يكشف الباحث في قراءته لأحدث أعمال على القادري أهمية إعادة النظر في الكثير من المسلمات الرائجة، ودراسة تصور المركز الرأسمالي لموقع عالمنا العربي فيه، والتخلي عن أوهام التحقق وفق تصوراته التي سبق أن ساهمت في تنمية أوروبا واليابان أو حتى كوريا، لأننا في موقع منذور للموت والدمار.

تحطيم الوطن العربي والعصف بموقعه

تأملات في أفكار علي القادري وكتابه الجديد

عـامـر محسـن

 

»الحقيقة هي دائماً أسوأ من أكثر نظريات المؤامرة تطرّفاً«
جوزيف مسعد
»إنّ مزيجاً من الصراعات العسكرية، ومجتمعاً مدنيّاً تموّله دولارات النفط، والنيوليبراليّة، قد فكّك تنظيمات الطّبقة العاملة، وسفّه رموزها وشعاراتها، وخلق حالةً معمّمة من اليأس والإنهزامية. هذا، بدوره، هو ما قذف بأجزاءٍ واسعة من العمّال العرب الى أحضان الجبريّة الرجعيّة«.
علي القادري

 

حين تنظر الى حالة العالم العربي اليوم وأوضاع غالبية سكّانه، فإنّ ما يثير العجب ليس التأثير المدمّر للحروب والغزوات الخارجية التي تطحن (قبل وبعد «الربيع العربي») بلاداً بأكملها، من العراق الى سوريا وليبيا واليمن، وتهجّر أهلها وتدمّر مواردها ــــ فهذا متوقّع من الحرب. العجيب هو أنّ الدّول التي لم تواجه غزواً وعدواناً، و«تصالحت» مع الامبريالية والغرب واسرائيل، وأطلقت «اصلاحات» ليبرالية واندمجت في الاقتصاد العالمي، قد وصلت مجتمعاتها على المدى البعيد الى درجةٍ من التدمير والانهيار لا تختلف كثيراً عن تلك التي ضربتها الصراعات العسكرية. مستوى الحياة في لبنان مثلاً، وهو بلدٌ قضى أكثر تاريخه في حروبٍ مدمّرة، أعلى بكثيرٍ من مصر، التي خاضت آخر مواجهة عسكرية لها منذ قرابة نصف قرن، وهي تستفيد من «عائدات السّلام» و«الاصلاحات» منذ ثلاثين سنة.
أعمال علي القادري، سواء كتابه عن «التنمية العربية المحظورة» (2014) أو عمله الأخير «تفكيك الاشتراكية العربية» (دار انثم لدراسات الاقتصاد السياسي، 2016)، تهدف الى شرح العلاقة بين هذين الشكلين من «التدمير» اللذين يختصران التاريخ السياسي العربي في العقود الثلاثة الماضية (يعتبر القادري أنّ النمطين، سواء الحروب الاستعمارية المباشرة أو تحكيم نخب نيوليبرالية تابعة، هما وجهان لعملة واحدة، ويوصلان الى النتيجة ذاتها: تدمير المجتمعات من الدّاخل وسلبها سيادتها وإعادة تشكيلها كما يريد المهيمن. الاصلاحات الليبرالية التي تحطّم القدرات الانتاجية وتفقر الشعب وتفكّكه، يقول القادري، ما هي الّا صيغة «رخيصة» من الحرب الاستعمارية). ولأنّ كتب القادري هي من الأعمال القليلة الحديثة التي تعالج الاقتصاد السياسي في بلادنا، ومن خارج أدبيات «التيار السائد» التي يصعب الدفاع عنها اليوم، وهي غرقت عموماً في صمتٍ منذ 2011، فإنّ هذا المقال سيكرّس لعرض فرضيّة علي القادري، ونتائجها السياسية المحتملة، ونقاط الاختلاف معها.

كيف وصلنا الى هنا؟
بين أواخر السبعينيات و2011، تعرّضت الطبقات العاملة العربية، وبخاصة في الدول التي كانت اشتراكيّة، الى أقسى عملية انحدار شهدته، ربما، أي مجموعة سكانية على هذا الكوكب. المسألة ليست في أنّ اقتصادات الدول العربيّة، بعد سنواتٍ من الجمود والفشل وانعدام النموّ في ظلّ الاصلاحات الليبرالية، لم تعد تمثّل أكثر من 0.9 في المئة من الدّخل العالمي (خارج الخليج النفطي)، المسألة هي أنّ حصّة الرواتب والمداخيل العربيّة تمثّل 0.3 في المئة من الإجمالي العالمي؛ أي أنّ أغلب الثروة في هذه الاقتصادات الهزيلة لا تذهب رواتب للناس العاملين، بل ريعاً وأرباحاً للنخب والأثرياء. من السّهل اثبات الكارثة التي حلّت بعموم الشعب العربي في العقود الماضية، فالأرقام واضحة وساطعة، من مستوى الاستهلاك الى التعليم والصحة، وانتاجية العامل وظروف السّكن، وصولاً الى نسب الفقر المدقع والبطالة (البطالة، يشرح القادري، لا يجب أن نفهمها عبر الأرقام الرسمية فحسب. الذين يعملون برواتب لا تكفيهم لكي يستقلّوا ويقيموا أودهم ويؤسسوا بيتاً، وهذه حال عشرات الملايين من العمال العرب في قطاع الخدمات وغيره، هم يمثّلون حالة من البطالة، وتبخيس قيمة العمل وصاحبه).

الأمثولة ليست هنا، بل هي في المقارنة بين هذه الثلاثينية البائسة وبين المرحلة «الاشتراكية» التي سبقتها، بين أواخر الخمسينيات وأواخر السبعينيات، حين كانت الحالة معكوسةً تماماً. الأساس الإحصائي الذي يستخدمه القادري هو أقوى ما في الكتاب. هو يعرض مثلاً جدولاً بسيطاً، يضع مؤشرات المرحلة الاشتراكية (1960 ــــ 1980) في سوريا والعراق ومصر مقابل المرحلة الليبرالية التي تلتها (1980 ــــ 2011)، ونظرةٌ سريعة اليه تكفي لشرح الحجّة الأساسية للكاتب. الفارق مذهل بين الخانتين: من جهةٍ نموّ مستمرّ وتحسن في أحوال العمال ومستوى انتاجيتهم ومعدّل استثمار كبير في البلد وصناعاته، رغم أن تلك الدول كانت تمرّ بحروب وهزائم ومواجهة شرسة مع الغرب واسرائيل والخليج، وفي الخانة الأخرى انحدارٌ وإفقارٌ وعجزٌ مالي وتجاري.

