يقدم الكاتب الفلسطيني في هذا النص الشخصية العربية أو الإنسان البسيط المغلوب على نفسه والراغب بالعيش في سلام وسط مجتمعاتنا المحتدمة بالعنف الطائفي والعرقي والسياسي، وبالرغم من تحاشيه لكل مسببات الاحتكاك مع أطراف الصراع نجده يقع عليه عنف لا يعرف مصدره أو الجهة التي تقف خلفه، فيلزم الصمت رعبا من البوح بانتمائه الطائفي.

الهروب من الظلام

(مونودراما)

محمد عبدالله القواسمة

(الظلام دامس، والصمت مخيّم. غرفة في المستشفى. سرير يرقد عليه شاب في السادسة والعشرين، يده اليسرى في جبيرة من الجبس ومعلقة بعنقه. على يمين السرير نافذة لها ستارة طويلة تلامس الأرض. بجانب السرير كرسي وطاولة عليها جهاز تحكّم تلفزيونيّ وجهاز هاتف. جهاز التلفزيون معلّق على الجدار المقابل للسرير)

(يسمع خرفشة)

الشاب: (بضعف)

أين زر الكهرباء؟ لماذا أطفأوا النور؟

(يضاء المسرح. يظهر الشاب جالسًا في السرير يغالبه النوم. يتلفت حوله مرهفًا السمع. ثم يلقي رأسه على الوسادة)

(بأنين)

آه! يدي تُؤلمني! كتفي! ظهري!

(تتحرك الستارة حركة غريبة. يسمع صوت الخرفشة بوضوح. ينهض الشاب مذعورُا. يهبط عن السرير بصعوبة)

(بخوف)

من في الغرفة؟ من يُلاحقني؟ لم أفعل شيئًا حتّى تتبعوني إلى هنا. أنا مواطن لا علاقة لي بشيء، لا أجيد سوى البطالة. واجباتي أعرفها منذ تخرجت في الجامعة، وهي البحث عن عمل أو وظيفة، وتلبية طلبات بيتنا، والعناية بأمي المريضة، ووالدي الذي تقاعد مبكرًا. ما حدث اليوم أنّي كنت راجعًا من رحلة فاشلة في البحث عن عمل. وحدث ما حدث. اتركوني لأعود إلى أمّي، إنّها تنتظرني. في الصّباح، كما تفعل دائمًا، رفعت يديها إلى السماء وتضرعت إلى الله أن أعود إليها سالماً، وأن يُجنّبني أولاد الحرام، ويُيّسر لي أولاد الحلال، ويملأ طريقي بالأمن والأمان.

(تختفي الخرفشة)

(يعلو صوته)

أمّا حقوقي في الحرية والكرامة والعمل فلم يحن الوقت للمطالبة بها، سأختار الزمان والمكان المناسبين لأنتزعها منكم انتزاعًا.

(بحماس ضعيف)

لكن، لماذا ترتجف وأنت تتكلم على الحقوق؟ لا تخف. أنت في المستشفى والمستشفى مكان آمن ربما أكثر أمنًا من المسجد والكنيسة، فكثير من المساجد هُدمت فوق رؤوس المصلين، وكذلك لم تسلم الكنائس من الصواريخ والبراميل المتفجرة. أين يلتجئ النّاس ما دامت بيوت العبادة لا تحميهم؟ ليلجأوا إلى المستشفيات؛ فهي أقل عرضة للهجمات. الخوف يتسلل إلى قدمي وأنا أتذكّر ما حدث عصر أمس. حظي سيئ لو كنت أدري أنّ تظاهرة ستنطلق من شارع الحرية في ذلك الوقت، لما خرجت من البيت.

(بسخرية)

