في كتابه "خطاب الأخلاق والهوية في رسائل الجاحظ" (دار كنوز المعرفة، ط1، 2015) يحاول الدكتور محمد مشبال أن يعيد بناء الوسائل التي تشكلت من خلالها رسائل الجاحظ. وهذه المحاولة أظهرت منذ البداية ارتباطها الوثيق بالتساؤل والتحليل، وأعلنت انتسابها إلى البحث البلاغي "مقاربة بلاغية-حجاجية". فالبلاغة في نظر الباحث، إذا تعاملنا معها بوصفها نظرية في تحليل الخطاب، تستثمر مفاهيمها، وآلياتها الكثيرة، الأصيلة أو المستعارة من حقول معرفية مجاورة، في مواجهة أسئلة الخطاب الجمالية والحجاجية، يمكن لنا التوصل إلى نتائج مرضية بخصوص ما يقوم عليه الخطاب بنيةً وتأثيرا.
وقد تبين لمحمد مشبال أن رسائل الجاحظ يهيمن عليها البعد الحجاجي بعدما لاحظ انشغالها القوي بالمتلقي، "سواء بالحرص على الاستحواذ عليه لتلقي النص، أو بالتواصل معه والتأثير فيه بواسطة جملة من الحجج المضمرة أو الصريحة الدّائرة حول قضية من القضايا التي شغلت الناس في عصر الجاحظ؛ وهي قضايا خلافية في الغالب الأعم" (ص: 07_08).
من هنا سيعمل الباحث على جعل مقاربته البلاغية لرسائل الجاحظ تميل إلى رصد وتحليل بنيات الحجاج، مع الاهتمام بالجانب الأسلوبي اهتماما حجاجيا يكشف عن قدرة التأليف اللغوي المخصوص على استيعاب الحجج والتأثير في المتلقي. ولا يغفل محمد مشبال عن إيراد جملة من التوضيحات التي تؤكد أن مقاربته هذه لا تتقيد بخطة جاهزة مقتبسة من نظرية البلاغة الحجاجية المعاصرة؛ ففي رأيه، لا تستقيم القراءة البلاغية للنص إلا إذا أخذت في حسبانها "أن المنجز البلاغي الذي تراكم طوال تاريخ هذه المعرفة، ليس وصفة جاهزة أو مجموعة من التعاليم الواجبة؛ إذ أثبتت التجارب والتطبيقات أن ثمة مسافة ينبغي الاحتفاظ بها بين " النظرية البلاغية" بقوائمها الأسلوبية وخطاطاتها الحجاجية وحتى بمبادئها وقوانينها، وبين البلاغة بوصفها مقاربة أو قراءة أو تحليلا للخطابات والنصوص؛ فبين هذين النموذجين من النظر مساحة للاجتهاد والإبداع وإعادة تركيب المعطيات النظرية لتتوافق مع استراتيجيات وأهداف التحليل" (ص: 06).
وقد تمظهر الإبداع في تشغيل آليات البلاغة لتحليل رسائل الجاحظ، في الجهد الذي قام به محمد مشبال من أجل تحديد هوية هذه الرسائل وما يطرد فيها من خصائص ومقومات يمكن لها أن توجه التحليل؛ إذ بيَّن أن الرسالة في مدونة التطبيق ليست نوعا خِطابيا دقيقا يقوم على قواعد ثابتة، بل هي نوع إطاري يستوعب عملية التواصل بين المتكلم ومخاطَبه، ويمكن الحديث داخل هذا الإطار الواسع عن أنواع خِطابية مختلفة، مثل المناظرة والمفاخرة والوصية، وهي من تؤثر حقيقة في الملفوظات وبنية الخطاب عامة، وبالتالي هي من تحدد هوية الرسالة بالدقة اللازمة. ويفرق مشبال بين قراءتين بلاغيتين: الأولى قراءة عامة تصف أنساقا أسلوبية معروفة دون الاهتمام بالنص الذي تُوظَّف فيه، أو السياق الذي يحتضنها؛ فالتشبيه نسق أسلوبي نجده في الرواية كما نجده في القصيدة والقصة، ووصفه يتم بطرق معروفة تتناول الأنواع والأطراف والعلائق والدلالة الجزئية. أما القراءة البلاغية الثانية، وهي التي يجسدها كتاب الباحث تطبيقيا، فإنها "تنظر إلى النصوص في علاقتها بالسياق التلفظي؛ أي المقام الذي أنتجت فيه: من هو المتكلم؟ وما موضوع الخطاب؟ ومن هو المخاطَب؟ وما غاية الخطاب؟ وما نوع هذا الخطاب؟ (ص: 17).