من غير الطبيعي أو المنطقي أن ترتفع انتاجية العامل المصري، طوال الستينيات والسبعينيات، ثمّ تبدأ بالانحدار في عصر الحداثة والتطوّر التكنولوجي، هذا مجرّد مؤشّر على «نوعية» النمو في المرحلة الليبرالية، وعملية تفريغ الاقتصاد من القيمة ووقف الاستثمار في مهارات العمّال وتعليمهم. بالنسبة الى القادري، فإنّ قوس الأحداث قد جرى على النّحو التالي: اثر الاستقلال، حكمت «الجمهوريات» العربية نخبٌ عسكرية في تحالف مع برجوازية دولة (يسمّيها القادري «الطبقة الوسيطة»، وهم فئة الموظفين الكبار والتكنوقراط والمثقفين الذين سندوا النخب العسكرية الحاكمة وأداروا مؤسسات الدولة، وكانوا أحياناً من نتاج الدولة الاشتراكية ونشرها للتعليم). وهذا التحالف السياسي حظي بتأييد فئات واسعة من الشعب بسبب تطبيقه للاشتراكية والتأميم ودعوته للوحدة العربية ومواجهة الغرب واسرائيل.

منذ أواخر السبعينيات، وبسبب مزيجٍ من الهزائم العسكرية وانتعاش المعسكر الغربي وأفول الاتحاد السوفياتي، تحوّلت هذه النّخب الى «التصالح» مع الامبريالية، وفتح أسواقها وفق شروط استسلامٍ سياسية، وتحالف الحكّام مع نخبة «تجارية» جديدة، تسهّل «دولرة» الاقتصاد، وتستبدل النمو الصناعي ومشروع التنمية بنشاطات مالية وعقاريّة. الهزائم العسكرية (من 1948 الى 56 الى 67 الى 73) أوصلت الى هزيمة ايديولوجية في صفوف النخبة الحاكمة؛ (وليس بين الشعب، الذي احتمل طويلاً التضحيات والتقشّف). والهزيمة الايديولوجية خلقت ثقافة بين النّخب تعتبر أن الصّدام مع دولة حديثة ونووية كإسرائيل أو تحدّي الغرب المتفوّق هو وهم، ونادت بـ«الواقعيّة»، وفصلت بين مسار التنمية ومسار الأمن والاستقلال، يقول القادري، فخسرت الاثنين معاً.

مصر وانقلاب السادات:
حين بدأ السادات بتحرير الاقتصاد وسياسة «الانفتاح»، كان الخطاب السائد أنّ هذه الاجراءات ضرورية لأن اقتصاد الدولة أثبت فشله، وقد وصلت مصر الى الأزمة، ولم يعد هناك من خيار. المشكلة هي أنّ هذا ببساطة لم يكن صحيحاً. من ناحية، كان وضع الميزانية المصريّة مقبولاً حتى أواسط السبعينيات وتتم تغطية العجز من منح الحلفاء، والتبادل بين مصر والعالم متوازن تقريباً، والاستيراد أقل من 20% من الدخل القومي (والكثير منه سلاح سوفياتي يتمّ تمويله بقروض ميسّرة أو مقابل انتاجٍ مصري). من جهةٍ أخرى، كلّ هذه الاختلالات ابتدأت تحديداً اثر «الانفتاح»: ارتفع العجز التجاري، انكسرت ميزانية الدولة، وهبط الاستثمار ــــ حين أصبح في يد القطاع الخاص ــــ بأكثر من الثلث مقارنة بمرحلة الاقتصاد الموجّه. كانت الدولة الاشتراكية تعتمد عدّة أنظمة للصرف وتتحكّم بانتقال الرساميل من أجل عزل العمّال (وسلّة استهلاكهم) عن السّوق العالمي؛ فتكون للعملة في الداخل قيمة اسمية عالية وثابتة، تضمن أن تغطّي الرواتب سلّة استهلاك العمّال وحاجاتهم الأساسية، فيما المستوردات تصبح عالية الثمن وصعبة المنال. أمّا «عملة الصّرف» التبادلية، فهي متروكة للمصرف المركزي والمصارف التجارية التي تنظّم الاستيراد وتوجّهه لخدمة الاستثمار وشراء الآلات وحاجات الصناعة.
في عهد الانفتاح وتوحيد سعر الصرف وربط العملة بالدولار (أو تحريرها، لا فرق)، انت تخسر فعلياً كامل سيادتك الاقتصادية، ولا يعود وضع الاستثمار والاستهلاك والأسعار في بلدك مرتبطاً بقراراتك وأفعالك، بل بسياسات واشنطن وتقلّب الدولار وظروف خارجية لا سيطرة لك عليها. في الوقت ذاته، تمّ »تحرير» غالبية اليد العاملة ورميها الى السّوق. بمعنى أنّه، بدلاً من أن تكون هناك نسبة متزايدة من العمّال منظّمين في مؤسسات عامّة (يعملون في مصانع الدولة، أو في تعاونيات زراعية، ويحظون بدعمٍ وضمانات وحقوقٍ ومسكن)، انسحبت الدولة وتركت ملايين الريفيّين والمهاجرين الى المدن تحت رحمة القطاع الخاص والعشوائيات، وبلا أي شكلٍ من تأطيرٍ وتنظيم وهويّة، باستثناء النشطاء الاسلاميين وعمل المنظّمات غير الحكومية.

