بين الإنسان والكتاب علاقة قديمة، قوامها قارئ مفرد وعزلة مطمئنة وانتظار لجواب، وجوهرها رغبة طوعية تحدد موعد فتح الكتاب وإغلاق صفحاته. بيد أن الثورة التقنية الجارية، وهي محصلة لمعرفة سابقة وتمهيد لمعرفة لاحقة، أقصت الكتاب عن مقامه واستبدلت بالقارئ القديم متفرجاً تأتي إليه "الصورة" حين تشاء. وهذا الفارق بين زمن الكتاب وزمن الصورة في "الإعلام السمعي-البصري"، أنتج الفارق بين ثقافة القارئ، الذي يبحث مختاراً عمّا يشاء، وثقافة المتفرج الذي يقف أمام ما يريد وما لا يريد. كان "الإعلام الجديد"، وآيته التلفزيون في الفضائيات المختلفة، مدرسة جديدة غير مسبوقة، ذلك أن للمدرسة القديمة ساعاتها المحددة، على خلاف "مدرسة الصورة"، التي تخترق اليوم كله. وبداهة فإن العلاقة بين الثقافة والتقنية سؤال قديم، تعامل معه أنصار التقدم بتفاؤل كبير، قبل أن يكتشفوا مرة أخرى أن معنى التقنية لا ينفصل عن غايات الإنسان المشرف عليها.
إذا كان في التلفزيون ما يختصر معنى الإعلام السمعي-البصري، فإن في الصورة ما يختصر معنى التلفزيون وغاياته. والمعنى المسيطر، في زمن الليبرالية الجديدة، يحيل على الإعلان المتواتر، الذي يلتهم العلاقات الإنسانية جميعاً، كما لو كانت أحوال الإنسان المتنوعة المتعددة ألواناً مختلفة من الإعلان.
وفي الإعلان ما ينتج صدقيته ويعيّنه مرجعاً للحقيقة، فله ذلك التكرار الصاخب الفاعل، الذي يضع جمهوره اللامترامي أمام التلقين الكثيف والاستظهار الممتثل، وله الصور الباذخة الوافدة من ديار الأحلام، والأصوات المتقنة الصنع التي تنصح برفق وترشد بمودة، وله "نجوم الفن" الذين يوزعون الإقناع. بيد أن في الإعلان ما يشكك في نزاهة الإعلان، لأن غايته البيع والشراء وتحصيل المنفعة، يبيع ما يفيده ويتلف ما يفضي إلى الحكم الصحيح، ولأنه يظل معلقاً في فضاء البيع والشراء فإنه لا يقول الحقيقة، ويمحو ما شاء من الحقائق مكتفياً بحقيقة الإعلان.
يبدأ الإعلان من حاجة على الجمهور التلفزيوني أن يقبل بها، ليضمن لذاته السعادة، والقصد معقول ومنطقي لولا التزيّد الشديد والمراوغة. فالحاجة لا تقدم كما هي، ولا تظهر في طبيعتها الحقيقية، بل تضاف اليها خصوصية الإعلان، المتمثلة بالصورة والصوت وتقطيع الصوت والصورة، بما يعطي الحاجة العادية المألوفة ولادة جديدة، تقنع جمهور الإعلان بأن شراء حاجة الإعلان برهان عن وجوده السليم، تحقق حاجة الإعلان، أي السلعة، التحريض والحجب: تحرّض على شراء المألوف الذي يبدو في الإعلان غير مألوف، وتحجب الحاجات الأساسية بحاجات نافلة لا ضرورة لها، ذلك أن الحاجة الأساسية يحددها الإعلان لا غيره. لهذا تكون جمالية السلعة، أو التصنيع الجمالي للسلعة، الذي يلغي ولادتها الطبيعية بولادة