يشير الناقد المغربي إلى أن ممارسة النقد التشكيلي في الثقافة العربية، تستدعي البحث في أسس هذا النقد، وهل تتوفر الساحة التشكيلية العربية على نقاد مختصين، يقيمون إبداعها ويجيبون عن أسئلتها. وفي هذا الإطار يبرز الاهتمام بالتراث كضرورة حضارية وفنية لا محيد عنها.

النقد الفني والحركة التشكيلية العربية

.. ما العلاقة؟

محمد أديب السلاوي

قبل الغوص في مسألة النقد التشكيلي، وعلاقته بالحركة التشكيلية العربية، ودوره في بلورة قيمها الجمالية والفكرية، لابد من التساؤل عن ما هي أسس هذا النقد؟ وهل تتوفر الساحة التشكيلية العربية، على نقاد مختصين، يقيمون عطاءاتها الإبداعية ويجيبون عن أسئلتها الملحة التي تطرحها هذه الحركة، عن حاضرها ومستقبلها.

إن فهم مشكلات فن من الفنون، غالبا ما يعيننا على تجنب سوء الفهم في فن آخر، ذلك لأن الفهم السليم لمكان الإشارة في الشعر، هو ما يوضح لنا بجلاء، مكان تمثل الأشياء في التصوير. كما أن النظرة الساذجة للمسألة الأولى قد تؤدي بنا حتما إلى أخطاء جسيمة في تصور الثانية. وعلى نفس المنوال يمكن القول أن النظرة الضيقة لفن الموسيقى، هو ما يجعلها أكثر ضيقا في الفنون التشكيلية.

يعني ذلك أن أول شرط يتطلبه النقد التشكيلي، هو تحليل وقراءة الفنون البصرية بلغتها، هو المعرفة التامة للغة الألوان، من حيث هي علامات، لكل منها طابع مكاني مميز، هو الإدراك المعرفي لشخصيات هذه الألوان التي تشكل عالم اللوحة/ المنحوتة، وموضوعها، ولا يقل عن ذلك أهمية الآثار الانفعالية أو العضوية التي تختلقها الألوان.

اللون عنصر بارز في العمل التشكيلي وفي لغته، وبلاغته، هو الصلة، العامل المسيطر على الاستجابة الانفعالية للتصوير، هو الذي يؤكد سلبية أو إيجابية التركيب الموضوعي والفني للعمل التشكيلي.

ومما يعطي هذا الشرط أهميته القصوى في نظر النقد العلمي، للإبداع التشكيلي، ذلك الوهم الذي تخلقه اللغة والمرتبط بالاعتقاد أن الجمال صفة في الأشياء، وليس في صفات استجابتنا لهذه الأشياء، وتلك هي العلة الأساسية لصعوبة تذوق اللوحة عند العديد من المتلقين، وفي مقدمتهم النقاد.

إذا تركنا هذا الجانب التقني الصرف الذي يفرض نفسه على أي ناقد تشكيلي، واتجهنا إلى صلب العمل الفني، سنجد أن العديد من نقادنا غير التقنيين، استطاعوا تحت تأثير الوضع الثقافي الراهن، أن يخلقوا بديلا لهذه التقنية التشكيلية، ويربطوا "قراءاتهم" بحركة الوعي الفكري، للغة البصرية، وهو ما أذى إلى خلط كبير في المفاهيم، وإلى خلط بين الأشكال والمضامين.

هكذا، تكون أزمة النقد عندنا في ميدان الفنون التشكيلية، أزمة بنيوية، مرتبطة بمشاكل عامة، لها علاقة وثيقة بتطورها الثقافي والفكري.

إننا نلاحظ، أن مفهوم الفن تطور تطورا سريعا في العقود الأخيرة ولم ينقطع ولم يقف هذا التطور عند حد، إذ لم يكن في وسع أي ناقد أن يقدم تعريفا شاملا لماهية الفن ولاتجاهات الفنانين.

لقد كان مفهوم الفن في العالم العربي إلى بداية القرن العشرين يقتصر على الفنون التقليدية. ولما انتقلت الحضارة في العصور الحديثة إلى أوربا، تغير مفهومها للفن وأصبح يقتصر على نوع معين منه وهو النوع الذي ابتدعته عبقرية الإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد.

