يقدم الناقد والباحث الفلسطيني هنا قراءته لأحدث روايات الكاتبة الفلسطينية المرموقة وهي قراءة تستجيب لمدى تغلغل الحلم الكبير، الحلم بالعودة إلى القدس: قلب فلسطين النابض واستعارتها الحية، وتكشف عن الكثير من تجليات معاناة الفلسطيني اليومية تحت وطأة احتلال دولة الاستيطان الصهيوني لها.

ليانة بدر والحُلم الكبير

في روايتها «الخيمة البيضاء»

نبيه القاسم

لم تتقيّد ليانة بدر في روايتها "الخيمة البيضاء" (الأهلية 2016)، بدقائقِ الأسلوب الكلاسيكي في كتابة الرواية، وانما تتنقلُ بقارئها مع المَشاهد والأحداث والشخصيّات من حالة إلى أخرى، تُرهقُه، وتدفعُ به ليطلب الراحة، ولو لبعضِ الوقت.

تبدأ الكاتبة روايتَها بسرٍّ يُخفيه الشاب خالد والصبيّة بيسان، يرفضان البوحَ به، ويفشل جنود الاحتلال الذين هاجموا بيت نشيد أم خالد ليلة الفيسبوك في الكشف عنه. وتُنهي الرواية بسرّ تُخفيه "نشيد" أم خالد، وهي تقطع الحاجزَ في طريقها إلى القدس.

وكما شغل سرُّ الشاب والصبية ساعاتِهما كلَّها بالعمل السريّ، هكذا شغلَ نشيدَ سرُّها هذا، ولم تُفكّر بغيره، ودفعَها للوصول إلى حاجز قلنديا، وتَجاوزِ كلّ مراحلِ العذاب والتّنكيل، تاركةً بهدوءِ أعصاب، ابنَها خالد بين أيدي الجند ليُواجِهَ كلَّ ما تتصوّرُه من العذاب وهي تُردّدُ:

- "مثله مثل الناس، نحنا مش أحسن منهم، اللي بصير عليهم بيصير علينا" (ص276)

وتصعد الباص المتوجّه إلى القدس لتُحققَ الهدفَ الذي عملت وتُسافر من أجله.

قد نتناولُ رواية "الخيمة البيضاء" من عدّة نوافذَ تكونُ عتَباتٍ للنص، ومفاتيحَ تُضيءُ جوانبَه، وتصلُ بنا إلى عوالمَ وخلاصاتٍ. وقد يجدُ فيها كلُّ قارئ ما لا يجدُه غيرُه ، وقد تُعطي لبعض النُقّاد الفرصةَ لإثبات قُدُراتِهم ومَعرفتِهم وتَعَمّقِهِم بمناهجِ النقد العديدةِ ليُؤكدّوا صحّةَ ما يقولون.

ولكنني عزَفْتُ عن كلّ ذلك، واكتفيتُ بأن أرى في رواية "الخيمة البيضاء" خيمَتَنا التي تُظلُنا، وتُخفي معنا كلّ أحزاننا، وتَعطيل أحلامنا وبؤس احتياجاتنا وتَحطّيم أهدافِ رجالنا، وانتهاك أسرارِ وحريّاتِ وانطلاق نسائنا، وخَوار مَن اعتقدناهم أبطالَنا. ولكنها أيضا تحتفظُ بخَميرتنا التي فيها كلّ أملنا بالسرّ الكبير الذي يحرصُ عليه شبابُنا وشاباتنا، والهدفُ العظيمُ الذي تعملُ "نشيد" وغيرُها لصَونه وتحقيقه.

الزمن يتمحورُ ضمن أربع وعشرين ساعة، لكنّها تتنقّل به نحو الماضي والحاضر وبالعكس ليعبُرَ عشرات السنين، ويستعيدَ أفعالَ العديد من الشخصيّات التي أخذت دورَها المهم في تَشكيل الأحداث.

المكانُ يكاد يستحوذُ على البطولة، فهو الأساسُ وهو المثيرُ للاهتمام، وهو مَركزُ الصراع، وعليه يكونُ كلُّ الانتباه، وإليه تُشَدُّ كلُّ الحواس.