شارع الحرية! حرية من؟ هي ليست حريتي. على كل حال، لن أسير في شارع يحمل اسمه هذه الكلمة أو أمثالها. لم تعد تعني لي شيئًا كلمات التحرير والتحرر والاستقلال والإصلاح والعدل. لست معنيًا الآن إلّا بالبحث عن لقمة العيش، والحلم بالبقاء حيّا؛ فالربيع لم يحن مجيئه، والحرية وملحقاتها لم تتضح معانيها بعد. أين الحرية واحترام الإنسان عندما يعترض طريقي وأنا عائد إلى البيت أربعة ملثمين موشحين بالسواد؟! ظهروا أمامي كالأشباح. حاولت الهرب من بينهم؛ فأفضل وسيلة لمواجهة العنف إذا لم تستطع مقاومته ألاّ تقف في وجهه. لم أستطع، أحاطوا بي من كل جانب. أمسك أحدهم بعنقي، ودفعني إلى باب محل تجاريّ. سألني وهو يُلوّح بِعَصًا كرأس الأفعى، في حين كان الآخرون يتهيئون للانقضاض عليّ بعصيّهم الغليظة. أنت سنّي؟ لم أجب؛ لأنّي لا أدري ما الجواب الذي يرضيه. هزّني بغضب: أنت شيعي؟ لم أجب. سحبني إليه بقوة، ودفعني حتى شعرت كأني أخترق باب المحل الحديدي: إذن أنت مسيحي؟ لم أنتبه، رفعت إصبعي الشاهد وغمغمت بصعوبة: مسلم. أعترف. كانت إجابتي عن سؤاله خطأ فاحشًا. ماذا لو كان مسيحيًّا؟ عاد يسألني: أمعارض أم موالٍ. لم أجب؛ فأي إجابة مخاطرة كبيرة قد تُزيلني عن الوجود، وأنا لا أريد أن أموت في قضية إجابتها نعم أو لا. هزني بقسوة، ولطمني بقوة، ترنّحت وسقطت على الأرض، وقام الثلاثة الآخرون بواجبهم: ضربوني، ركلوني، جروني في الشارع. لا أدري، خُيّل إليّ أم أني سمعت أحدهم يقول: اتركوه وهاتوا غيره. غبت عن الوعي من شدة الضرب، وقسوة الإحساس بالظلم.

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

على النفس من وقع الحسام المهند

من ضربني أبناء جلدتي. وأين؟ هنا. يا ويلتي، أُهنت في وطني! لكني لم أتركهم ينتصرون عليّ. لم أبك، ولم أتوجع أمامهم. وجه الغرابة، أن الناس كانوا يمرون بي لينضموا إلى المتظاهرين في نهاية الشارع، وهم يهتفون مطالبين بالحرية والعدالة والكرامة. لا أدري، لمن كانوا يطالبون تحقيق ما تقوله هذه الهتافات. لكن يوجد دائما

(يشير إلى الحضور)

أناس طيبون همهم مساعدة أمثالي أيام الكوارث. جاءت سيارة الإسعاف. لم أستفق إلا في المستشفى، وأنا أصرخ من الألم. قال الطبيب: رضوض وجروح وكسر في اليد اليسرى. احمد الله غيرك جرح جراحًا بليغة. عجبت أن الطبيب سألني، وهو يجبر يدي إلى أي جماعة أنتمي، وبأي دين أو ملة أؤمن. هل وصل تصنيف البشر إلى الأطباء فداسوا على قسم أبقراط، وصاروا يعالجون الناس حسب الدين والولاء والنسب؟ لم أجبه، فقد لا تعجبه إجابتي بأني ممن لا ناقة لهم ولا جمل في كل ما يجري. تعجب من امتناعي عن الإجابة. سمعته يهمس لنفسه بأني جبان. قلت له: بل أنا هابيل. لم أرفع يدي في وجه أخي قابيل ليظل بحسرته. لكنه طمأنني بأني سأبقى الليلة في المستشفى، وأخرج في الصباح. وقال: لا يتطلب العلاج غير بعض الراحة والأدوية، ثم تأتي بعد شهر لنفك الجبيرة. لماذا لم يسمح لي بالعودة إلى البيت؟ أمي الآن قلقة علي، ربما هبّت تفتش عني في كل مكان. لن يخطر ببالها أن أتعرض لأذى من أحد. لن أتصل بها حتى لا تحزن، وتأتي في منتصف الليل. صدقًا، أنا أخشى على أمي، مع أنها عجوز في منتصف الخمسينيات، أن يتحرش بها بعضهم. كثيرون لا يوفرون امرأة من سخافاتهم حتى ولو كانت بعمر أمي. سأنتظر حتى الصباح. في الصباح سأعانق أمي.

(يسمع الخرفشة)

أحدهم يلاحقني، كأنه صوت الرجل الذي كاد أن يخنقني .