ومع أن فن عصر النهضة في أوربا يختلف في الواقع اختلافا جوهريا عن واقع ومفهوم الفن عندنا، فإن الوهم الشائع بين مؤرخي الفن ونقاده قد فرض على العالم البحث عن تعريف جديد للفن يتسع لاحتضان كل التراث التشكيلي، باتجاهاته ومدارسه.

وقد انصرف الكثير من النقاد العالميين إلى السعي في تعريف الفن من جديد، وإلى البحث عن قيم نوعية لكل طراز/ واتجاه، بل لكل أنواع الفن قديما كان أو حديثا...

من هنا يبرز السؤال: كيف يمكن أن يقوم نقد فني موضوعي في مثل هذه الظروف التي تعددت فيها المفاهيم وأصبح خلالها الفنان الأصيل في حيرة من عالمه، ومن إنتاجه، ومن مفاهيمه.

الواقع أن مهمة الناقد الحديث لم تعد بالأمر الهين، فقد يكون من اليسيران يفاضل الناقد بين اتجاهين أو عدة اتجاهات، ولكنه لا يستطيع مطلقا المفاضلة بين الأساليب والمدارس المختلفة والمتطورة والمتجددة.

وهذه الصعوبة في المفاضلة والتقييم والحكم ليست جديدة، بل يرجع عهدها إلى عصر النهضة في أوربا، إلا أنها ستكون أكثر خطورة عندنا، خاصة وأن مجمل نقادنا لم تمكنهم ظروفهم الثقافية من الوقوف على الآثار الفنية الإنسانية بمدارسها واتجاهاتها، وأساليبها، ليتمكنوا من المقارنة والتقييم، والحكم فالناقد فضلا عن وجوب معرفته لعالم الفنون التشكيلية معرفة كاملة وواعية، عليه أن يشترك مع الفنان الحديث في وجدانه المعاصر، وهذا الوجدان لا ينعكس على الفن فقط، ولكنه ينعكس أيضا على الأدب والشعر والفلسفة، ومن ثم أصبح وعيه لكل التراث الثقافي ضرورة حتمية.

من هذه الزاوية، نجد أن التطور الذي تعيشه فنوننا التشكيلية يوما بعد آخر والانفتاح الذي تعرفه على أروبا وعلى العالم، بعيد عما ينشر عندنا من نقد لهذه الفنون.

إن الناقد عندنا لم يحترف بعد حرفة النقد، ومن ثم لم يعط لنفسه الفرصة ليطلع على عالم الفنون وعلى ما يزخر به هذا العالم من أشكال، وألوان ومدارس واتجاهات، وهو ما يتطلب منه وقتا كبيرا للهضم والاستيعاب، ومن تمة فالعديد من "النقاد" عندنا، مازالوا، يحاولون نقل الأشكال المبعثرة إلى كلمات مضببة، غالبا ما تكون بعيدة عن المضامين وعن الأشكال.

فإذا استعرضنا (التقييمات) النقدية التي كتبت عن الفن التشكيلي العربي خلال العقود الأخيرة، سنجد هناك خلطا في مفهوم النقد أولا، كما سنجد رؤى مختلفة للمدارس والاتجاهات والأفكار، الشيء الذي يشوه حقيقة النقد الفني، ويضيع حقيقة الحركة التشكيلية في الوطن العربي.

السؤال الذي يطرح نفسه بحدة:
هل تتوازى مسارات الحركة التشكيلية العربية مع المواكبة النقدية لها؟ وبصيغة أخرى هل تتساوى القيمة الإبداعية لهذه الحركة وانتقالاتها الفنية نوعا وكما مع ما يكتب عنها وما يتابعها من قرءات نقدية، أكاديمية أو انطباعية، تستكشف انساقها وتترصد محطاتها باختلاف أساليبها وأدواتها وقواعدها؟

في حقيقة الأمر، إن من يحاول تلمس طريق البحث عن إجابات محددة، يجد نفسه بداية أمام "شبه" فراغ توثيقي يطال جانبي المعادلة، سواء من حيث مكونها الإبداعي أو حدها القرائي، حيث أن تجارب الفنان التشكيلي العربي، غالبا ما تنتهي بانتهاء معارضه وتنقضي بانقضائها، في حين تبقى الحركة ككل بمنأى عن ترصد "تأليفي" يلغي آنيتها ويبني متتلياتها وفق مسار توثيقي يحتفظ بالمكونات ويسجل الانتقالات ويمرر المبضع على المكامن التشريحية فيها من تسليط الضوء على مختلف محطاتها وعناصرها واختلافاتها.

