الموشح كظاهرة مدينية
يُعدُّ الموشحُ ظاهرةً فريدةً في الحياة العربية الإبداعية بعامة وفي الأندلس بخاصة في القرن الثاني الهجري (الثامن ميلادي) وما بعد، ودليلاً على ذلك الترف الراقي الذي وصلت إليه هذه الحضارة، بفعل المدينة التي أنجزها العرب المسلمون، وقد زخرت بمجالس الأدب، والطرب، واللهو. وحفلت بصنوف العلوم النظرية والتطبيقية، وضروب الفلسفة جميعاً، فإذا هذه الفنون، وتلك العلوم كالطبيعة نفسها، نابضةٌ بالمدهش الرائع، والجميل الفتّان، ومن كل صنف ولون مجتمعة ومتفرقة.
وعلى الجمال وحده قام فن الموشح -كابتكار فذّ- وقد لبسته الموسيقا كأنها جلده، وهي في الحق كذلك، سواء من حيث بناؤه الشكلي كنص شعري زاخرٍ بالتوشيات والزخارف، وقائم على أعاريض وأوزانٍ شعرية إيقاعية جديدة مبتكرة، أو من حيث ضروبُ الغناء والأنغام والإيقاعات الموسيقية التي كان -وما يزال- يتجلى بها في مجالس السمر حلواً طلياً شجياً. وإن دلّ هذا على شيء، فإنما يدل صراحة على أن الموسيقا التي ازدهرت علومها، ونمت إبداعاتها، وأن التجديد الموسيقي المتألق الذي أدخله زرياب في النظرية والممارسة، قد أثر التأثير العميق في خلق هذا الفن الغنائي(1) لحاجة اجتماعية عبّر عنها بوضوح ذلك الترف باعتباره خلاصة التمدن العربي الإسلامي وحضارتهِ، ومظهرها الناجم عن الاستقرار العظيم والمبدعِ اجتماعياً واقتصادياً، بالاستناد إلى مكوناتها الذاتية، وإلى ذلك الانفتاح الثقافي، الواعي والحر، على حضارات وثقافات الشعوب الأخرى، وبخاصة ثقافة الأندلس في شبه الجزيرة الإيبيرية.
إن نظرة سريعة إلى واقع الشعر العربي في الأندلس ترينا أنه كان قد (آثر المنحى المحافظ بصورة عامة وبقي متمسكاً بما يمكن أن نطلق عليه طريقة العرب في مقاومة المد الحضاري الجديد. على حين غدا فنُ الموشح هو الوجهَ الآخرَ المستحدَث في الحياة الأدبية بالأندلس)(2).
يضعنا رأي الدكتور عمر الدقاق السالف أمام أمرين هامين:
الأمر الأول= أن الشعر العربي كان في حفاظه على شكله يقف سداً منيعاً في وجه المد الحضاري الجديد الذي طرأ على الحياة العربية الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية في الأندلس. وهو أداة في يد مَنْ يملك الزمام بما هو سلطان.
وبذلك يكون هذا الشعر مذهبَ الدولة الرسمي. أي إنه الشكل الأيديولوجي للسلطة السياسية، لذا كان الشعر محافظاً، تماماً كما هي السلطة نفسها، وبما يحقق لها وجودَها ويعبر عن فكرها ويحفظ عقائدها.
الأمر الثاني= أن فن الموشح ضرْبٌ مستحدَث في الحياة الأدبية الأندلسية. وهذا يعني أن حداثته من حداثة المد الحضاري، أي إنه ناتجُ التفاعلِ الاجتماعي والثقافي بين العرب وغيرهم من الشعوب الأخرى، وبسبب هذا التثاقف العميق كان لا بد لهذه الموشحات من أن تغادر بحور الشعر الخليلية وتفارقها، فاخترعت، كضرورة حتمية، إيقاعاتها العروضية -ولا أقول موازينها أو بحورها- الخاصة بها هي وحدها والمعبرة عن عمق التحولات الاجتماعية، وبخاصة فيما يتعلق بخلخلة بنية المجتمع غير التقليدي القائم على اختلاط الأجناس والأقوام والألسنة والثقافات... الخ.
فملكت تلكَ الموشحاتُ ما هو جديرٌ بأن يكون خاصتها الدالة عليها. وبهذا يكون الموشح الشكل الطبيعيَ لتلك التحولات، والأفضل تعبيراً عن ذات المد الحضاري العربي الإسلامي هنا في الأندلس، وعلى قدم المساواة -وفي اللحظة نفسها هناك- مع المد الحضاري للدولة العربية الإسلامية في بغداد، حيث نهضت تجديداتٌ في الشعر تفارقُ السائدَ التقليدي في الموضوعات والمضامين مع انزياح عن عمود الشعر العربي بشكل مقصود. وربما كان شعر -وموقف- بشار بن برد رأس المحدثين وأولهم الشرارة التي ألهبتْ مَنْ جاء تالياً ليقوم بثورة شعرية، فكان أبو نواس، وابن المعتز، ومن ثم أبو تمام، وغيرهم كثير، الأمر الذي يدل على انتعاشٍ اقتصادي وسياسي، وبالتالي ثقافي، منسجمٍ مع الاستقرار الاجتماعي ومدعومٍ بالحرية العظيمة لحوار الأفكار والآراء والاتجاهات الأدبية والدينية والكلامية وغير ذلك، مما قدم خدمة -وفوائد جمة- للسلطة السياسية ذاتها. هذا التزامن المدهش لذاك المد الحضاري يتجلى في عدة أمور مِنْ خلال شكل الموشح نفسه:
آ- من حيث الصورةُ، الشكل:
فارق الموشح نظام البيت المبني على جزأين، أو شطرين فقدَّم تشكيلاتٍ جديدةً تتأرجح بين جزأين وأحد عشر جزءاً(3)، وبذلك غيّر الموشح من طبيعة الرؤية البصرية في أثناء توضّعه على الورق كتابةً، خاصةً ما يتعلق بملء مساحة الورقةِ ونظامِ التوزيعِ والتنسيق والترتيب للأجزاء.
ب- مِنْ حيث البنيةُ المتتالية:
حرص الموشح على ابتكار نظامه من حيث القافيةُ وتنويعاتُها، ومن حيث الوزنُ والإيقاعاتُ المحدَثةُ المتعددة المتنوعة. وهذا يعني أن الموشح يعوم، ويقوم على قدْرٍ مدهش من الحرية والتحرر من القيود- يسمح بتنوع القوافي والأوزان والأجزاء، الأمرُ الذي يسمح أيضاً بتشكل كُتل إيقاعية متنوعة موسيقياً، وفضاءاتٍ نغميةٍ لا تُحدُ.