وما نراه أنّ الأماكنَ في رام الله "صورة مُصَغّرةٍ عن كل الوطن" في حالة تدمير وتغيير دائمة. فليست الأسماءُ وحدَها التي تتغيّر، بل المشاهدُ الخارجيّةُ، وتتعدّاها إلى جوهر المكان ومَكانه. فالمساحاتُ الخضراءُ الواسعةُ تختفي، والشوارعُ تضيق، والبناياتُ القديمة الجميلةُ المريحة تُدَمّرُ وتُقامُ مكانَها الأبراجُ الاسمنتيةُ الكالحة العالية، ورام الله تتحوّلُ لتصبحَ كتلةً اسمنتيةً كبيرة لا حياةَ فيها ولا روح. "يا إلهي، كم أضعنا الأسماء الجميلة، وأضعنا مسمّياتها. تلك المدينة الصغيرة التي كانت تؤرجح نفسَها على كتف جبل، وتضمّ هذا الشارع الذي كان اسمه "شارع العشّاق" . كان الأحبّةُ يتمشّون فيه، ويجولون آمنين تحت شجرات الأرز والصنوبر الضّخمة التي تظلّلُ الجنبَين، قبل أنْ تُجتَثّ بشكل شبه كامل تدريجيّا" (ص112). فقد ظلّ الناس يقطعونها بطريقة عشوائيّة في كل مكان يجدونها فيه. وانتشرت بعدها موضة قطع أشجار التوت الكبيرة التي يُعَمّرُ بعضُها أكثرَ من مئة عام، لأنّ ثمارها اللطيفة صارت مصدرا للأوساخ (ص163). وكما اختفت الأشجار، اختفت الأماكنُ المشهورةُ في رام الله التي كان يحلو للبعضِ زيارتُها والجلوسُ فيها مثل: "نعوم" "رُكَب" "البستان".

هذا التدميرُ للمكان يُلقي ظلّه على السكّان. فالناس الذين كانوا يُحبّون بعضَهم ويتعاطفون ويتعاونون ويَسمُرون، أصبحوا يكره واحدُهم الآخرَ ولا يُفكرُ إلّا بمصلحته هو (ص22). فالجيران فَقَدوا الأُلفة في ما بينهم، وصار كلّ يعيش في عالمه. لقد صار الشكّ هو ما يقودُ الجميعَ باتّجاه الجميع" (ص119).

المرأة هي الضحيّة دائما:
المرأة التي كانت تتميزُ بحريّتها وانطلاقِها ومساهمتها في كل مَرافقِ الحياة ومعارك النضال الوطني، ولعبت الدور المهم في الانتفاضة الكبرى، سرعان ما نُسِيَت من قبل الرجال. "إحنا مقموعات، مش بس من الاحتلال وحده، ومن الرجال كمان" (ص49). "وكثيرات من الفتيات كنّ ضحيّة اعتداءات الرجل الوحشية، ومنهن مَن استخدمهنّ ذكورٌ من عائلتهنّ سرّا لتصريف كَبْتهم المتراكم، من دون اعتبار لأيّ كارثة سوف تُحيق بالفتاة، لأنّه عندما تنتشرُ رائحة الفضيحة ويبدو الحَمْلُ عليهن، فإنّهم يقضون على الفتاة تحت حجّة جريمة الشرف، قبل أنْ يُكتَشفَ دورُ أحد ذكور العائلة في التّعدّي على الفتاة. وهو ما تجري تغطيتُه من أطراف عائلية متنوّعة. (ص50)، كما وأصبحت المرأة الضحية التي يُفرغُ الرجل فيها غضبَه وعجزَه أمام المحتل الغريب (ص69). وأخذت المرأة بعد الانتفاضة تُدْفَعُ دَفْعا للعودة إلى المطابخ كمكان وحيد لإبراز مواهبها وقُدراتها (ص105)، "صار شكل نون النسوة مرتبطا بالطنجرة ، بوعاء الطبخ، والليفة الصناعيّة ذات الألوان الزاهية مع مسحوق الجَلي الكيماوي. حَداثة شكلية، ومضمون قديم" (ص106)، وكم فرحت نشيد وغيرها من النساء يوم سمعت الأكاديمي المعروف يقول في محاضرة له: "نحن الفلسطينية حصلنا على عشرات الفرَص الذهبية وفَقَدْناها كلّها، ورَح نفقد الكثير، لأنّو ما بَدنا نعرف قيمة المرأة كإنسان حرّ ومنتج. (ص108). وقد اعترف عاصي زوج لميس "أنّ هذه البلاد تكره نساءَها، بالرغم من تظاهرها بالعكس. ولن يستطيع المرء أن يُعبّر عن حبّه لزوجته أو إعجابه بها أو تقديره لصديقة عزيزة دون أن يوصَمَ بالضّعف والتّخاذل" (ص203)

