هذه واحدة من أجمل وأمتع ماكتب وليام فولكنر، الذي أعتبر وصنوه أرنست همنجواي من أهم الكتاب المؤثرين في رواية القرن العشرين، أستلهم في أعماله تأريخ وأساطير الجنوب، الذي جعله محورا لكتاباته كما فعل مارك توين وترومان كابوت وتنيسي ويليامز، ألتحق بسلاح الطيران فترة من حياته، كتب سيناريوهات العديد من الأفلام السينمائية ومنعه الإدمان من مواصلة العمل في هوليوود، منح جائزة نوبل 1949 ووزع حصصها لمعونة الأدباء الشباب وبناء المدارس والمعاهد الثقافية للزنوج، أهم رواياته ( الصخب والعنف، سارتوريس، نور في آب، وأنا أحتضر، أهبط ياموسى) أنتهج في قصته هذه تكنيك تيار الوعي الذي بدأه هنري جيمس وجيمس جويس وكانت تمهيداً لفصلي المعتوه بنجي وكاونتن في الصوت والغضب، سابراً فيها أعماق طفل ريفي لايتجاوز الثامنة، يصطدم بالعالم لأول مرة من خلال أحاسيسه، فيسمي الأشياء بمسمياتها كما تفرضها مشاعره، فالأب (باب ) والأم ( ماو ) والشريف لاو) كتبت القصة بلهجة جنوبي المسيسبي، أخرجت القصة في فيلم سينمائي2003 ونالت أوسكار الأفلام القصيرة.
المترجم
أنا و(بيت) سنذهب عند العجوز( كليجروز) للأستماع الى الراديو هذا المساء، أنتظرنا قبل أن ننزل هناك حتى ما بعد العشاء، ومع حلول الظلام، كنا واقفين في الخارج أمام شباك صالته، نرهف السمع، لأن زوجة العجوز طرشاء، لذا نراه يفتحه على أعلى ما يستطيع، فنسمعه بوضوح كما تسمعه بسهولة زوجته، مثلما حسبت، حتى ولو كان الشباك مغلقاً ونحن خارج الدار.
كنت أتساءل في تلك الليلة " من هم اليابانيون، وما هي بيرل هاربر ؟" فيقول بيت "هش" .. لذا نبقى واقفين هناك ما باستطاعتنا، نستمع الى صاحبنا الذي يتحدث في الراديو، من غير أن أصدر ضجيجاً، بعدها قال صاحبنا أنه انتهى لهذا اليوم، فأخذنا أنا وبيت طريق العودة صاعدين الى منزلنا. حينها أخذ بيت يحكي لي عنهم، لأنه أقترب من العشرين، أجتاز دراسته الأبتدائية منذ حزيران يونيو الماضي، ويعرف الكثير، اليابانيون ألقوا القنابل على بيرل هاربر، وبيرل هاربر تقع وسط المياه.
- وسط أية مياه ؟ (سألته ) خلف حدود الولاية، أو أبعد من أكسفورد ؟
- لا..( قال بيت ) عبر المياه الهائلة، في المحيط الهادي.
بوصولنا الى المنزل، وجدنا " ماو وباب" مستغرقين في النوم، أستلقينا أنا وبيت على الفراش، لكنني مازلت لا أفهم أين تكون بالضبط، أخبرني بيت مرة أخرى – المحيط الهادي. ( ماهي مشكلتك ؟) قال بيت ( ستبلغ التاسعة من عمرك، وقد التحقت بالمدرسة منذ أيلول، ألم تتعلم شيئاً لحد الآن.؟) ( أظن أننا لم ندرس عن المحيط الهادي بعد ). قلت.
كنا مستمرين في زرع الكرسنة القطنية، حيث يتوجب علينا الانتهاء منها قبل الخامس عشر من تشرين الأول نوفمبر، وباب يتملص دائماً، أنا وبيت فقط كنا نعرفه، وكان علينا أدخال الحطب أيضاً، ولكن في كل ليلة أعتدنا أنا وبيت النزول الى بيت العجوز كليجروز لنقف خارج شباك صالته في البرد والاستماع الى الراديو، بعدها نعود الى المنزل ونستلقي على أفرشتنا فيشرح لي بيت كل شيء، يخبرني حيناً، ولا يخبرني حيناً آخر، ويبدو كما لو أنه لا يريد التحدث بذلك أكثر، قال لي أغلق فمك لأنه يود أن ينام، ولكنه لا يبغي النوم.
بقي مضطجعاً هناك، متكوماً دون أن يأتيه النعاس، لابد أن هناك شيء، لا أشعر به سوف يحصل، لكأنه زعلان مني، أو كأنه خائف من شيء، ولكن ليس هذا أيضاً، لأنه لم يكن لديه ما يخشى عليه، وهو لم يتخلف مرة كما يفعل باب، يتركه يفعل ذلك، حيث أعطاه عشرة أفدنة بعد نجاحه في الابتدائية، وكنا نعلم أنا وبيت أن باب لا يسره أن يفرط بالأفدنة العشرة، ولكن يريده أن يهتم بنفسه، و بيت زرعها كلها بالكرسنة، حتى قام بتكسيرها ونشرها للشتاء القادم، ليست تلك هي المشكلة أذن، فهناك شيء آخر، مع ذلك داومنا الذهاب عند منزل العجوز كليجروز والاستماع الى مذياعه، الآن هم في الفليبين، لكن الجنرال ماك أرثر أوقفهم، رجعنا الى المنزل ثم تمدد كل منا على الفراش، غير أن بيت أمسك ولم يتحدث معي نهائياً، بقي رابضاً هناك كأنه في كمين، وحينما لمسته أحسست بطرف رجله قد تصلب كالحديد. بعد فترة وجيزة، غلبني النوم.
