رواية تتكشّف سرديتها مثل لفافة ورقٍ طويلة، وتتقدّم حبكتها ببطء، من شخصية إلى شخصية، ومن مشهدٍ إلى آخر، ومن أزمة إلى أزمة، إلى أن تبلغ بنا قلب الصراع العائلي المستهدَف تصويره، ولكن ليس من دون تسيير، على طول نصّها، رسالة تسامُح وإيمان بالبشرية جمعاء.

الجزائرية كريمة بيرجيه تروي تمزّق عائلة ومجتمع

أنطوان جوكي

منذ روايتها الأولى «طفل العالمَين» (1998)، ما برحت الكاتبة الجزائرية الفرنسية كريمة بيرجيه تستكشف ثقافتها المزدوجة وتسائل العلاقة بين الإيمان وتعبيراته المختلفة. في روايتها الرابعة «مكتوبة» (ألبان ميشال الباريسية)، لا تشذّ عن هذه القاعدة، بل تتابع بيرجيه فيها الحفر في ثلم ذلك البحث الهوياتي والروحي المثير، ولكن من دون أن تكتفي بذلك.

تدور حوادث الرواية في العاصمة الجزائرية حيث يعيش بطلها، الحاج بن عمّار، وحيداً منذ وفاة زوجته دليلة التي منحته ثلاثة أولاد: هم ابنتان (سعاد ولويزا) وابن (أمين)، لطالما انتظرت وسعت بطُرُقٍ مختلفة من أجل إنجابه، علماً أن ولادة هذا الطفل ستكون مأسوية لها بحيث تتوفى بطريقة مروعة بعد فترة قصيرة من إنجابه.

موظف كبير في سن التقاعد، يمضي بن عمّار معظم وقته محاطاً بكتبه داخل منزل جميل يطلّ على خليج المدينة ويحمل اسم «مكتوبة». وحول ظروف شرائه من زوجين فرنسيين مباشرةً بعد الاستقلال، يقول: «حين اشتريته، كنت لا أزال في كامل قواي ومشدوداً نحو المستقبل. وقد شكل اقتناؤه واحدة من العلامات النادرة لحريتي وتجرّؤي على مواجهة طبقة الواجبات الجامدة التي كانت تحاصرني. ومع أن البلد كان قد نال بالكاد حرّيته، إلا أنه كان بدأ بالإنغلاق. لكن كنا نقاوم، كنا نمتلك داخلنا طاقة لا حدود لها، محمولين بلفظة «استقلال» التي كانت تفتح أمامنا أبديةً، طموحاً أشعل فينا الحمّى والسذاجة، لأن التاريخ كان قد عنّفنا وحرمنا من كرامتنا، قبل أن يكبحه الفاسدون من أجل تسميرنا ومنعنا من الحلم».

منذ البداية يتجلّى بن عمّار كرجل مثقّف ونزيه يكره الفساد الذي ينخر طبقات السلطة والمجتمع في بلده، ويعاني ليس فقط من العزلة لأن أولاده الثلاثة يعيشون في المنفى (سعاد وأمين في فرنسا، ولويزا في مقاطعة كيبك الكندية)، بل أيضاً من عدم زواج ابنتيه ومن عدم التقائه بعد بحفيده الوحيد، ابن أمين المتزوّج من فرنسية تمنعه من السفر معه إلى الجزائر.

وفي أحد الأيام، يتلقّى بن عمّار فجأةً رسالة من أولاده الثلاثة يطلبون منه فيها كتابة وصيته وتحديد حصة كل واحد منهم في منزله «مكتوبة». رسالة تؤلمه كثيراً لكشفها رغبتهم في انتزاع الملكية الثمينة الوحيدة المتبقية له، وبالتالي طمعهم وعدم اكتراثهم لنظام تسلسل الأجيال ولمشاعر والدهم الذي لا يزال حياً. وهو ما يدفعه إلى الانطلاق في كتابة سيرته التي نقرأ فصولاً منها داخل الرواية، وتحضر على شكل مذكّرات يختصر بن عمّار فيها فلسفته الحياتية، متوقّفاً مراراً، وبرقّة مؤثّرة، عند قصة حبّه لزوجته دليلة التي فقدها باكراً. كتابة لن تلبث أن تشكّل مرآةً يتفحّص داخلها مسيرة حياته ومكامن فشله ومآسي عائلته وأوضاع وطنه، ضمن حركة ذهاب وإياب داخل الزمن لا يتوانى فيها عن التعبير عن مشاعره بشكلٍ فجّ ومباشر.