لم يكتف الرجل بدَفع المرأة كي تنزوي بعيدا في البيت والمطبخ، بل حَمّلها نتائج الاحتلال وسببَ ضَياعِ البلاد فيما لو رفضت الانصياعَ لتعليمات رجال الدين الموزّعةِ في كل مكان، وداخل الباصات، والمحذّرةِ النساء:-

"أختي ، تدَثّري جيّدا كي لا تكوني سببا في ضياع بلادك". (ص243)

وتسخر نشيد من هذه النظرة المهينة للمرأة بقولها: "يربطون جحيمَ الاضطهاد هذا بمظاهر العفّة الشكليّة التي تُطبَّق على النساء وحدهنَّ، كأنّه لو اختفت النساءُ تحت خيمة بيضاء كبيرة مصنوعة من شرشف كبير، أكبر ما يُمكن تخيّله، وربّما بحجم السماء كلّها، وخبّأنَ معالمهنّ وتفاصيل أجسادهنّ، لَتحرّرت البلادُ كلّها من البحر إلى النهر." (ص243).

تدمير الاحتلال للقيَم وطهارة الحياة:
كان من نتائج الاحتلال للأراضي الفلسطينيّة في حزيران عام 1967 أن تعطّلت الأشغال، وكسدت المنتوجات، وحُرم الشباب فرص العمل، ولم يجدوا أمامهم إلّا إمكانيّة العمل داخل إسرائيل، وما يرافق ذلك من الإغراءات الكبيرة بالأجور العالية التي لا يحلم العامل بالحصول عليها في بلده.

واندفع الشبابُ، وتَركوا العملَ في أراضيهم، وسرَقَتْهم الرواتبُ العالية، وفضّلوا العملَ داخلَ إسرائيل(ص38)، حتى في بناء الجدار والمستوطنات (ص41).

هذا الوضع الملتبس في الأراضي المحتلة أثّر أيضا على الكثير من الثوريين والقياديين الذين عادوا للبلاد بعد اتفاق أوسلو حيث تركوا العملَ النضالي والتنظيم الحَرَكي والحزبي وبحثوا عن الأعمال المريحة المربحة في الشركات والمكاتب ولدى السلطة. والبعض اكتشف أنّ التّوريد والاستيراد أفضل من الاشتراكيّة والتّمسّك بالأحزاب (ص27). والتّنافسُ على المراتب والغنى طال كبارَ القادةِ والموظفين، والتّناحرُ يشمل الأكثر.

وتصفُ نشيد الحالة المزرية التي وصل إليها بعضُ مَن عُرفوا بالنّضال والثورية "يمكن القول إنّ جميع مَن عرفتُهم من الرفاق سابقا، ووثقتُ بهم، اصطفوا في طابور باحثين عن التوظيفات والرواتب المؤمَّنة لعناصر تنظيماتهم. وفي ذلك تساوى الثوري والوطني والقومي واليساري واليَميني والمتصوّف في كلّ الأمور، ولم يسأل أحد عن الآخرين حينما يتعلّق الأمر بتنظيم أوضاع الوطن وأهله. الكل يريدون التّعيينات والحصول على المناصب. (ص23)

حتى النظافة التي امتازت بها شوارعُ رام الله اختفت، "فأكياس الخضار والفاكهة الفارغة تتجاورُ مع الصحاحير الكرتونيّة المتروكة على أبواب المحالّ بطريقة فوضويّة بشعَة. ويتحوّل وسطُ المدينة ليلا إلى مخلوق منثور الجَوف بكل ما تتأبّاه النفسُ وتكرهه العينُ من قمامة وفضَلات، حتى ليظنّ المرْءُ أنّ الناس يكرهون الأمكنة العامة، ولا يُحافظون عليها كما يفعلون في بيوتهم." (ص188)

وما يُصيبُ العالم العربي من تدمير واحتراب وانقسام يُحزنُ كلَّ فلسطيني. وظاهرةُ الحركات الدينيةِ وما يُرافقُها من اللباس وإطالة الذّقون والتّدخّلِ في الخصوصيّات يتركُ نتائجَه السيئةَ على المجتمع الفلسطيني، خاصة في كلّ ما يخصُّ المرأة.