ذات ليلة بعدها – كانت تلك أول مرة لا يتكلم فيها معي ماعدا قفزته نحوي طالباً التوقف عن تقطيع الأخشاب التي جلبها، ثم بادرني قائلاً :
- علي أن أذهب.
- تذهب، أين ؟ ( سألته ).
- الى الحرب ( قال ).
- قبل أن ندخل الحطب.؟
- طز في الحطب ( قال بيت ).
- حسنا ً، (قلت ) متى علينا البدء.؟
لكنه حتى لم يود سماعي، وبقي متكوراً هناك في الظلام كالحديد، ( علي الذهاب ) قال. (لاأسمح لأحد الأعتداء على بلدي بهذه الطريقة ).
- نعم ( قلت أنا ) حطب أو لاحطب، علينا الذهاب كما أظن.
في ذلك الوقت بدا أنه سمعني، لكنه عاود الأستلقاء كالسابق، مغيراً هيئته الأولى،
- أنت (قال ) الى الحرب.؟
- تحمل أنت البندقية الكبيرة وأنا أحمل واحدة صغيرة.( قلت ).
أخبرني أنني لايمكن لي الذهاب، في البداية اعتقدت أنه لا يريد لي البقاء بالقرب منه، كما يفعل حينما يتركني ويذهب لمغازلة فتياته، حتى قال لي أن الجيش لا يسمحون لي بالالتحاق لأنني صغير جداً، علمت أنه يعنيه حقاً، لذا فمن المستحيل ذهابي بأية طريقة كانت، على أية حال لم أصدق ذلك الا وقت أن غادر وحده، حينها فقط أقتنعت أنه لم يشأ اصطحابي مهما كانت الأحوال.
- سأقطع لك الخشب، وأجلب من أجلك الماء أذن (قلت) تحتاج هناك الى خشب وماء.
على كل بدأ يستمع الي الآن، ولم يعد مثل الحديد كالسابق، أنقلب على الجانب، وضع يده على صدري، لأنني كنت مستلقياً على ظهري ملتصقاً بالفراش.
- لا ( قال ) ستبقى هنا لكي تساعد باب.
- أساعده بماذا ؟ (قلت ) أنه لم ينجز أي شيء، وليس باستطاعته أن يفارق مكانه،
بإمكانه الاعتناء بالمزرعة الصغيرة لوحده بينما أنا وأنت نقاتل هؤلاء اليابانيين، علي الذهاب، فلو وجب الذهاب عليك، فقد وجب علي أيضاً.
- كلا ( قال بيت ) أسكت الآن، أصمت، ( كان يعنيه، أنا أعرفه، فماأن نبس بفمه
" إش" حتى حبست أنفاسي ملتزماً الهدوء.
- أذن، فلاسبيل لذلك ؟.( قلت ).
- مطلقاً (أجاب بيت ) لن تستطيع الذهاب، فأنت صغير جداً أولا، وثانياً...
- حسن ( قلت )
- أذن أصمت وأتركني لأنام.
أصدر هش ثانية، وعاد للاستلقاء، اضطجعت أنا الآخر متظاهراً بالنوم، وسرعان ماأتاه الغفو، فعرفت أن الأقدام على التوجه للحرب ذلك ما كان يؤرق باله، والآن بعد تقريره الرحيل، فلم يعد ثمة مايشغله.
صباح اليوم التالي، أخبر باب وماو بالأمر، فانفجرت ماو بالبكاء حالما سمعته.
- كلا.. ( صرخت باكية ) لن أدعه يذهب، حتى ولو تحتم علي أن أذهب مكانه أن استطعت، لا أريد أن أحمي وطني، فليأخذه اليابانيون كله ويحتفظوا به، ماداموا سيتركونني وعائلتي وأطفالي لحالنا، أنا أذكر أخي مارش في الحرب الأخرى، حينما ذهب ولم يتعد التاسعة عشرة، حيث لم تستطع أمنا استيعاب الأمر كما أنا الآن، لكنها أخبرته أن كان عليه الذهاب فليذهب، لذا فاذا مضى بيت لهذه، فليمض، فقط لا أريد أن أفهم لماذا ؟.ول ايسألني أحد.
لكن باب الوحيد الذي تكلم (الى الحرب ) قال (لا أرى ذلك نافعاً، فأنت ماتزال صغيرا على الأرسال لهذه المهمات، فلم (يغزو) الوطن أحد، رئيسنا في ( واشنطن دي سي) يراقب الوضع وسيبلغنا، أضافة كما ذكرت والدتك الآن، في تلك الحرب، أرسلت أنا الى تكساس، مكثت فيها ما يقارب الثمانية أشهر حتى أوقفت المعارك، يبدو لي أنه شبيه بما يحدث الآن، سواء بما حصل لعمك الذي جرح في ميادين المعارك الفرنسية، يكفي أنني خلال حياتي ساهمت في حماية الوطن، وماذا سأتمكن فعله من أجل الحقل أثناء غيابك ؟ يلوح لي أنني سأتخلى عنه.
- على ما أتذكر أنك تخليت عنه منذ وقت طويل.(قال بيت ) على كل حال، فأنا نويت الذهاب، وسوف أرحل.