حتّى نشرح الفارق بين النموذجين. المسألة ليست في أنّ القطاع الخاص «أكثر فعالية» من القطاع العام، وهو الخطاب الذي ساد في العقود الماضية، وأنّ مصنع الحديد حين يديره رجل أعمال سيربح أكثر بنقطتين او ثلاث من المصنع ذاته تحت ادارة الدولة؛ الأساس هو أنّ مصنع الحديد (مثالاً) هو نشاطٌ يعتمد على الغاز الوطني أو الطاقة المدعومة، وهو بذلك نوعٌ من «ريع»، أو ربحٍ مضمون، وعملية «تحويل» للثروة الوطنية. وحين تملك الدولة المصنع، فإن أرباحه سيُعاد تدويرها في نشاطات صناعية أكثر تقدّماً، أو تُنفق على الاستثمار في العمّال وتعليمهم وشبكتهم الاجتماعية. أمّا حين يدير أحمد عزّ المعمل ذاته، مع شركائه وأصدقائه في النظام، فهو سيبني بالأرباح قصراً فخماً على الشاطئ، ويرسل الباقي الى حسابات في سويسرا (وهذا كلّه قانوني بالمناسبة).

القيمة الحقيقية للعملة المصرية اليوم لا تنتج عن سياسات المصرف المركزي وتدخّلاته، يكتب القادري، بل أساساً عن الرضا الأميركي ودور مصر السياسي. لو «تخلّت» واشنطن عن مصر غداً وعادتها، فإنّ كلّ الرساميل المصرية ستخرج مذعورة خلال اسبوع، ولن يقرض أحدٌ في الخارج الدولة المصرية، وسيتوقف الدعم الخليجي (وهو أحد نتائج «الرضا» الأميركي). نظام السيسي، كتب القادري في كتابه الأسبق، ومثله نظام مرسي، يقوم فعلياً على دعامتين، بمعنى أنّه لو سقطت احداهما لسقط النظام مباشرة: الالتزام بكامب دافيد وحيازة الدعم الأميركي من ناحية، والمنحة المالية الخليجية من جهةٍ أخرى. ومن يريد أن يراهن على نظامٍ كهذا، أو يعتبره استقلاليا أو امتداداً لعبد الناصر، عليه أن يتذكّر جيّداً هذا السّقف.

الدّاخل والخارج:
سنناقش في الأجزاء المقبلة الجانب الأكثر راهنيّة في أطروحة القادري، وهو عن الحرب ومعناها في بلادنا، ولكن الأساس أن القادري يرفض أيّ فصلٍ بين »الداخل والخارج» في التحليل. حتّى «الفساد»، يكتب القادري، لا يمكن فصله عن عمليات تتخطى حدود البلد (لولا «الانفتاح» ودولرة الاقتصاد مثلاً، لكان الفاسد يسرق عشرة الاف جنيه وليس مئة مليون دولار، ولولا أنّ رفيق الحريري فتح لبنان على أسواق الدين العالمية، لما كان لدى النخبة اللبنانية ريعٌ بالمليارات مكشوفٌ للنهب). اميركا، مثلاً، تدفع ظاهرياً لمصر ملياريّ دولار في السنة «بدلاً» للسلام (يذهب جلّها، يقول القادري، الى المؤسسة العسكرية والأمنية، والباقي الى نشاطات لجمع المعلومات داخل البلد، وتجنيد المتعاونين، ونشر ثقافة الهزيمة والاستسلام في المجتمع)، ولكنّها تحصّل عوائد سياسيّة أضخم بكثير من ذلك، بسبب تحويل مصر الى دولة تابعة: في الخليج وفي اليمن وافريقيا، وفي العالم ككلّ.

الحرب في بلادنا ليست استثناءً، أو نتيجةً لفعل رئيسٍ أو تهوّر حاكم، بل هي من طبيعة عمل النظام العالمي في هذه المنطقة. بعد هزيمة 1991، فعل النظام العراقي المستحيل، يقول القادري، لتجنّب الحرب، وصولاً الى رهن موارده النفطية للروس والفرنسيين قبل فترة قصيرة من الغزو، ولكن هذا لم يصنع أدنى فرقٍ بالنسبة الى اميركا، التي كانت «تحتاج» الى تدمير الدولة العراقية واختراق المجتمع وكسره. بالمعنى نفسه، رغم أنّ الحكم السوري والبرجوازية قد حاولا، لفترةٍ طويلة، التصالح مع الامبريالية وتجنّب الحرب وفتح الاقتصاد ودمج سوريا بالغرب (يقول القادري ان السوريين طبّقوا كلّ معايير منظمة التجارة الدولية، ورفعوا الحماية عن صناعاتهم وعمّالهم، مع أنّهم كانوا متيقّنين من أن اميركا، في كل الأحوال، ستمنع دخولهم الى المنظّمة. وبعد عام 2007، فعلياً، كان الاقتصاد السوري بكامله في يد القطاع الخاص). على الرّغم من ذلك، اختارت اميركا إحراق سوريا ما أن لاحت الفرصة. السبب هنا بسيط، يشرح القادري: اميركا لا ترى سوريا أو مصر ككوريا أو تايوان، وهي لا تريد الدولارات القليلة التي يمكن استخراجها من الاقتصاد السوري وتحويلها الى سندات خزينة اميركية. أمّا العائد الجيوستراتيجي الذي تحصّله واشنطن (في الاقليم وفي العالم) نتيجة تدمير الدولة السورية وتحطيم المجتمع وتحويل البلد الى ساحة حرب، فهو أضخم بما لا يُقاس.

تشويه الوعي وسهولة الانقلاب على الإصلاح من فوق:
في مرحلة الستينيات، حظيت الأنظمة العسكرية العربية، وسياساتها الاشتراكية وإصلاحاتها الزراعية وعداؤها لإسرائيل والهيمنة، بدعمٍ من قطاعاتٍ واسعة من الشعب (وهو جزءٌ من التاريخ الذي تطمسه سرديّات المراجعة التي خرجت في مرحلة الهزيمة، وبعضها يحاول اليوم أن يشرح لك أنّ الملك فاروق أو نوري السّعيد كان، في أيامه، يمثّل الخيار الشعبي). ولكن، بصرف النظر عن تأييد كثير من النّاس لهذه الأنظمة، أو أنّ السياسات الاشتراكية قد أفادت وخدمت الفقراء العرب، الّا أنّ هذه الطبقات العاملة لم تُشرك فعلياً في الحكم، ولم يتمّ تنظيمها ضمن مؤسسات وميليشيات ونقابات تعطيها صوتاً وقوّةً في المجتمع.

