عشية الحرب العالمية الأولى وفى أعقابها، كانت الهوة تتسع في أنظار المثقفين بين وعود البورجوازية الحاكمة في الغرب وبين واقعها، أي بين إيديولوجيتها وممارستها، فبرزت الحاجة إلى ثورة في الفكر والفعل. وانتشرت كلمة الثورة على الألسن والأقلام، وفى مدرجات الجامعة والمصانع والمتاريس فى الشوارع. وبدا الوجود الإنسانى متشيئاً منسلباً صنمياً احتاج إلى قوة اجتماعية بازغة تحرره وإلى فكر يضيئه (منتجات أيدى بشرية من بضائع وأسلحة تسيطر على حياتهم في أزمات اقتصادية وحرب والعلاقات الإنسانية تتخذ مظهر علاقات بين سلع وأشياء). وكان النفور من الأوضاع السائدة أوسع مدى من جاذبية الحلول والبرامج، والبحث عن حفارى قبور أهم كثيراً من ترويج فراديس موعودة. وقد ترددت في أبراج الفلسفة العالية صيحات الأزمة والثورة كذلك.
وارتفع شعار رفض الميتافيزيقا الغربية على رايات الاتجاهات والمدارس المتباينة: الوضعية المنطقية والظاهريات والماركسية المصابة بالوضعية (كاوتسكى وبرنشتاين) تزعم أنها ثورات تعيد بناء الفلسفة ابتداء من الأساس في أقسام الفلسفة الأكاديمية. وفى ألمانيا المهزومة الذليلة بعد الحرب العالمية الأولى كان الوضع الاجتماعي للمثقفين عموماً وسط التعاسة العامة مرتبطاً بتلك الأقسام من المجتمع المنتمية تاريخياً إلى ما قبل الرأسمالية: أي إلى الفلاحين والحرفيين وصغار التجار الذين زلزل تطور الرأسمالية طرائق حياتهم؛ وخرج من أبنائهم المتحدثون باسمهم في السياسة والأدب والفلسفة. واتسم حديثهم بنزعة التنوير الفردية العقلانية ورفض العالم الاجتماعي الرأسمالي وليبراليته السياسية التي تختزل الإنسان تدريجياً إلى مصلحة كمية مجردة يمكن حسابها. ودافعت الرومانسية في حماس عن أشكال التفكير العيانية الكيفية والحدسية، وعن العلاقات الشخصية الملموسة التي ظلت في ألمانيا تواصل البقاء بين شرائح ما قبل الرأسمالية؛ من أعلى عند صغار النبلاء ومن أسفل عند صغار الملاك.
لقد أعيد تدريجياً من الناحية الأيديولوجية رد الاعتبار إلى التقاليد القديمة الجمعية وأساليب الحياة التقليدية كما أعيد صقلها في المخيلة، بعد أن داست عليها بازدراء عقلانية الذات الفردية التجريدية. وقد أدى ذلك إلى مفارقة: فالرومانسية المحافظة الراجعة إلى الوراء استطاعت أن ترى التناقضات الداخلية للمجتمع الرأسمالي بشفافية نقدية أعمق من الأيديولوجية الليبرالية التي أعمتها أسطورة الانسجام المسبق بين المصلحة الخاصة والخير العام. ووصلت الرومانسية في ألمانيا إلى ما يعرف باسم الاشتراكية الألمانية الحقة التي لا تتفهم مسيرة التاريخ الحديث، ودور التقدم التكنولوجي في التوحيد القومي، وخلق الاقتصاد العالمي.
ويتساءل لوسيان جولدمان في كتاب (لوكاتش وهيدجر) كما سيتساءل بعده بيير بورديو لماذا وصل النقد الثقافي للرأسمالية الذى مد جذوره بين المثقفين عموماً، وبين الكتاب والشعراء، إلى تعبيره الأكثر حدة ونسقية وتماسكاً في دوائر الجامعة؛ أي لماذا صارت الجامعات مراكز لما يمكن تسميته بالأيديولوجية الرومانسية المعادية للرأسمالية؟ لقد سقطوا ـ أي الجماعة الأكاديمية ـ عن مراكزهم الاجتماعية الممتازة التي كانت لهم في ألمانيا خاصة في القرن التاسع عشر. إن الجماعة المتماسكة المتجانسة نسبياً من الفلاسفة والمؤرخين ومنظري القانون وعلماء الاجتماع شغلوا وضعاً مسيطراً في مراتبية ألمانيا في ذلك القرن. كما ناظر بروزهم مرحلة خصوصية في تطور التشكيلة الألمانية حيث كان نمط الإنتاج التقليدي يفقد سيطرته على حين أن الرأسمالية الصناعية ـ على العكس من إنجلترا مثلاً ـ لم تحقق بعد سيطرتها الاقتصادية النهائية.