- بالطبع عليه الذهاب ( قلت أنا ) فهؤلاء اليابانيون...
- أقفل أنت فمك (صرخت ماو باكية ) لم يكلمك أحد، توجه وأجلب قبضة من الحطب، هذا كل ماعليك أن تفعله.
لذا أرسلت لجلب الحطب، وطوال اليوم الثاني، حينما خرجنا أنا وبيت وبيب لجمع كل ما نتمكن عليه من أخشاب، في ذلك الوقت، قال بيت أنها فكرة باب لتهيئة كمية هائلة من الحطب بجانب الجدار تخزن مع الكمية التي لم تستعملها ماو بعد. استعدت ماو لتجهيز بيت، غسلت ورتبت ملابسه، وطبخت له زاداً ملء علبة أحذية، وفي تلك الليلة كان نشيجها المستمر - وهي تضرب بقبضتها الأرض - يصلنا ونحن ننطرح على الفراش، حتى نهض بيت بعد فترة، وهو في قميصه الليلي متوجهاً اليها، فلم أسمع مادار بينهما، الى أن تكلمت ماو :
- عليك الذهاب، وأنا أريدك أن تذهب، ولكنني لا أفهمه، ولا أريده، ولا تتوقع مني ذلك.
أخيراً عاد بيت الى الفراش وأستلقى من جديد ,متألماً كأنه يحمل حديداً فوق ظهره،
بعدها قال، دون أن يوجه حديثه لي، أو لأي شخص آخر ( سوف أذهب، يجب الذهاب)
- أذن ستذهب ( قلت ) لهؤلاء اليابانيين...
التفت بصعوبة، محركاً جسده بجيشان، ناظراً الي من خلال العتمة.
- على كل حال، أنت بخير(قال)كنت أتوقع مصاعب أكثر معك، أكثر منهما مجتمعين.
- أحسب أنني لا أستطيع منع نفسي أيضاً. (قلت) بل ربما لن تطول السنين فأغدو كبيراً كي أذهب هناك. ربما سيأتي يوم وألتحق بك.
- أأمل أن لا تفعل (قال بيت ) الناس لا تذهب الى الحرب من أجل التسلية، فالرجل لا يترك والدته ميتة من البكاء فقط من أجل أن يتسلى.
- أذن، لم أنت ذاهب ؟ ( سألته ).
- مفروض علي ( قال ) سأخرج الآن، فأخلد الى النوم، يجب أن ألحق بذلك الباص عند الصباح.
- حسناً ( قلت) سمعت تفصلنا عن" ممفس" مساحات شاسعة، كيف ستعرف مكان الجيوش؟
- سوف أسأل بعضهم عن مكان الالتحاق (قال بيت ) عد الى النوم الآن.
- هل هذا كل ما ستسأله، أين يمكنني الالتحاق بالجيش ؟ (قلت ).
- نعم، ( قال بيت وأعطاني ظهره ثانية ) أغلق فمك ونم.
نمنا، تناولنا فطورنا في الصباح التالي على ضوء الفانوس لأن الباص لا يأتي إلا بعد السادسة، ماو لم تعد تبكي الآن، فقط بدت مشغولة متجهمة، وهي تضع الأفطار على المنضدة، بينما نحن نأكل، وانتهت من حزم أمتعته، غير أنه لم يرغب باصطحاب أمتعة للحرب، لكن ماو أصرت أن الناس المحترمين، لا يتوجهون الى أي مكان، حتى الى الحرب، دون ملابسهم وغياراتهم الأخرى في الحقائب. لذا فقد ملأت صندوق الأحذية الفارغ بالدجاج المقلي، والبسكويت، كما وضعت أنجيلاً، أيضاً، حتى حان وقت الرحيل، لم نكن نعرف أنها لا تريد مرافقتنا الى الباص، وأكتفت بجلب قبعته ومعطفه، وهي مازالت تفعل ذلك بغير بكاء، فقط ظلت واقفة ويدها فوق كتفه، دون حراك، مكتفية بلمسه، وقد بدت بنفس هيئة بيت القوية المتصلبة التي أظهرها في الليلة السابقة عندما التفت نحوي في الفراش وأخبرني أنني بخير على أية حال.
- لن يستطيعوا أخذ البلد والاحتفاظ به، ولن أقلق لشأنهم (كانت تقول، بعدها قالت )
لا تنس من تكون، فلست غنياً، وبقية العالم، كالفرنسيين حتى لم يسمعوا بك، لكن ما يجري في عروقك دم حسن، لا تنس ذلك.
بعدها قبلته، وخرجنا من البيت، فحمل باب أمتعته شاء أم أبى، لم يحن الوقت بعد، فتوقفنا لفترة على الطريق الخارجي قرب صندوق البريد، فلاحت لنا أنوار الباص القادم، راقبته حتى أصبح قريباً منا، فأشار اليه بيت، بعدها أخذ ضوء النهار يبزغ بينما كنت منشغلاً بمراقبة أنوار الباص، حيث كنا أنا وبيت نتوقع أن يقول باب شيئاً آخر من كلماته الغبية، كما فعل في السابق، حول جرح العم مارش في فرنسا وتلك الرحلة التي أتخذها الى تكساس، في 1918 والتي يراها كافية لحماية الولايات المتحدة في 1942، لكنه لم يقل، كما أنه فعل شيئاً حميداً، حيث قال فقط ( وداعاً يا بني، تذكر دائماً ما أوصتك أمك، وأكتب لها حالما تجد متسعاً من الوقت) بعدها صافح يد بيت، تطلع الي بيت لحظات، وربت بيديه فوق رأسي، ثم راح يفركه بقوة، ويعتصره حتى كاد يخلع رقبتي، ثم قفز الى الباص، فقام الرفيق بغلق الباب، تحرك الباص ببطء أول الأمر، وراح يبعث همهمة كالطحن، ويتعالى أنينه شيئاً فشيئاً، ثم أنطلق مسرعاً، مع مصباحيه الحمراوين الصغيرين على الجوانب، وهما يتصاغران قليلاً قليلاً حتى تحولا لمصباح واحد، بدأ يتراقص متلاشياً في البعد، حتى أختفى بعدها الباص عن النظر تماماً، عندها أجهشتُ بالبكاء، ذلك لأنني لم أبلغ عمر التاسعة وهذا كل شيء.