هذا الإصلاح «من فوق»، يقول القادري، هو ما سمح بالانقلاب «من فوق» ايضاً، وبسهولةٍ شديدة، حين أعلنت النّخب الحاكمة هزيمتها الايديولوجية، وتصالحت مع الهيمنة الغربية، وتخلّت عن الفقراء ومصالحهم وتحوّلت الى «طبقة تجارية» (بعض بقايا البرجوازية الاشتراكية من «الطبقة الوسيطة» التي ارتقت في ظلّ النظام الاشتراكي ونظّرت له وساهمت في ادارته ــ وبينهم مثقفون وعسكريون وموظّفون كبار ــ حاولوا مقاومة إصلاحات السادات في مصر ومعاهدة السّلام، وكانوا من أوّل الفئات التي تمّ قمعها وزجها في السجون).

الحرب كنشاط منتج:
حالة الإفقار والتفتيت وانعدام العدالة التي تكرّست في العقود الماضية في منطقتنا تجد تعبيرها السياسي المباشر حالياً في حدثٍ مثل حرب اليمن، حيث تقوم أثرى دول العالم دخلاً (الامارات وقطر والسعودية) بضرب احد أفقر البلاد في العالم وحصاره وتجويعه بدعمٍ غربيّ مباشر. وأغلب حكومات المنطقة، من مصر الى المغرب الى الأردن والسودان، تؤيّد الحرب علناً وتشارك فيها، من دون أن تخشى أي ردّة فعلٍ من شعوبها. لهذا السّبب ايضاً، أصبحت الحكومات العربية قادرة على الانتظام، جهاراً، في أحلافٍ اقليمية مع اميركا واسرائيل وهي واثقة من أنّ مزيجاً من تكريس ثقافة الهزيمة بين النخب، وضعف الطبقات العاملة وعجزها، سيسمح لها بقيادة مجتمعاتها في سياساتٍ تؤدّي الى إضعافها واستعمارها وتدميرها. فكرة أنّك لو وضعت الانسان في سياقٍ معيّن وأمام محفّزات معيّنة، فأنت قادرٌ على دفعه للعمل ــ حرفيّاً ــ ضدّ مصلحته، هي جزءٌ أساسيّ من حجّة علي القادري. ما نراه اليوم في سوريا وليبيا والعراق هو دليلٌ على ذلك، والنّخب الحاكمة، حين أقرّت السياسات النيوليبرالية، كانت تسير في طريقٍ لن يؤدّي الّا الى تجويف المجتمع والاقتصاد، وتخريب البلاد الواقعة تحت حكمها حتّى تصل الى مرحلة الانهيار.

المشكلة هي أنّ «التّخريب» في منطقتنا من العالم ليس ضدّ المصلحة الامبرياليّة، بل على العكس تماماً. هذا الإقليم المفقر، الذي لا يملك دخلاً عالياً وقدرات انتاجيّة، ولا يريد منه الغرب الّا النّفط، هو أكثر «نفعاً» لرأس المال العالمي كميدان حربٍ وغزوات، ترفع الانفاق العسكري ومداخيل شركات السّلاح، وتضع الجيش الأميركي في قلب منطقةٍ حيويّة. حتّى النّفط، يكتب القادري، لا تأتي أهمّيته من قيمته المالية المباشرة أو من حصول اميركا على نفطٍ «أرخص»، بل باعتباره قطعةً من منظومة الهيمنة، تضمن سلطةً أميركية على اقتصادات اوروبا وآسيا، وتساهم في تكريس الدولار عملةً عالمية (من أهمّ الأمثولات التي تقدّمها مدرسة التبعيّة لنا هي دحض حجّة النخبوي العربي الذي يدعو لأن نصير مثل «كوريا واليابان»، فالنظرية تشرح لماذا لا يمكن أن نصبح جميعاً «كوريا واليابان»، وأنّ أميركا لا تسعى للسيطرة على العالم من أجل تنمية دول الأطراف وتحويلها الى قوى صناعية، حتّى تجلس هي على الهامش).

على عكس ما ادّعى المبرّرون لغزو العراق، فإنّ أميركا ــ حتّى في حالة الاحتلال المباشر و«صنع الدول» ــ لم تستعمر العراق حتّى تجعل منه دولةً مستقرّة ومزدهرة، بل إنّ مصلحتها هي في استمرار حالة الحرب والعنف، والدويلات المتناحرة، وهي قد صمّمت نظاماً يخدم هذا الهدف. الحال نفسه في سوريا، حيث يترواح الهدف الأميركي من الحرب ــ على حدّ قول القادري ــ بين تقسيم البلد وتحويله الى ميدان معركةٍ مستمرّة (وهو السيناريو الأفضل)، أو الإبقاء على دولةٍ إسميّة بلا قدرةٍ ولا سيادة (ويضيف الكاتب أنّ من تصوّر، في أيّ لحظةٍ خلال هذه الحرب، أنّ الدمار الفائق والمال الخليجي والإمارات المسلّحة والمخابرات الأجنبيّة ستوصل الى «ديمقراطية ثورية» من أيّ نوع في سوريا، يعيش في عالم الخيال).
من هنا ايضاً، يجزم المؤلّف، لا تخاف اميركا من «داعش»، لا لأنها عاجزة عن انتاج مشروعٍ حديثٍ يصارع الهيمنة، بل لأنّها ضمانٌ لاستمرار العنف والنزاعات في المنطقة، والتدخلات الأميركية تحت شعار مكافحة الإرهاب
.