في نظر باحث مغربي(1) تبقى القراءة العامة للتجربة التشكيلية العربية، غارقة في الاستعصاء، محاطة بابهامات تكيل للمتتبع ضبابية في المرأى ومتاهة في التلمس وغرقا في مفاهيم "تعويمية"، تعيش الشتات هنا وهناك دونما "تجميع" أو تصنيف أو ضبط، كما تبقى الكتابات التي عنيت بالأمر بعيدة كل البعد عن مرحلة تأسيس "تأليفي" يواكب الحركة ويدون مسارها.

وفي باب الكتابة والمتابعة "المناسباتية" هاته، يرى الباحث، تدخل عدة اعتبارات وعوامل تجردها من القيمة النقدية الحقيقية ومستوى المتابعة المساهمة بفعالية في الارتقاء بهذا الفن الجميل المغدق بالأحاسيس المرهفة، حيث نجد الانطباعية هي السمة الطاغية إن لم نقل هي القاسم المشترك بين أغلب ما يصدر بالصفحات الفنية والثقافية بجرائدنا ومجلاتنا من مقالات وتغطيات ومتابعات لمعارض تشكيلية، تبدي بعمومية تشمل مكونات المعارض وليس قراءة ترصدية لتجربة مبنية على فضاءات يتطلب الواحد منها قراءات وقراءات، فما بالك بالفضاء العام. بمعنى أن اللوحة نفسها/ ولوحدها كجزء أساسي، هي أرضية المتابعة النقدية والتي يفضي التعدد القرائي بتعدد اللوحات إلى إيداء الملاحظة القرائية العامة وأي كتابة لا تتمثل هذا المعطى لا يمكن إلا أن توازي رأيا في ديوان من باب تذوق قصائده بعد قراءة أولية أو إطلالة سريعة يمكنها تشكيل ورقة تقديمية له وليس قراءة نقدية.

لذلك تبقى الكتابات المتفرقة عن موضوع التشكيل في بلادنا العربية في رأي العديد من الباحثين، مقالات تقديمية أو انطباعية أو تغطيات صحفية، تقرب التشكيل وتقترب منه ولا تقرؤه، كما لا تترصد حركته. والمسألة بموضوعية وتجرد لا تدخل في صميم مهمة الصحفي أو المتتبع الصحفي مادام الاختصاص فيه لا يتضمن الجانب التشكيلي كما لا نجد الفنان التشكيلي نفسه يواكب مختلف التجارب التشكيلية ويداوم الترصد والمتابعة عبر الكتابات النقدية التي يملك هو بداية الأمر موادها الموضوعية ومكوناتها الفنية كما عناصرها الإبداعية.

إن الحركة التشكيلية العربية اليوم، وبعد أن اجتازت مرحلة البدايات لم تعد في حاجة إلى القراءات التعريفية والورقات التقديمية والكتابات الانطباعية، بقدر ما هي في حاجة قصوى إلى تأسيس نقدي يواكب تجاربها وتعدد مكوناتها وتنامي رصيدها، سواء من حيث حجمه الكمي- على مستوى المعارض- واللوحات والشخوص- أو من حيث مستواه النوعي، بتعدد المدارس والاشتغالات والنماذج، ثم بخصوصياته التي تميزه وسط باقي الفنون.

* * *

في سياق المتابعات النقدية المحدودة، التي واكبت الانخراط الإيجابي لهذه الحركة في البوثقة الثقافية العربية ظهرت في العقود القليلة الماضية، أعمال تنظيرية، لعدد من الكتاب والباحثين والمبدعين، حاولوا الإجابة على بعض الأسئلة الثقافية والفلسفية، المرتبطة بالحركة التشكيلية العربية، واستقراء بصريات الأجيال التشكيلية عامة، والشابة على الخصوص.