وفى هذه المرحلة الانتقالية الوسيطة التي دامت عقوداً حينما لم تصبح بعد ملكية رأس المال كما لم تعد ملكية الأرض ضماناً للمكانة الاجتماعية كانت حقوق التعليم وأرستقراطية المثقفين تخلف جزئياً الطبقة الحاكمة التقليدية المتدهورة، في شكل سيأسى عالي البيروقراطية. وكان أساتذة الجامعات يتحكمون في نظام التأهيل الوظيفي بأكمله المطلوب لتجنيد الكادر إلى البيروقراطية. وكان لهم مركز استراتيجي حاسم أمام الهيكل الإداري للدولة وفى المناصب العليا والمهن الحرة. ولكن هذا النعيم زال بعد التحول الصناعي وتوحيد السوق والأمة. وقد تقدمت ألمانيا إلى ثاني قوة صناعية في العالم بعد الولايات المتحدة، مما أدى إلى أضرار شديدة بالوضع الاقتصادي وأسلوب الحياة والقيم الاجتماعية الثقافية لكل الفئات السابقة للرأسمالية، وخصوصاً لأساتذة الجامعات في الإنسانيات، بعد "أمركة" البحث العلمي، وسيادة فروع الفيزياء الرياضية والكيمياء. ويرى تيرى إيجلتون فى "النظرية الأدبية" أن هيدجر كان من الذين رفضوا عقلانية التنوير بموقفها الاختزالي الكمي النفعي من الطبيعة، ودعوا إلى إحلال إصغاء متواضع للنجوم والسماوات والغابات وهو إصغاء يحمل كل سمات فلاح مذهول. فالإنسان يجب أن يفسح مكاناً للوجود بتسليم نفسه بالكامل له ـ أي يجب أن يعود إلى الأرض الأم التي لا يمكن استنفادها فهي النبع الأول لكل معنى. إنه فيلسوف الغابات السوداء وداعية رومانسي لمجتمع المشاركة الجماعية العضوي، وهو يمجد الفلاح (والحرفي) وأدواته وعلاقاته في مقابل الحط من شأن الإنتاج الآلي الكبير والعقل النفعي لصالح ما قبل فهم تلقائي. ويقول إيجلتون إن ذلك الاحتفاء بالسلبية الحكيمة والوجود الحقيقي الأصيل نحو موت الفرد أي الوجود الأعلى مرتبة من حياة الكتلة الجماهيرية التي بلا وجه في مدينة الاغتراب والآلية، قد يكون هو الذى أدى به إلى تعضيد هتلر. وربما كان ذلك تفسيراً جزئياً في أحسن الأحوال، فالفاشية في نظر دعاتها لم تكن مرحلة من مراحل الرأسمالية، بل هي ثورة اشتراكية قومية أسمى من كل الثورات الأخرى، وخاصة البلشفية الروسية، لأنها ترجع إلى الأرض والجذور. ونعود إلى الجانب الأكاديمي والمجال الفلسفي النوعي عند هيدجر.
نقطة التحول فى الفلسفة:
كان الوسط الفلسفي الألماني يسوده التأقلم على المقدمات الأيديولوجية والافتراضات المسبقة للفردية البورجوازية واعتبار النظام الرأسمالي النظام الطبيعي المعقول المتمشي مع الطبيعة البشرية. وتمثل ذلك أول ما تمثل في الانفصال الجذري بين الذات والموضوع كنقطة انطلاق لنظرية المعرفة. وفى مواجهة هذه المقدمات، نما اتجاهان متغايران ينتميان إلى معاداة الرأسمالية، الاتجاه الماركسي عند أمثال لوكاتش الذى يضع الرأسمالية في إطارها التاريخي وفى نفيها الجدلي بواسطة ثورة اشتراكية واسعة النطاق الشعبي بقيادة الطبقة العاملة. والاتجاه الثاني ينتمى إلى رومانسية الفئات السابقة للرأسمالية من فلاحين وحرفيين وتجار صغار يضفى عليهم طابع مثالي عند هيدجر، ويتجه عند أكاديميين فقدوا منزلتهم الرفيعة نحو ثورة محافظة ترفض الثنائيات الشقاقية المتنازعة بين الذات والموضوع، أو الذهن والمادة، أو الواقعة والقيمة.
وكان بعضهم من أمثال شبنجلر يصرون على أن الحدس اللاعقلاني أو التفكير بالدم هو الوسيلة الوحيدة لاستيعاب الحياة لا الطرائق الرياضية والسكونية للعلم. ولكن هيدجر اكتفى برفض النظرة الميكانيكية إلى العالم باعتباره شيئاً غريباً، آخر بالنسبة إلينا، ورفض ثنائية الطبيعة الغريبة عن الروح، كما رفض فردية الراحة والرفاهية والأمان التي تترك الناس بلا جذور. وترجع هذه الآفات عنده إلى انتصار المثل الأعلى المنحرف للتنوير أو فجر الرأسمالية، مثال العقل النظري المنفصل المنسحب المغلق داخل الذات، المختزل في نزعة عقلانية حسابية غرضية. وهذا العقل النظري عنده لا يعنى المنهمك في إنتاج النظريات، بل الذى يفك الارتباط بقيم الشواغل العملية لصالح الملاحظة "المنزهة عن الأغراض"، لصالح ما ترجمته إلى الإنجليزية المشاهدة التفرج الاستعراض spectating وهو يستخدم هذا التعبير الذى سيكون له شأن كبير في الثمانينيات منذ العشرينيات.
