تبدو طبعة هذا الكتاب، «أحدوثة سان مِيكيل»، بموضوعها ودقتها وأسلوبها، كأنها صنيعة الأوهام؛ صدرت هذه الطبعة سنة 1949عن دار نشر عريقة، عُرِفت بمنتوجاتها من الكتب العربية القديمة، هي «شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر»، فما بالها وقد نشرت كتاباً ليس قديماً ولا عربياً إنما هو ترجمة بديعة لكتابٍ أدبيٍّ أوروبيٍّ ذي حداثة، تولى تعريبَه ومواكبتَه بالهوامش مُعرِّبٌ بارع، هو السيد «وديع فانوس المهندس» الذي لم يُذَع له اسمٌ من قبل ولا من بعد!
الكتاب، الذي كتبه الدكتور «آكسيل مونتيه» بالإنجليزية ثم أعاد كتابته بالسويدية، استُهل بعبارةٍ كالآيات؛ «إذا أنت لم تبذل للبشر ذوْبَ نفسِك فباطلٌ كل ما تهبهم إياه»، وقد اهتم النقادُ به وانشغف القراءُ منذ أنْ نُشِر للمرة الأولى سنة 1929، فتُرجم إلى لغاتٍ كثيرة، وطُبِع مراتٍ عديدة، ولم يُستَقر له على تصنيف. هو كتابٌ يحوي نثاراً من تجارب حياة كاتبه ولمحاتٍ مشوقة من ذكرياته كطبيب، وهو كتابٌ في الحكمة لا يني - في غدوه وفي رواحه - يتملَّى الموتَ باستتارٍ لائق، لكن حمولته الضافية لا تبقيه فحسب كتابَ ذكريات ولا كتابَ حِكمة، ولعله، في كل الأحوال، عملٌ روائي مُلهِمٌ قائمٌ على وقائع مدهشة وساخرة، تظهر فيه مقاطع وفنون روائية كانت تبشِّر آنذاك بما سوف يسحر القارئَ، بعد عشرات السنوات، في آدابٍ ستزدهر لاحقاً في أمريكا اللاتينية، ويأتلق سردُه بعصفاتٍ تمس الروحَ، لَكأن «آكسيل» كان يجاوب نداءاتٍ أتته من كُتَّابٍ بمكانة «دوستويـﭭـسكي» و«تولستوي»، إلا أنه هو «آكسيل مونتيه» الذي كان يصَّاعد في مداره؛ ويكتب: «أبسط الطرق لوضع كتاب عن نفسك، هو أن تبذل ما في وسعك لتحصر فكرك في الآخرين»، «كم منا يجسرون على التصريح بإحساسهم أن عبء أحزانهم كان ليبدو أكثر خِفة إذا ما طوى الحِدادُ كلَّ مَن حولهم، وكأن الجراحَ في جنوبهم تندمل إذا ما تدفق الدمُ من كلوم الكثيرين غيرهم؟» «يستطيع المرءُ أن يتحمل كثيراً إذا ما تماسك؛ فيمكنه أن يحيا بلا أمل وبدون أصدقاء أو كتب، بل بدون موسيقى طالما كان بإمكانه الإصغاء إلى تأملاته الخاصة، وإلى تغريد عصفورٍ قُرب نافذته، وإلى صخب البحر البعيد، بل لقد أُنبئتُ – في ملجأ بريطاني لعميان الحرب – أن بمقدور المرء، أكثر من ذلك، أن يحيا بلا نور، بيد أنه لا يحيا دون نوم».