كذلك باحتلال الوطن انتشرت الأطعمةُ المعلّبةُ، حتى مأكولات الأطفال صارت كلّها مركبّات كيماوية، وصار كلّ ما في الأسواق ملفوفا بورق ملوّن ولمّاع. حتى عبوات "الكاتشاب" صارت توزّع ضمن أكياسٍ من ورق القَصدير المصنّع (ص54). واختفت معظمُ الصناعات، وأصبحت حتى الشعبية منها والفلسطينية حتى باسمها، تُصنّعُ في الصين، مثل التطريز الشعبي والألبسة الشعبية. كما أنّ الكثيرَ من الأهل أخذوا يدفعون بأولادهم بعيدا عن العمل النضالي، وينصحونهم بالتّوجهِ للعمل الوظيفي أو المهني حتى يضمنوا مستقبلَهم الآمن. (ص134)

خيبة أمل المناضل العائد:
المأساةُ الكبيرة كانت من حظِّ العائدين للوطن بعد اتّفاق أوسلو، فقد توقّعوا احتضانَ الأهل لهم، ولكنّهم فوجئوا بعد أشهر قليلة برَفض الكلّ لهم، واتهامِهم بأنّهم جاؤوا ليأخذوا أمكنتَهم، وأنّهم سببُ زيادة فَقرهم، (ص36) وأنّهم يأخذون أموالَهم ويحتلون أمكنتَهم في العمل والوظائف. وهكذا تكسّرتْ أحلامُ المناضلين، فقد اكتشف المناضلُ العائدُ بمرارة عالية، نظرةَ الآخرين له بأنّه عديم الجَدوى. كائن غير ضروري للحياة، مُجرّد شخص عائد لا يَسْأل عن وجوده أحدٌ (ص114)، انتهى عهدُ الفدائيّة والمقاومين والتضحيات. انتهى كلّ ما كان، وما ضحّى الناس بحيواتهم من أجله (ص119).

ووصل الأمرُ بأنْ يُواجَهَ المناضلَ العائد ببذيء يقول له بصفاقة: والله يا عزيزي خَرّبتوا البلد، ونَكَشْتو كلّ شيء على روسنا. لَشو رجعتوا أصلا؟ (ص120)

فهذا المناضل كم حارب في الماضي مشاعرَ الموت والاستسلام، كلّما حلّت معركة جديدة على شعبه في لبنان، لكي يُقنعَ نفسَه بأنّه سوف يعيشُ كي يعودَ إلى بلاده، وها هو قد عاد. ولكنه صار يُحسّ بضياع أكبر،(ص162) حتى أنّ البعضَ انزوى في البيت أو آثرَ تَرْكَ البلاد وهاجر.

ما يؤلم المناضل العائد أنّ الأهل هنا يعتقدون أنّ تاريخ النضال الفلسطيني ابتدأ مع الانتفاضة الأولى، فلم يُحسّ أحدٌ بالحصارات والقذائف وانهيار البنايات وجثث الضحايا المتراكمة فوق الرؤوس. لم ير أحد من هنا لون الدماء المرسوم هناك. لم يعرف الناس هنا حقيقة ما جرى من مآس ومن نضالات ومجازر تواصلت على مَدار أكثر من ثلاثين سنة في الخارج. والمؤلم أنّ الانتفاضة أقنعت الجميع هنا بأنّ التاريخ يبتدئ وينتهي عندها. (ص207-208)

الكثير من الأهل هنا صارحوا المناضلين العائدين بأنّ الحجرَ وحدَه هو الذي حقّق انجازات عالية، وهو مَنْ أرجعَهم. وكثيرون أكّدوا لهم أنه لولا عودتهم لكان المستقبلُ الذهبيّ حليفَ البلد. (ص232).

الحلم الذي نكادُ نقبضُ عليه ونُجسّدُه:
اهتمّت الكاتبة ليانة بدر أن تجعل من مدينة القدس المحور المركزي الذي تدور حوله الأحداث وتتمحور الاهتمامات، ووزّعت الأدوارَ بين ثلاث شخصيات هي: نشيد ولميس وعاصي التي تتميّز العلاقات بينها بالنفور وعدم الاستلطاف، رغم العلاقة المتينة والألفة والصّداقة التي تجمع بين خالد بن نشيد. وبيسان ابنة لميس وصبحي.