ولكن سيادة النظري تؤدى إلى ضرر بالغ؛ إلى مشاهد غير مشارك، متقبل سلبى يجهل النمط الصحيح من فهم العالم المتضمن في الموقف الملتزم المنخرط من جانب الفاعلين ذوى الاهتمامات العملية المشتركة. وحينما نرى العالم بطريقة نظرية نكون مسبقاً قد فرضنا عليه الإعتام والخفوت والإبهام وجردناه من الحيوية والتألق: أى اختزلناه إلى اطراد ما هو حاضر في متناول اليد فقط (vorhanden) أى الماثل هناك، مجرد شيء من أشياء الطبيعة نلاحظه مثل نبات عند عالم نبات. ويكفى كما يلخص ديفيد كوبر أفكار كتاب "الوجود والزمان" أن يحجل المرء في قفزة سريعة إلى المنظور الديكارتي للعالم كمجموعة من الجواهر الممتدة في المكان، ولنا ككائنات مفكرة نمثل العالم لأنفسنا. وكيف يصحح هيدجر هذا المنظور الديكارتى؟
لقد حاول حشر كل الفلاسفة بعد ديكارت (كانط، هيسرل ..إلخ) كما سيحاول ديريدا بعده أن يحشر كل فلاسفة الغرب في إطار مفرد بطريقة تحكمية، تعمى عن كل الاختلافات الفردية، وتوسع الإطار حيناً أو تخنق المفكر الفرد لينكمش حيناً آخر. وليست صحة التأريخ هي المهمة فى هذا الصدد بل السعي للخروج من معضلة المعرفة التي تصبح بلا حل عند البدء بذات معزولة عن عالم موضوعات والعجز عن استيعاب الأمور في ترابطاتها الضرورية الكلية. لذلك نجده يعكس الأسبقية في الفلسفة الحديثة لنظرية المعرفة بالنسبة إلى نظرية الوجود (الأنطولوجيا)؛ فالنموذج المعرفى الخاطئ نموذج الذات/ الموضوع يتعامل مع الذات كنوع خاص من الأشياء، موجود لأنه يفكر دون تساؤل عن طبيعة وجود تلك الذات؛ فالأجدر البحث عن طبيعة العارفين وما يعرفونه.
وهو بذلك يسدد ضرباته إلى نقطة انطلاق النموذج المعرفي السائد في أسبقية الذات أو الأنا العارفة المفكرة وانفصالها الجوهري عن الموضوع الممتد الماثل هناك. إنه يرفض أن تبدأ الفلسفة بالذات أو الذهن المحض؛ ذلك الجوهر الحر الطافي في الأثير فوق الزمان والمجتمع، بل يرى أن تبدأ الفلسفة بالوجود الإنساني في العالم. فنحن لسنا ذوات إنسانية إلا لأننا مرتبطون معاً، وبالعالم المادي. والقلب الثاني للمشروع المعرفي أو للمأزق المعرفي هو الانتقال من النظر في الموجودات إلى النظر في الوجود نفسه. فالوجود هو الذى نفهم الموجودات على أساسه في الأصل، وما تتصف به. أي أن هذا الانتقال هو عملياً التساؤل حول الشروط التي تشكل أساس أن تكون الموجودات ماثلة قائمة أمامنا، أساس أن تظهر وتنجلي لنا كاشفة عن سماتها.
والأنطولوجيا الأساسية عنده هي التي تحلل وتقوم بتأويل وجود الذات الإنسانية في العالم، "الدازاين"Dasein وهى الخيط الهادي للبحث في الوجود عموماً وعنها تتفرع الأنطولوجيا السياسية. وقد لاحظ لوسيان جولدمان أن نقاط الانطلاق الهيدجرية في نقد مأزق الإشكال المعرفي للفلسفة البورجوازية السائدة تتشابه مع نقاط الانطلاق الماركسية في تفسير جورج لوكاتش (كتاب التاريخ والوعى الطبقي، الصادر في زمن قريب من كتاب هيدجر، الوجود والزمان)، كما تتشابه بعض المقولات مثل الممارسة (البراكسيس)، والأساس الأنطولوجي لبعض جوانب نظرية المعرفة؛ على الرغم من الهوة الأيديولوجية بين المفكرين الكبيرين.