وُلِد «آكسيل مونتيه» في ستوكهولم في 31 أكتوبر 1857، وحصل على مؤهلاته الطبية من باريس سنة 1880، وزامَلَ أساطين الطب الباريسيين قبل اضطراره إلى مغادرة فرنسا صوب إيطاليا. وفي سنة 1903 اختير كمستشارٍ طبي لملكة السويد «صوفيا ماريا ﭬـيكتوريـا»، وبعد وفاتها في سنة 1930 أبقته العائلة الملكية مُقرَّباً إليها، وقضى سنوات الحرب العالمية الثانية ضيفاً بالقصر الملكي إلى أن توفي به في 11 فبراير 1949. كتب قليلاً من الكتب؛ أبرزها هو هذا الكتاب اللاذع الغني؛ «أحدوثة سان مِيكيل». التقى وتصادق مع بعض كُتَّاب زمانه؛ من بينهم الكاتب الفرنسي «جي دي موباسان» (1850-1893)، الذي أسماه أصدقاؤه «الفحل الحزين» لكثرة تواتر النساء على مخدعه، وقد تحاورَ مع عقله القلِق المفعم بهواجسه المنهِكة عن موته، مثلما رآه وهو يتلظى بحُمى الكتابة تحت تأثير الشمبانيا والعقاقير، إلى أنْ تدهورت حالته فأُنزِل في مصحة ومكث مخبولاً قبل أن تُحسَم حياتُه مبكرا. وكان الكاتب الأمريكي «هنري جيمس» (1842–1916) من أصدقائه أيضاً، وهو الذي أثار حماسَه لكتابة هذا الكتاب، وعاش معه في «سان مِيكيل» وأعطاها صفة «أجمل أمكنة العالم». أمَّا «فرانسيس الصقلي»، فقير الله، القديس، فكان عزيزَه السرمدي الذي يسكن مهجتَه محاطاً بالترانيم والوداد، لم يصرِّح به إلا نادراً وخبَّأه تحت سطور الكتاب، كما يليق.
تحايل «آكسيل» على مناكدات الحياة، التي لا مفر منها، بالمزيد من تكريس نفسه لدعم هذا الصديق أو ذاك، وإنارة سُبلِ الآخرين بأفكارٍ وإلهاماتٍ ربما لا يأتيه مثلُها لنفسه، وذات مرةٍ وَهَبَ صديقَه الأخلص وزميلَه الأكبر سناً الدكتور «جوستاف نورشتروم» إحدى التماعاته عن ممارسة التدليك، وزوَّده بالنصائح القليلة الدقيقة الثمينة الحاسمة بل السحرية، فوضع له بين يديه – فعلياً – مصباحَ علاء الدين. وكان «نورشتروم» نزيهاً يخبر «آكسيل»: «لك في رأسك عقليتان متباينتان تعملان بالتناوب؛ عقل أبلهٍ مُدرَّب وعقل نابغةٍ فج»، «لك حُمق دون كيخوته مع اعتداد بالنفس لا يُحَدّ».
كان «آكسيل» في الثامنة عشرة من عمره، وقتما أتى من «سورنتو» بقارب شراعي إلى جزيرة «كابري» في خليج «نابولي»، ثم قطع الطريقَ من الميناء راكباً حمارة تقودها فتاة في الخامسة عشرة، وصعد في الجبل سبعمائة وسبعاً وسبعين درجة، نُحتت في عهد «طيبريوس»، الذي حُرِّف اسمه إلى «طمبيريو»؛ ثاني أباطرة الرومان (42 ق.م – 37 ب.م). إذْ ذاك لمح لأول مرة الكنيسةَ البعيدة القديمة المهدَّمة التي كانت ذات يوم فيللا «طمبيريو»، وحين سأل عن اسمها، وقيل له إن اسمها «سان مِيكيل»، أُخِذ بالاسم، وأحسَّ بصدى الكلمتيْن يتردد في فؤاده، وما إن أعاد النظرَ إليها حتى ماجَ شغفُه فأراد الانطلاق نحوها لا يطيق انتظارا. لم يكترث إذْ قيل له إن الكنيسة مسكونة بالأشباح، ووقر له أنها ستكون مسكنَه بعد عدد من السنين، وأنه سيأتي ذات يوم ليشتريها ويهدمها ويبنيها، ورأى في خياله كلَّ تفاصيل التحفة المعمارية التي سيُقيمها والمقتنياتِ التي سيجلبها! انتشى بحُلمه الواضح الأكيد ثم اختلى بنفسه وتسمَّعَ، فخاطبَه وسواسُه، وكأنه "الروحُ الأبدي للمكان"، وفاوضه في تحقيق حلمه، وقايضه في تسهيل أيلولة ملكية المكان كله إليه؛ الكنيسة والقلعة والجبل مع الحديقة والمنزل الأبيض الصغير اللذين يعتليان الجرف ويمتلكهما العجوز «ﭬـنشنزو»، في مقابل أن «ينبذ طموحَه في أن يغدو عَلماً في مهنته»، وأعطاه الوسواسُ مُهلةَ يوم لتقليب أفكاره واتخاذ قراره، لكن المفتون كان قد اختُلِب بالمكان فقبل الشرط، وتنازل عن المهلة، وعَقَدَ العزم. ولـمَّا عاد إلى متابعة دروس الطب، بالحي اللاتيني في باريس، كانت صورة حُلمِه الأعز في «كابري» لا تغيب عن عينيه، وباتت تشقيه خشيتُه من أن يتبدد أمله لو أن «ﭬـنشنزو» باع لغيره المكانَ، بينما هو لا يملك من أثمانه درهماً، وهو كذلك منشغلٌ في دراسته وغائبٌ وبعيد.