(يتجه إلى الباب. ينظر إلى الممر)

لا أحد. كلهم نائمون على آلامهم. لا أنين ولا ضوضاء كأني لست في مستشفى بل في مقبرة. غريب أمر هذا المستشفى. لا أذكر أني رأيته من قبل. إنه يشبه بيت أشباح. لعله أقيم خصيصًا لمعالجة جرحى التظاهرات، أو ربما هو جزء معزول من مستشفى الحكومة العام. هذا ما أرجّحه.

ستبدي لك الأيامُ ما كنت جاهلًا

ويأتيك بالأخبار من لم تُزود

وماذا يهمني؟ يدي عولجت، وإن تُركت معدتي خاوية.

(تستمر الخرفشة)

ما هذا الصوت؟

(يتناول جهاز التحكم، يوجهه نحو التلفزيون. التلفزيون يصدر تشويشًا قويًّا. يجفل. يغلق التلفزيون. الهاتف يرن)

من هذا الذي يتصل بي؟ لن تكون أمي على الهاتف. إذن لن أرد عليه. أنا لا أريد أن يتصل بي أحد سوى أمي، وأمي لا تعلم بأني هنا في هذا المستشفى. ماذا يحدث لو تعلم؟ ستأتي حتى ولو زحفًا. ستقول لهم: لماذا ضربتم ابني؟ تضربونه لأنه يحلم بوطن عادل وجميل؟! ستدعو عليهم من دعواتها النارية. أمي دعواتها على الظالمين والقبر. حذار من دعوة أم على من ظلم ابنها!

(ينقطع الرنين)

الحمد لله! كفى الله المؤمنين شر الرنين.

(يرن مرة أخرى)

يبدو أن الأمر خطير. سأرى من على الخط.

(يرفع السماعة. ينصت بانتباه. يضع السماعة بغضب)

يريد مني موظف الأمن هذا أن أطفئ الأنوار وأنام. كنت أتوقع أن يتصل بي من أجل أن يسألني إن كنت أريد شيئًا. للأسف خدمات هذا المستشفى لا تساعد على شفاء المرضى أو تخفيف معاناتهم. أنا جائع أيها الموظف النشيط. قل لمديرك أن يرأف بالمرضى في مستشفاه. وإذا كان المدير ليس هنا فمن غيرك في هذا المستشفى أستطيع أن أكلمه؟ لكن، انتظر أيها الموظف. سأطيعك وأذهب إلى النوم؛ لأني أريد أن أعجل بمجيء الفجر لأرى أمي.

(يطفئ النور. يرتمي على السرير. يسمع الخرفشة، يضيء النور ثم ينهض، وهو يتلفت في الغرفة)

مرة أخرى، الصوت نفسه والحركة نفسها؟ لم أعد أهتم بشيء. لا يمكن أن يحدث أسوأ مما حدث في شارع الحرية. سأفتح التلفزيون لأعرف ما جرى.

(يشتغل التلفزيون. تختفي الخرفشة)

التلفزيون:

"استقبل رئيس الحكومة الفرقة الوطنية للباليه والرقص الشعبي، ونوّه الرئيس بالدور الذي تقوم به الفرقة في رفع شأن الفن وخدمة المجتمع، ودعا إلى ضرورة الاهتمام بالفنون لأنّها تساعد على نهضة الأمة وتقدّمها، وبخاصة فن الرقص لأهميته في تهذيب الروح، وترقيق الوجدان، والارتقاء بالذوق الجمالي، وتقدير اتساق جسم الإنسان ومرونته".

(يضحك بسخرية)

نعم، علينا تشجيع الرقص بمختلف أنواعه من هزّ البطن إلى هزّ الخصر، وتحريك اليدين.

( يحرك كل عضو على حدة)

آه! آلمتني يدي. نعم، أنا مع الرقص وبخاصة الرقص الشعبي. ولكن، أين يمكن للشعب أن يمارسه: في شارع الحرية أم في ساحة الإصلاح؟ كذلك ألا يخشى أن يتحوّل الرقص إلى تظاهرة شعبية، ويتحول الراقصون إلى متظاهرين، وتفقد أجسامهم مثل جسمي

(يعرض رشاقته)

الاتساق والمرونة؟

التلفزيون:

"قدِم إلى الوطن مجموعات كبيرة من السياح الأجانب من مختلف البلاد، وخصوصًا من فرنسا وبريطانيا وألمانيا؛ لزيارة الأماكن السياحية والمواقع التاريخية والأثرية؛ وللتمتع بالمناظر الخلابة، واستنشاق الهواء العليل".