الوجود فى العالم:
عند هيدجر في شرح تيرى إيجلتون يكون الوجود الإنساني المتكشف في الممارسة مختلفاً عن الوجود العادي للأشياء في العالم حولنا. ويكمن الفرق في أن الأشياء متعينة ولها صفاتها المتميزة، فهذا هو نمط وجودها. أما نمط الوجود الإنساني فإن ما يبديه ليس وجود شيء ذي صفات (مسألة أسبقية الوجود على الماهية في الفلسفات الوجودية عند سارتر) بل هو مدى (نطاق) يتألف من طرق ممكنة للوجود. والأنا الفردية تتعين في صيروراتها بإسقاط نفسها فيما تختاره من هذه الممكنات، وبكيف تسلك في سياقات تجد نفسها فيها. فالوجود الإنساني هو دائماً قضية خلافية تظل مثارة وموضع تساؤل ومنازعة. والفرد ـ ليس أي فرد من الكتلة الجماهيرية ـ يحدد بأفعاله ماذا سيكون وجوده. أما الوجود الأصيل (وسنعود إليه) فهو إسقاط الذات على مستقبل ما، لذلك يبقى دائماً في كل لحظة وجوداً انتقالياً في طريقه مما كانه إلى ما يسعى لأن يكونه.
وهيدجر يبدو ظاهرياً في هذا السياق من فلاسفة الحرية أمام طغيان المواصفات القياسية لمجتمع الكتلة، وانقياد الجماهير في وجودها الروتيني الآلي. فلسنا نمثل إزاء العالم كيانين منفصلين مستقلين، وليس الوجود في العالم مجرد علاقة مكانية. الأنا لا توجد في العالم كحبة بازلاء (فاصوليا) فى قرن أو غلاف. بل تشبه مشتركاً في عالم سباق السيارات. فالمسألة مسألة انخراط فعال لا موقع جاهز. وهذا الجانب يتعلق بوجودنا اليومي في العالم. نحن لا نواجه الأشياء باعتبارها مجرد موضوعات حاضرة في متناول اليد، بل نحن نخبرها ونلمس تجربتها باعتبارها مفردات وظيفية قابلة للتعامل بها، وتشغيلها واستخدامها وتشكيلها (zuhanden) مثل المطارق والأقلام والمناضد .. إلخ، التي تظهر في مجال الاهتمام والانشغال والانخراط والقلق والعناية.
ونفعل ذلك كما يشرح ديفيد كوبر من خلال تعاملاتنا معها وبها لا من خلال ملاحظة محايدة. ويسمى هيدجر الموجودات التي نلتقى بها في الانشغال معدات (جمع معدة zeuge)، وهذا التعامل يضاد المعرفة بمعنى المتفرج المشاهد كما أنه ليس تلاعباً خالياً من الهدف والمعنى. بل من خلال الطرق تتكشف المطرقة. وليست المطارق وحدها، فالطبيعة أيضاً ـ بعد أن شكلتها الممارسة الإنسانية في ثقافة أو حضارة أو طبيعة ثانية كما كان ماركس يقول ـ لا نلتقى بها كأشياء موجودة هناك منفصلة. الغابة هي أخشاب للصنع والبناء والريح الجنوبية تكشف عن نفسها في وجودها أولاً كعلامة على المطر من خلال أنشطة مثل الفلاحة.
وفى فلسفة البراكسيس عند هيدجر يكون أول التقاء بالموضوعات بالأشياء فى العالم متمثلاً فى أنها مفردات استفادة عملية قابلة للاستخدام والتشغيل. وما لم نفعل ذلك لن تكون الموضوعات ماثلة أمامنا كموضوعات من بين أعداد لامتناهية من عناصر العالم. وما لم تتم إضاءة الأشياء بفضل الدور الذى تلعبه داخل شواغلنا وهمومنا العملية لن يظهر أو يبرز أمامنا ما يمكن أن نفرده لأنظارنا أي نخضعه لمعرفة الإدراك الحسى. فالثغرة في التقليد الديكارتي المستمرة في الفلسفة الوضعية هي فشله في أن يسأل نفسه كيف كان يمكن أصلاً أن تنبلج أو تبزغ أشياء كمفردات أو موضوعات قابلة للتمييز واهتمام الإدراك الحسى. فالسؤال التقليدي كيف نعرف الأشياء ليس أساسياً بما فيه الكفاية؛ لأنه يفترض بالضرورة مسبقاً دون تصريح نمطاً سابقاً للنفاذ إليها هو التعاملات العملية التي تمكن الأشياء من أن تبرز وتعرض نفسها.
إن معايشة تجربة الأشياء باعتبارها ماثلة هناك فى متناول اليد vorhanden هي بالضرورة لاحقة لتشغيلها واستخدامها zuhandom ومشتقة منه. فمن الخطأ اتخاذ موقف المتفرج الطفيلي نحو الموضوع باعتباره الموقف الأولى ثم مطابقة الموضوع "الواقعي" بهذه الكتلة من المادة الممتدة المبهمة، فلا يمكن الإصرار على أن السيمفونية واقعياً هي بعض اهتزازات ذبذبات في الهواء والوقوف عند ذلك. لذلك فإن انشغالنا يكشف الطبيعة الخام باعتبارها تملك علامات وإشارات اتجاهات معينة وثيقة الصلة بمشروعاتنا. فهناك جانبان أساسيان في العالم الذى نحيا فيه: التكامل والامتلاء بالمعنى. ويذهب هيدجر، فيلسوف الأدوات في المستوى الفلاحي الحرفي الذى يتم تمجيده في وجه الإنتاج الآلي الحديث الذى يحول العمال إلى زوائد ملحقة بالآلة، إلى أنه لا توجد معدة مفردة.