وحين تحضر ابنته لويزا إلى الجزائر بدافع عملها وتدعوه لمرافقتها إلى «قرية أطفال يتامى»، تسعى إلى توفير تمويل خارجي لها، يقبل بن عمّار الدعوة ويتعلّق بسرعة بأطفال تلك القرية الذين سيدخلون البهجة إلى قلبه بعفوية حبّهم له ومنحهم إياه فرصة اختبار معنى أن يكون جَدّاً التي حرمه منها أولاده. ولا نعجب بعد ذلك من قراره توريث هؤلاء الأطفال منزله بدلاً من أولاده الذين لم ينجح في نقل إليهم قيمه وتقاليده، وأثبتوا له أن كل ما يهمّهم هو مصلحتهم الشخصية ومكاسبهم المادّية. ولإبلاغهم بهذا القرار وإفهامهم بأن ثمة شيئاً آخر، قبل الأموال والمنزل، كان من المفترض بهم تلقّيه كهبّة ثمينة منه، يستدعي بن عمّار أولاده الثلاثة الذين يحضرون بمناسبة عيد الأضحى. اجتماع لن يلبث أن يؤدّي إلى صدام بينه وبينهم تحتدم خلاله الانفعالات وترتفع الأصوات مرفقةً تارةً باللوم وتارةً بالسخرية وتارةً بالندم. وكما لو أن ذلك لا يكفي، تتدخّل ريحٌ عاصفة في هذا الشجار العائلي، مزعزعةً جدران المنزل ومهدِّدةً بتدميره على رؤوسهم.

وتفتننا هذه الرواية باستحضارها، بنفَسٍ غنائي رخيم، جميع مفارقات عائلةٍ مصدّعة وإرثٍ مستحيل، وأيضاً بغوصها بنا داخل مجتمعٍ ممزَّق بين تقليد وحداثة ومادّية. مجتمع ما زالت التقاليد والثقافة الذكورية حاضرة بقوة فيه، كما يتجلى ذلك في سعي دليلة المسعور لإنجاب وريثٍ ذكر لزوجها من أجل صون كرامته، على رغم عدم اكتراثه شخصياً لذلك. سلوك يعكس أيضاً الموقع الثانوي للمرأة التي نراها تعيش داخل عالمٍ آخر، مغلق وغامض يعجز الرجل عن فهمه وإدراك كل تعقيداته.

وكما في جميع رواياتها السابقة، تحضر المسألة الدينية بقوة عبر شخصية بن عمّار الذي لا يتردد عند كل مناسبة في انتقاد التطرّف والانحراف في تفسير الكتاب المقدّس، معبّراً مراراً عن غضبه من التشويه الذي يتعرّض له دينه، وبالتالي من ملاحظته الفارق المتعاظِم بين إيمانه الحميم والمناخ الديني المتسامح التي تربّى داخله، وبين السلوك الخبيث والمخادِع لبعض الجماعات التي تتاجر اليوم بفكرة الفردوس من أجل بلوغ أهداف دنيوية ضيّقة وفرض أفكار لا تمّت بصلة لأي دينٍ سماوي.

وفي هذا السياق، تشكّل دار بن عمّار، «مكتوبة»، استعارة لدار الجزائر ككلٍّ، أي لوطنٍ تعرّض بعد الاستعمار الفرنسي للإهمال والخديعة والخيانة، ويتوزّع أبناؤه اليوم على جيلَين: جيل يتساءل عن الإرث الذي يمكن أن يتركه لأبنائه، وجيل يُسائل الإرث الذي تسلّمه أو يريد تسلُّمَه من آبائه. استعارة تسمح للكاتبة بتوجيه نقدٍ مُحكَم لمرحلة ما بعد الاستعمار في الجزائر وتسليط الضوء على الفساد والبؤس اللذين طبعا العقود الخمسة الأخيرة، ويدفعان بن عمّار إلى القول: «الجزائر لا تحبّ نفسها. تحبّ كل شيء إلا سعادتها. كما لو أن هذه السعادة قد تشوّه سمعتها».

وما التواري الباكر لزوجته دليلة، التي كافحت من أجل استقلال وطنها ثم رفعت لواء الحرية والمسؤولية، سوى إشارة مجازية لذلك.

باختصار، رواية جميلة تتكشّف سرديتها مثل لفافة ورقٍ طويلة، وتتقدّم حبكتها ببطء، من شخصية إلى شخصية، ومن مشهدٍ إلى آخر، ومن أزمة إلى أزمة، إلى أن تبلغ بنا قلب الصراع العائلي المستهدَف تصويره، ولكن ليس من دون تسيير، على طول نصّها، رسالة تسامُح وإيمان بالبشرية جمعاء. وليس صدفةً استشهاد بن عمّار في مكان ما داخل الرواية بما قاله الأمير عبدالقادر: «لا تسألوا أبداً ما هو أصل الإنسان وفصله، بل اسألوا عن حياته وأعماله ومزاياه، وعندئذ تدركون من يكون».

يبقى أن نشير إلى أن عنوان الرواية، «مكتوبة»، لا يردّنا إلى ما هو مكتوب ومقرّر سلفاً، أي القدر المحتم، بقدر ما يردّنا إلى الكتابة التي تحافظ على كل حرّيتها في الإبداع، وعلى غضبها أيضاً. ومن أجل تشييد هذا النص، ابتكرت بيرجيه لغةً شعرية بامتياز تحمل كل كلمة فيها عبء وخطورة مأساة بن عمّار وعائلته، وتُجسّد، بترقيمها العشوائي وجُمَلها المفكَّكة وغير المنجَزة أحياناً، أفكاره غير المنتظَمة التي تتقاطر في النهاية نحو سؤال جوهري واحد: ماذا يتبقّى من حياة مملوءة بالأحداث عندما يلوح الموت في الأفق؟

 

الحياة