عدنا أنا وباب الى البيت، بقينا نشتغل في تقطيع خشب الشجر أغلب النهار، ولم أنل أستراحتي الا وقت الظهيرة، أخذت مصيادتي الصغيرة ,وأحببت أن أصطحب معي بيضات طيوري أيضاً، فبيت أعطاني مجموعته، وساعدني بجمع بويضاتي، وهو يحب مثلي أن أخرج الصندوق لنتفرج عليها معا، رغم بلوغه العشرين، لكن الصندوق كبير، ولا أستطيع حمله كل تلك المسافة ,وأخشى عليه، لذا فلن آخذ غير بيضة الشقبوق لأنها أفضلهن، غطيتها بعلبة الثقاب، وأخفيتها مع المصيادة في ركن الحضيرة، بعدها تناولنا العشاء، وذهب كل الى فراشه، فلم أتحمل التفكير في البقاء في تلك الغرفة وذلك الفراش حتى ولا لليلة واحدة، فقط لم أحتمل البقاء، سمعت شخير باب، لكنني لم أسمع صوت ماو، سواء أكانت نائمة أم لا، وأحسب أنها قد جفاها الكرى، فخلعت حذائي ورميته من النافذة، وتسلقت كما كنت أرى بيت يفعل في السابعة عشرة من عمره، حينما يمنعه باب من الخروج، أرتديت حذائي، مضيت الى الحضيرة، أخذت مصيادتي وبيضة الشقبوق وأتجهت صوب الطريق العام.
لم تكن باردة كثيراً، ولكنها شديدة الظلام، وقد تمدد الطريق الخارجي العام أمام نظري، كأن لا أحد يستعمله، فأمتد الى منتصف المسافة كأنما ألقي هناك، لذا فستدركني الشمس قبل أن أنتهي من قطع الأميال الأثنين والعشرين الى جفرسون، لكنها لم تطلع، وحل الفجر ما أن أجتزت التل صوب المدينة، لم أشم رائحة أفطار في الأكواخ، وتمنيت لو جلبت معي بعض البسكويت البارد، كانت أمنيتي متأخرة، بيت أخبرني أن ممفيس تقع بجوار جيفرسون، لكنني لم أعلم أنها على بعد ثمانين ميلاً، فمكثت هناك في الساحة الفارغة، حتى أنتشر ضوء النهار ومصابيح الشارع مازالت مشتعلة، الشريف يحدق، وقد تبقى لي ثمانون ميلاً تفصلني عن ممفيس، لم أقطع طوال الليل سوى أثنتين وعشرين،
ففي الوقت الذي سأصل فيه ممفيس، سيكون بيت قد بدأ رحلته الى بيرل هاربور.
- من أين أتيت ؟ (قال الشريف، فأخبرته للمرة الثانية )أريد الذهاب لممفيس، أخي هناك.
- تعني أن ليس لك أحد هنا ؟(قال الشريف ).
- لا أحد ماعدا أخي.
- ماذا تفعل هنا، وشقيقك في ممفيس ؟
فأخبرته ثانية، (علي الذهاب الى ممفيس، ليس لدي وقت أضيعه في الكلام عن ذلك، سأوفر الوقت للمسير، يجب أن أقابله اليوم ).
- تعال هنا.( قال الشريف ).
ذهبنا عند الشارع الآخر، فرأيت باصاً كالذي حمل بيت صباح الأمس، غير أنه لم يشعل أضويته الآن، كان فارغاً، وهناك مكتب يشبه مكتب القطار، مع طاولة للتذاكر وفيها جلس رفيق، قال لي الشريف ( أجلس هناك ) فجلست على المصطبة، وخاطبهم ( أريد استعمال الهاتف ) تكلم في التلفون لدقائق، وأغلق السماعة، قائلاً للرفيق خلف المكتب ( خذ بالك منه، سأعود حالاً ما أن تفرغ مسز هبرشام من ارتداء ملابسها والاستعداد) ثم توجه الى الخارج، فنهضت الى المكتب.
- أريد الذهاب الى ممفيس. ( أخبرته ).
- بالتأكيد (قال الرفيق) خذ مكانك على المصطبة الآن، سيعود مستر فوت بعد لحظات.
- أنا لا أعرف مستر فوت ( قلت ) أريد أن أستقل ذلك الباص الى ممفيس.
- ألديك مبلغاً من المال ؟( قال ) سيكلفك أثنين وسبعين سنتاً.
أخرجت علبة الثقاب وكشفت له بيضة الشقبوق ( سأبادلك بهذه من أجل الأجرة الى ممفيس ) قلت.
- ماهذا ؟ ( قال ).