فكل مفردة تنتمى إلى كلية. فنحن لا نلتقى بألواح الخشب والمنشار منفصلين بل نلتقى بهما معاً في ورشة على سبيل المثال، في وحدة تكليفات وظيفية. المنشار يصنع ليقطع لوح الخشب الذى يتجه نحو صنع منضدة لكى يأكل الناس عليها. إنه بفضل مفردات مثل: "لكى" و"نحو" و"من أجل" يكون لمفردات الوجود الماثل هناك هويتها داخل نطاق كلية مرجعية (ربما في مجتمع عضوي سابق للرأسمالية)، فالورشة والبيت الذى توضع فيه المنضدة لا تفهم في انعزالها (أيام سيادة القيمة الاستعمالية) قبل أن تمزق القيمة التبادلية الساعية إلى نقود الربح كل ذلك. فكل منها كان يشير إلى الأخرى، وينتمى إلى كلية علائقية موحدة.
وهذا الكل البنيوي الكبير من الصلات الممتلئة بالمعنى يسميه هيدجر العالم، عالم هو كلية من الدلالة. كما أن الوجود الإنساني فيه هو إمكاناته بلغة المشروعات الكثيرة المتاحة التي ينخرط فهيا. وهو ليس جوهراً بمعنى إنه لا يحتاج إلى كيان آخر لكى يوجد؛ فدون الموضوعات لا يمكن أن يوجد. أي أن الذات والعامل ينتمى كل منهما إلى الآخر، وليسا كائنين مثل ذات وموضوع بل وحدة وجودية داخل العالم. وماذا عن معرفة الذات في وجودها الإنساني؟ إن هيدجر يرفض الوعى الاستبطاني بدائرة داخلية شفافة (الكوجيتو وذيوله). فالتفكير في الذات ممكن عنده ولكنه ليس مسألة ذات عارفة ترى ما بداخلها.
وقد قارن كثيرون بعض عبارات مجتزأة منه في هذا السياق وبين بعض عبارات مجتزأة من كتابات ماركس الشاب. عند هيدجر صانع الأحذية الذى يريد أن يفهم "ذاته" ويعمل بامتياز ينظر حوله إلى ورشته وأسرته وجيرانه. فمن الأشياء التي ينخرط فيها تنعكس ذاته راجعة إليه. أي أن وجود الذات الإنسانية يجد نفسه أولاً في الأشياء التي تشكل عالم اهتمامه؛ فكل واحد منا هو ما ينشغل به ويهتم به. نحن نفهم أنفسنا من خلال فهم عالمنا فدون ذلك العالم لا يوجد شيء يحدق فيه استبطان يدور على كرسي وثير. وتلك السيكلوجيا الهيدجرية تتشابه في نقطة البدء فحسب التي ترفض الاستبطان كمفتاح وحيد، مع تناول ماركس للسيكولوجيا. فالحياة عند ماركس لايحددها الوعى الذاتي بل الوعى تحدده الحياة، وللإنسان طبيعة سيكولوجية متغيرة، وبتطور المجتمع تظهر أشكال جديدة للوعى.
وقد جاء في المخطوطة الثالثة من المخطوطات الاقتصادية الفلسفية 1844، أن تاريخ الصناعة (لا الحرفية وحدها) هو الكتاب المفتوح لقدرات الإنسان الجوهرية؛ أي سيكولوجيا الإنسان الموجود على نحو ملموس يمكن إدراكه حسياً. وأي سيكولوجيا تتجاهل التطور التاريخي للصناعة (قدرات الفعل التشكيلي والوعى لتجسيد ما يشبع حاجات الإنسان ورغباته المتطورة) لا يمكن أن تصير علماً حقيقياً شاملاً. وليس الوعى مفهوماً ميتافيزيقياً، فكل شيء يجعل الناس يقومون بالفعل يجب أن يجد طريقه من خلال أدمغتهم ولكنه ليس شكلاً محايثاً مقتصراً على نشاط الفرد النفسي والذهني، بل هو أحد أشكال الذات الخارجية الجمعية الأخرى بأنشطتها المتعددة التي تتوحد فيها أفعال الذوات الفردية.
فلسفة الوجود والشرط الإنساني الحديث:
ونعود إلى هيدجر. فهل اقتصر على مجال ففلسفي محدد يختص بالسمات الضرورية للوجود الإنساني في ذاته دون تقييم من جانبه لآخر مراحل التاريخ الإنساني؟ إنه يذهب إلى أن الكائن الإنساني يتشكل بواسطة الزمان. والزمان عنده ليس وسيطاً نتحرك فيه، كما تتحرك حزمة طافية من القش في نهر، فهو صميم بنية الحياة الإنسانية نفسها، بُعد من أبعاد الوجود يصنع الإنسان ابتداء منه قبل أن يكون شيئاً ما يقيسه. فالإنسان لا يوجد كإنسان إلا بواسطة إسقاط نفسه دائماً أمامه محققاً إمكانات طازجة للوجود دون أن يكون مطابقاً لذاته أبداً بل سابقاً لنفسه دائماً. ويكرر هيدجر دائماً أن الإنسان ملقى به إلى الأمام ولا يستطيع أن يمسك بوجوده كموضوع اكتمل إنجازه، فهو إمكان متجدد إشكالي، دينامية داخلية لتجاوز دائم للذات واقع في شباك وضع أو موقف عياني مطروح للتجاوز. ويرى إيجلتون أن الزمان فكرة أكثر تجريداً من التاريخ، فهو يعنى مرور الفصول، أو طريقة معايشته/ نمو حياته الشخصية ويختلف عن التاريخ/ صراع الطبقات والأمم والدول، أي أنه ما يزال مقولة ميتافيزيقية. فهذا النوع من التاريخ العياني لا يهمه كثيراً.