لميس:
زوجها هو المناضل العائد عاصي. وابنتها بيسان طالبة الجامعة تَخصّص ترجمة في قسم اللغة الانكليزيّة. صديقة لجارها الشاب خالد بن نشيد. لميس تقضي وقتها في السفر يوميا إلى القدس حيث تُقيم أمها المريضة المهدّدَة بالموت. مشكلة لميس ليس مرض أمّها وقعودها عن الحركة. وليس الخلاف الذي دبّ بين عائلة أخيها وعائلة أختها حول مَن سيفوز بالدار العتيقة بعد موت الأم. ولا اللعنات التي تهطل عليهم من عائلة قدمت من الخليل منذ سنوات طويلة. ما يُشغل لميس ما يجري في القدس، مسقط رأسها، من آلام ومآس يومية، وينسرب كالماء تحت قدميها، وتعتبره أهم بكثير مما يجري في دارها من مرض أمها وخلاف أسرتَيْ أخيها وأختها. لقد عملت لميس مدّة وجودها خارج الوطن على المحافظة على حقها في العيش بوطنها وفي القدس تحديدا، وكانت أمنيتُها الوحيدة أن تعود وتعيش في بيتها، ومدينتها القدس بعد هذه الغربة الطويلة.

فكانت تعمل سنويا على تجديد أوراق هويتها المقدسيّة، وتدخل الضفة من أجل تجديدها، ورغم صعوبة الدخول للضفة لملاحقة جند الاحتلال ورجال الاستخبارات لها لكونها زوجة صحافي يتبع تنظيما وطنيّا في منظمة التحرير الفلسطينية، فقد نجحت في تثبيت حقّها في أوراق الهوية. وبعد عودة لميس وزوجها عاصي إلى الضفة بعد اتفاق أوسلو أصبحت حياتها مقتصرة على الوصول إلى القدس فقط. (ص61)، فهي تكون مع أفراد أسرتها في رام الله لكنّ عقلها هناك، وقلبها ووجدانها في إسراء حتميّ، وكأنّها ارتدّت إلى أيام طفولتها ومراهقتها الأولى، ولم تعبر بكل هذه السنوات الطويلة خارج البلاد.

لم يعد من متّسع في حياة لميس إلّا للعودة إلى الجذور ، حيث المكان الأصلي بعد تشرّد طويل. فقد أصابها الضجر الكبير من حياتهما المتنقلة غير المستقرة، ومن صدمتها العارمة بما وجدته من تهجّمات على مدينتها.

عاصي:
زوج لميس ووالد بيسان، صحافي ومناضل يتبع تنظيما وطنيّا في منظمة التحرير الفلسطينية. لم تَسمح له سلطات الاحتلال الإسرائيلي أن يُعتبَر مواطنا في بلاده، وبعد اتفاق أوسلو تمكّن من العودة مع عائلته إلى بلاده. كان يتألّم جدا ممّا يلمسه في الوطن، ومن تعامل الناس مع العائدين، وكيف تتدمّر الحياة اليوميّة، وتنهار القيمُ التي طالما عمل وغيرُه على تثبيتها. لكن كل ذلك لم يفتّ من عزيمته ولم يُضعف من إيمانه بأن كل شيء سيتغيّر بعد زوال الاحتلال. وظلّ أمله كبيرا بأن الشباب هم الذين سينجزون ما فشل هو وأبناء جيله في إنجازه.

عاصي ككثيرين غيره الذين حرموا من الوصول إلى القدس بحجة افتقادهم للتصاريح من المحتّل، كان يحاول الحصول على تصريح ولا يُستجاب طلبه. ولم ييأس حتى بلغ الستين من عمره وأصبح بمقدوره الدخول للمرّة الأولى بلا تصريح من "الإدارة المَدنيّة" لأنّه سيعبر عامَه الستين، فيذهب إلى القدس ويحقق حلمه.