ورغم ما يسجل على هذه القراءات من ملاحظات وانتقادات منهجية. فإنها أجمعت على أن هذه الحركة ناهضت بوعي أو دونه قيم الإستغراب، من أجل تنمية الحساسية الجمالية ورفع مستوى الوعي وهدم الجمود والاستسلام، وعملت على إشباع رغبات الطبقة المتوسطة الصاعدة، في الإبداع والخلق، وهو ما أدى إلى تحررها من الأساليب التقليدية، واكتشافها أساليب وأشكال جديدة، غيرت الكثير من المفاهيم الجمالية، مما جعلها مجالا لممارسة الذاتية والتعبير عن حنينها الميتافزيقي.

ولاشك أن غنى وتنوع النص التشكيلي لدى الأجيال التشكيلية، المتعاقبة واكتضاضه بالسمات الجمالية وانفتاحه –في ذات الوقت- على ثقافة وأحاسيس ولغة هذه الأجيال. نقل "النص التشكيلي" إلى درجة فاعل أساس على الساحات الثقافية العربية، من وجهة نظر الكتابات التنظيرية لأولئك الكتاب والنقاد والمبدعين.

* * *

عندما نضع السؤال حول الخلاصة الإجمالية التي يمكن أن يستخلصها الراصد للحركة النقدية في العالم العربي اليوم، نجد أن هذه الحركة تمر في الزمن الثقافي الراهن، بفترة حرجة، وباهرة في نفس الآن، ولكنها تشخص في النهاية معركة واحدة لا تتجزأ، تتجه بكل أدواتها المعرفية، وبكل رصيدها الفني، نحو تأسيس وإعادة تأسيس أرضية نقدية ماهرة ومتميزة في مجال الفنون التي تحاول جهدها فحص الخطاب الفني، ونقل هذا الخطاب ليكون في قلب العملية الفنية من خلال نقد الذات ومراجعتها وتعبئتها قصد وضعها على مستوى المرتكزات النظرية والمنهجية النقدية، وربط فاعليتها بالفاعلية التاريخية، واتخاذ النقد أداة لتعرية كل الأفكار السالبة في العمل التشكيلي العربي، وجعل النقد عجلة نشيطة في قاطرة الثقافة العربية الحديثة.

وسواء في النقد المنهجي، الأكاديمي، أو الانطباعي، أو الصحفي، نجد هذه المعركة منهمكة في تواصلها مع الفاعلية الإبداعية، وفي فتح آفاق جديدة على الأفكار والنظريات والمذاهب والاتجاهات التي توفر سقفا جماليا وفلسفيا نابعا من عودة "الحداثة" التي توجه البصيرة الفكرية إلى مفاهيمها وقيمها ومضامينها وانعكاساتها.

إن ما يشكل قاسما مشتركا في المتابعات النقدية للحركة التشكيلية العربية، هو وعيها "الحداثي" بضرورة إعادة تأويل مظاهر التراث الماضي، والتراث الحاضر. وهو وعي يفصح من جهة عن مدى تعقد الإنتاج الفني، وتداخل مستوياته، ومن جهة أخرى، يفصح عن الأهمية التي يوليها النقد التشكيلي على ندرته وقلته إلى إخراج "الفن التشكيلي العربي"، من مرحلة العفوية واصطناع البراءة والسذاجة إلى مرحلة توضيح المواقف والإشكالات. ومن ثمة استطاعت بعض التنظيرات النقدية، رغم ابتعاد العديد منها عن شروط الأكاديمية، أن تتجاوز ما أنجز من إبداعات، وهي في نظر العديد من المتتبعين، ظاهرة صحية، تمهد لتقليب التربة. تجاوز الإلتباسات والخطابات التقليدية المتراكمة على الساحة الفنية العربية.

بعض متتبعي هذه الحركة، يغامرون بالقول: إن الوعي النظري النقدي أصبح يتجاوز عند العديد من النقاد العرب، ما يقابله عند المبدعين من الفنانين، ومن ثمة يبتون الشعور القلق بانسداد الأفق أمام الباحثين عن إنتاج فني يواكب التحولات المجتمعية وإيقاعاتها المعقدة. والحقيقة أن ما ينجز حتى الآن على جميع المستويات إبداعا وتنظيرا ونقدا يدخل في نطاق مرحلة واحدة هي مرحلة التأسيس، الماهدة للطموحات الثقافية لهذه الحركة.

* * *

بقي السؤال: أين الإعلام العربي من كل هذا؟

إن التظاهرات الكبرى التي تشكل محطات أساسية للحركة التشكيلية العربية خلال القرن الماضي قامت على استغلال التراث الحروفي والهندسي والبيئي، في مشرق الوطن العربي ومغربه وإعطائه موقعه في تشكيل ذوق جديد/ وحداثي.