ج- منْ حيث اللغة:
على الرغم من أن لغة الموشح هي العربية، إلا أنها عربية الحضارة الحديثة الطارئة النابعة من لغة الشارع العربي والإسباني المتمازج، فامتلكت هذه اللغة أنغامها وموسيقا إيقاعاتها الخاصة بهذه البيئة، وحفلت بضروبٍ من التعبيرية الجديدة مما قرّبَها من الحياة العامة كثيراً -وعمّق الصلة بينهما- وهي تتلبّس، عن وَعْيٍ -اللهجة الدارجة وقد خرجت من جبّة الفصحى غير آسفة وهي تحفل بصنوف الألفاظ والتراكيب العامية العربية والأعجمية.
د- من حيث الوظيفة:
لم تفارقِ الموشحاتُ الموضوعاتِ العربيةَ التقليدية من مديح ورثاء وغزل، خاصة ما كان منها فصيحاً، لكنها أضافت إلى موضوعاتها ما كان جديداً محدَثاً في المجتمع العربي آنذاك، ولهذا كان للرياض والبساتين والورود، وغيرها من عناصر الطبيعة، حضورٌ ينمُّ عن تلك البلاد وذاك النعيم. غير أنها في كل ذلك لم تفارق توأميها، وهما الموسيقا والغناء، فكان أنِ التحمت بهما التحاماً تاماً مما اقتضته -وطلبته- مجالس الأنس واللهو والغناء والأدب والطرب والعلم. ولعل هذا الترف الحسي كان مصحوباً -بالتأكيد- بترف عقلي بدليل اشتغال فلاسفةٍ وقضاةٍ ومتكلمين بالموشحات تأليفاً وتلحيناً وربما إنشاداً كالفيلسوف والفقيه ابن باجّة مثلاً.
من اجتماع تلك الأمور -وغيرها- ينتج لدينا حقيقة هامة هيَ أن فنّ الموشح هو الشكل المناقض كل التناقض للشعر العربي من حيث بناؤه.
وباعتبار أن الموشح من نتائج التحضر والمدنية -كما أسلفنا- فهو إذن فن شعبي في الدرجة الأولى لما -وبما- يحمله من أفكار وموضوعات وموسيقا وإيقاعات تطفر فيها -وبها- الحياة في فنية متنوعة أخاذة، ويؤكد هذا الزعمَ أن أغلبَ من أرَّخ للفنون والآداب من القدامى المدهوشين بالموشح ولم يذكروا شيئاً عنه في كتبهم كانوا يقولون كما قال عبد الواحد المراكشي من القرن السابع في كتابه المعجب(4):
(لولا أن العادة لم تجر بإيراد الموشحات في الكتب المجلّدة المخلدة لأوردتُ له ما بقي على خاطري من ذلك).
إن التأبي الصريح عن رواية شيء من الموشح -مع الافتتان به- لم يكن في الحقيقة سوى ضرب من التقليد المتوارث منعته تلك السلطة المحافظة عن الرواية من جهة، وجبروتُ التقاليد الأدبية والشعرية من جهة أخرى، على الرغم أن في النفس هوىً لهذا الفن الجديد الساحر. وبذلك يكون الموشح أحد أهمّ مظاهر الحياة الاجتماعية في الأندلس.
2 - الموشح كتشكيل موسيقي جديد:
وبغضّ النظر عمن ابتكر الموشحات، وكيف نشأت وترعرت بفعل عوامل كثيرة فصَّلَ فيها مطولاً الدكتور احسان عباس، فالذي لا شك فيه أن الموشح كشكل لا يخضع لنظام البيت الشعري العربي الموروث، ولا يزن نفسه بموازين الفراهيدي في أعمّه الأغلب، بل إن ابن سناء الملك صاحب كتاب "دار الطراز في عمل الموشحات" يصف الموشحَ المكتوبَ بالعربية الفصحى والسائرَ على الوزن الشعري التقليدي بأنه النوع:
(المرذول المخذولُ وهو بالمخمّسات أشبه منه بالموشحات)(5)، لكن ابن سناء الملك يستدرك على نفسه فيُعدّ بعضاً من ذاك النوع المكتوب بالفصحى موشحاً:
(إن كانت قوافي قفله مختلفة فإنه يخرج باختلاف قوافي الأقفالِ عن المخمّسات)(6). وهذا الشرط كما هو واضح خاص بالموشحات الفصيحة والسائرة تحديداً على أوزان الفراهيدي وبحوره.
نستنتج من رأي ابن سناء الملك أن الموشح كفن أدبي محدَث هو خروج على التقاليد الفنية الشعرية العربية. بل إن مشابهتها تقليد مرذول، وشعراءها من الضعفاء بالنسبة لصناعة وابتكار الموشحات. فإذا ما تذكرنا أن جلَّ مصادرنا القديمة لا ترى الشعر خارج الشكل العربي المألوف والموروث لعرفنا أهمية خروج الموشح على التقاليد لكونه نتاج حضارة تختلف اختلافاً بيِّناً عما كان قبلها، وعما هو موازٍ لها وسائدٌ في الشرق العربي. وهذا يعني أيضاً أن ذاك الخروج لا بد سيجد لنفسه بديلاً موسيقياً يضبط النظم ويحفظ من الشطط والاستطالات غير الضرورية أو المرغوبة. لكن الملاحظ أن هذا البديل لم -ولن- يوجد كما يتوهم بعضهم في محاولة قوننَتِه لأن:
(الذي يميز هذا الفن ويكسبه جمالاً ليس العروضَ المقنَّن، بل حريةُ الوزن، وهي -مع هذا- حرية تقودها أُذنٌ موسيقية وضروراتُ التلحين)(7).
مما جعل الموشح فنّاً مفتوحاً في جانبه الأكثر رحابة على الاجتهاد الإبداعي، بدليل أن أحداً لم يستطع حتى الآن حصر، أو ضبط -موازين الموشحات بالرغم من محاولة العالم الألماني "هارتمان" وتحديده لمائة وستة وأربعين وزناً(8) وهذا الرقم لا شك أمر مثير، لأن هذه الوفرة من الأوزان تشير إلى أن كل موشح -بشكل عام- يكاد أن يستقل بموسيقاه الخاصة به، فنفتح الباب واسعاً على نظرية الاحتمالات التي يمكن للعقل المبدع أن يوظفها في محاولة ابتكارٍ وتفنّنٍ شكلي موسيقيٍ إيقاعي في الدرجة الأولى. وبذلك يمكن الإدّعاء بأن هناك الكثير من الأوزان كثيرة الموشحات نفسها. لهذا كان رأي الدكتور جودت الركابي -في تحقيقه لكتاب دار الطراز- أكثر تفهماً، ووعياً ، من غيره من الدارسين لطبيعة فن الموشح حين نظر إليه بعيداً عن العروض بل وعدَّ جماله من حريته -المشار إليها- في عدم التزامه بأي وزن عروضي، وبذلك يتطابق رأيه مع رأي ابن سناء الملك -وهو الأديب الذواق، والحساس- في أن الموشحات:
(مالها عروضٌ إلا التلحينُ ولا ضربٌ ولا أوتادٌ إلا الملاوي ولا أسبابٌ إلا الأوتار)(9).
