باب ضيق، يحرسه تاريخ، لازالت جغرافيته الأنتروبولوجية في تمدد مستمر. هذا ما توحي لنا به صورة غلاف المجموعة القصصية القصيرة، "ريف الأندلس"1 لكاتبها الشاعر أحمد بنميمون، التي يتوسطها عنوان يختصر كل ذلك. اسم اقتطفه الكاتب من مشتل أمكنة مدينه شفشاون، ليعيده إلى ذهن المتلقي في صورته الأصلية. فكلمة "ريف" تعني برية أو ضاحية، والأندلس حسب ويكيبيديا هي: "المعروفة أيضًا في الخطاب الشعبي الغربي خُصوصًا والعربي والإسلامي أحيانًا باسم "إسپانيا الإسلاميَّة" وهي إقليمٌ وحضارةٌ إسلاميَّة، قامت في أوروپَّا الغربيَّة وتحديدًا في شبه الجزيرة الأيبيريَّة، على الأراضي التي تُشكِّلُ اليوم إسپانيا والپرتغال، وفي ذُروة مجدها وقوَّتها خلال القرن الثامن الميلاديّ امتدَّت إلى جنوب فرنسا المُعاصرة. بالإضافة إلى الدُويلات والإمارات الكثيرة التي قامت في رُبوعها".
والجملة الاسمية من كلمتي "ريف الأندلس"، لها مرجعيتها التاريخية، لدى سكان مدينة شفشاون. نظرا لارتباط المدينة، بنزوح آخر مسلمي الأندلس إلى المغرب، واستقرارهم بإحدى ضواحيها حيث أسسوا الحي، الذي عرف باسم "ريف الأندلس".
وهو عنوان يحمل في بنيته الدلالية، عنصر "التضاد" بين المدينة والضاحية أو الريف. ونظراً للوظيفة الأدبية للتضاد، فقد رصدنا تموقعاته، داخل المجموعة القصصية، وكذا بعده الجمالي وعلاقته بالمكان، ودوره في توليد وحدات الحكي.
هكذا يتصدر العنوان واجهة الكتاب، وثيقة هوية "الحكايات"، في مملكة المكان، وهيمنة التاريخ، حيث ينتصب التضاد، فاردا جناحيه، فوق فضاءاتها. فهي حكايات مهما تنوعت أحداثها، وتعددت نماذج شخصياتها، ترتكز على محاور ثلاث: الإنسان، مدينة شفشاون، السلطة.
"ريف الأندلس"، حي من أحياء مدينة شفشاون، معروف لدى أهالي المدينة وساكنته، وإن غابت عند البعض منهم قصته التاريخية. لكن القارئ الآخر، المحتمل وجوده في مناطق من العالم العربي، سيقرأ هذا العنوان، قبل أن يلج متون الحكايات، بمرجعية أوسع، تنتج دلالة بمعاني تشمل العلاقة التاريخية للمغرب بالأندلس، بالإضافة إلى موضوع هجرة الموريسكيين. وفي أفق احتمالات توقعات المتلقي، قد يسمح لهذا الأخير، بالقيام بإسقاط معرفي/ اجتماعي، كأن تبدو له إشارات، تشي بتأثير اجتماعي للمناطق الريفية، ببلاد الأندلس ذات تاريخ، حملته فئة من المهاجرين الأندلسيين الريفيين، الوافدين لأماكن استقرارهم بمدينة شفشاون. إمكانية تعدد دلالات العنوان هذه، تقودنا إلى أهمية "العتبات"، التي أتى بها أحد المنظرين للنقد الأدبي الحديث، والمشتغلين عليه، الفرنسي جيرار جنيت، والذي، قال ما يفيد، في هذا الصدد: "أن عتبة العنوان هي التي تمكن المتلقي من الانتقال "من مجال النص المغلق إلى مفهوم النص الشامل"2.
يستوقفنا العنوان بالتباساته الفنية الماكرة، ليذكرنا، أن صاحب العمل شاعر، يرفض إلقاء معاني قصائده، على قارعة الطريق. وهو ابن البديع، الذي سنلتقي به في دروب وأبنية سرد "حكايات ريف الأندلس"، فلنضع تصورا لابن البديع كيف يبدع في المجال السردي.