سوريا و«الحرب القادمة»
في الستينيات، بنى البعث في سوريا أكثر النظم العربية راديكاليّة. تمّ تأميم أغلب القطاعات الاستراتيجية والمؤسسات الماليّة، أجري اصلاح زراعيّ موسّع، وتولّت الدّولة أمر الاستثمار في الصّناعة والتّحديث. في الوقت ذاته، تمّ حصر الاستيراد والتصدير بشكلٍ كامل (على الطريقة السوفياتية) في يد المؤسسات العامّة للحفاظ على قيمة العملة، ومستوى المعيشة في الداخل. منذ أواخر السبعينيات، يشرح القادري، تمّ تفكيك هذا النظام تدريجيّاً، في الاقتصاد وفي السياسة: بعد خروج مصر من المواجهة مع اسرائيل، وتراجع المعسكر السوفياتي، اختطّ النظام السوري طريقاً يقوم على تحصيل الريوع »الجيوسياسية» من الأطراف الدوليّة والاقليمية المختلفة وتجنّب الحرب (عبر عملية «حساب مخاطر» معقّدة، يكتب القادري، وسوريا عملياً ــ منذ أواخر الثمانينات ــ مكشوفةٌ عسكرياً أمام أي هجومٍ غربيّ أو اسرائيلي).

في الوقت نفسه، انسحبت الدّولة تدريجياً من المجتمع والمشروع التنموي، وتحالفت مع النخبة التجارية المدينية على حساب العمّال والمزارعين والقطاع العام، وابتدأت مسيرة تحرير العملة والاقتصاد. أوّل ضربةٍ على هذه الجبهة جاءت في أواسط الثمانينيات، يكتب القادري، حين بدأت أموال البرجوازيين السوريين بالخروج من البلد، في رزمٍ وصناديق وغالباً بالتعاون مع ضبّاط ومسؤولين في الدولة، ليتمّ تحويلها الى دولارات في البلاد المجاورة (وبخاصّة لبنان). هذه الطريقة المواربة لتحويل العملة أدّت الى فائضٍ في عرض الليرة السورية، فبدأ الصرّافون بطلب أسعارٍ أعلى للتحويل، فاضطرّ المصرف المركزي السوري الى التدخّل وشراء العملة للحفاظ على قيمتها. بمعنى آخر، لم يحدث أي تغييرٍ في الاستهلاك أو حاجات الاستيراد أو الطّلب الداخلي في سوريا، ولم يكن هناك أي سببٍ للضغط على العملة، ولكنّ العملة الوطنية اهتزّت، وحصل تضخّم دفع ثمنه المواطنون، ليذهب الفارق أرباحاً لأصحاب الأموال وشركائهم (لتوضيح حجم الأموال التي تمّ استخراجها وتهريبها من البلد في تلك المرحلة، يذكّر القادري بأنّ رفعت الأسد، حين خرج من سوريا، كان معه ما يكفي من أموالٍ لشراء محطّات فضائية ومصالح تجارية في اوروبا).

مع توقّف الاستثمار في القطاع العام والصناعة، أدخل التضخّم في أواسط الثمانينيات سوريا في أزمة اقتصادية، يقول القادري، لم تخرج منها ابداً ــ النموّ ظلّ قريباً الى الصّفر حتى عام 2002، والنموّ المسجّل بعد ذلك يعود أساساً الى مدخول النفط، الذي لم يتمّ استثماره هو الآخر لتعزيز التنمية وتوسيع القاعدة الانتاجية، بل استخدم لدعم العملة واحتياطي المصرف المركزي، وبالتالي، مصالح التجار ورساميلهم. في جدولٍ يرد في الكتاب، يمكنك بسهولةٍ أن تلاحظ كيف ظلّت أسعار المواد الأساسية في سوريا ثابتةً تقريباً، أو ترتفع ببطء، منذ أوائل الستينيات وحتى الثمانينيات، ثمّ تبدأ الأسعار بالارتفاع عمودياً. بحلول عام 2007، حين تمّت إزالة آخر الحواجز الجمركية (وكانت العملة أصبحت قابلة للتحويل، وقد تمّ توحيد سعرها، وانشاء مصارف خاصّة) وصل التضخّم الى نسبةٍ تقارب العشرة في المئة باستمرار، وصولاً الى سنة 2011.

الخيانة الكبرى، يقول القادري، هي أنّ الطبقات العاملة والزراعية في سوريا، التي احتملت التقشّف والحصار والحرب من أجل أهدافٍ وطنية وقوميّة، هي التي تمّ التخلّي عنها ورميها الى الفقر. بعد أن حوّل التضخّم راتب الموظّف في القطاع العام الى «راتب فقر»، وهبط الانتاج الصناعي الى أقل من نصف قيمته في السبعينيات، أصبحت هناك ندرة في «الوظائف الجيّدة» في سوريا، مقابل ظهور الأثرياء الجدد والثروات التّجارية وانتشار الاستيراد (رأس المال الصناعي، يقول القادري، يصنع القيمة عبر تحويل المادّة، فيما التاجر والمصرف يربحان من التبادل، بمعنى آخر، فإنّ هذه الثروات ما هي الّا ضريبة تستخرج من الشعب واستهلاكه تحت مسمّى «الأرباح»). المشكلة الكبرى ليست هنا؛ المشكلة هي أنّ سوريا كانت في مرحلة تحتاج فيها الى التحضير للحرب وتوقّعها على الدّوام.

يقتبس القادري غرامشي حين يقول إنّ من تهدّده الحرب هو أكثر من يحتاج الى أن تخترق الدّولة مفاصل المجتمع، وأن تنظّم كلّ شيء فيه، وفي سوريا حصل العكس تماماً. انت لا يمكن أن تواجه غزواً غربياً أو حرباً اسرائيلية الّا ان كنت تملك طبقةً عاملة مسلّحة ومنظّمة ومكتفية، ومستعدّةٌ للقتال (حين قاتل الريفيون السوريّون الى جانب البعث، في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، وكانوا مستعدّين لخوض حربٍ أهلية من أجله، لم يكن ذلك لأسباب ايديولوجية أو وطنيّة فحسب، بل لأنّ النّظام كان يعني لهم شيئاً ماديّاً يستحقّ القتال لأجله: يوزّع عليهم الأراضي، ويرفع من دخلهم، ويشعرهم بأن الدولة لهم، ويضرب العائلات الاقطاعية التي استغلّتهم طويلاً).