ولهذا نرى ابن سناء الملك يسعى -أيضاً- إلى تأكيد أطروحته بأطروحة أخرى أكثر حسية، وهي أن الموشح لا يستقيم إلا بالتلحين على آلة الأرغُن، إذ أن أكثر تلك الموشحات:
(مبنيٌّ على تأليف الأرغن، والغناءُ بها على غير الأرغن مستعار وفي سواه مجاز)(10).
وآلة الأرغن -كما يبدو- هي الآلة الرئيسة التي كانت الموشحات تُلحَنَّ عليها وتُغنَّى -بالبناء المجهول- لكونها آلة هوائية شجيةً ومطربة. ومع أن عبارة ابن سناء الملك المقتبسة غامضة، ولا تبرر سبب استعمال آلة الأرغن كشرط رئيس لاستقامة الموشح لحنياً -مع ذكره آلاتِ الأوتار مطلقة- فالذي يمكن تخمينه -وبثقة- أن تلك الآلة تسمح بامتدادات صوتية هوائية من حيث الغناء، الأمر الذي يعكس أمرين:
الأول: وهو المهم، أن العرب تخلّوا -جزئياً- عن آلات الأوتار لصالح آلة أجنبية. وهي -آنذاك- آلة كنسية تُستخدم في مصاحبة التراتيل والأناشيد الدينية، مما يسمح بتصور أسلوب غناء ممطوط يشبه -فيما بعد- أسلوب الإنشاد البيزنطي. وهذا يعني تحولاً في الغناء العربي يتطابق مع توصيف الجاحظ لغناء الفرس والعجم منتصراً لأساليب الغناء العربية التي تضع الموزون على الموزون دون أن تمط كما في موسيقياتٍ غيرها(11) ولعل هذا ما جعل الدكتور إحسان عباس يتوهم ويتحفظ على وظيفة الأرغن بسبب أنها كبيرة ثقيلة وتحتاج إلى مكان ثابت تتوضع فيه فلا تغادره مما يشكل استحالة لأن تكون شعبية يمكن نقلها -كالعود- من مكان إلى آخر، واستخدامها في النزهات خارج المدينة.
أما الأمر الثاني فهو أن الأرغن كآلة لها حضورها الفني باعتبارها هواءً مستمراً بسبب الضغط على ملامس ودعسات مخصوصة، تسمح تقنياتها بالمدّات الغنائية بما يحقق إقامة الكثير من التوازنات اللحنية، وبخاصة بالنسبة للأوزان المختلفة. ولعل ما أوهمَ الدكتور إحسان عباس هو قياسه لهذه الآلة بما هو شائع الآن من أشكالها من جهة، وبما أوحت به بعض رسوماتٍ قديمة لآلة الأرغن الهوائية فأنساه ذلك حقائق أخرى.
غير أن الباحث الموسيقي السوري مجدي العقيلي يرى غير ذاك الرأي، وهو يذهب إلى أن الأرغن الموصوف لدى ابن سناء الملك يشبه القِربةَ الجلدية السكوتلاندية، معتمداً في ذلك على رأي للخوارزمي أثبته العلامة محمد كرد علي في كتابه خطط الشام. وهو أرغن ذو سلم موسيقي طبيعي يعطي موسيقا عربية بكل تلويناتها النغمية. يقول العقيلي إن:
(السلم الموسيقي للآلة القديمة يختلف عن السكوتلاندية الراهنة لأن سلم الآلة القديمة هو السلم الرومي أو اليوناني الفيثاغوري، وأصواته طبيعية مطربة، كما جاء في وصفه بخلاف الأرغن الحديث لأن سلمه الموسيقي ليس طبيعياً ولا يصلح للتطريب)(12).
ثم يقتبس العقيلي نص الخوارزمي من خطط الشام الذي يكشف بوضوح:
(أن الأرغانون آلة لليونان والروم تعمل من ثلاثة زقاق كبار من جلود الجواميس يُضم بعضها إلى بعض، ويركب على رأس الزق الأوسط زقٌ كبير، ثم يُركَّب على هذا الزق أنابيب صفراء لها قصبٌ على نسبٍ معلومة يخرج منها أصوات طبيعية مطربة ومشجيةٌ على نحو ما يريد المستعمل(13) ومن التدقيق في بعض ألفاظ النص المقتبس سنرى أن هناك أنواعاً لآلة الأرغن، فهناك الكبير منها، وهناك الصغير بدليل قوله "زقاق كبار".
(مدبوغة دباغة جيدة لينة ولا يقربنّها زفت البتة)(14).
بل إن هناك أشكالاً للأرغن انفرد كتاب "تاريخ الموسيقى العربية وآلاتها" للدكتورة منى سنجقدار شعراني بعرض صور لهذه الأشكال تكشف عن الحجوم وعن تقنيات الاستخدام والعزف. وبذلك نزداد وثوقية من فكرة إمكان استعمال الوشاحين العرب لآلة الأرغن والتلحين والغناء بها وعليها، خاصة وأن حجومه الصغيرة تمكن من نقلها من مكان إلى آخر، سواء أكان المكان مغلقاً كالبيوت والقصور، أو كان مفتوحاً كالبساتين والحدائق والرياض والمنازه، ولعل مثل هذا الرأي يصبح أكثر ثباتاً وثقة حين استيْقنَّا أن الأرغن مصنوع من جلود الجواميس مما يكسبها خفة في الحمل والانتقال من مكان إلى آخر ومما يجعل اعتراض الدكتور احسان عباس قليل القيمة لما تقدم خاصة وأن اليونانيين كانوا يحملون هذه الآلة معهم في حروبهم (لأن بلادهم كانت كثيرة الأعداء من كل وجه، فكانوا إذا احتاجوا أن ينزلوا أصحابهم أو يسألوا المددَ في الحروب لتأتيهم الخيلُ والمدَدُ أو يُنذروا أهل مدينة الملك وأي النواحي أرادوا، نفخوا في هذه الآلة وهي الأرغن الكبير الملقب بالواسع الفم الجهير الصوت)(15).
من كل ما تقدم يمكن أن نستخلص أن الوشاحين العرب كانوا قد لحنوا موشحاتهم، وغنوها، وأقاموا عروضها على آلة الأرغن للأسباب التالية:
1- لأن سلم الأرغن سلم طبيعي يعطي أجزاء النغمة، أي الأرباع وثلاثة الأرباع، وبالتالي فإنه يعطي العازفين والملحنين والمغنين والسامعين الأنغام العربية المتداولة الآن. وبذلك يصبح قول عبد العزيز بن عبد الجليل حول سلم الموشحات الأندلسية مشكوكاً فيه، يقول:
(لما أخذت مصر هذه الموشحات سارت فيها على النظام الموسيقي الأندلسي، وحفظت أصوله ونظرياته التي كان العرب يدرجون عليها في حواضرهم. غير أنه سرعان ما تعرض هذا التراث لتأثير المقامات العربية والتركية بما تحتضنه من أرباع النغمة وثلاثة أرباعها فكان أن تغير مجراه اللحني...)(16).