المجموعة بنية ذات، يؤطرها مكان، وإن باغتنا السؤال عن أية ذات وعن أي مكان، يلف مغزل حكايات ريف الأندلس.
النبش فيما تخفيه النصوص، والبحث عن علاقة الكاتب/ السارد بالفئات التي يكتب عنها يفضي بنا إلى شخصيات محدودة، لا تسند إليها البطولة المطلقة، في حضور سارد حي، يساهم في صناعة الحدث، تارة من قريب، وأخرى كشاهد يصف ويتفاعل ويعلن عن موقفه اتجاه ما يحدث. وهذا ما يفصح عنه الكاتب علناً، عن علاقة الراوي الثابت "الأنا" الشاهدة، بالمخاطب المتغير، من أقصوصة لأخرى: الابنة، عبد البديع السكاكيني، الصديق، الصديقة، الزوجة..
فهي تجربة غوص، في قاع المدينة. تتداخل الأزمنة، وتتغير ألوان المراحل، ويظل الإنسان إما متمرداً أو خاضعاً، اتجاه أي سلطة تسمح لنفسها تغيير قانون الطبيعة، حتى ولو كانت هذه السلطة كرسيا في مقهى. الحكايات حكايات أمكنة، يحتضنها فضاء مدينة شفشاون. والكاتب راصد للتحولات التي مرت بها. فالمكان كما يقول باشلار "له ديناميته الخاصة، ويتحدد من خلال وعينا به"3.
يقول الكاتب بهذا الخصوص في تبئير مموه، على لسان أحد ممن عرفهم بقاع المدينة، في أقصوصة غربة المطرود"، لا ينبغي أن تستمر علاقتك بسطح الأشياء، بل عليك أن تنفذ إلى داخلها ولا أن تبقي علاقتك بالأماكن خارجية دائماً. ويجب أن تعمل، حتى تصبح موضع ترحيب، في أي مكان في الدنيا". عند الجملة الأخيرة من المونولوج الداخلي، يخترق مسمع شخصية الحكاية المقهور، صوت يقول له: "عليك أن تذهب إلى الداخلية"4. وبين السطح والداخل يكمن تضاد، يكشف تمويهات الكاتب المقصودة.
يتكئ الكاتب على تقنية "التبئير"، كنقطة ترابط بين الحكاية والكاتب، والمخاطب الذي أبدعه الكاتب لخدمة فنية الكتابة. فهو مرة يكسر به السرد. وتارة يوظفه لتوليد وحدات جديدة لنص الحكاية، وربما أيضا ليقلص من صوت "الأنا" و"النحن"، تهربا من التباسات السيرة الذاتية. ومع ذلك يظل للتبئير مساحة حرة يركز فيها الكاتب على المشاعر، و يملأ بها فراغات الحبكة كإحدى ركائز الحكايات، ومنها يوجه بوصلة سير سرده. ففي أقصوصة "أضواء أرصفة ونخل باك"، يبهرنا صوت الكاتب وهو يخاطب صوت الشاعر الثاوي بين ضلوعه: "هي بضعة أشجار نخيل، تبكي في صمت وتنوح بلا صوت على حال شعب يعود فيه كل شيء القهقرى، لا تشمخ في مدينته إلا خيام الاسمنت، ولا تضحك في أرضه إلا أشجار الحديد.. زياد صديقي الشاعر البعيد"4. الشاعر يفضحه تبئيره. ويمكن أن ندرج في هذا السياق قول الكاتب: «إيه... أنا أقصدك أنت يا عبد البديع، وقد جررتني أن أطل على بئر، فيها من صور أيام صباي الأول"5.
البنية الفكرية للكاتب من انتماء إيديولوجي، وتجربة إبداعية في المجال الشعري، وتصوراته المعرفية، لفن القصة القصيرة، كلها روافد تشربتها مجموعة "حكايات ريف الأندلس"، حيث بعد نهايتنا من قراءتها، نكتشف وكأن الكاتب بعدما حلق شعرا، في تجربته هذه، شق شرنقته الشعرية، وخرج يبحث عن أبعاد أخرى للمدى الإنساني. وقد وجد ضالته في فضاءات معشوقته، مدينة شفشاون، المفتوحة منها والمقفولة. يساعده في ذلك ما هو مخزون في الذاكرة، وما يشاهده ويعايشه من حوله على أرض الواقع، وفي زمنه الحالي.