مصنوعة، شرطاً لازماً لتوليد ايديولوجيا الاستهلاك، طالما أن مضمون الحاجة من شكل الوجوه الناعمة الرائقة التي تعلن عنها، وذلك في جدل غريب يُشخصن السلعة ويسلّع الإنسان المعلن عنها في آن. وواقع الأمر أن في الإعلان ما يسلّع "البضاعة" والمعلن عنها، بعد أن تحول إلى بضاعة يومية أخرى. فهذا المعلن، دائماً، وسيم رشيق القامة حداثي اللباس مكتمل الأناقة، مثلما أن المعلنة، دائماً، جميلة باهرة الجمال محسوبة الحركة والصوت. والقصد واضح لا التباس فيه، لأن منطق الإعلان يقوم على منطق المحاكاة، بما يقنع المستهلكة أن الاستهلاك يجعل منها "أنثى" جديدة، ويقنع المستهلك أنه قريب من المذيع-المثال. غير أن في منطق الإعلان فساداً واضحاً، صادراً عن فرضية تحجب الواقع المعيش بواقع وهمي. فالإعلان يتوجه باستمرار إلى "المستهلك الكلي"، مفترضاً جمهوراً متجانساً قادراً على الشراء بمقادير وامكانات متساوية. وهذا "الجمهور العزيز" لا وجود له، بعضه بطر وكثيره فقير، الأمر الذي يضع جمالية السلعة في درب غريب، ينفتح على الأحلام القاتلة وتوطيد الحرمان وبيع الأرواح وشراء الحاجات المتوالدة.
ينطلق الإعلان من إزاحة الواقع الحقيقي بواقع آخر، عناصره البضائع وبشر متساوون في القدرة على الشراء والاستهلاك. تزيح صورة الإعلان، وهي مصنوعة من صور تجعل الاستهلاك ديناً جديداً، صورة الواقع البعيدة عن المذيع النموذجي والسلعة-المثال. وبسبب هذه الإزاحة، القائمة على المحاكاة الواهمة، يتساوى الجميع أمام الإعلان ولا يتساوون خارجه، بما يعيّن الإعلان خالقاً جديداً للحاجات والبشر والقيم الجديدة. تتضمن الإزاحة الأولى، وهي متعددة الوجوه، إزاحة لاحقة لا تنفصل عن وظيفة الإعلان، عنوانها الأكبر: تبديد الحواس. فإذا كان على الصورة أن تخلق جمهوراً مستهلكاً يرى في الإعلان حقيقة أكيدة، فإن عليها أن تزيح حواسه التي ارتبطت بحقيقة سابقة، واستراتيجية الصورة هي إلغاء الاستقلال الذاتي للحواس، الذي يصل العين بالرؤية والأذن بالسمع واللسان بالكلمات والعقل بالمحاكمة، والاستعاضة عنه بسديم صاخب، يخلط الحواس جميعها، متوجهاً إلى متفرج سلبي يكتفي بـ"الفرجة". يدور الأمر كله بين الصورة الإعلانية والمتفرج المستقيل ويدور في مواضيع أخرى: إذا كانت ثقافة الإعلان تستهلك يومياً وتطرح يومياً، فإنها على رغم يوميتها المبتذلة قادرة على تعطيل معنى الثقافة الحقيقية وتوليد معايير معادية للثقافة. إضافة إلى ذلك فإن ثقافة الإعلان، وتتضمن الأغنية والتعليق السياسي والحوار الثقافي، تنقض في دورتها البيولوجية اليومية معنى الثقافة، ذلك أن الأخيرة تتصف بالديمومة والتجدد ومعاندة الزمن، على خلاف الأولى التي تساوي بين الثقافة واستهلاك المعجنات المختلفة.