وحقيقة هذا الرأي تعود إلى الدكتور محمود الحفني في حديثه عن الموشح وابتعاده عن أسلوبه اللحني والإيقاعي. والشك الذي يجب أن يقوم حول هذه الأطروحة يستند إلى أن الموشحات الأندلسية كانت خالية من أرباع الأصوات، أي كانت تقوم على سلم معدَّل لا يعطينا سوى أصوات كاملة كما هو حال السلم الموسيقي الحالي. وهو سلم أخترعه (باخ) بعد أن ألغى الأرباع من السلم الطبيعي لضبط وتوحيد النغمات لدى العازفين.
وأما أن الموشح قدا نحرف عن مساره اللحني والإيقاعي فمردود، ليس من حيث تأثير المقامات العربية و(التركية) فيه، بل من حيث أنه:
(في خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين توجه مِنْ أهل الأندلس نفرٌ من الفقهاء، والمتصوفين، والأطباء، وأهل الأدب، إلى المشرق، وكان لهم أثر عظيم هناك. وعن طريق هؤلاء انتقل الزجل إلى المشرق...)(17).
ثم يضيف عبد العزيز بن عبد الجليل إلى استدراكه هذا، استدراكاً احتجاجياً على أن أنكر أن يمت الموشح الشرقي إلى الموسيقا الأندلسية الأصيلة بصلةٍ ما بحجة أن هذا الموشح خالٍ من الخصائص اللحنية والإيقاعية قائلاً:
(والواقع أن هذه الحجة غير كافية لرفض السؤال المطروح أو استبعاد الاحتمال المذكور. فإن مالوفَ تونس هو أيضاً فَقَدَ كثيراً من الخصائص اللحنية للموسيقا الأندلسية منذ أن تسربت إليه بعض التغييرات تحت تأثير الموسيقا التركية، ومع ذلك فليس لأحد أن ينكر صلته بالموسيقا الأندلسية الأصيلة)(18).
2- لأن الأرغن الموصوف لدى ابن سناء الملك -وبعد توفيره السلَّمَ الطبيعي النغمات- يمتلك إمكانية نقله من مكان إلى آخر بسهولة. فإذا أضفنا طبيعة الأصوات الشجية التي يمنحها وهي تتأرجح بين الغليظة والمتوسطة والحادة مع مزايا النغم الممزوج بالهواء كما الناي والفلوت والزورناي من الآلات الهوائية، لعرفنا قيمة الابتهاج والفرح بهذه الآلة التي حلَّت محل الأوتار في الضبط والتوزين والاصلاح، والتطريب(19).
3- الموشح والايقاع والترنُّم:
ولما كان هذا الشأن العظيم لآلة الأرغن لدى الأندلسيين بعامة، ولدى ابن سناء الملك بخاصة فإننا نراه يندفع بثقة ليطرح - ربما على أرضية أن الغناء على غير الأرغن مجاز- مشكلة جبر المكسور من أوزان الموشحات (!!!)، وبما يتناقض بوضوح مع أطروحته السابقة حول تحرر الموشح من قوانين الأوزان، ومن قوانين العروض، وقد أعيته وأعجزته عن فعل ذلك شخصياً.
وبتأمل رأي ابن سناء الملك بهدوء سنكتشفُ، ليسَ التوجُهَ المشروعَ نحو تنظير فكري للموشح كفن مستحدث، ولكنْ التمحّلَ المقصودَ لتبريرِ علاقةِ الموسيقا بالموشح من جهة وهذا من نافلِ القول، وقدرة الموسيقا -والأرغن بالتحديد- على جبر المكسور من الأوزان(!!) من جهة ثانية، والغمزِ -ربما- بالشاعر الوشاح من جهةٍ ثالثة، ولعل المثال الذي طرحه هو في كتابه "دار الطراز" والذي تلقّفَهُ من بعده الدارسون كثيراً يوضح ذاك التمحُّلَ وتلكَ القسْرِيَّةَ في التنظير.
قال الوشاح الأندلسي ابن بقي:
مَنْ طالِبٌ * * * ثارَ قتلي ظبيَاتُ الحدوجِ * * * فتّاناتُ الحجيجِ
وبالتنقيب في هذا الجزء من الموشح يرى ابن سناء الملك -ومتابعوه- أن فيه خللاً وزنياً أصلحه الملحن -اللحن- حين أضاف بين جيمي "الحدوج... و... الحجيج" لفظة (لا لا" ليستقيم التلحين، أي ليستقيم الميزان(20). وقد تابع هذا الرأي كثيرون وعلى رأسهم الدكتور فؤاد رجائي في كتابه القيّم (من كنوزنا)، لكنه يستدرك على ابن سناء الملك بأن اللفظة ليست (لا لا) بألفَيْ مَدٍّ، بل هي (لالَ) بألفِ مَدٍّ للأولى، ولامٍ متحركةٍ بالفتحةِ الثانيةِ فقط، فيكون الموشح بحسب رأيه من البحر البسيط، وعلى النحو التالي:
مَنْ طالبٌ * * * ثارَ قتلي ظَبيَاتُ الحدوجِ (لالَ) * * * فتاناتُ الحجيجِ(21).
تقوم أهمية ذاك الرأي على أن جميع القائلين به، وبإصلاح الوزن ينطلقون في أطروحتهم من موقع منحاز سلفاً للعروض الشعري الخليلي. والحكم على هؤلاء بالانحياز يبرره أنهم جميعاً أهملوا التجربة الناجزة للموشح نفسه كحالة إبداعية جديدة، وكفنّ شعري مُحدَثٍ مستقلٍ عن الشعر العربي وأدواته وتقنياته وأشكاله، لأن هذا الفن الجديد، والثوريَّ، يقوم على الحرية، وبذلك فقد جهد هؤلاء الباحثون في كبْتِ الفرصة العظيمة التي كادت أن تتيح للشعرية العربية -آنذاك- أن تتنفس نسمة الإبداع والابتكار خارج النمط الشعري السائد من حيث الوزنُ والشكلُ -الصورة- واللغةُ والأداء، كتعبير عن روح حركة المجتمع الحديث، والمدّ الحضاري المتنوع المشارب والمؤثرات. وقد انتظرت الشعرية العربية ردحاً طويلاً من الزمن يتجاوز الثمانمائة سنة لكي تقوم بطفرتها الثورية الفذة في أربعينات القرن العشرين لتتحرر من النمط الخليلي وتنجز قصيدة التفعيلة، ومن ثم تشكيلات شعرية أكثر حداثة كقصيدة النثر مثلاً.
والغريب في الأمر أن أولئك الدارسين، وبخاصة المحدثين منهم -كانوا قد تجاوزوا مسألة لغة الموشح شبه العامية، والخرجات الأعجمية، وصورته التشكيلية الغريبة المفارقة للصورة التقليدية للقصيدة العربية، وتوقفوا عند مسألة الوزن فقط متحيزين له بدعوى هي أقرب إلى الكذبة إن لم تكن كذلك حقاً.