ومادامت رسائل الجاحظ توظف الحجج وتسعى إلى خلق التأثير في المخاطب فإنها ستقوم على قاعدة تواصلية حوارية. أثبت ذلك محمد مشبال بتحليله لعدد من هذه الرسائل، من بينها رسالة "القيان" التي يتحاور فيها رأيان اثنان، رأي المتكلم الذي لا يرى بأسا في النظر إلى القيان ومجالستهن ومحادثتهن، ورأي الطرف الآخر الذي يعتقد بحرمة ذلك. وتبعا لهذا التقاطب الحواري في الرسالة تأتي الحجج التي يوظفها المتكلم من أجل تقويض رأي الآخر وإثبات نقيضه. وقد وضع الباحث هذه الحجج في أطر حجاجية نوعية، كالأخبار التي تنطوي على وقائع تاريخية مدعمة بحجج السلطة؛ فسير العلماء والخلفاء والزهاد تثبت أن التقرب من القيان ومحادثتهن فعل مباح لم يتحرج أحد من إتيانه. ثم يضيف مشبال حججا أخرى هيمنت على رسالة القيان: التمثيل الأسلوبي _ الحقائق والمسلمات _ الحجة النفعية _ الحجة السببية
وينفتح محمد مشبال في بحثه عن حجة الجاحظ في رسائله على جميع أنواع الصيغ الخطابية التي تتضح علاقتها بالحجاج، وهو بذلك يعيد فتح النقاش حول عدد من الصيغ التي شاعت ملازمتها للدائرة الجمالية في الخطاب، مثل السرد والأسلوب. ويقدم الباحث تحليلات حجاجية مفصلة تبين كيف يعتمد الجاحظ على السرد لإثبات قضية من القضايا؛ إذ يقدم الأخبار التي تخدم دعواه من وجهة نظر ذاتية. في رسالة البغال على سبيل التمثيل، يقدم الجاحظ شواهد سردية تؤكد دعوى من يمدح البغال ويشيد بقيمتها، كما يأتي بشواهد سردية أخرى تؤكد دعوى من يذم البغال. أما الأسلوب، فإن محمد مشبال وضح تطبيقيا، وقبل ذلك نظريا في مقاله " بلاغة صور الأسلوب وآفاق تحليل الخطاب" ( البلاغة والخطاب: كتاب مشترك. 2014) كيف يؤدي وظائف حجاجية تخدم دعوى المتكلم. وفي رسالة التربيع والتدوير ذات الطبيعية الاحتفالية، يكشف الباحث عن الطريقة التي يوظف بها الجاحظ أسلوب الاستفهام توظيفا حجاجيا يساعده على تكوين صورة (خِلقية _ خُلقية) سلبية لأحمد بن عبد الوهاب، عبر الانتقال من المعنى الأصلي للاستفهام إلى معاني تداولية يؤيدها السياق، كالتقرير والإنكار والتهكم والتوبيخ... وإلى جانب السرد والأسلوب قام الباحث بتحليل أنواع أخرى من الحجج.
ومن أجل توفير تحليل نسقي يمنح للقارئ صورة عن التأليف الحجاجي عند الجاحظ، عمد محمد مشبال، بعد نظر عميق في الرسائل التي بين يديه، إلى تخصيص قسم للرسائل التي تناولت قضايا أخلاقية تفرع تحليل بينتها الحجاجية إلى الفصول التالية: الأخلاق بين الهوى والعقل _ في الأخلاق السياسية _ في ذم أخلاق الكتاب والعلماء. ثم خصص قسما ثانيا للرسائل التي تناولت القضايا ذات الصلة بالهوية، وتُظهر فصول هذا القسم ( في الحجاج وهوية الأمكنة _ في مدح الهوية السوداء _ في مدح هوية الترك _ الحوار مع الآخر وصيانة الهوية الإسلامية) تركيز الباحث على تبيين ما يتبناه الجاحظ من آراء في موضوع الهوية، ثم تحليل العدة الحجاجية التي تدعم آراءه تلك. ويظل هذا التعامل المنهجي الدقيق مع هذه الرسائل قريبا من صورة الجاحظ الثقافية، بما نعرف عنها من اهتمام بالفضائل الأخلاقية ودفاع عن هوية الحضارة العربية الإسلامية بمختلف ما تنطوي عليه من مكونات عرقية أو ثقافية. وإضافة محمد مشبال في الكتاب قيد المناقشة تتمثل في تحليل خطاب هذه الصورة الثقافية علميا.
إن كتاب "خطاب الأخلاق والهوية في رسائل الجاحظ" يتوج صحبة محمد مشبال الطويلة مع أدب الجاحظ، فمن قبل كتب "سمة التضمين التهكمي في رسالة التربيع والتدوير"، ثم كتاب "بلاغة النادرة"، ثم "البلاغة والسرد: جدل التخييل والحجاج في أخبار الحجاج"، وكل هذه الدراسات، التي تستحق أن توصف بالمشروع، نقف فيها على رغبة الباحث في تعميق المعرفة بأدب الجاحظ عبر توفير قراءة تستجيب لخصوصيته البلاغية. وهذا الكتاب الحاضر استطاع فعلا أن يقرأ الجاحظ بعدة منهجية متطورة أساسها الإبداع في نقل البلاغة إلى مضمار تحليل النصوص.