تتوالد الإزاحة وتصل إلى وجهها الثالث، الذي يطرد الموضوع الأصلي بفرد يمثّله، جاء من الإعلان وأسهم في توطيد الحقيقة الإعلانية. وفي هذا التصور التجاري، الذي ينقض فيه المفرد الإعلاني الموضوع الذي ينتمي إليه، يغيب معنى الفن والثقافة وتُستبقى صورة الإنسان الذي صنعته الدعاية. وبما أن الأمر يرتبط بمفرد خاص لا بموضوع، يظهر الفرد واضحاً بيّناً جلياً قبل أن تظهر قدراته، بل أنه يظهر بشكل واسع وموسّع وتفصيلي دقيق، قبل أي شيء آخر. فـ"المغنية" كما "المغني" على سبيل المثال، تعرض وجهها وقامتها وتثني جسدها ورشاقة حركاتها وجمال عينيها وفتنة فمها، بما يجعلها بديلاً كلياً عن الفن الذي تدعي الانتساب إليه، وبما يجعل المتفرج لا ينظر "الفن" بل "الفنان الإعلاني" الذي نقله من حيّز الفن إلى فضاء الحواس المبددة، حيث الصوت يعطل العين والصورة تشل الأذن والعين والمعنى، لأن كل المعنى مترسب في الجسد المتثني والأطياف المتداخلة. ولن يكون حال "الداعية" ثقافياً كان أم غيره، أفضل حالاً، طالما أن كلامه هو صورته ولقبه وهندامه وشكل تقديمه، وطالما أن كلامه مسبوق بإعلان سابق، ومعلّق عليه بإعلان لاحق، مما يعين الداعية الوقور إعلاناً بين إعلانين. وبداهة فإن هذا الداعية يحضر حين يستدعيه الإعلان، ويغيب إن كفت الحاجة إليه، مندرجاً كغيره من سلع الإعلان في مجال الحاجات البيولوجية، التي يستهلكها الإنسان في يوم ويلفظها في يوم لاحق.
في ثقافة الكتاب القديم كان القارئ يدخل مع كتابه في حوار حميم، يتعلم منه ويستنطقه ويحدد مختاراً الأسئلة... كان هناك القارئ المفرد، الذي يقرن نزوع القراءة بفردية مستقلة، أو في طريقها إلى الاستقلال. وفي ثقافة اللوحة الفنية كان القارئ يذهب إلى لوحته الفنية مزوداً بثقافة فنية مسبقة، فلا يتعامل مع الفن إلا من تلقى تربية فنية. كان هناك في الحالين مرجع متاح، يضع القارئ المفرد على درب القراءة، ويأخذ بيد الإنسان إلى معنى اللوحة الفنية، ويتيح للإنسان-المفرد الحوار والمساءلة
أما في ثقافة الإعلان فالمرجع محتجب، أو يكاد، تنــوب عنه جمالية السلعة في علاقاتها المختلفة، كما لو كان في الإعلان علم محتكر غامض، تتكشف ظواهره ويظل جوهره خفياً عصياً على التحديد. وبسبب اختلاف ثــقافة الإعــلان عن الثقافة غير اليومية، فإنها تنكر الفرد والمفرد والحوار، وتستولد الجمهور المتجانس الشاسع الذي لا أفـراد فيه، ذلك الجمهور الحديث والزائف في حداثـته، لأنه متــلق سلــبي يستظهر ما تلقن ويرى إلى التلقين الذي يلغــيه بانبــهار كبير. ولعل ثقافة الإعلان، التي تنتج الجمهور المتماثل الممتثل وتنفر من "الأفراد" الذين ينفرون منها، هي التي تستبقي من الصورة الإعلانية استبدادها، وتعيّنها شـكلاً جديداً من الاستبداد، شكلاً ماكراً ومخاتلاً، ينشر استبداداً مرغوباً فاتناً لا سابق له. إذا كانت أشــكال الإعــلان في زمن مضى ترتاح إلى الكذب والربح، فإن في صناعة الإعلان المسيطرة اليوم بما يمزج الكذب والربح بنـزوع إلى الإتلاف والتدمير، لأنها تضع الحاجات البـيولوجية فوق القيم والثقافة وترى في الاستهلاك المبرمج ثقافة وحيدة.
ليس في نقد ثقافة الإعلان حنين إلى زمن لن يعود، بل أن فيه دعوة إلى تأمل الحداثة المحققة، بعيداً عن استبداد الصورة والسوق وصورة السوق، ذلك أن تحرير الحداثة من إخفاقاتها الكثيرة يقتضي الذهاب بالحداثة إلى حدودها الأخيرة، الممكنة والمتخيّلة معاً.