غير أن ذاك الموقف يشي بحقيقة أن ابن سناء الملك الذي رأى في الغناء والأوتار والملاوي.. الخ.. مجلى الموشح، وأن متابعيه قد عبّروا بما لا يدع مجالاً للشك في أنهم ملكيّون أكثر من الملك، فوقفوا محافظين في وجهِ أحد أهم منجزات الحضارة العربية الإسلامية الجديدة في الأندلس، وبخاصة البنية الذهنية الفكرية المتحررة من ربق سطوة الإنجازات السابقة من شعر العرب في محاولة جريئة للتعبير عن واقع متعيّن يزدهي بالخلاّب من الألوان والأنغام والمدهشات. ولا أظن الاحتجاج بالملحن الذي جبر ذاك الكسْرَ -الخلل- الوزني في الموشح المذكور سوى قناع يخفي وراءه التمسك بالعروض الخليلي.
فمن جهة الموسيقا يفيد رأي ابن سناء الملك ومتابعيه في كل الأعصر بما يلي:
أولاً= إن الغناء العربي القديم -والمعاصر للدولة العربية الأندلسية- كان قائماً بالضرورة على توفر الوزن العروضي للشعر لأنه المرشدُ والدليل لإقامة الوزن الموسيقي، استناداً إلى مقولة الجاحظ التي تذهب إلى أن العرب يمتاز غناؤها بأنها:
(تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة)(22).
ولو دققنا النظر في هذا القول لوجدنا أن الأصل فيه هو الميزان الشعري. بل وكأنه لا وجود للميزان الموسيقي الذي هو أدقّ ضبطاً وأكثر حساسية من حيث الأزمنة والمدد والمقادير.
ثانياً= يؤدي الرأي القائل بضرورة الوزن العروضي -بشكل عام- إلى أن العرب كانوا فقراء بالإيقاعات الموسيقية من حيث العدد، والتي لا تسمح للموسيقيين بحرية اختيار أفضل وأرحب لإنجاز ألحانهم الموسيقية، ولا أظن الأمر كذلك. بل كان لديهم اثنان وعشرون تركيباً إيقاعياً كما ورد في كتاب "من كنوزنا(23)"، وفي رسائل إخوان الصفاء(24).
( n*ابن سناء الملك رأى في الغناء والأوتار والملاوي مجلى الموشح)
ثالثاً= إن الملحن لم يكن يرى الإيقاع الموسيقي مستقلاً عن الوزن الشعري مراعاة للسائد المسيطر بما هو سلطة، ولذلك كان هذا الموسيقار يُخضع الموسيقا للشعر، مما جعل -ويجعل- هذه النظرة عميقة، وغير علمية لسببين اثنين:
السبب الأول أنه يجعل الموسيقا تابعة، والشعرَ متبوعاً.
السبب الثاني أنه يقيس المنضبط بالزمن والذي لا يخضع لأية مزاجية أياً كان شأنها- وهو هنا الموسيقا بما هي وزن دقيق- بالمنفلت عن الضبط الدقيق وهو هنا الوزن الشعري الخاضع لكثير من التبدلات حذفاً وزيادة في الزحافات والعلل، وهو -من ثم- لا يقوم على أية مقادير زمنية معلومة المدة كما هي أزمنة نقرات موازين الموسيقا.
رابعاً= إن قياس الموسيقا على الشعر من حيث الوزن يجعل التلحين صناعة بحتة، وهو ليس كذلك لأنه إبداع. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على قلة حيلة الملحن وضعف ابتكاره وتجديده لكونه مقيداً بقيود. ولا شك في أن هذا الرأي يناقض الواقع التاريخي الذي أفرزه إبراهيم الموصلي وابنه اسحق، وإبراهيم بن المهدي، وزرياب، وغيرهم من جهابذة الموسيقا والغناء العربيين، لأن هؤلاء كانوا -بالتأكيد- أكبر من كل تقييد وتقنين.
خامساً= إن عمل الملحن الإبداعي بإضافة لفظة (لا لا، أو، لالَ) لجبر الوزن الشعري أو الموسيقي هو نكوص مذموم وارتداد عن ثورة الموشح الرائدة. وما الملحن -إن كان حقاً فعل ذلك!!- سوى فنان تقليدي لا يرى الإبداع خارج العروض، بينما يقوم في مقابله -مجابهةً- شاعر فنان، متحرر، متجاوز للشعرية والموسيقية السائدتين، وشتان ما بين هذين، الملحن والوشاح، من فوارق مدهشة!!.
لكن، وبالشك في صحة الرواية السالفة يبدو لنا الملحن -من وجهة نظر مختلفة- مبدعاً جريئاً، ومبتكراً لأسلوب جديد في الغناء والتلحين وذلك بإضافة لفظ الترنم (لا لا) بما يعكس هاجس الإبداع لديه، ويُعوِّضُه عن قيود النص والتقليد، فيتيح بذلك مجالاً حيوياً لحرية عظيمة في النغم واللحن والإيقاع وأسلوب الأداء، مما يجعل مجالسَ السمر مجالسَ إبداع راقية رائدة، وبعيدة عن أن تكون مجالس لهوٍ وخمرٍ وهذر. ولعل الموسيقار العربي السوري مجدي العقيلي يكون المثل الطيب والمضيء على ذاك التفنن الإبداعي وقد ابتكر لموشحة لسان الذين بن الخطيب لحناً جميلاً، مطرباً متنوع النغمات والإيقاعات، تحكمه نغمةٌ (الهزام) كبنية لحنية نغمية، ويسلكه إيقاع (الدور الهندي الذي ميزانه 7/8) وهو من فصيلة الموازين والإيقاعات العرجاء الجميلة التي تمتاز بكونها غيْر متناظرة من حيث كتل مُددها، تقول الموشحة:
جادكَ الغيثُ إذا الغيثُ همى
يا زمانَ الوصلِ في الأندلسِ
لم يكنْ وصْلكَ إلا حلُماً
في الكرى أو خلسةَ المختلِسِ
حينَ لذَّ الأُنسُ مع حُلْوِ اللّمى(25)
هجمَ الصُبْح هجومَ الحرسِ
غارتِ الشْهبُ بنا أو ربّما
أَثَّرتْ فينا عيونُ النرْجِسِ
ففي هذا اللحن نتلمس بصفاءٍ وروعةٍ كيف تغدو ألفاظُ الترنم (يا لا لا.. الخ). جملاً لحنية -وإيقاعية- مستقلة عن سياق النص اللغوي الشعري، تزخرف اللحن الأصلي، وتصوغ نفسها على أنها لحن مواز قوامه الأصوات، وتَفْسِحُ في الآن نفسه المجال لارتجالات المطرب المبدع المتمكن من فنه، كما هي حال مبدعنا العربي السوري صباح فخري. وتتيح للمستمع -أيضاً- أقصى حالات الطرب المتناوبة ما بين الأنغام الموضوعة في الألحان والطبقات الصوتية المختلفة والترجيعات المتبادلة ما بين المطرب والمجموعة. ومثل هذا كثير في موشحاتنا العربية، وبخاصة في سورية ومصر، وقد أدخلتا الغناء الإفرادي -دور المطرب- مع المجموعة، بعد أن كان غناء الموشحات في أصوله يقوم على الغناء الجماعي الذي يبعث اللذة والنشوة ويهيج الطرب لدى الجميع لكونهم فاعلين ومنفعلين في الآن نفسه. أي إنهم مُنتجون ومستهلكون لفنونهم إن جاز التعبير، وهذا من أعظم فضائل الغناء الجماعي(26).