- بيضة شقبوق ( قلت ) لم تر مثلها من قبل، أنها تساوي دولاراً، سآخذ بدلها أثنين وسبعين سنتاً.
- لا.. (قال ) صاحب الباص مصر أساسا ً على استلامها نقداً، فأذا بدأت مقايضة التذاكر ببيوض الطيور والماشية وما شاكل ذلك، سيقومون بطردي، فعد الى الجلوس على المصطبة كما أشار مستر فوت....
هرعت الى الباب، لكنه أمسكني، وضع أحدى يديه على طاولة التذاكر وبقفزة واحدة قبض على قميصي بيده الأخرى، أسرعت بحركة خاطفة بإخراج سكينة الجيب من ملابسي.
- تبعد يدك عني أو أستعملها (قلت ).
حاولت تفاديه والركض الى الباب، لكنه لم يتحرك بسرعة كالكبار الذين رأيتهم، مثل بيت على الأقل، و قاطعني حائلاً بظهره ما بيني والباب، رافعاً أحدى قدميه قليلاً، فلم يعد لي مجال للهرب، ( عد هناك وأجلس على المصطبة ) قال.
لم يترك لي مخرجاً، وبقي واقفاً عند الباب، لذا اضطررت للرجوع الى المصطبة، بعدها بدا المكتب ممتلئاً بالناس، وكان الشريف بينهم مرة أخرى، وامرأتان بمعاطف فراء ووجوه مصبوغة، تسمروا كلهم هناك في أستعداد يقظ، المرأة الكبيرة والأخرى الصغيرة، أستمرتا بالتحديق.
- أنه لا يملك جاكيتاً.( قالت الكبيرة ) مالذي جعله يأتي وحيداً.
- أنا أسألك، ( قال الشريف ) لم أفهم منه سوى أن شقيقه في ممفيس ويريد أعادته.
- هذا صحيح ( قلت ) علي الوصول الى ممفيس اليوم.
- بالطبع يجب أن تصل ( قالت الكبيرة ) هل أنت متأكد أنك ستجد شقيقك حالما تصل هناك؟.
- أظن أنني سأقدر ( قلت ) أنه الأخ الوحيد الذي عرفته في حياتي، وأعتقد أنني سأتعرف عليه أيضاً لو رأيته مرة أخرى.
نظرت الي المرأة الكبيرة، ( الظاهر أنه لا يعيش هناك ) قالت.
- من المحتمل أنه لا يعيش هناك ( قال الشريف )لا يمكن القول مع ذلك أنه قد يعيش في مكان ما، عبر التلال أو غيره، فهم ينتشرون هناك هذه الأيام طول الليل حتى مجيىء الصباح، أولاداً وبنات، لو يأخذونها مشياً لبلغوا ميسوري أو تكساس، منذ البارحة، هذا كل ما نعرفه، لكنه لا يبدو متيقناً من وجود أخيه في ممفيس، كل ما علينا فعله أن نرسله هناك ونتركه يقرر.
- نعم. ( قالت الكبيرة ).
جلست الشابة الى جواري على المصطبة وقد فتحت حقيبتها اليدوية، مخرجة قلم حبر وبضع وريقات.
- الآن، حبيبي ( قالت الكبيرة ) سنذهب لنرى أن كنت ستجد أخاك، ولكن علينا تعبئة فايل لملفك التاريخي أولاً، نريد معرفة أسمك، وأسم شقيقك، ومكان ولادتك، وأين توفي والداك ؟
- لا، لست محتاجاً الى ملف تاريخي (قلت ) كل ما أريده الوصول الى ممفيس اليوم.
- أرأيت ؟ ( قال الشريف، قالها وكأنه يتمتع بقولها ) هذا ما حكيته لك.
- أنت محظوظ بمسز هابرشام ( قال الرفيق ) لا أعتقد عنده مسدساً، لكن بمقدوره إشهار سكينه بوجه أي واحد بسرعة فائقة.
لكن المرأة بقيت على وقفتها، وهي تطيل لي النظر.
- حسن ( قالت ) أنا في الحقيقة لا أعرف ما علينا القيام به.
- أنا أعرف ( قال الرفيق ) سأعطيه تذكرة على حسابي، وأعتبره حامياً لباص الشركة من مثيري الشغب وقاطعي الطريق، وعندما يخبر مستر فوت هيئة مجلس المدينة، سيقدرونني بميدالية، هاي، مستر فوت ؟
لكن أحداً لم يأبه لكلامه، وظلت المرأة الكبيرة تتطلع نحوي، حتى قالت ( حسناً ) للمرة الثانية، وأخرجت دولاراً من محفظتها ناولته الى الرفيق قاطع التذاكر.
- أعتقد أنه محسوب على أجرة الأطفال، اليس كذلك ؟
- حسن أممم... ( قال الرفيق) لا أعلم بالضبط ماذا تقول الأنظمة، سأطرد أن لم أرسله دون أشارة، لكنني سأقوم بالمجازفة.
بعدها خرجت المرأتان، بعدها جلب لي الشريف سندويتش، سلمه لي.
- متأكد أنك ستجد ذلك الأخ. ( سألني ).
- لدي قناعة أنني سألقاه ( قلت ) لأنني أن لم أر بيت أولاً، فسيراني هو، أنه أيضاً يعرفني.
بعدئذ غادرنا الشريف نهائياً، هو الآخر، فأكلت الساندويتش، وأقبل أناس آخرون، أبتاعوا التذاكر، حتى أعلن الرفيق أن وقت الأنطلاق قد حان، فصعدت الى الباص تماماً كما فعل بيت، وبدأنا الرحلة.