ومن خلال تلك التظاهرات، كان الفنان العربي جادا في البحث عن اللغة التشكيلية الجديدة المتميزة بالعودة إلى منابع تراثه واختيار الإشكال والرموز والقضايا والألوان المتجلية في الطبيعة العربية.

وتجربة العودة إلى التراث التي ميزت هذه الفترة الهامة من تاريخ فننا التشكيلي اعتمدت على الربط بين الفن والهندسة، بين الفن والآلة (استعمال تقنيات جديدة آلية لإنتاج اللوحة)، بين الفن كإبداع، والآلة كصناعة، وركزت أبحاثها على تراث البيئة العربية، لاستغلاله ونقله انطلاقا من بنيته الخاصة، وما فعلته طليعة البصريين في المغرب، والمشرق، يلتقي بصفة غير مباشرة مع الحركة الإنسانية في الإبداع التشكيلي، والموسيقى، واللغوي. والفرق الموجود بينهما هو نوعية الخاصية الخطية الأسلوبية بين الحركتين، وهذا راجع لنوع الميراث التشكيلي المميز لكل من الحضارتين، وهي في الأخير حركة لها اتصال بمستوى جديد من التجربة التشكيلية على الصعيد العالمي، وخاصة في الغرب، أي التجربة التي يطلق عليها الآن "الفن البصري"، ويعود تاريخها في أوروبا الغربية، إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، وتتمثل في مدرسة الباوهاوس الألمانية، وحركة الهاردج في الولايات المتحدة الأمريكية ثم عند فازرلي حاليا، وقد لعبت السوق الشرائية الاستغلالية العالمية دورا أساسيا في نشرها وتدعيمها واعتبارها المقياس الصحيح لمفهوم الفن المستقبلي.

* * *

لاشك أن المدرسة البصرية العربية حققت منذ البداية خطوة إيجابية، جسدت الوعي تجاه التحديث الثقافي حتى وإن كانت بعض اتجاهاتها محدودة الأفق، لكونها عادت إلى التراث بمفهوم جامد، غير متفاعل، وبالتالي أصبحت حركة تسير جنبا إلى جنب مع الدعوة المتصاعدة لصالح الرجوع إلى الأصالة، ولكونها ثانيا تصب في حركة عالمية استغلالية، وتستغلها لمصالحها الاقتصادية، المعتمدة على تجميل الإنتاج، وإدخال أشكال جديدة لإرضاء المستهلك، والتخفيف من الأزمة الاقتصادية القائمة.

وخارج هذه الملاحظة، صادفت المدرسة البصرية العربية، الكثير من النجاح على المستوى الفني والجماهيري.

إن الأصداء التي تركتها التظاهرات التشكيلية العربية، خلال القرن الماضي، في المغرب ومصر والعراق وسوريا والعربية السعودية وغيرها، لأكبر دليل على نجاح التجربة الفنية، إلا أن تطويرها بقي رهينا بالرواد الأول الذين مازالوا غارقين في البحث عن ذواتهم الوطنية، وعن قدارتهم الفنية، واستيعابهم لهذه الوفرة من ألوان التراث الوطني.

وفي هذا الإطار لابد من التأكيد، على أن الاهتمام بالتراث، لا يعني عدم الأخذ بالأساليب الحديثة المتطورة والمتجددة، أو عدم استعمال الخامات الفنية التي تستهدفها الصناعة كل يوم، بل أن أي إنتاج فني حديث مهما تنوعت مذاهبه أو اختلفت، يحتاج إلى لمحة من التراث، ليؤكد أصالة الفنان وصدق إحساسه وانتماءه إلى هويته الأصلية، وليبعده عن التقليد لمدارس فنية أو اتجاهات مستوردة، وللأهمية الكبيرة للدور الحضاري والإعلامي الذي تقوم به حاليا مختلف أنواع الفنون التشكيلية، فإن الاهتمام بالتراث واستلهامه في العمل الفني، أضحى ضرورة حضارية وفنية لا محيد عنها.

* * *

الهامش
(1) الحركة التشكيلية المغربية بين الإبداع والنقد/ جريدة بيان اليوم (مغربية) 3 أبريل 1999، ص:16.