تشتعل بؤر التضاد أمام شاعر عاصر التحولات، والتراجعات، والتنازلات.. وهو يتأمل، ويوثق بشهادة حية على الواقع المرجعي، كما تسميه الناقدة يمنى العيد. يستدعي الكاتب أزمنة ولت، ويبث فيها شخوصها، بكل ما تحمله من تنازعات نفسية، حيث يلتقطها من الأماكن المغلقة، كالمواخر والحانات والمقاهي، والمدارس والزوايا، ومن الأماكن المفتوحة، كالأزقة، والأحياء، والشوارع الحديثة، وفضاء الهوامش بكل خصوصيتها الاجتماعية والنفسية. وهو بكل هذا يعيد للأمكنة وجودها في الزمن المستعاد، ويولد التضاد كقيمة فنية تعوض الدهشة التي قد لا يحتملها أسلوب كتابة القصة القصيرة.
في مشهد تبرز فيه جمالية التضاد جليا، نجده في أقصوصة "أجنحة وجدران": "وها هي ذي طفلتي، وهي تدفع جسدها، تحيط بها عصافير. تفاجئها بفرح مثير لم تر مثيلا له من قبل. فتفيض نظراتها سعادة، وهي تراها تحلق قريبا منها، فتمد إليها يدها تحاول أن تلاعبها ولم يكن في يدها طعام، بل عكازة والعصافير الملونة الجميلة تنفر من أي حركة، فكيف تستجيب لحركات عكازتين... إنها ترتفع هاربة إلى أعلى ما تستطيع ثم تنزل كأنها تلاعبها... ها هي ذي سيارة إسعاف كبيرة تقترب فاحذري. وتمر أمامنا، وهي ترفع صفارات تنبيهها القوية، فتزيد من تنفير العصافير وإبعادها عن محيط الطفلة، فيختل هدوء الشارع، وتتابع عيون زبناء المقاهي التي انتشرت هنا وهنا جميعا... بل وحتى في مكان يعرف كل أهل الحي كله كان إسطبل بهائم وحمير"7. تضاد شديد الحمولة الرمزية بين فتاة معاقة تطارد الحركة بمداعبتها العصافير، ورواد المقاهي الفارين من الحركة، المغلولين إلى مقاعدهم، مع تلميح إلى مفارقة، تعكس تضادا صادما، لتحول وظيفة المكان، من اصطبل إلى مقهى، وما تحيل إليه من دلالة "القطيع"... وتتصاعد لعبة التضاد لتصل ذروتها في أقصوصة "بهجة الموت" التي نقتطف منها هذه الفقرة: "لكنني لن انس أنني كنت في بعض أيام حياتي سعيدا بكثير من إيقاعات كلماتها، وأصوات ألحانها، وأشكال منظوراتها، وألوان إبداعها. إلا أن ما يملأني الآن من بهجة، هو أقوى وشعوري بأنني تخلصت من أعباء لم أكن أحس، وأنا أتحملها ولو كانت خيرا بأي إحساس جميل يملأني بسعادة حقيقية... فلا تتضايق أيها المستمع السعيد مما يبوح به رجل هو الآن في قبره أسعد مما كان عليه من ذي قبل بكثير"8.
* * *
الهوامش
1- المجموعة القصصية القصيرة "حكايات ريف الأندلس"، تأليف أحمد بنميمون، طباعة ونشر سليكي أخوين، طنجة، الطبعة الأولى، ماي 2015.
2- عتبات الكتابة الروائية، د عبد المالك اشهبون، دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية، ط1، 2009، ص8.
3- المجموعة القصصية القصيرة" حكايات ريف الأندلس".
4- المجموعة القصصية القصيرة" حكايات ريف الأندلس".
5- المجموعة القصصية القصيرة" حكايات ريف الأندلس".
6- م. س، ص10، أورده الأستاذ عبد المجيد ع لوي اسماعيلي، في مقاله الصادر بجريدة "أخبار الجنوب"، بتاريخ 19/03/2012، بعنوان عتبات النص مقاربة نقدية.
7- المجموعة القصصية القصيرة "حكايات ريف الأندلس".
8- المجموعة القصصية القصيرة "حكايات ريف الأندلس".