بالاستناد إلى الاستنتاجات السابقة، يذهب الظن بنا إلى أن الملحن العربي القديم كان قد ابتكر، أو استعمل، لفظة الترنم (لا لا) لأحد أمرين، أو لكليهما معاً غابا -في رأينا- عن ابن سناء الملك ومَنْ تابعه في ذلك مِنْ بعد. هذان الأمران هما:
الأول: استكمال الوزن الموسيقي (الإيقاع)، وليس الوزن العروضي. إذ عندما وصل الملحن في بناء لحنه إلى نهاية جزء (الحدوجِ) احتاج إلى ألفاظ غير موجودة في النص لبقية في الميزان الموسيقي حتى يكتمل له الدورُ الإيقاعي الذي هو:
(جماعةُ نقراتٍ تتخللها أزمنة محدودةُ المقادير على نسبٍ وأوضاعٍ مخصوصةٍ بأدوارٍ
متساوية)(27).
فإذا ما انتبهنا إلى أن المدّ والمطّ في كلمتي (الحجيج والحدوج) قبيح جداً، لكونه يقلب حركة الجيم المكسورة إلى ياء مشبعة سمجة، فإنّ (لا لا) خير معين فني ممتد صوتياً بسب حرفي (الألف) مما يقيه من سوء المطّ ويمنحه شغلاً جميلاً في لفظ مُبْهَمٍ من المعاني اللغوية، ممتلئ بالمعاني الصوتية المجردة التعبيرية.
الثاني: ابتكار الملحن لجملة موسيقية غنائية يرددها المطرب دون ألفاظ ذات معنى كما تقدم، يعيدها ويكررها مرتجلاً على عدة مقامات وطبقات صوتية وتنويعات إيقاعية فيُحدِث بذلك إنشاءً عظيماً، ويثير الطرب ويعمق الإصغاء (التلقي) الفعّال، وينشّط الاستماع، ويدفع إلى التمايلِ أو الرقص لدى الجمهور ويتركهم في صدمة المدهشِ والجديدِ والمفاجيءِ، وهذا الأسلوب من طبيعة موسيقانا العربية، وهو ضرب من ضروب التحفيز والتنبيه والمتابعة دون ملل أو سأم. والمتتبع لغنائنا العربي يعرف أن موشحاتنا تزخر بهذا الأسلوب من استعمال ألفاظ الترنم. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن هذا الأسلوب المترنم هو أسلوب عربي صرف، وليس تركياً كما يذهب -ويدَّعي- بعضهم، بدليل ظهور (لا لا) في موشح أندلسي لم يكنِ الأتراك بعد قد أصبحوا سلطة تفرض ثقافتها على الآخر، ولعل رأي الباحث مجدي العقيلي يسعفنا كثيراً في درء الشبهة أو الظن أو ما شابه ذلك حول هذا الترنم حيث يرى أن قواميس الغرب ليس فيها معنى ما، مفيداً للفظة (لا لا)... ومثلها (يا لا للي...)، على العكس تماماً من موسيقانا العربية التي تشكل فيها لفظة الترنم (لا لا) اسم الله العظيم. ففي اللغة السومرية هي (إنليل) إله السماء والأرض والخصب. وفي الآرامية هي (ليل) إله الليل. وفي العبرية هي (إيل) الذي هو كنعاني وهو اسم الله كذلك في البابلية(28).
أما المسألة الأخرى فهي أن لفظة (لا لا) وأخواتها -لما فيها من حروفِ مَدٍّ صائتة- تساعد الملحن والمغني كثيراً على الاستطالة في الأداء، وبخاصة في أساليب الترداد والتناوب الغنائي بين مجموعتين، أو مطرب ومجموعة، إضافة إلى الابتكارات والإبداعات الارتجالية في الطبقات الحادة من جهة، وعلى القَصْرِ القائم على التلوين المبهر صوتياً ونغمياً ولحنياً وإيقاعياً بحيث يتناوب الغناء ما بينَ ممدود ومقصور ومُرجَّعٍ ومكرَّرٍ.. الخ. ولو تأملنا وقوع لفظة (لا لا) في نص الموشح المقترح والمذكور سالفاً لعرفنا أن حرف الجيم لا يتيح مثل هذه الفرصة من الامتداد الصوتي إلا بالاشباع الذي يبدو قبيحاً كما قدمنا، مما يدل -وبنصاعة- على أن الملحن الأندلسي قد وعى بعلمه وثقافته وخبرته وإحساسه المرهف ضرورة استخدام ألفاظ ذات طبيعة موسيقية إيقاعية -على نحو ما نمدُّ لفظة "آه" للتوجع والترنم أيضاً- وتقديم صورة مبتكرة لأسلوبِ غناء جديد، فكانت (لا لا) الممتدَّةَ بأَلفيْها إلى الأعالي، أي إلى السموِّ والتعالي (والإلهُ العظيمُ موصوفٌ أنه في العالي المفارق للأرضي المادي المحسوس) فيكون هذا الملحن قد ابتكر متتاليات لحنية ونغمية جميلة ومدهشة لم يدركها ابن سناء الملك للأسف.
إن ابن سناء الملك -وغيره- لم يتمكن على ما يبدو من قراءة الإنجاز اللحني والشعري إلا من حيث الشكل، فكان أن قدَّم آراء تقسم الموشحات شكلياً إلى:
(قسْمٍ يستقل التلحين به ولا يفتقر إلى ما يعينه عليه، وهو أكثرها؛ وقسمٍ لا يحتمله التلحين ولا يمشي به إلا بأن يتوكّأ على لفظة لا معنى لها تكون دعامة للتلحين وعكازاً للمغني)(29).
على هذا النحو ينظر ابن سناء الملك إلى الإبداع، وهي نظرة تكشف عن رؤيتين متناقضتين أشد التناقض. أما الأولى فهي أن من الموشحات ما هو صحيح يستقل به التلحين دون معين خارجي، وأما الثانية فهي الموشحات الكسيحة العاجزة التي تحتاج إلى عكاز للمغني، وتناقض هاتين الفكرتين المضمومتين إلى جانب بعضيهما في فقرة واحدة ينبع من وجهة النظر الكلية لابن سناء الملك التي أعلن فيها صراحة عن عجزه اكتشاف نظام عروضي للموشحات، وهو إذ يلتفّ عليها من جهة الموسيقا وأوزانها فإنما يُناور مناورة لا طائل منها لكونه يقف في وجه الوضع الطبيعي لفن الموشح الذي وُلِدَ هكذا مخترِعاً شكله وطبيعته ووظيفته التي تفارق -جميعاً- الشعر العربي التقليدي.