قُرب نهايات القرن التاسع عشر؛ في زمن «شاركو Charcot»، طبيب فرنسا الكبير والعليم بأمراضها العصبية وبالمخبولين؛ نال «آكسيل» شهاداتِه الطبية، وأُجيز كأصغر طبيب في فرنسا، فكان طبيباً عاماً وجرَّاحاً وطبيباً للأمراض النفسية والعصبية، واشتغل ضمن مساعدي الأستاذ البحَّاثة «لوي ﭘـاستير Louis Pasteur»، وكذلك ضمَّه «شاركو» إلى فريق عمله إلى أن طرده من فردوسه. بدأ مزاولته للطب وهو يعادي الموتَ، حاصدَ الأرواح، خِصمَه؛ ذاك الذي يثابر دوماً على الطرف الآخر من أَسِّرة مرضاه كي يتربص بمقاصده ويناوئ مساعيه، إلا أن نظرة «آكسيل» اتسعت مع الوقت؛ فنضجت علاقتُه بحاصد الأرواح هذا، وانتقل من موقف العداء والتشاؤم والإشاحة إلى موقف تفهُّم رسالة "الآخر"، فإلى القبول والصداقة، بل الحب. وسرعان ما أدركَ أنه إذا كان للكلمة أنْ تخلق خلقاً؛ فلها أن تُشفي وأن تجرح وتُميت، وأن بمقدور الطبيب دعْم مريضه بكلمةٍ من لدُنه تستنهض قواه وطاقاته، مثلما يستطيع أن يوهمه ويؤلف له، بكلماتٍ أو إيماءاتٍ، أعراضاً وأوجاعاً يرميه إليها فيُصيبه أو يُميته حتى.
وكانت تسوقه تلك الفطنة التي استشعرها وتعجَّب لها، باكراً، أحدُ القساوسة فسأله: «كم عمرك؟»، أجاب: «ست وعشرون»، فقال له: «أنت تطفر بعيداً يا بني! أنت تطفر بعيدا». ويعترف «آكسيل» بأنه ليس طبيباً كفؤاً، فما انخدع بنجاحه وذيوع شهرته سريعاً في أنحاء أوربا كطبيب فذ، وما استهواه أن يغش نفسَه بينما يدرك أن معارفه الطبية، مثل غيره، قليلة وتدريبه محدود، لكنه كان قد علِم أن أُسَّ النجاح كامنٌ في "الإيحاء بالثقة" التي هي هبةٌ يكاد يصير بمستطاع حائزها أنْ يقيم الموتى، وكانت لديه كذلك يداه وقد وُهِب فيهما اللمسات التي إذا مسَّت الوحْشَ روَّضته.