وهو يفرق فى الألمانية بين كلمتين للتاريخ، كلمة Historie أي ما حدث وكلمة Geschichte وتعنى ما حدث وزاول الناس خبرته باعتباره ما يحفل بأصالة المعنى. فالتاريخ عنده وجودي باطني أصيل. والأصالة هنا نقيض الزيف ومطابقة حقيقة الوجود بالانتساب إلى الأعمال الداخلية. وجذر كلمة الأصالة باليونانية authentikos يشير إلى الفرد الذى يسلك طريقاً مستقلاً ذاتي الفعل، وعند هيدجر هو الذى يطابق فعله طبيعته الأنطولوجية. أي أنه لا يحيا حياة مسطحة فارغة دون أصالة بمعنى أنه لا يترك حياته تحددها الأعراف الروتينية والآخرون في انقياد. (الآخرون يسميهم هيدجر الـ هم بإضافة أداة التعريف الـ إلى ضمير جمع الغائب هم). ووجوده في الزمان يعنى أن له ماضياً كما أن له مستقبلاً يستبقه ويتوقعه في الموت وجزع الموت.
فالكف عن الوجود والقابلية للموت جزء مكون من فهم الوجود الأصيل الذى يشتبك مع العالم واعياً بالموت القادم، ويحيا حياة ذاتية التحدد والتجدد. وفى الأنطولوجيا السياسية المتفرعة عن الأنطولوجيا العامة يتحدث هيدجر عن نمط أصيل، نمط وجود هؤلاء الذين يسعون لفهم موقفهم ويمسكون بزمام حريتهم واضطلاع بمسؤوليات وتحقيق لإمكانات يتطلبها أو يتيحها الموقف. الأصالة مشروع موجه نحو المستقبل في موقف هو وجود الأفراد في العالم: الأفراد الذين هم دائماً وقبل كل شيء موجودون في موقف لم يختاروه، وداخل علاقة مع آخرين قد يختلفون عنهم كل الاختلاف وذوى مستويات وجودية متباينة. ويتطلب الوجود الأصيل تجاوزاً لهذا الموقف: أي حركة واعية بعيداً عن أي حالة معطاة من الوجود لتحقيق الإمكانات المختارة والتراجع عن السقوط المفروض واستجماع القوة الذاتية.
معظم العمال مثلاً قد ينتمون إلى خنازير الوادي بواسطة المناخ الفظ البارد للتنظيم التكنولوجي الجماعي والنمطي، يكدحون كالكائنات الآلية بلا روح أو فكر في عالم ميكانيكي تكراري نمطى حيث كل الأشياء متماثلة، لا يمكن تمييزها إلا بالأرقام، ولا فروق بين الأعراق والشعوب والبلدان، ولا تراتب للموهبة والإنجاز. وفلسفته ترفض لذلك دور الطبقات الاجتماعية واتجاهاتها التحويلية، وترفض تصنيف التاريخ تحت مقولتي التقدم والتأخر، أو الزيادة والنقصان في الحرية وثمار العمل والمعرفة. وله عنده بعدان فقط الأصالة أو اللاأصالة، أي الفعل النابع من الذات أو المفروض عليها. والتاريخ لا يوجهه تكرار الفعل الجماهيرى، بل أصالة أفراد النخبة الذين يمنعون كارثة المستقبل في اللاأصالة.
فالفعل التاريخي عند هيدجر هو امتياز للنخبة مع استبعاد الجماهير التي لا تحيا حياة حقيقية. وتضم النخبة الزعيم الساحر الملهم، والشاعر والفيلسوف وعالم اللغة. ويبدو كما يقول لوكاتش أن تاريخيته لا يمكن تمييزها عن اللاتاريخية، وأنها تعمل كبديل للتاريخ بمعناه الشائع، الفعل الجماعي للتغيير نحو تطوير القدرات الإنتاجية والمعرفية والإبداعية، وتوسيع إمكانات الحرية لبنى البشر. وفى تقييم هيدجر للشرط الإنساني في العصر الحديث، العصر المعدم يكرر أن وجودنا في العالم غير أصيل ساقط في طرائق الجمهور بلا وجه، الـ هم وتحت دكتاتوريتها، ومن ثم فنحن مغتربون أو مقتعلو الجذور من أنفسنا.