غير أن الدكتور فؤاد رجائي يزيد الأمر تعقيداً حين يتوقف طويلاً أمام أمثلة ابن سناء الملك، ليقوم بعملية تقطيع -توزين- موشح "من طالب" وفق نظام الإيقاع الشعري العربي، كما قدمنا سابقاً، وهو نظام (تُنْ- تُنُنْ- تُنُنُنْ).. الخ(30).
وكان إخوان الصفاء قد أوردوا ذلك في أثناء حديثهم عن الموازين والإيقاعات الموسيقية وكيفيات تركيبها(31). أما الدكتور رجائي فيُسْهب في مطابقة الإيقاعين الشعري والموسيقي بحسب نظام "الأسباب والأوتاد والفواصل". ويبدو أن الدكتور رجائي لم يدرك -بسبب انهماكه الشكلي- أن ما فعله لم يكن يعني أولاً إلا إقامة العروض الشعري القديم، وإخضاع الإبداع الموسيقي، ثانياً، إلى عملية صناعية بحتة تعوِّق الإبداع وتحدُّ من مسيرته وجدوى حضوره.
ومما يزيد الأمر غرابة هو أن نظام (تَنْ وأخواتها) يشوبه الكثير من الغموض، لكوننا لا نعرف له مقادير زمنية محدَّدَةً وبصورة يقينية، هي المقياس الذي يحكم وينظم أطوال الأوزان ومُدَدَها كما هي موازين الموسيقا. ولهذا نرى أن جميع من أبدى رأياً في مطابقة الوزنين الشعري والموسيقي قد سقط في فخ الغموض وفوضى الأزمنة، وبخاصة حين قياس (تُنْ بـ فا) و(تُنُنْ بـ عِلُنْ أو فعو) و(تُنُنُنْ بـ عِلَتُنْ..) الخ، أي بالسبب والوتد والفاصلة، فيكون هذا الإجراء قد أعاد إنتاج الأوزان الشعرية العربية ولكن بأسماء اصطلاحية أخرى، وهي أوزان غير مقيَّدةٍ بمقادير زمنية بالغيب، وافتعالاً وقسراً، خاصة حين يقوم الدكتور فؤاد رجائي -وعلى هواه- بعملية الإبدال والحذف بين الأزمنة فإذا (تُنُنْ) تصبح (تُنْ)، أي إنه أبدل بالوتد المجموع السبب الخفيف من أجل المحافظة على شكل "النْوار" أي علامة السوداء الموسيقية والتي هي (1 من4) وقد توهم أن "تُنْ" تساوي (1 من 4)، فإذا كانت "المستديرة ذات الأربعة أزمنة" موجودة صراحة في الموسيقا فما هي العلامة الشعرية التي تعادل المستديرة لتكون أصلاً لـ "تُنْ"؟!. مرة أخرى ندعو إلى تأمل هذه العملية وبتدقيق أفضل.
تكشف محاولة إخوان الصفاء في توصيف الإيقاع الموسيقي عن إحساس مرهف بالموسيقا من جهة، وبالزمن المحدد المقادير الواضح، غير الملتبس كما هو الميزان الشعري. ولما كان الخليل بن أحمد الفراهيدي قد اخترع مصطلحاتٍ لعلم عروضِ الشعر فكان منها "السبب والوتد والفاصلة"، وسمى أصولها فردَّها إلى الحركة والسكون، فإذا إخوان الصفاء نهلوا من ذات المنهل ورأوا بعين اليقين أن أصل الإيقاع هو الحركة والسكون أيضاً. ولما كان الأصل المشترك بين الإيقاعيين الشعري والموسيقي واحداً فقد أرادوا اختراع مصطلحات ذات طبيعة صوتية للحركة والسكون وبما يشبه مكونات العروض الشعري فكان لديهم التالي:
سبب = حركة وسكون
وتد= حركتان وسكون
فاصلة= ثلاث حركات وسكون
//0=فا
//0 = عِلُنْ
//0 =فَعِلُنْ
تُنْ
تُنُنْ
تُنُنُنْ
وبذلك أبدلوا بالمصطلح المجرد مصطلحاً ملفوظاً في صيغة "تن" لضبط النقر الإيقاعي الشعري التقليدي بالتحديد كما في المثال التالي:
قِفا نَبْ كِمِنْ ذِكْ رَا حَبي بِنْ وَمَنْ زِلي
// /ْ //ْ /ْ /ْ //ْ /ْ //ْ //ْ
تُنُنْ تُنْ تُنُنْ تُن تُنْ تُنُنْ تُنْ تُنُنْ تُنُنْ
فعو لنْ مفا عيـ. لنْ فعو لنْ مفا عِلن
وكأن القراءةَ الإيقاعية تلكَ إعادةٌ للكتابةِ العروضية من حيث هي متحرك وساكن، أي إننا في أثناء اللفظ أو الكتابة نتوقف عند كل ساكن لتحديد القراءة العروضية من جهة، وإجراء التقطيع العروضي وتسمية التفعيلة من جهة ثانية، كأن نقرأ مثلاً (فعولن) بصورة ملفوظة هكذا (تُنُنْ تُنْ) و(مفاعيلن) بصورة (تُنُنْ تُنْ تُنْ) وهكذا.
وما دام مثل هذا الإجراء ينطبق ببساطة وسهولة وخفة على الشعر ذي الشطرين فهل ينطبق هذا الإجراء الإيقاعي على الموشحات؟!!
تفصح آراء الباحثين والدارسين المحدَثين، ومؤرخي الأدب والفنون عن إجماع شبه مطلق في أن الموشحات لها أنظمتها الخاصة بشكل عام. وقد اختصر ابن سناء الملك ذلك بعبارة ناصعة حين وصف الموشحات قائلاً:
(مالها عروضٌ إلا التلحينُ، ولا ضربٌ إلا الضربُ، ولا أوتارٌ إلا الملاوي، ولا أسبابٌ إلا الأوتارُ)(32).
وبتحليل هذا النص سنكتشف أولاً -وقبل كل شيء- أن عروض الموشحات هي الموسيقا بإطلاق، أي بكل ما تضمُ من أزمنة ومقادير ومصطلحات وفنون.. الخ. ولهذا قال ابن سناء الملك بوضوح وبأسلوب النفي القاطع (مالها.. إلا التلحين) ثم أتبع عاطفاً (ولا ضرب إلا الضرب) مجانساً بين الضربين.
فالضرب الأول مصطلح عروضي شعري كما هو معروف، والضرب الآخر هو عملية عفق الأوتار بالأصابع، أو النقر عليها بالريش*.
وأما الأوتار كمصطلح عروضي فهي مفاتيح آلة العود (أو القانون وهي الملاوي) من فعل (لوى يلوي) بمعنى (فتل الأوتار يفتلها) أي يضبطها ويُسَوِّيها، وهي عملية (الدوزان). وأما الأسباب العروضية التي تربط مقاطع الكلمات -حروفها- إلى بعضها فهي الأوتار التي يعزف عليها العازفون فتخرج الألحان الموقَّعة منها.