ومن صميم فؤاده عاش «آكسيل» عارفاً بالكلاب والقرود والدببة والسلاحف وسائر الحيوانات ومُعالِجاً مُحِباً لها، نافضاً يديه من إنسانٍ يدَّعي التمدُّن بينما يلتذ بالتصويب على عصفور. وقد وقف، بنفسه وبما وسعه من أموال، مع الطيور المهاجرة التي دأب الأهالي على اقتناصها حين تحط للراحة، بعد عبور البحر، فوق جبل الجزيرة الإيطالية، ونافحَ حتى اشترى لأجلها الجبل ليغدو البقعة التي ترتاح عليها آمنةً ريثما تستأنف طيرانَها. وانعقدت له، يوماً، صداقة استثنائية مع بومة صغيرة بلغ بها حبُّها له حدَّ هجرانها للنوم نهاراً لئلا تفوتها رؤيته، وكانت تلثمه بمنقارها في شفتيه حتى إن سيدةً من مريضاته أقدمت على تسميمها بدافع الغيرة!
في حداثة سنِّه تلك؛ كان «آكسيل» هو الشخص الذي أينما حلَّ لا يغدو مُنتئياً، إنما يمضي بيُسرٍ على الأرض؛ فهو دائماً في مكانه؛ تُظهِر له الأماكنُ فتنتَها، وتجتبيه الحيواناتُ وتخصُّه ولاءً وامتثالاً وانسجاماً، بل تتذكره وتجيء لزيارته حيثما يكون وتهرع إليه. استمتع بامتلاكه بديهةٍ حاضرة تنجده في أصعب المواقف، أمَّا في الأمور التي يحسمها الحظ فالحظ الحسن مضمون، ولقد وثق هو في حُسن طالعه وأقر به في امتنان، وواتاه سعدُه العجائبي بلا انقطاع، حتى في الورطات التي لم يُعصَم من الوقوع فيها، ظل حظُّه يلحق به وينتشله منها؛ كمثل احتجازه للمبيت ليلةً في حجز الشرطة الفرنسية بتهمة انتحاله لشخصية الدكتور «آكسيل مونتيه»؛ التهمة التي تفاقمت خاصةً بعد تفتيشه والعثور في جيوبه على خمس ساعات ثمينة! ولعل حظه، وحده، هو الذي أنجاه من هلاكٍ تحت انهيار الجليد على جبل «مونت بلان» السويسري، مثلما خلَّصه من الآنسة «أجاثا» مُدبِّرة منزله الماهرة، إنما المنيعة المخيفة، ذات السحنة والرائحة لَكأنها قرينة «لعازر» الناهض من القبر. على أن قبساً، بغير شك، من ذلك الحظ الطيب، لم يكن يتنزل عليه بخبط عماءٍ؛ إنما تستجلبه إليه لباقتُه وبديهته المشرقة وفطنته واتساع نظرته وحُسن ربطه وتقديره للأمور.
سعى «آكسيل» في نواحي باريس الفقيرة التي تتلوث في الصيف بأوبئة التايفويد والدفتيريا والحمى القرمزية والسعال الديكي، مثلما سعى في نواحيها الثرية، وعاصرَ شيوعَ مرضٍ محبوبٍ هو "التهاب الزائدة الدودية" في أريستوقراطيات المجتمع الباريسي؛ يتفاخر بالتشكي منه، بدافع التأنق والتعلُّل، أهلُ الطبقات المرفهة، خاصةً النساء العصبيات، وظل ادعاء الإصابة بذلك المرض الرومانسي بمثابة امتيازٍ ووجاهة إلى أن أشاعت السلطات الطبية أن الجرَّاحين سيبادرون إلى استئصال كل زائدة دودية يُشكى منها، إذ ذاك تضاءل الطلبُ على الزائدة الدودية، «تُـجتزُّ زائدتي الدودية! وماذا يتبقى لي بعدها؟!»، فدخل إلى السوق نظيرٌ جديد ذو شكاية رفيعة تلبي مطالب المتأنقين والمتأنقات ولا تطالها مشارط الجراحين، وكان ذلك هو "التهاب القولون"، الذي استشرى كمرادفٍ للرقة حتى إن بعض النساء المترفات، مغالاةً في التدلُّل، كُنَّ ينعمن به على حيواناتهن الأليفة إذا تنغَّصت.