شاهدت المدن كلها، رأيتهن، وما أن أستمر الباص في السير، حتى وجدتني أضعف لسلطان النوم، لكن هنالك الكثير الذي لم أره من قبل، أجتزنا جيفرسون، وعبرنا حقولاً عديدة وغابات، بعدها وصلنا مدينة مليئة بالدكاكين والحانات والمحالج وصهاريج المياه، سرنا بموازاة خط السكة الحديدية فترة من الزمن، ورأيت أشارة اليد المتحركة، بعدها مررنا بمدن أخريات، فأضعفتني وطأة النوم، غير أنني بقيت متيقظاً حتى وصولنا مشارف ممفيس، بدت لي كأنها تمتد لأميال عديدة، أجتزنا رقعة من الأسواق والحوانيت، تصورت أنها كل شيء، لكن الباص لم يتوقف عن المسير، لكنها لم تكن ممفيس، فهي لم تأت بعد، وعدنا من جديد نتجاوز صهاريج الماء والمداخن العالية فوق الطواحين، والمحالج ومعامل النشارة، لم أعرف أبداً أنها بهذا العدد، ولا بهذه الضخامة، فمن أين لها بالقطن الكافي والألواح لتثرمها ؟ لا أدري.
بعدها لاحت لي ممفيس، أعرف أنني على صواب هذه المرة، رأيتها شامخة في الهواء، بدت كأنها دزينة من مدن أكبر من جيفرسون تجمعت على حافة حقل هائل، واقفة في الفضاء، تفوق بحجمها كل تلال مقاطعة " يوكناباتاوفا ". وما أن دخلناها حتى صار الباص يتوقف كل بضعة أقدام، كما يبدو لي، وكانت العربات المسرعة تمرق من الجانبين والشوارع مزدحمة بالناس في كل مكان في المدينة ذلك اليوم، حتى رحت أتساءل كيف تركوا كلهم المسيسبي دون أن تحرر لهم محاضر تأريخ كما أخبرني بائع التذاكر، أخيراً توقف الباص، كانت هناك محطة أخرى، أكبر من تلك التي في جفرسون، ماأن نزلت حتى قلت ( حسن ٌ، أين يلتحق الناس بالجيش ؟).
- ماذا ؟ ( قال الرفيق ). فأعدت قولي ( أين مكان ألتحاق الناس بالجيش ؟ ).
- ( أوه..) قال، ثم راح يحكي لي كيفية الوصول هناك، خفت بداية الأمر من وجودي في مدينة عملاقة كممفيس، حائراً ما لذي سأفعله فيها، وهاأنذا هنا الآن، متجاوزاً
حشد السيارات المندفعة، شاقاً طريقي بين الجموع وسط الجلبة، فكرت، ليس طويلاً حتى يذهب هؤلاء الناس، وفكرت هل أتوا كلهم للألتحاق بالجيش أيضاً ؟ سيلمحني بيت قبل أن أشاهده، لذا بقيت سائراً في كل مكان، لكنه لم يكن هناك.
حتى أنه ليس موجوداً، رأيت جندياً بأزرار كبيرة على كمه، يكتب في ورقة، واثنان من الصحاب أمامه، مع أناس عديدين، بدوا لي يتجمعون حوله، على ما أذكر، اقتربت من الجندي المنهمك بالكتابة، وخاطبته.
- أخي بيت كراير، أين أجده ؟
- ماذا ؟ ( قال الجندي ) من ؟
فأخبرته ثانية، ( ألتحق بالجيش يوم أمس، سيتوجه الى بيرل هاربر، فهل أستطيع رؤيته، أين سأجده ؟ ).الآن، أخذوا جميعاً يتطلعون نحوي، فلم أأبه لهم، ( أخبرني، أين هو ؟ ).
توقف الجندي عن الكتابة، واضعاً ذراعيه فوق المنضدة ( أوه.. ) قال ( هل أنت ذاهب أيضاً، هاه!؟ ).
- نعم ( قلت ) يحتاجون الى ماء وخشب، أستطيع تقطيعه، هيا قل لي، أين بيت ؟
نهض الجندي من مكانه ( من أتى بك الى هنا ؟) ثم قال ( أذهب من هنا، أنصرف ).
- اللعنة ( قلت ) الا تخبرني أين بيت ؟
سأغلبه أن لم يكن بسرعة الرفيق في مكتب الباص، فلم يقفز على المنضدة وأنما أستدار من حولها، هجم علي بشكل مباغت، فلم أملك الا قليل وقت للتراجع مستلاً مديتي، وما أن فتحتها حتى أصبته، فأطلق صيحة، وهو يتقهقر ويمسك يده بالثانية، حيث وقف يشتم ويصرخ.
أمسكني أحدهم من الجانب، لوحت بسكينتي لكنها لم تصله، فأمسكني أثنان من كلا الجانبين، عندها أقبل الجندي الآخر من الباب الخلفي، كان عنده جعبة ربطت بحزام على كتفه، ( ما هذا ؟ ).