وهو يؤكد أنه لم يكن هناك وضع أصيل في البداية فهو تعديل وتصحيح وليس مجرد ابتعاد عن الحياة غير الأصيلة. فنطاق تلك الحياة يتغير على مدى التاريخ، وهو شديد الاتساع في العصر الحديث. ويقول المعلقون إن هيدجر مدين بالكثير لآراء كيرجور ضد الجماهير في كتابه العصر الحاضر. حياة تحت دكتاتوريتهم تقوم على التسوية والتوسط نحو الأسفل، مجتمع الميديا وادعاء الفهم والفضول السطحي. وقد أفاض هيدجر فى تصوير الوجود غير الأصيل ووضع مقابله الوجود بين الميلاد أو التراث والموت. والانخراط البدئي في الوجود غير الأصيل ضروري وهو الشرط الاستهلالي الذى تكون الأصالة تعديلاً له.
والموت هنا طريقة في الوجود أو حياة متجهة نحو النهاية، والقلق في وجه الموت كإمكان حاضر دائماً يجعل الفرد يعد كشف حساب عن حياته وأهمية أو عدم أهمية هذا الشأن أو ذاك. وبذلك يتحرر من الشؤون التي فرضت عليه كما يحصل على إحساس بوجوده باعتباره كلاً. هذا القلق الخصب يجعل الفرد يحيط بمجمل وجوده ناظراً إلى الإمكانات الغافية أمامه في علاقتها بالإمكان النهائي، إمكان الموت لرصد بنية حياته على نحو متماسك، بدلاً من تبعثرها في حادثة تتلوها حادثة دون اتجاه أو ترابط. وبالإضافة إلى ذلك فإن الإنسان في قلق الموت يتعرف على التفرد الفذ لحياته، فعلى حين أن الأحداث المنتمية إليها مثل الزواج أو الوظيفة وما إلى ذلك يمكن أن تظهر في حياة أي فرد آخر، فإن الطريقة التي يجمعها بها داخل كل متكامل تخصه وحده، فلا يمكنه تفويض موته، أن يموت أحد بالنيابة عنه.
فالموت بمعنى الحياة في توقع للنهاية هو بالضرورة مسار فردى ينطوي على تقدير شخصي للأهمية والدلالة والاتجاه، وعلى مسؤولية لا يمكن تفويضها. وقد عمدت القراءة الوجودية اللاحقة لكتاب "الوجود والزمان" إلى الوقوف عند تفسير هيدجر للأصالة في الأجزاء الأولى من هذا الكتاب. إنها عقد العزم استباقاً والانسحاب من ضجيج وثرثرة الآخرين (ال هم) وحمل مسؤولية جرى تفريدها بالنسبة إلى حياة الفرد ككل. ولكن عقد العزم لا يتطلب سلوكاً بطريقة معينة بدلاً من طرق أخرى، أو اختيار مثل أعلى للوجود بل يدعونا إلى الموقف (الفقرة 347 من الترجمة الإنجليزية). ويبدو السياق قريباً من كلمات سارتر، أي الدعوة إلى تقدير واضح أمين للموقف، ولدعوة القرار الحاسم بعيداً عن تفسيرات الآخرين السهلة التي تغلق طبيعة الموقف.
ولن يؤدى تقدير الموقف بذاته إلى وصفة بالقرارات التي ينبغي اتخاذها، فكل قرار مؤقت ويظل الفرد حراً أمام إمكان الرجوع عن القرار. والخيار الأساسي بين وجود أصيل ووجود غير أصيل يبدو حتى تلك النقطة خياراً بين حياة تحت دكتاتورية الآخيرين، القطيع (ال هم)، وحياة تم تفريدها بحيث لا تجعلنا في بيتنا بل تغربنا عن عالم أقراننا، ولا تحوى أي معالم إرشاد لكيف نسلك في الموقف. وهناك قراءة مبتورة لهيدجر ترى عنده الوجود الأصيل في الإنسان المتوحد المنفرد المنعزل مثل غريب ألبير كامى. ولكن شراحاً أكثر تعمقاً في قراءة نص هيدجر مثل ديفيد كوبر يصلون إلى نتيجة مغايرة لا تتعلق بالحرية الوجودية، بل برطانة رجل ولد معه في نفس السنة وكان جلاداً للحرية، هو أدولف هتلر.
فلسفة هيدجر والنازية:
فى القسم الأخير من "الوجود والزمان" محاولة لتخفيف التضاد بين التوحد الأصيل والجماعة غير الأصيلة وإيماء إلى كيف يمكن للفاعل الأصيل أن يسترشد لكى يصل إلى إمكانات لاتخاذ القرار الحر. إن هيدجر يرجع إلى الوراء إلى الحد المبكر للوجود الإنساني، أي الميلاد بعد أن ناقش حركته إلى الأمام أي إلى الموت. وكما أن الموت يشير إلى الوجود نحو النهاية فإن الميلاد يشير إلى الوجود نحو البداية. وهو يسمى البداية التراث الذى تسلمناه باعتبارنا كائنات في موقف تاريخي. وهذا التراث ليس معادلاً للشروط التي ألقينا فيها (قذفنا إليها) للعالم كما خلقه الآخرون ال هم. لأن هؤلاء يتجاهلون ويشوهون ويفرضون التفاهة على التراث. إما يرفضون الماضي كحذاء قديم غير قابل للاعتراف به أو التعرف عليه، أو يختزلونه إلى مستودع من تقاليد نبشت من القبور في مناسبات خاصة.