لكن هذا النص مقتبس يبقى ذا طبيعة شكلية ما لم نستنتج منه فكرة موضوعيةً مفيدةً تُبعدُه عن مجرد المجانسة أو ثنائيات الاصطلاحات. ولهذا فإننا نذهب بثقة إلى أن مجرى فكرة ابن سناء الملك تقوم على وعيه العظيم بأن الموسيقا -بما هي موازين منضبطة- لا مجال فيها لزيادة أو نقصان على الإطلاق، كما يحدث في موازين الشعر وما يعتريها من نقص وحذف بالزحافات، أو من زيادة بالعلل، ومن ثم فإن تلك الموازينَ الموسيقية أكثر مطاوعة، وليناً، وانعطافاً، وحيوية، من الموازين الشعرية، بل هي ذات قدرة عجيبة على الإبطاء والإسراع والمدّ والقصْر بالكيفيات التي يريدها الملحن أو المغني. هذه السمات الخاصة والعظيمة -وغيرها- للموازين والإيقاعات الموسيقية كفيلة -وبفرادة مطلقة- أن تزن الموشحات، وأن تجعلها سوية دون غيرها من الأدوات الإجرائية الأخرى(33)، وهذا ليس سرَّ الموشحات الأندلسية فقط، بل وسر الإيقاعات الموسيقية التي لا يعْتَورها أي خلل وظيفي أو شكلي برغم كل أساليب الأداء المتنوعة التي يقوم بها الموسيقي الملحن أو المغني. وهكذا، وفي هذه النقطة المضيئة، يثبت ابن سناء الملك فطنته الرائعة، والتي خانته قليلاً في أثناء حديثه عن موشح (من طالب) الذي تهافت عليه الدارسون للاستدلال على نقص في الوزن لا يَجْبُره سوى إضافة (لا لا) أو (لا لَ) بين الجيمين بحسب ادعائه.
ولو كان أولئك المشتغلون بهذه المسألة -وبخاصة المحدثين- قد وَعَوا رأي الدكتور جودت الركابي محقق كتاب "دار الطراز" حول حرية الموشح وزنياً، لكانوا كفوا أنفسهم مشقة إثبات ما هو صريحٌ، واضحٌ، ولما كانوا اصطنعوا الشروحَ والقياساتِ وضروبَ التنظير المتعسفةَ والمتمحَّلة.
* * *
الهوامش
(1) تاريخ الأدب الأندلسي - عصر الطوائف والموحدين، الدكتور إحسان عباس. ص 223
(2) ملامح الشعر الأندلسي، الدكتور عمر الدقاق، ص 332، دار الشرق العربي، بيروت.
(3) انظر دار الطراز ص 52 ونماذج للمؤلف ص 133 عن أجزاء الأقفال، ابن سناء الملك، تحقيق الدكتور جودت الركابي -دار الفكر- دمشق، ط2، 1977.
(4) نقلاً عن د. إحسان عباس. مرجع مذكور ص 218.
(5) ابن سناء الملك. دار الطراز. ص44 ويتابع (ولا يفعله إلا الضعفاء من الشعراء).
(6) ابن سناء الملك. دار الطراز. ص 44. ويتابع (ولا يفعله إلا الضعفاء من الشعراء).
(7) نفسه ص 13 المقدمة، والكلام للدكتور إحسان عباس.
(8) في الأدب الأندلسي -الدكتور جودت الركابي ص 302.
(9) دار الطراز ص 47. والقول يكشف استحالة وضع قوانين وموازين كما عجز ابن سناء الملك.
(10) نفسه ص 35.
(11) البيان والتبيين: الجاحظ ج1 ص 85. تحقيق عبد السلام هارون دار الفكر - بيروت ط4.
(12) السماع عند العرب: مجدي العقيلي -ج2 - ص143- 144.
(13) نفسه. ص 143. وانظر نفس النص مع بعض التعديلات بسبب الترجمة في كتاب تاريخ الموسيقا العربية وآلاتها (ص121) والقول منسوب إلى أرسطو طاليس على لسان حاجي خليفة في كشف الظنون.
(14) تاريخ الموسيقا العربية وآلاتها ص 118. د. منى سنجقدار شعراني معهد الانماء العربي- بيروت 1987.
(15) نفسه ص 127. وانظر ملحق الصور نقلاً عن د. سنجقدار.
(16) الموسيقا الأندلسية المغربية - ص45.
(17) نفسه ص 44.
(18) نفسه ص 43-44. (مالوف) هي مألوف بتخفيف الهمز. نوع من الغناء المغاربي
(19) كان هناك أورغن مؤلف من أوكتاث واحد وطوله في حدود المتر الواحد. انظر الحياة الموسيقية عدد 3-4/ 1992
(20) دار الطراز: ص (50). وقد توفي ابن بَقي سنة (540هـ 1145م)، انظر ص 196.
(21) من كنوزنا ص 132- 133، وانظر في الأدب الأندلسي جودت الركابي ص 301.
(22) البيان والتبيين: ج1 ص 385
(23) من كنوزنا ص. ص: 109-101-111
(24) رسائل إخوان الصفاء: ج1- ص 198.
(25) في الأصل:حين لذ النوم، وربما استُبدِل اللفظ تأدباً، وهو مختلف قليلاً لدى د.الركابي. انظر في الأدب الأندلسي ص 334.
(26) يمكن الاستماع إلى الموشح المذكور بصوت المطرب المبدع صباح فخري لنرى إلى ذلك الشغل الغنائي المدهش على لفظ الترنم (يالا لا- يا لا للي... ليل يا ليل) وبخاصة في الطبقات الحادة من جواب المقام، وبما ينسجم مع ترجيع وترديد -مجاوبة- المجموعة الغنائية- الكورس- للحن الخانة.
(27) انظر الموسيقا الأندلسية المغربية، ص 196. والكلام لعبد المؤمن الأرموي صاحب الرسالة الشرفية في الموسيقا. عبد العزيز بن الجليل -عالم المعرفة- الكويت 1988.
(28) السماع عند العرب ج2 - ص144
لعل غناء (اللا لا) الشعبي المشهور يدل على ذلك وكأننا نقول (يا الله يا الله...) للتعجب والشكوى، ثم نسأل (ليش الزعل يا خالة) وبذلك نستعين بالله على الزعل وهجران الأحبة.
(29) دار الطراز - ص50.
(30) انظر من كنوزنا ص (105) وما بعدها والجهد المضني الذي بذله الدكتور رجائي.
(31) رسائل إخوان الصفاء. ج1- ص 198
(32) دار الطراز. ص 47.
* لعل استخدام ابن سناء الملك لفظة الضرب يكون إشارة إلى مضراب العود الذي غيّره زرياب من الخشب إلى ريشة النسر.
(33) لقد خصصنا دراسة مستقلة للعلاقة بين وزني الشعر والموسيقا.