في المنطقة العربية، يجب أن تفهم أن «الحرب القادمة» هي آتية دوماً؛ بلدٌ كالعراق قضى أغلب تاريخه الحديث في حرب، فهل من المنطقي أن تبني سياساتك على أساس عهدٍ قادم من السّلام، كأنك في اوروبا؟ هذا ليس الّا شكلاً من الانتحار. الحكم السّوري تحالف مع المدينيين والتجار (الذين، بالمناسبة، لا يحملون السلاح عموماً ولا يقاتلون، وإن أيّدوك وأثروا بسببك). واعتقد أنه بالإمكان تجاهل الطبقات الشعبية وإخراجها من السياسة ــ في وقتٍ يقوم فيه التمويل الوهابي بملء أيّ فراغٍ ايديولوجي ــ فيما الحرب تقترب (أمّا عن الموقف السياسي من الحرب الدائرة اليوم، فتعليل القادري بسيط، رغم عدائه الواضح للنظام السوري، وتقييمه شديد السلبية له: إن شئت أن تعتمد موقفاً أخلاقياً معيارياً بالمعنى الكانطي، يكتب القادري، فإنّ هذه حربٌ شرسة وبشعة والجميع يرتكب جرائم، فالأفضل ساعتها أن تأخذ خطوةً الى الوراء وأن تعارض النزاع بأكمله ولا تقف مع طرف؛ أمّا إن شئت تحديد المسؤول عن تسعير الحرب وتحويل سوريا الى أرض محروقة، فهو التدخّل الأميركي والخليجي وما يعتبره القادري «غزواً جهادياً» لسوريا، على غرار حرب أفغانستان).

مع علي القادري، يجب أن نتذكّر أنّنا أمام نصٍّ ماركسيّ بنيويّ كلاسيكي: الفاعل الأساسي في التّاريخ هو رأس المال، وإرادة الأفراد وافعالهم ثانويّةٌ الى حدّ بعيد. هو يعتبر أنّ مسار النيوليبرالية والاستسلام، الذي وصّفناه، لم يكن «اختيارياً»، وأنّ عوامل بنيويّة (من الهزائم العسكرية الى ضعف المنظومة الاشتراكية) كانت ستفرض «الانعطافة النيوليبرالية» بغض النّظر عن هويّة الحاكم. كان من المستحيل منطقياً أن يخرج جناحٌ من النّخب في الثمانينيات ليطالب بمزيدٍ من الاشتراكية في السياق الايديولوجي والثقافي لذلك الزمن، ولو حصلت تلك التجربة، لكان من المستحيل أن تنجح. أغلب الأحداث التي شكّلت التاريخ السّوري الحديث، من الريع النفطي الى كامب دايفيد الى سقوط الاتحاد السوفياتي، كانت خارجيّة المنشأ وليس في يد النّظام تجاوزها أو تغييرها. حتّى لو قام الحكم في سوريا منذ الثمانينيات بإصلاحاتٍ أكثر «عدالة» وأقلّ فساداً، وتمّ توزيع جزء أكبر من الدّخل على العمّال، يجزم القادري، فإنّ النتيجة النهائية لم تكن ستختلف جذرياً، واميركا كانت ستوصل الحرب الى أبواب دمشق ما أن تلوح الفرصة.

هذه البنيوية «الجبرية» يطبّقها القادري ايضاً، بتشاؤم، على المستقبل، فهو يجد أن الطبقة العاملة العربية اليوم هي ضعيفة، مشتّتة، فقيرة وغير مسلّحة، ولن تتمكّن من صنع أو قيادة حركة تغييرٍ في هذه الظروف. أنت لن تتمكن من مواجهة اميركا أو «حفر قبرها» في بلادك، فهي أقوى منك بكثير، وحتى لو تلقّت هزيمةً موضعية، فالإمبراطورية لديها موارد كثيرة، وهي ستعيد تشكيل نفوذها وتضربك في المستقبل. حتّى لو حقّقت استقلالك، وانت بلدٌ عربيّ صغيرٌ فقير، فإنّك لن تتمكن من بناء اقتصاد ناجحٍ في رقعتك الصغيرة من دون دمج مواردك مع محيطك. الأمل الوحيد، يحاجج القادري، هو في حصول تغييرات بنيوية على مستوى العالم، أو أن يضعف الصعود الصيني الهيمنة الأميركية، ويفتح مساحاتٍ للمناورة، والمستقبل، عدا ذلك، لا يدعو الى الأمل. هذه الخلاصة الأخيرة هي من الأمور التي نختلف فيها مع الكاتب، وهو ممّا سنناقشه أدناه.

إنّ الطّبقة «التجارية» التي حكمت بلادنا بالوكالة على مدى العقود الماضية هي طبقة معولمة، عابرة للحدود، بتعبير علي القادري. هذا لا يعني أنّ هؤلاء هم في موقع متساوٍ مع نظرائهم في المركز الغربيّ، ولكن بمعنى أنهم مرتبطون مادياً بالرساميل نفسها، ويقلّدون بعضها في اسلوب الحياة والثقافة، ويدرسون في الجامعات ذاتها وأغلبهم يمتلك جنسيات أجنبية. (أذكر زميلاً في الجامعة عاد من الإجازة الصيفيّة ليقول بدهشة: «كم هو عالم صغير! وأنا أسير في شارع الاستقلال في اسطنبول أجد زميلنا في الجامعة يسير في الاتجاه المقابل، ثم ألتقي بزميلنا الآخر في نيويورك، واكتشف، وأنا في المطعم في لندن، أن زميلتنا تجلس على الطاولة مقابلي. ما هذه الصدف؟» المسألة، بالطبع، لا علاقة لها بالصدف، بل بأنكم طبقة صغيرة، محصورة، وترتاد مدناً وشوارع محدّدة، فمن الطبيعي أن تصطدموا ببعض).

بالنّسبة الى هذه «الطبقة» فإنّ الخيار بين ارتباطاتها بالخارج وبين مجتمعها المحلّي، إن وقع، هو خيارٌ سهلٌ ومحسوم. منذ فترةٍ قريبة، عقدت الجامعة الأميركية في بيروت «صفقةً» مع الحكومة الأميركية، تدفع بموجبها 700 ألف دولار غرامةً وجزاءً وتصدر اعتذاراً شديداً. لماذا؟ لأنّها، على ما يبدو، خالفت القوانين الأميركية وقدّمت «دعماً» عن غير قصد لحزب الله (يبدو أن الجامعة استضافت، خلال ورش عملٍ لصحافيين لبنانيين، اعلاميين من قناة «المنار» من بين مشاركين كثر، فاعتبر المحققون الأميركيون ذلك «دعماً مادياً لمنظمة ارهابية»). تعهّدت الجامعة بعدم «تكرار الخطأ» في المستقبل، وأردفت ذلك ببيانٍ مضحك تعلن فيه أنّها ستلتزم «بالقوانين الأميركية واللبنانية».