نعم، لكن علينا تحذير السائحين من التعامل مع مهربي الآثار، وعدم الاقتراب من كثير من القلاع والحصون والمدرجات الأثرية التي هدمتها الحروب وصارت أطلالها أوكارًا للصوص والجماعات الإرهابية. نعم، علينا التركيز على استنشاق الهواء النقي، والتمتع بالمناظر الخلابة أكثر من التركيز على زيارة الأماكن الأثرية؛ فكثير منها لم تطلها روائح البارود والغازات السامة.

التلفزيون:

"أُبلغت مديرية الشرطة عن تظاهرة سلمية انطلقت عصر أمس تعارض العنف، وتدعو إلى السلام، ونبذ العصبية، والتطرف الديني. وحدث نزاع بين المتظاهرين، وتدخلت الشرطة للفصل بينهم. والحمد لله لم تقع إلا بعض الإصابات الخفيفة".

(بسخرية)

أخيرًا ذكرتم الخبر الرئيسي. نعم، كسر يدي وتكسير أضلاعي من الإصابات الخفيفة. والذين ضربوني تخاصمت معهم لأسباب لا يعلمها إلا اللّه، والحمد لله، في النهاية، تصالحت معهم.

(بحزم)

لا يا مديرية الشرطة أنا لم أفهم لماذا ضربت، ولماذا كانت التظاهرة أصلًا . كل ما أعرفه أن يدي كُسرت، وأنا الآن في هذا المستشفى الخرب. مع كل ما جرى لي فأنا أرثِي لأولئك الملثمين وأحزن عليهم؛ لأنهم أسرى عقولهم الجامدة، ونفوسهم المريضة.

التلفزيون:

"ستقوم الحكومة بالتحقيق في التظاهرة التي جرت أمس، واعتقال كل الذين اشتركوا فيها، وتحويلهم إلى القضاء لينالوا عقاب ما جنت أيديهم. وبخاصة أنّ التظاهرة جرت دون علم السلطات المختصة، ودون أن تحصل على ترخيص رسمي".

(بلا اهتمام)

نعم، ليحققوا معي، فأنا لم أمنع حركة السيارات في شارع الحرية، لم أكسر يد أحد، ولم أهتف هتافات مناوئة لأي فرد أو جهة.

(بهدوء)

كل ما هنالك أني لم أجد وسيلة مواصلات تقلني إلى البيت فسرت على الأقدام في الطريق المعتادة، فجأة، وجدت نفسي بين مخالب الأشباح. من هم؟ ومن أين جاءوا؟ ومن وراءهم. لا أعرف. نعم،

(بلا اكتراث)

ليحققوا معي.

(بتصميم)

سأقول الحقيقة، وهي ساطعة كالشمس، أنّي ضربت دون أن أفعل شيئا لا شرًا ولا خيرًا . عليهم أن يلاحقوا من ضربوني، ويقدموهم إلى العدالة. هل يصدقوني؟ لا أعتقد ذلك. وإن صدقوني لن يفعلوا شيئًا؛ فالأمور فلتت من أيدي الجميع. في الغالب، سوف أُعتقل؛ فكسر يدي في تظاهرة يجعل مني شخصية جاهزة لأتّهم بالشغب، يا إلهي! وربما بالإرهاب.

(يطفئ التلفزيون. ويعود إلى السرير)

سأنام قليلًا.

( يسمع الخرفشة. ينسل من السرير. يدور حول السرير)

لا بد أن أعرف من يشاركني في الغرفة.

(يقف في وسط الغرفة)

إن كنت جانًا فاخرج عليك الأمان.

(وهو يرتجف)

وإذا كنت إنسانًا فأرجوك أن تمنحني الأمان!

(تستمر الخرفشة. يتجه نحو الستارة)

لماذا هذه الستارة السميكة؟ ولماذا تختفي النافذة خلفها؟ أما تستحق الغرفة أن يدخلها نسيم الحياة ونورها؟

(يجر الستارة ناحيته. يطل من النافذة)

الحمد لله نافذة قريبة من الأرض!