لقد وجد عاصي مكانا في المقعد الأمامي لذلك الباص الأبيض الصّغير الحَجم، النازل من كفر عقب الآن باتّجاه وسط قلندية. لكنه تضايق من الازدحام الكبير عند الحاجز! وتساءل باستغراب، كيف تطيق لميس هذه المنطقة المأساوية، وتتحمل المرور يوميّا منها. لشدّة ما يُثير غضبَه مراقبة كلّ هذا البؤس في منطقة حاجز قلندية. وقف عاصي. وقف مصلوبا مدكوكا واجما مندهشا ناسيا متوترا ملعونا. اللعنة على هذه الوقفة التي تصيبه بالتّصلّب، وتجعل من مفاصله المتيبّسة أصلا قطع حديد صدئة، وهو محصور بين سياجين يتجّمع الناس داخلهما، كأنهما ممشى لقطيع في طريقه إلى الذبح. لا طريق للوصول إلّا هنا. مقهورا مكسورا ضائعا ناشجا داخل روحه استمرّ في التحمّل، وظلّ واقفا. (ص 271).

اتّخذ قرارَه. لن يرجع، ولن يعودَ على أعقابه. سيبقى وينتظر المرور. وإنْ أعادوه، فسيُعاود الحضور غدا وبعد غد وكل يوم. (ص271).

لن يهرب، ولن يخرج، مهما فعلوا.

فكر بمكر لئيم "عمليّة السلام المفترضة لفَظَتْ أنفاسَها. كِشْ حمام"

وتابع مبتسما مع رغبة جامحة للضحك "وربما كِشْ ملك!" (ص268)

نَشيد:
أم خالد الشاب الذي يحتفظ بسرّه ويعمل في الخفاء بعيدا عن عيون والدته. المرأة التي هاجر زوجها الناشط في الانتفاضة الأولى، والمنشغل اليوم بعمله في شركة الأدوات الكهربائيّة التي يملكها خارج البلاد. نشيد التي تسكن أمّها بعيدا عنها في بيت لحم ولا تزورها، والدها المناضل العائد المتقاعد بعد تاريخ طويل في المعارك والحصار في بيروت من ثم في تونس، آثر العيش وحيدا والإقامة في مزرعة يملكها بعيدا عن أهل بيته، يعمل في إنتاج الصوبات البلاستيكية من ثمار البندورة.

نشيد المرأة التي ساهمت في الانتفاضة الأولى بكل طاقتها كغيرها من النساء والفتيات اللاتي ساهمن بدور كبير ومهم، فُجعَت بما رأته بعد الانتفاضة من اهمال الرجل للمرأة واحتقاره لدورها وعطائها في الحياة، ودفعه لها للعودة للبيت والمطبخ. نشيد تركت تنظيمها النسائي الذي انفضّ أعضاؤه، وبدأت تعمل في منظمة (إن. جي. أو) وتهتم بوضع المرأة الصحي والاجتماعي. وأخذت ترى في تعزيز مكانة المرأة الهدف الرئيسي والطريق الصحيح لتحرّر المجتمع، ومن ثمّ لتحرير الوطن من المحتل؛ ولهذا رفضت كل الاقتراحات بالالتحاق بزوجها في مكان عمله في الخارج كما نصحتها أمّها، وكذلك شغلت وقتها وتفكيرها في ملاحقة القضايا النسائية، وخاصة قضية الفتاة المهدّدة بالقَتل من قبَلِ أفراد أسرتها لخروجها على قيود العشيرة، واختيارها الزواج من الشاب الذي أرادته.

نشيد لم تفقد الأمل في المستقبل وبتحرّر وطنها من المحتلّ، ولم تستسلم أمام فقدان الوطن واغتصابه من قبل الغريب، وانتهاكه من أبنائه، وإنما أصرّت على أنه الوطن الجميل والحاضن، وظلّت تقوم بجولاتها في شوارع رام الله وخاصة في ساعات الليل حيث تقود سيارتها وتطلق لنفسها العنان وتدور في شوارع رام الله لوحدها أو مع صديقة لها (ص 79-81). نشيد كانت واعية للدور الذي تقوم به، وتؤمن بأنه سبيل الخلاص الوحيد، ولهذا ركّزت كل اهتماماتها للوصول إلى القدس في الوقت المحدّد تاركة كلّ مشاغلها، وحتى ابنها خالد بين أيدي الجنود من أجل أن تصل في الوقت المحدد وتنجز مهمّتها.

الوقوف عند حدود الحلم:
ما يثير انتباه القارئ للرواية، أن الهدف الكبير في الوصول إلى القدس الذي شغل نشيد وعاصي، وكان حلم خالد ومجموعة الشباب المنظّمين معه الذين كان عاصي يرى فيهم الأمل ومحققي حلم التحرير والاستقلال، لم يتحقّق، فخالد ألقي القبض عليه على الحاجز، واعتقاله عطّل الحركة، ومنع تحرّك الباص المقلّ لنشيد وعاصي إلى القدس. وهكذا تنتهي الرواية على حاجز قلندية حيث يتحكّمُ جندُ الاحتلال بالنّاس وحركتهم، ويتوقّف الحلم الكبير بالوصول إلى القدس لحرمان المحتلّ من إمكانيّة الاستفراد بها، ومَنع أهلها من الوصول إليها والعيش فيها.