وذات مرةٍ، كان القمر هناك؛ يستدير في منزل اكتماله، يضرب بفيض نورِه ويُرهِف العشقَ ويحضُّ النيران ويغوي، ولقد دنا «آكسيل» من الكونتيسة الشابة «جولييت» ودنت منه تحت أشجار الزيزفون، لولا النعيب المنذر الذي أطلقته بومةٌ فانصاعت له المرأةُ وانصاع الرجل الذي تدلَّه بتكتُّمٍ في هوى المرأة ورجعا بلا رواء. وللاستشفاء من ذلك النعيب سافر «آكسيل» من فرنسا إلى أقارب له في إقليم «لابلاند»، في الدائرة القطبية بشمال السويد، في ارتحالٍ دامَ ثلاثة شهور، وعاش مع قومٍ لا يوجد بينهم لصوص، ولا تخطر فكرةُ السرقة أصلاً على بال أحدهم. دُلَّ، هناك، على الغيلان، وعلى"الحن" "Uldra"؛ الكائنات المعمِّرة، التي بطول راحة اليد، عديمة الأذى إلا إذا أوذيت، الخفيَّة إلا عن الأطفال، واقترب من الذئاب ذات المكر والدهاء، ومن قُطعان الرِّنَّة، ومن الدببة التي لا تُهاجِم النساءَ مطلقاً طالما بادرت المرأة بالتعري فأبانت للدب هويتَها، وازداد «آكسيل» يقيناً بأن الكلاب تفهم كل لفظة تُقال وتفقه الأحاديث.
وأنبأتُه امرأةٌ خبيرة، بعد أن تفحَّصت وتأملت يديْه بانذهال، أنهما مالكتان لسحر الشفاء، وأنه «آسٍ من الأُساة، متآخٍ مع الحن»، ولعله قد تذكَّر صباه في «لابلاند» ذاتها، حين التقط، ذات مرة، بهاتين اليدين طائراً ساقطاً، وخاط له جناحَه الممزَّق، ثم ضمَّه إلى قلبه فأدفأ له جسمه وأنعشه، وقبَّله، وفتح يديه ليطيِّره وهو يقول «سفراً ميموناً يا أخي الأصغر! سفراً ميموناً يا أخي الأصغر». وفي «لابلاند» ساقت إليه الصدفةُ خبراً عن اجتياح وباء الكوليرا لمدينة «نابولي»، فمضى إليها في سفرٍ شاق وقتما كان يفر منها أهلوها، غير أنه ارتعب مما رآه، خلال ساعتين بعد وصوله، من مشاهد الموت والاحتضار والتلوث بوباءٍ طال كلَّ شيء في المدينة، فانطلق إلى محطة القطارات يبتغي الهرب إلى «روما» أو إلى أي مكان آخر بعيد. لولا أنه لم يجد قطاراً منطلقاً في التو فتراجع عن فكرة الفرار، وبقي، وألحقَ نفسَه بمستشفى «سانتا مادالينا»، ومضى يلاحق الوباءَ الذي أفنى المئات يومياً وحوَّل أشخاصاً يتدفقون صحةً إلى موتى في غضون نهارٍ واحد.