(ينحني ليتبين شيئًا. يصرخ)

هذا أنت؟

(يتناول قطًا أبيض هزيلًا. يضعه بحذر على الطاولة. يتفقده)

لا بدّ من تفتيشك، أيها القط. لا يؤتمن أحد في هذه الأيام حتى ولو كان قطًا بائسًا مثلك.

(يبتعد عنه قليلًا)

لم أجد أي أسلحة أو ذخائر أو حتى مواد سامة.

(يشير إليه)

مع أنك لا تحمل أي شيء ممنوع فأنت متهم أيها القط بالإرهاب أو بالبلطجة. لا بدّ من إحالتك إلى التحقيق.

(يجلس على الكرسي. ينط القط على السرير. يلحقه ويقعد أمامه)

أينما تذهب لا بد من التحقيق معك.

(بهدوء)

ما الذي جاء بك إلى هنا؟ من دفعك إلى إزعاجي؟

(القط يغمض عينيه)

أجب. الصمت ليس في صالحك. تكلم. أنت سني؟

(ينبطح على الفراش)

تقول أذناك وحركاتك أنك سني. إذن. هل أنت من أتباع الإمام ابن حنبل، أم الشافعي، أم أبي حنيفة، أم مالك بن أنس؟

(يقترب القط منه. يمسك به)

إذن أنت شيعي. هل تقول بولاية الفقيه وتأخذ بالتقية.

(يتحرك القط)

أنت لا سني ولا شيعي إذن أنت نصراني. اعترف لا تخفي حقيقتك.

القط:

مو. مو.

(بغضب)

أنت إرهابي. بلطجي!

(يضغط بأصابعه أنفه. يلقيه أرضًا )

ما هذه الرائحة أيها القط العجيب؟ أنت لا انتماء دينيًا لك. أنت ملحد. ابتعد عني!

(يعود القط إلى مكانه السابق. صمت. ينظر إليه برحمة)

بس. بس.

(يرجعه إلى السرير. بحنان)

أعتذر أيها القط عما سببته لك من أذى ماديّ أو معنويّ. لا تؤاخذني، لقد انتقلت إليّ صفات أولئك الملثمين الذين عذبوني؛ فأصبحت مثلهم أتلذذ بالتعذيب والتحقيق. لكن الحمد لله لم يستمر هذا طويلًا! ها أنا أعود إلى حقيقتي الإنسانية وأعتذر لك. فكرامتي منقوصة إذا انتقصتُ كرامتك، وحريتي مشوّهة إذا اضطهدتك. ليتهم يعتذرون عما فعلوه بي! صدقني أيها القط لو يعتذرون لأسامحهم؛ فأنا لا أضمر لأحد شرًا ، ولا أحب الانتقام من أحد. تمامًا ، مثلك أيها القط. الآن

(يتجه نحو الباب)

سأفتح لك الباب لتخرج إذا كانت هذه رغبتك.

(يلحقه القط إلى الباب. يشير بيده)

يمكن أن تخرج.

القط:

مو. مو

(يغلق الباب. يتناول القط)

أنت قط رائع.

(يجلس به على السرير. صمت)

القط:

مو. مو.

أنت جائع؟

(يتركه. يبحث في أدراج الطاولة. ينثر محتوياتها)

يا الله! هذه الأدراج ليس فيها غير أوراق صفراء وعلب بلاستيكية فارغة. آسف يا صاحبي أنا وأنت نتألم من الجوع! سنبقى حتى يفرجها الله. لنحلم بما يأتي فحلم الجوعان عيش. في الصباح، ربما يأتون لنا بالطعام، أما الآن فدعنا نستمع إلى التلفزيون.

(يتناول جهاز التحكم، يوجهه نحو التلفزيون)

التلفزيون:

"صرح وزير الصحة أنّ الحكومة لن تتحمل تكاليف علاج من أصيبوا في التظاهرة الأخيرة ولا تكاليف إقامتهم في المستشفيات حتى لا تشجع النّاس على الاشتراك في التظاهرات، وحتى تبعدهم عن الوقوع بالفتن ما ظهر منها وما بطن".

(يضحك ضحكًا هستيريًا )

لم يتبق غير هذا؟ نُضرب وندفع. تُكسر أيدينا ونخسر من جيوبنا، مع أن جيوبنا لم تمتلئ يومًا بالمال بل بالهواء.