أنت لا يمكنك أن تلتزم بنظامين قانونيين متناقضين، عليك أن تختار؛ وما تقوله الجامعة لنا فعلياً هو أنّها ستتصرّف كمؤسسة أميركية، وستميّز ضدّ أبناء شعبها على أساسٍ ايديولوجي وسياسي، وأنّها ستلعب دورها في الحرب الشاملة ضدّ حركة المقاومة التي حرّرت بلدها (ماذا لو قرّرت الحكومة الأميركية، غداً، أن فئةً جديدة من اللبنانيين هي عدوّة؟ هل ستميّز ضدّها ايضاً؟ وماذا لو نصّ القانون الأميركي على أن تشارك الجامعة معلوماتها مع الحكومة والأجهزة الأمنية الأميركية؟ هل ستتجسّس علينا الجامعة وتسلّم بياناتنا الى أعدائنا؟).

حدثٌ مثل هذا كان من المستحيل أن يمرّ قبل ثلاثين سنة من غير احتجاجاتٍ عنيفة داخل الجامعة نفسها واستقالة العديد من الأساتذة، ولكنّه يجري اليوم بكلّ بساطة ويسر (الخطير في الموضوع هو ليس أنّ هذه الفئات تنحاز الى الحكومة الأميركية ضدّ بلدها، ولا تخشى ردّة فعلٍ أو محاسبة أو تشكيكاً بشرعية وجودها، الخطير هو أنّهم يتصرّفون بثقةٍ وكأنّ المستقبل، ايضاً، محسومٌ لهم، وأنّ أسيادهم هم من سيحكم العالم ويسود ويكون سلوكهم هو «الطبيعي» والعقلاني، ولن يأتي يومٌ في المستقبل يتعرّضون فيه الى المحاسبة على موقفهم هذا، أو يواجهون، حتّى، نظرة احتقار في عين أولادهم).

وفق منهجيّة علي القادري، إن شئت أن تعرف هويّتك في المجتمع، فالمهم هو ليس تعريفك لنفسك أو البطاقة الايديولوجية التي ترفعها، المهمّ هو موقعك ودورك في عمليّة الانتاج: من أين يأتي دخلك؟ لمن تعمل؟ من الذي يقيّمك ويعطيك هويّة مهنية؟ هذه المنهجية، في الحقيقة، تصلح «اختباراً» لنظرتنا عن ذواتنا، وتفسّر العديد من الظواهر في مجتمعنا. انظروا الى مجتمع المثقّفين والخبراء والإعلاميين من حولنا: تجد المشرقي الذي يعمل أجيراً لدى قطر أو السعودية، أو في الإعلام الحكومي الأميركي والغربي، أو في المنظّمات ذات التمويل الدّولي، تجدهم جميعاً جبهةً واحدة في السياسة والثقافة، وحتى العلاقات الشخصية. يقفون في خندقٍ واحد في أغلب القضايا الأساسية، بل وينتقلون بسلاسة بين هذه الوظائف وكأنها في نطاقٍ واحد. من النّاحية الظاهرية، هذا التوافق يتحدّى المنطق والعقل، فهؤلاء النّاس ينتمون الى مرجعيّات متعارضة الى حدّ التناقض؛ بعضهم يخدم سلالات عائلية مستبدّة، تحتقر النساء وتتاجر بالعمّال كالعبيد، وتنشر التحريض الطائفي كسياسة إعلامية؛ بينما بعضهم الآخر يفترض أنه يمثّل حكومات ديمقراطية ليبرالية، وموظّفو المنظّمات عملهم الإسمي هو نشر القيم الديمقراطية والغربية. موقعك من رأس المال العالمي ومن الامبريالية، يقول القادري، هو أكثر تعبيراً عنك من ادّعاءات الايديولوجيا والأخلاق.

العراق والحرب المديدة:
يمكننا أن نقسّم، نظرياً، محتوى كتاب القادري («تفكيك الاشتراكية العربية») الى جزأين (مع أنهما متعلّقان، ويتداخلان في فصول الكتاب): هناك الجانب النظري والإحصائي، وهو عموماً الأقوى والأكثر تماسكاً في العمل، وهناك دراسات الحالات التي تركّز على التاريخ القريب لسوريا ومصر والعراق. حين يقترب الكتاب من التاريخ والتفاصيل، تبدأ اشكالياتٌ بالظّهور، ومشاكل وثغرات في السّرد. العراق مثال: يتحدّث القادري عن المرحلة التي سبقت حرب العراق عام 1991، ويقول إنّ البروباغاندا الأميركية، حين صوّبت على البلد لتدميره، حوّلت شيطنة العراق وصدّام الى رياضة في الإعلام الغربي وبين اليمين واليسار. حتّى مواقف بعض اليساريين الغربيين، مثل نعوم تشومسكي، التي عارضت الحرب ولكنّها أدانت بالمقابل صدّام حسين وانتهاكاته، يحكم القادري بأنّها كانت نفاقيّة، ولعبت دوراً في التعمية الإعلامية التي برّرت الغزو.

لا يوجد أيّ رابط بين فظائع صدّام حسين وبين الغزو الأميركي للعراق، ولا أسباب الحرب ولا أهدافهما مرتبطة بمعاناة الشعب العراقي، ولا هي ستنقص منها. هما موضوعان منفصلان تماماً، فلا يوجد أيّ سببٍ للازمة »الادانة» لصدّام والتبرّؤ منه لدى الحديث عن الحرب القادمة، فيما البلد على وشك أن يُضرب ويدمّر. هذا كله صحيح، ولكن أن يقيّم القادري النّظام العراقي في أواخر الثمانينيات على أنّه النّظام «الأكثر جذرية» في المنطقة، هو مسألة أخرى تماماً. يقول القادري إنّ العراق، بسبب ظروفه الأمنية وتوافر النفط فيه، كانت لديه »حصانة» من النزعات النيوليبرالية، وهو لن يدخل في دورة التخصيص وفتح الاقتصاد طوعاً (ما استلزم الحرب والغزو من الخارج).

