنا إلا صورة المتفرج المثالية على الشاشة، وما الحل إلا من خلال حلم فردي زائف، مرصود عقابه ومحدد سلفاً في النهاية. ونرى أن فكرة تفريغ شحنة الغضب هذه ــ فكرة التطهير الأرسطي ــ ستصبح هي النغمة الأعلى في أهم أعمال عادل إمام اللاحقة، والتي تحوّل من خلالها من بطل شعبي إلى أداة من أدوات السلطة.

ثالوث السلطة
«ما كان يتردد في أفلام عادل إمام الأولى على نحو غامض، أصبح يتردد في أفلامه الأخيرة على نحو مباشر صريح، حين تراه يتحدث باسم الناس رافعاً شكواهم إلى السلطان، بل ربما استطاع أن يعلن التمرد في لحظة تبدو كالحلم … يدخل المتفرج إلى ظلام قاعة العرض، فينتقم له البطل من حالة القهر اليومي المتراكم، ليخرج الجمهور وقد انزاح عن قلبه عبء ثقيل، يصبح بعده أكثر احتمالاً لقهر يومي جديد، وما كان يرفضه النقاد والمثقفون في أفلام إمام الأولى من اختيارها عالم الشطار واللصوص والصعاليك … ما كان مرفوضاً في هذه الأفلام الساذجة التي تعشقها الجماهير، أصبح اليوم يحظى بالإعجاب والانبهار من جانب النقاد. وإن كانت الأفلام الأخيرة لم تبتعد في جوهرها كثيراً عن صعلوك عادل إمام التقليدي، ولم تستطع أن تتجاوز سطح الواقع إلى أعماقه». (ص 115 ــ ص 116). نقلنا هذه الفقرات شبه الكاملة من الكتاب، لأنها تمثل كيف استغلت السلطة السياسية وبرغبة من صُناع السينما في تبني وجة النظر السياسية وخدمتها، ضمن ثالوث فني اجتهد وتوافرت له كل سبل النجاح والتأثير، بأن يصبح أحد أهم أدوات هذه السلطة، وقد ظن أنه لا ظل إلا ظلها، عادل إمام وحيد حامد وشريف عرفة. «اللعب مع الكبار 1991» و«(الإرهاب والكباب 1992» و«المنسي 1993» و«طيور الظلام 1995» و«النوم في العسل 1996».

الزعيم الوهمي
أصبح لقب «الزعيم» ملتصقاً بالرجل أكثر من اسمه، وهو بدوره تقمص هذا الدور أكثر من تقمصه لأدواره السينمائية، أصبح ــ وكما يذكر مؤلف الكتاب ــ «مرجعاً في أمور السياسة والاقتصاد والفن، فأصبحت أراء عادل إمام هي الصياغة المشوّشة والغامضة لأكثر القضايا تعقيداً، اعتماداً على التأثير الهائل الذي يمكن أن يمارسه النجم على البسطاء». (ص 186). وفي تلك المرحلة الرسمية وإن كانت السخرية من المؤسسات التقليدية تتناثر هنا وهناك، إلا أنها تتم من خلال استثمار النجومية الشعبية لعادل إمام، وتحويلها لصالح المؤسسة الرسمية/السلطة السياسية. لنرى موقف عادل إمام من ثورة 25 يناير، ليتضح مدى الاستماتة في الدفاع عن نظام طالما عاش في ظِله، وأصبح بوقه الرسمي، إلا أنه وقد أصابه الضر أثناء الثورة، وجد ضالته في نظام آخر يتوهم أنه سيظل زعيماً، دون أن يعي أنه مهجور بلا جمهور، كتمثال الوالي الذي بثه شكواه في «رسالة إلى الوالي» ليكتشف بأنه أحد الأصنام البائسة.

 

أحمد يوسف: «سياسة عادل إمام … رسائل من الوالي»

مؤسسة دار الهلال، القاهرة 2017

342 صفحة.

 

جريدة القدس العربي