ولكن التراث لا يشكل في حقيقته نمط وجودنا اليومي غير الأصيل بل على أساسه فقط سيتسلم العزم الزمام كاشفاً عن إمكانات الوجود الاصيل (الفقرة 435 من الترجمة الإنجليزية). وحينما نتسلم تراثنا نستعيد أنفسنا من تأثير الكتلة والزحام والآخرين وال هم، تأثير الخضوع للدعة وتجنب المسؤولية وأخذ الأمور بخفة. وذلك يقدم إرشاداً بالنسبة لإمكانات الحسم والقرار. لأن الكائن الأصيل الذى يتسلم زمام تراثه سيستمد هذه الإمكانات من التراث على وجه التحديد. التراث يقدم القرارات وطرائق الحياة التي تبناها أجدادنا وهى المفتوحة أمامنا لتكرارها. وقد يكون ذلك على سبيل المثال باختيار بطل من الماضي ثم نحاكيه مع تقدير مناسب للسياق الجديد.
ويدعى هيدجر أن تبجيل إمكانات الوجود القابلة للتكرار هو تبجيل السلطة الوحيدة التي يستطيع الناس إقحامها ضد دكتاتورية أل هم. وبفعل ذلك يصبحون أحراراً (فقرتا 437 و443) والتراث ليس ملكي وحدى، على الرغم من أن تسلمه هو فعلى، فالمصير الذى يجتنى من التراث هو مصير جماعة ممتازة؛ شعب عريق، جيل مختار. والآن تبدو القسمة الثنائية المتضمنة في "الخيار" بين الوجود الأصيل والوجود غير الأصيل، أي قسمة إما اغتراب أنا وحدى عن المجتمع، وإما لجوء قطيعي إلى الآخرين المنقادين (ال هم) قسمة زائفة. فتسلم الميراث يحرر النفس من العناق المريح للكتلة المنسلبة، ويبنى بيتاً جديداً في شعب أو جيل يشارك فى هذا الميراث.
لقد تحولت رطانة الأصالة عن الوجود الفردي إلى مزاعم عن مصير جمعي لشعب أو أمة، ولم يكن ذلك جديداً على هيدجر مع وصول هتلر إلى السلطة، ففي "الوجود والزمان" كانت الأصالة الفردية قابلة للتحقق كعضوية في شعب أو جيل يتسلم تراثه، وقد حدثت النقلة من الفرد إلى الجماعة الوهمية منذ وقت مبكر، حينما كان يرى أن أوروبا تدهورت تحت سيادة الجماهير القطيعية التي خلقتها الرأسمالية. وهى في حاجة إلى طاقات روحية تفتح تاريخياً انطلاقاً من المركز الألماني وفى مركزه رجل واحد اختار أبطال الماضي ليباريهم، مرتدياً درعاً ينتمى إلى العصر الوسيط، ولديه حس حقيقي بقدر أمته التاريخي (مدخل إلى الميتافيزيقا).
إن هيدجر فى تفسيره للحرية لم يطابق بينها وبين مجرد غياب القيد الذى يفرضه الآخرون، بل الحرية عنده كانت لوقت طويل هي الانخراط في أن تتكشف الكائنات الإنسانية وجودها. وقد شن هجوماً حاداً على الحرية الأكاديمية التي إذا استبعدت سيجد الطلبة والأساتذة الحرية الحقيقية في أشكال الخدمة المؤداة للدولة، وفى وضع أنفسهم تحت قانون ماهيتهم (حيث لم يعد وجودهم سابقاً على تلك الماهية المزعومة). إن حديثه عن التحرير باتخاذ القرار والحسم، وقطع الصلة بعنف مع المعايير المبتذلة للقطيع في مجرى الفعل، لا يرد فيه أن يكون للفعل مبرر إلا كونه فعلاً. فالرجال والنساء الألمان عليهم تحرير أنفسهم من وثن الفكر وأن يحسموا أمرهم بأن يعقدوا العزم على الفعل، الفعل من أجل الفعل.
وقد سمعنا في العالم العربي أصداء كلمات هيدجر حرفياً عند الدكتور عبد الرحمن بدوى في دراسته: "هل من الممكن قيام أخلاق وجودية"، كما أن أطروحته عن الزمان الوجودي حافلة بالأصداء الهيدجرية، إلا أن تأثير هيدجر شديد الضخامة في العالم، ولا يمكن اختزال كتاباته الفلسفية في برشامة لأنها حافلة بالتناقضات، وجانبها النقدي للوضع الحداثي ومقدمات الميتافيزيقا الغربية حافلة بالاستبصارات الجزئية شديدة الثراء.