ليانة بدر مُبدعة تعرف كيف تتعامل مع اللغة:
ليانة بدر في كتابتها الروائية لم تعتمد السّردَ الرّتيب، وإنّما عملت على كسْر الرّتابة، وتلاعبَت بالزمن، فتذهب من الحاضر إلى الماضي ومن الماضي إلى الحاضر، وتستحضرُ الشّخوصَ والأحداثَ من المنفى إلى الوطن ومن الوطن إلى المنفى. وهي في تعاملها مع اللغة تكسر الحدودَ المتعارَف عليها، وتنسابُ بمفرداتها السّلسة السّهلة الأخّاذة لترسمَ العبارات الجميلة، وتُدخلَ القارئَ في أجواء لا يدري أهو في واقع قاسٍ يكبتُ أنفاسَه، ويُهدّدُ وجودَه، أم في عالم سحريّ تسرقُه إيقاعات المفردات وتركيبها وصياغةُ الجُمل، فيشتدّ عليه الحلم في تنقّله بين الأزمنة والأمكنة.

ما يشدُّ القارئَ إلى كتابات ليانة بدر هذا التميّز في الأسلوب والتّفرّد في اختيار الكلمات، والبراعة في رسم المشاهد والأجواء والصّور، والتمكّن من استحضار الموسيقى الدّافئة الحالمة التي تنقله من كلمة إلى أخرى، ومن مَشهد إلى آخر دون إدراك منه للذي يحدث.

وليانة بدر في كتابتها لا تلتزم أيّ قانون من قوانين كتابة الراوية أو القصّة، وإنّما هي فنّانة قادرة على امتلاك ناصية الكلمة، فتعرف كيف تختار، وكيف تجمع، وكيف تُوزّع، وكيف ترسمُ وتعزفُ وتتنقّل، فيجد القارئَ نفسَه مأخوذا بما تُقدّمه له دون أن تسمحَ له بالتّساؤل عن نوعيّة هذا الذي قدّمته أو التعرّف على هويّته. إنّه يُؤخَذ بما تُقدّمه له ويُبهرُ ويُشَدُّ وكفى. حتى الكلمات إذا جاءت في بعضها متنافرةً والجملة مرفوضة في تركيبها، فإنّه يَقبلُها منها لأنّها بسرعة تنقله إلى جوّها السّحريّ الدّافئ، فينسى هذا التّشويش وهذا الإزعاجَ والتّخبّطَ ، ويشعرُ بالرّاحة والقبول.

أخيرا:
تأخذنا الكاتبة ليانة بدر في روايتها هذه (الخيمة البيضاء)، بأزمنتها وأمكنتها وأحداثها في رحلة سيزيفيّةٍ شاقة، تشدّنا من ناحية، نحو التقدّم ومُلاحقةِ الأملِ الكبيرِ والحلمِ العظيم والتمسّك باليقين الذي لا بُدّ وسيتحققُ، حتى ولو بعد مئات السنين، ومن ناحية ثانية، تُلقي بنا في غياهبِ المرارة والحزن، والتّرحّم على ما كان، وبكاءِ الأطلال التي هدموها، ومقارعةِ الموت على جوانبِ الطرقات، وفي زوايا البيوت، لنجدَ أنفسَنا مُعلّقين بين حواجز الحاجز لعبور بوابة، قد نعبُرها ونصلُ إلى الفردوس؟ وقد نموت دونَها، ويكون جحيمُنا بأيدي قاتلينا. فنترحّم على دانتي وجحيمه وفردوسِه، ونبحث عن الأمل الذي حدّثنا عنه لنبصقَ عليه.

لكنها تُسمعنا مع بداية كلّ فصل مقطوعةً لمحمود درويش تبعثُ فينا الآمال وتؤكّدُ لنا أن الغدَ لنا وأنّ الحياةَ لنا:

"هنا سوف نحفرُ فوقَ الصخورِ الأخيرةِ: تحيا الحياةُ ، وتحيا الحياةْ."