- ذلك الولد الصغير جرحني بالسكين ( صرخ الجندي الأول ) حينما نطق ذلك كنت أحاول الهجوم عليه ثانية، لكن الأثنين أحكما قبضتيهما، أثنان ضد واحد، فقال الجندي ذو الجعبة الأضافية (توقف عندك يا صاحبي وأرم سكينك، لا أحد منا يحمل سلاحاً، فالرجل لا يقاتل الناس العزل بمديته ) أصغيت اليه، فصوته يشبه صوت بيت حينما يكلمني ( دعوه وشأنه ) قال لهم فأطلقا سراحي ( الآن، لم كل هذه المشكلة ؟) فحكيت له ( رأيت) قال (وأنت، تعال لكي نعرف أن كان موجوداً قبل أن يغادر ).
- كلا، ( قلت ) أنا أتيت لكي...
لكنه أستدار الى الجندي الأول الذي ربط منديلاً حول ذراعه، ( أريد أن تعثر عليه ) قال، رجع الجندي الأول الى المنضدة، ونظر في عدة أوراق ( أنه مسجل يوم أمس. أرسل مع المجموعة التي غادرت هذا الصباح الى " لتل روك ") رأيت ساعة على معصمه، أخذ ينظر اليها، ( تحرك القطار قبل خمسين دقيقة، أنا أعرف أبناء الأرياف فهم ما يزالون يتسكعون في المحطة ).
- أجلبه الى هنا ( قال ذو الجعبة ) خابر المحطة، قل لمسؤول الخدمة أن يعطه كاسكيتة، وأنت تعال معي ) قال.
كان هناك مكتب آخر الى جوار الأول، زود بمنضدة واحدة وكراس قليلة، جلسنا هناك بينما كان الجندي يدخن، ولم تمض غير فترة قصيرة، تعرفت وقع خطوات بيت حالاً، حالما سمعتها، بعدها فتح الجندي الأول الباب، فرأيت بيت داخلاً، لم يكن مرتدياً ملابس عسكرية، بدا كما تركته صباح البارحة وهو يستقل الباص، فقط تراءى لي أنها مرت على الأقل كأنها أسبوع، فقد حدثت أثناءها حوادث كثيرة، سافرت خلالها عدة أسفار، لقد أتى وهاهو الآن معي، نظر الي كما لو أنه لم يغادر بيته أبداً، ماعدا كوننا الآن في ممفيس، في الطريق الى بيرل هاربر.
- مالذي تفعله هنا بحق الجحيم ؟ ( قال ).
أخبرته (تحتاج الى خشب وماء للطبخ، أستطيع تقطيعه لك وتجهيزه ).
- لا..(قال ) سترجع الى المنزل.
- كلا، يابيت ( قلت ) علي الذهاب أنا أيضاً، لقد أوجعوا قلبي، يا بيت.
- لا ( قال بيت ناظراً الى الجندي ) لا أعرف ما لذي حصل له، أيها الضابط (قال) أنه لم يعتد على أحد بسكين طيلة عمره.
نظر الي ( لم فعلت ذلك ؟ ).
- لاأعرف ( قلت ) فقط أردت أن أأتي هنا، فقط أردت أن ألقاك.
- حسناً، لا تفعلها ثانية، أتسمعني ؟ (قال بيت ) ضع السكين في جيبك وأحتفظ به هناك، أذا سمعت مرة أنك أعتديت على أحد، سأعود من أي مكان أكون فيه، وأطلق عليك النار، أتسمعني ؟
( سأقطع رقابهم لو أعادوك لتبقى ) قلت ( بيت ) قلت (بيت ).
- ( كلا ) قال بيت، لقد خفت حدة صوته وسرعته الآن، أصبح هادئاً، فعرفت أنني لن أستطيع تغيير رأيه ( يجب أن تعود الى البيت، عليك رعاية ماو، أعتمد عليك بالأعتناء بأفدنتي العشرة، أريدك أن ترجع الى البيت هذا اليوم، هل سمعت ؟
- سمعت ( أجبته ).
- أيستطيع الرجوع لوحده ؟ (قال الجندي ).
- لقد جاء هنا لوحده ( قال بيت ).
- أستطيع العودة، كما أعتقد ( قلت ) أنا أعيش في مكان واحد لا أظنه قد تغير.
أخرج بيت دولاراً من جيبه، سلمه لي ( ستشتري بهذا تذكرة مباشرة الى صندوق بريدنا ) قال، ( أريدك أن تنتبه للضابط، سيأخذك الى موقف الباص، عد الى البيت وأهتم بماو وأفدنتي العشرة، وأترك تلك السكين اللعينة في جيبك، أتسمعني ).
- نعم، بيت ( قلت ).
- حسناً ( قال بيت ) الآن علي الذهاب، ( وضع يده على رأسي من جديد، لكنه لم يضغط عنقي هذه المرة، مربتاً على شعري لدقيقة، ، ولا أعرف ما إذا أنحنى وقتها وقبلني أم لا، فبقيت أسمع وقع خطواته وأغلاقة الباب، فلم أعد لرفع رأسي، وهذا كل شيء، بقيت متسمراً في مكاني، أتلمس موضع قبلة بيت، أنطرح الجندي على كرسيه، الى الوراء، ناظراً عبر النافذة وهو يسعل، مد يده الى جيبه وناولني شيئاً، دون أن يلتفت، كانت قطعة علكة.
- أشكرك جداً ( قلت ) حسن، من الأفضل أن أعود، العودة أسلم لي.
- أنتظر ( قال الجندي، بعدها أخذ يتلفن، فقلت ثانية (من الأفضل أن أعود )، فقال ثانية (أنتظر، أتذكر ما لذي أخبرك بيت ؟ ).