(صمت. تفكير)

هنا الأمر خطير. ما العمل؟ هل أبقى حتى يقبض علي، وأحاسب وفق تعليمات وزير الصحة، أو تعليمات مديرية الشرطة؟ كلا الأمرين أحلاهما مرّ. ليس أمامي غير اللجوء إلى القاعدة الذهبية: إذا لم تستطع أن تواجه العنف فاهرب من وجهه إلى أن يجد الله لك مخرجًا.

(للقط)

أيصحّ هذا يا صاحبي؟ ما رأيك؟ لن تخرج من هنا حتّى يأتي من يدفع عنك أجرة الإقامة.

(يضحك بمرارة)

صحيح، أنت لست معنيًّا بذلك. أنت محظوظ. لا تجري عليك قوانين الإنسان هنا. ليتني مثلك أيها القط!

(يتنحى جانبًا. يسحب الملف المعلق بالسرير. يقرأ)

اسم المريض. أين اسمي؟ لا يعرفون من أنا. لماذا لم يسألوا عن اسمي؟! إنهم لا يرغبون في معرفته؛ لأني عندهم على هامش الوطن. من حسن حظي ألا يكون لي اسم لا هنا ولا في الشارع.

(يعود ليخاطب القط)

أنت لا يمكن أن تكون غير قط. لا يمكن أن تتهم بأنك إنسان مثلًا أو حشرة أو سمكة أما أنا فيمكن أن أكون كما يشاءون غير أن أكون إنسانًا له الحرية بأن يكون كما يشاء، وهي الأساس في إنسانيته. فأنا عندهم قد أكون سنياً، أو شيعيًا أو علمانيًا أو معارضًا أو مواليًا وكل واحد من هذه التصنيفات قد يؤدي بي إلى الهلاك عند هذه الجهة أو تلك. ما رأيك أيها القط في أن نتبادل جنسنا لتصبح أنت أنا وأنا أنت؟

(الهاتف يرن. يتركه قليلًا. يرفع السماعة. ينصت. يأتي بحركات عصبية حتى نهاية المكالمة. يضع السماعة غاضبًا. يروح ويجئ في الغرفة)

من أين لهذا الموظف الأمني مثل هذا الكلام؟ "الذين يشتركون في التظاهرات لا يوصى بتقديم العون لهم". إذن، كيف تطلب مني أن أنام على ألم أو جوع؟ سأظل ساهرًا طوال الليل وأقلق راحتك وكل من في المستشفى. فالجائع عذره معه، وليس على المريض حرج. كيف له أن يهددني ويشتمني ويشتم أمي؟ "إنك عندنا الليلة، واللّه يعلم أين تكون مع مطلع الفجر. من يدخل هذا المستشفى لا يخرج منه إلى البيت. وأنصحك بترك حلم الأم؛ فلا توجد أم لمن يدخل مستشفانا. هنا لا نعترف إلاّ بالأب. أفهمت؟ إلى الجحيم أنت وأمك". ويلاه! هذا كلام لا يتفوه مثله غير الأربعة الملثمين.

(يقف وسط الغرفة مفكرًا )

الآن، أدرك أني معتقل في هذا المكان، ولن يُسمح لي بالخروج إن لم يكن بتهمة الإرهاب فلعجزي عن دفع ثمن العلاج وأجرة الإقامة بالمستشفى. لكني لن أسمح لهم باعتقالي!

(القط يتجه نحوه، ويحك رأسه بقدمه. ينحني له)

ما العمل يا صديقي؟ ليس أمامنا غير النافذة والباب. النافذة آمنة؛ فنحن في الطابق الأول؛ أما الباب فخطير فقد يكتشفون أمرنا ونذهب في داهية. على كل حال، أنت يمكنك أن تبقى هنا، أما أنا فلا أقدر، يعتقلوني. هل تفضل البقاء أم الرحيل معي؟

(القط يرفع ذيله)

مو. مو.

(يحمله بفرح)

إذن، لن أتركك أبدًا.

(يغلق التلفزيون. يطفئ النور. يقف بالنافذة. يرفع القط بيده)

سنذهب إلى مكان أكثر أمنًا يا صديقي. مكان لا يزعجنا فيه أحد.

(يفتح النافذة. يمد رأسه بحذر. يتلفت يمنة ويسرة. يقفز وهو يضم القط إلى صدره)

النهاية