في حفرة الموتى أُلقيت آلافُ الجثامين، دونما تثبُّتٍ حتى من موت بعضها، غير أن ناموس الحياة دامَ كشأنه؛ ففي وسط الفناء والذعر راحت تلوح في المدينة خدودٌ متوردة وجدائلُ فاحمة وشفاهٌ قانية ونداءاتٌ وتوددات حارَّة، واشتدَّ الغزل وجن الهوى واحتدم شبقٌ لا يبالي بالموت، أو لعله انبثق بتحريضٍ منه، ولم يفهم «آكسيل»، نفسُه، لماذا ندَّ عنه ذلك التصرف الخارج عن رصانته، في دير «المدفونين أحياءً»، وقد مدَّ ذراعيه واحتضن راهبة كانت تقف إلى جواره، وقبَّلها، عند فراش موت رئيسة الراهبات التي لم تكد تطلق زفيرها الأخير. وبعد سنوات، سوف يكرز «آكسيل»، مرةً أخرى، بمجهوداته في كارثة مدينة «مسينا» بعد زلزالها المفجع(1)، ويعاود السعي بين آلاف الموتى والمصابين والمشردين والمجرمين، ويأبى في النهاية قبولَ وسامٍ منحته له الحكومة الإيطالية إذْ رأى أنه لم يقم إلا بأقل من واجبٍ أدَّاه معظمُ الناس، غير أن بعضاً من مجهوداته تلك، نفسها، أوقعته تحت حنق وانتقام الـ«مافيا»، فطُلِب اغتياله، وهرب. وإذْ رجع «آكسيل» إلى باريس، بعد كوليرا «نابولي»، دعاه بطل الرماية؛ عشيق «جولييت»، لا زوجها، إلى مبارزة قانونية نجا فيها المحظوظُ من موتٍ عاجل أكيد بل أصاب غريمه برمية بلا رامٍ كأنها معجزة أتى بها له "الحن".
كان قد بات في الثلاثين من عمره حين آنَ أوان تحقيق أحلامه في «كابري»، بعد أن طرده «شاركو» طرداً مُذِّلاً إثر أحداثٍ صادمة تُرضي «آكسيل» وتشرِّفه، فلم ينكر اعتزازَه بها وبملابساتها، لكن موقفَ الطرد طعنه عميقاً فتأذى في الصميم، وحاقَ به سهادٌ متواصل نالَ منه وكاد يُفقِده لذائذَ الحياة كافة. في سهاده سيعرف «آكسيل» أنه يود النأيَ عن اصطناعات المجتمع الباريسي والتوقفَ عن مزاولة الطب العصري، وأنه يريد حياةً بسيطة لا يُحرَم فيها من تغريد طيورٍ عن قُربٍ وهدير بحرٍ عن بُعدٍ، فذهب إلى «كابري»، واقتنى منزل «ﭬـنشنزو» وملحقاته، وقام مع مجموعة من بنات وأبناء البلدة بهدمه وحفْر الأرض والتهيؤ تدريجياً لبناء «سان مِيكيل»، الماثلة في خياله وأحلامه، تلك التحفة المعمارية التي أرادها أن تكون هيكلاً للشمس عساه يتلقَّط فيها ما يشتهي من معرفة ونور. بُنيت التحفة بقوة الخيال مقرونةً بقوة رغبته هو ومعاونيه في إيجادها وإنشائها وِفق تصورات عقله، ولقد ظل يحكي لهم عنها ويشرحها على الجدار ويخططها بعصاه فوق الرمال، مُعلناً أن نمط البناء سيتقرر من تلقاء نفسه أثناء العمل؛ يكتب: «أمَّا كيف تم البناء فهذا ما لم أستطع إدراكه، وما استطاعه أيٌّ ممن يعرفون حاضر تاريخ «سان مِيكيل»، فما عرفتُ البتة شيئاً عن فن العمارة ولا عرفه أحدٌ من رفاقي، وما ساهم في إنجاز العمل أحدٌ ممن يعرفون القراءة والكتابة، ولم نستعن برأي مهندسٍ معماري، ولا وضعنا رسومات أو خططاً تفصيلية، ولا أخذنا المقاييس اللازمة بتاتاً، بل قِيس كلُّ شيءٍ بمحض النظر».