لذا رحنا ننتظر، عندها رأيت امرأة جديدة تدخل، كبيرة هي الأخرى، بمعطف فرو، أيضاً، جاءت مبتسمة، ليس لديها قلم حبر، ولا ملف تأريخي، ما أن دخلت حتى نهض الجندي من مكانه، أخذت تنظر فيما حولها مسرعة حتى لمحتني، وأقتربت واضعة يدها فوق كتفي، برقة ولين، كما كانت تفعل ماو.
- تعال معي ( قالت ) لنذهب الى البيت لتناول الطعام.
- لا.. ( قلت ) علي أن آخذ الباص الى جيفرسون.
- أعرف، لدينا كثير من الوقت، سنذهب الى البيت ونتناول الغداء أولاً.
كانت لديها عربة، وهانحن الآن وسط السيارات الأخرى، لكننا أدنى من مستوى الباص، وكان الناس قريبين مني، فلو كنت أعرفهم لتكلمت معهم، بعد فترة توقفت بنا العربة، ( هنا.. ! ) قالت، نظرت الى البيت الضخم، أذا كان هذا بيتها، فلابد لها عائلة كبيرة، ولم يكن كذلك، أجتزنا الهول، الذي نمت فيه الأشجار، وتوجهنا الى غرفة صغيرة، ليس فيها أحد غير زنجي يرتدي بزة نظيفة، لامعة تفوق تلك التي يرتديها بقية الجنود. أغلق الزنجي الباب، فصحت متذمراً( أنظر عندك ) ثم سكت، كان أمراً عادياً، فالغرفة الصغيرة أرتفعت بنا فقط ثم توقفت، وأنفتح الباب، فوجدنا أنفسنا في الهول الآخر، فتحت السيدة الباب ودخلنا، كان هناك جندي واقف، بشرائط ملونة مع طائرين فضيين فوق أكتافه.
- هانحن هنا (قالت السيدة ) هذا الكولونيل ماك كيلوج، الآن ماذا تحب أن تأكل ؟
- أظن أنني سآخذ فقط بيضاً وقطعة هام وقهوة ) قلت.
تناولت التلفون وهي واقفة ( قهوة ) قالت ( متى بدأت التعود على القهوة ؟ ).
- لا أعرف ( قلت ) أظن قبل أن تكون لي القدرة على التذكر.
- بلغت حوالي الثامنة، أليس كذلك ؟ ( قالت ).
- لا ( قلت ) تجاوزت الثامنة بعشرة شهور، سأدخل في الشهر الحادي عشر.
خابرت بعدها، وجلسنا هناك أتحدث لهم عن بيت الذي تركنا ذلك الصباح للذهاب الى بيرل هاربور وكيف فكرت أن أتبعه، لكن علي العودة الى البيت من أجل الأم والأعتناء بالأفدنة العشرة. قالت أن لهم ولداً بمثل حجمي أيضاً، أرسلوه الى المدرسة في الشرق، بعدها أقبل زنجي آخر، يرتدي معطفاً قصيراً، يدفع أمامه عربة صغيرة عليها قطعة اللحم والبيض وكوباً من الحليب وقطعة كيك الباي بالفاكهة أيضاً، أعتقدت أنني جائع، ولكن ما أن وضعت اللقمة الأولى بفمي، حتى أحسست بعدم قدرتي على أبتلاعها، فنهضت مسرعاً.
- يجب أن أذهب ( أخبرتهم ).
- أنتظر ( قالت ).
- يجب أن أذهب ( قلت ).
- دقيقة واحدة ( خاطبتني ) لقد خابرت من أجل عربة، ستكون هنا خلال دقائق، ألا تستطيع شرب الحليب على الأقل، أو بعض قهوتك ؟
- كلا (قلت ) لست جائعاً، سآكل حالما أصل بيتنا، عندها رن جرس التلفون، لكنها لم تجب.
- هاهنا ( قالت ) العربة وصلت.
فنزلنا تلك الغرفة الصغيرة المتحركة بصحبة الزنجي ذي البزة، هذه المرة كانت سيارة كبيرة يقودها عسكري، جلست في المقدمة معه، ناولت الجندي دولاراً ( ربما سيجوع في الطريق ) قالت (حاول أن تجد له مكاناً ملائماً ).
- أوكي، مسز ماك كيلوج ( قال الجندي ).
بعدها أتخذنا طريق العودة مرة أخرى، الآن بدأت ممفيس تغيب عن ناظري، وتلتمع في الشمس المتوهجة، بينما كنا ندور من حولها، والشيء الأول الذي عرفته، رجوعنا الى نفس الطريق الخارجي الذي سار عليه الباص ذلك الصباح - رقعة الحوانيت، والمحالج والطواحين. وممفيس تبتعد ميلاً بعد ميل، فصارت تبدو لي كما رأيتها لاول مرة عند البداية، راحت تختفي رويداً بين الحقول والغابات، وتبتعد مسرعة، وماعدا وجود ذلك الجندي، كأنني لم أكن فيها بالمرة، زادت سرعتنا الآن، بهذا المعدل سنصل البيت قبل الموعد الذي توقعته، تصورت نفسي راكباً بصحبة فرنسي متجمعاً هنا في العربة الكبيرة التي يقودها الجندي، فشرعت فجأة بالنشيج، لم أستطع الثبات، ولم أقدر على التوقف.
كنت غارقاً في البكاء، بينما أنا جالس هناك الى جوار الجندي، والسيارة تنطلق بأقصى ما تستطيع من السرعة، ناهبة بنا الطريق.
William Faulkner - two soldiers