وأظن أن النقطة المهمة في هذا البناء، وأيضاً في هذا الكتاب، تتجلى في أن البناء لم يكن يمضي كيفما اتفق وإنْ بدا كذلك؛ إذْ كانت كل التفاصيل قد انبثقت في ذهنه وتضافرت وتكاملت ونضجت، وقد بَرَعَ بنزاهةٍ في نقلها إلى معاونيه البسطاء، بما في ذلك تمثال «أبو الهول»، المصري، الذي من الجرانيت؛ الصرْح الغائب الذي كان من الضروري إيجاده ليُوضع في بهو المحراب؛ وكان «آكسيل» قد رآه رأيَ العين في حلم اليقظة الأول، ولطالما احتار أين سيعثر عليه وكيف سينقله إلى أن رأى في منامٍ ليلي خرائطَ الطريق إليه بالتفاصيل، وكان واثقاً من صدق رؤاه فأطاع ولَبَّى، وهرع إليه متجهِّزاً مع نفرٍ من معاونيه، وشق البحرَ بمركبه إلى المجهول، ووصل إلى السهل الموحش الذي طُمِرت فيه أطلال «نيرون»، وحَفَرَ الأرضَ مسترشداً فحسب بما رأى في منامه، وأمضى أسبوعاً في الضنك والهوْل ومخاطر العقارب والثعابين حتى استخرج كنزَه الجرانيتي الهائل بأطنانه التي لا تُحصى، وعاد به وسط العواصف كأنه يلعب مع المعجزات!
لكن صديقه، الوزير السويدي المفوَّض في «روما»، حَطَّ لزيارته في «كابري» ذات يوم، وانتزعه من مواصلة البناء، وبعد أسبوعين عُيِّن «آكسيل» طبيباً في مستشفى «كيتس» في «روما»، ووافاه النجاح سريعاً إلى درجة أن «شاركو» نفسه، من باريس، أحال إليه بعض مرضاه. وخلال الأصياف، على مدى سنوات عديدة، اكتملت «سان مِيكيل» فوق الأطلال الرومانية ونُقِلت أشجار السرو لتصطف في مماشيها، وسرعان ما توافد الزائرون لرؤيتها، خاصةً من أصحاب التيجان، فجاءت إليها حفيدة ملكة بريطانيا وأقامت بها لأسابيع لكي ترسم في الشرفة، وجاء القيصر وأبناء عمومته، وجاءت الإمبراطورة «أوجيني»، كما جاءت إمبراطورة النمسا التي عرضت شراء «سان مِيكيل» إلا أن «آكسيل» استمسك بمأواه.
وفيما بعد، بمقتضى العُمر، رحل «آكسيل» عن «سان مِيكيل» ليمكث قريباً من ذويه، متفكراً متأملاً في الموت، فتوافيه رؤى عن «أوزوريس» و«حورس» و«إيزيس» وأختها «نفتيس» و«أنوبيس» حارس القبر. ويسرِّب «آكسيل»، قُرب ختام الكتاب، خبرَ فُقدانه إحدى عينيه، عازماً على الصمود إلى النهاية، مُستحسناً الابتعاد، قدر الإمكان، عن نساء ورجال البشر، معتزاً بالأطفال وحافظاً المودة لهم، آملاً أن تنقضي حياته بينما العصافير على نافذته تصدح بالأغاريد والسماء تهمي بالنورانية.
طفر «آكسيل»، طفر بعيداً، وكذلك استوت قصتُه، الأحدوثة؛ هَدَرَ سردُها مثل شلال فوق صخور، وسرى مثل نسيم بين أعواد حقل، وتساوقَ فيها حضورُه ككاتبٍ مع حضوره الطبيعي كإنسان في الحياة، ولقد أنجز كتابَه المترع بالتفاصيل كيفما عمَّر بيتَه الذي رآه في الغيْب، وإنه لَيتحصَّل بسلاسةٍ على محبة وولاء القارئين، بما لا يُتاح إلا للمحروسين.
(1) [1]- حدثت الضربات الأولى من زلزال وتسونامي «مسينا» في 28 ديسمبر 1908. وتعاطف الناس من المشارق والمغارب مع الضحايا، وقد نعى الشاعر حافظ إبراهيم المأساة بقصيدةٍ، من أبياتها:
«ما لـ"مسين" عُوجلت في صباها / ودعاها من الردى داعيان
بغت الأرضُ والجبالُ عليها / وطغى البحرُ أيُّما طغيان».
«أحدوثة سان مِيكيل» «The Story of San Michele»، تأليف: «آكسيل مونتيه» «Axel Munthe»، تعريب: «وديع فانوس المهندس» عن الطبعة الثانية عشرة، نشر: «شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر»، سنة النشر: 1949، 380 صفحة من القطع المتوسط.