ولكنّ هذا ببساطةٍ غير صحيح. صدّام حسين جرّب أن يخضع الاقتصاد والقطاع العام لـ«اصلاحات هيكلية ليبرالية» مرتين على الأقل، عام 1984 وفي 1987ــــ88، وكان يضطرّ للتراجع في كلّ مرّةٍ بسبب فشل التحرير والنتائج السلبية له (كتب أكثر من باحث عن الموضوع، من بينهم كيرن شودري وعصام الخفاجي، الذي يقتبسه الكتاب في موضعٍ آخر). ولولا حرب 1991 والحصار، لكان صدّام على الأرجح سيستمرّ على النّهج ذاته. هناك عدّة خطبٍ وشهادات للرئيس العراقي السابق يتحدّث فيها بوضوح عن نظرته الاقتصادية، من بينها خطابٌ يصرّح فيه بأنّه لم يقتنع يوماً بالاشتراكية وادارة الدّولة للاقتصاد، وأنّه «أنقذ» العراق من الجّناح الراديكالي في حزبه، الذي كان ينوي تحويل البلد الى دولة سوفياتية (الإشارة على الأرجح هي لجناح علي صالح السعدي).

عقد الثمانينيات، إجمالاً، لم يتمّ نقاشه في الكتاب، وتفسير القادري لحرب ايران مقتضبٌ وغير مقنع. يبدو وكأنّ الكاتب يرجع الحرب الى قرارٍ عراقي داخلي بحت، وتخوّف النظام البعثي من انتقال الطائفية الى البلد بسبب النظام الديني في طهران. السؤال هنا: هل كان الحكم العراقي سيفتح حرباً مع جارٍ أضخم منه بكثير لولا الدّعم الخليجي والتشجيع الأميركي، بغض النظر عن رغبات النظام؟ هل يمكن نفي الدور الغربي (أو تبسيطه) في حربٍ كان العراق فيها يضرب ايران بطائرات فرنسية الصنع، دفعت ثمنها دول الخليج، وتستهدي بإحداثيات اميركية؟ مع نهاية حرب ايران، كان العراق مثقلاً بعشرات مليارات الدولارات ديوناً، والرساميل الخليجية كانت قد بدأت بالظهور في بغداد وشراء العقارات، والبلد في حالة عداء مع جاره البعثي الآخر، هذه كلّها ليست صفات دولة مستقلّة وراديكالية.
الغريب هو أنّ نظام صدّام حسين، بسياساته الداخلية وتحالفاته، يطابق المثال النظري الذي وضعه القادري نفسه عن النّخب التي ترتدّ وتبحث عن التصالح مع الامبريالية (ولو حاولت، على طريقة تركيا، المناورة وفرض شروطٍ «استقلالية» معيّنة)، حتّى أنّ أغلب مشاريع العراق الصّناعيّة، في عقد الثمانينيات، كانت عبارة عن مصانع مكلفة، متقدّمة تكنولوجياً، ولا تشغّل الكثير من العمّال، كالبتروكيمياويات وشبكة الغاز، وكان أغلبها من توريد شركات فرنسية وأوروبية. مهما يكن يبقى الأساس أنّ العراق، كما قال القادري، كان يحوي أسوأ معدّلات الفقر والأمية في العالم عشية ثورة 1958، فأصبح في صدارة الدول النامية بحلول عام 1978. والسّبب ببساطة هو أنّ ثروة البلد ظلّت داخله، وتمّت إعادة تدويرها واستثمارها، حتّى أصبحت لدى العراق قدرات بشرية ومادية لا يستهان بها، ثم تمّ تدمير ذلك كلّه على يد الجيش الأميركي والحصار، وتمّ تشريد فئات واسعة من العراقيين بمن فيهم أكثر الطبقة الوسطى، وأسّست الولايات المتحدة لنظامٍ لا يضمن غير التبعية واستمرار الاحتراب الطائفي.

حين يحيل القادري الى التجربة «الاشتراكية» العربيّة، فهو لا يتكلّم على الاشتراكية بالمعنى الماركسي، بل عن اقتصاد «سوقٍ» تقليدي، يعمل كأي نظام رأسمالي آخر وبأدواته ذاتها، ولكن الخيارات الاقتصادية الأساسية، ووجهة الاستثمار، تكون فيه بيد الدّولة، وليس القطاع الخاص. «الاشتراكية» بمعناها الكامل، أو الحرية الحقيقية للبشر، هي الحرية من وظيفة الأجر، ومن ربّ العمل، ومن حياة القلق’ ومن رأس المال الخاص. وهذه لن تأتي الّا عبر تغييرات جذرية في بنية المجتمع وعلاقات النّاس، لسنا اليوم في واردها، خاصة في دول الجنوب الفقيرة والمهدّدة (لدى سمير أمين مطالعة عن استحالة انشاء مشروع »مشاعيّ» مثلاً، أو معزولٍ عن القواعد الاقتصادية السوقيّة، في عالم اليوم).

المسألة ليست أنّ هناك «نظريات» يثبت فشلها، فتأتي نظريات «جديدة» لتستبدلها. النيوليبرالية، يقول القادري، ليست «شيئاً جديداً»، ظهر فجأة في السبعينيات واكتسح العالم، بل أفكارها موجودةٌ ومفصّلة منذ أيّام مدرسة فيينا، ولكن لا أحد كان يتبناها أو يعتبرها صحيحة (بالنظر الى السجل التاريخي يومها، للاقتصاد الليبرالي). كان المعسكر الغربي في تراجع، وكان لدى نخب الجنوب ما يكفي من الاستقلالية لاعتماد سياساتها الخاصة؛ وكان في وسعها، حتى أوائل السبعينيات، الارتكاز على دعمٍ سوفياتي.

في ذلك الوقت، كانت الاشتراكية وادارة الدولة هي النظرية «الصحيحة» والناجحة، وقلّة تجادل في الموضوع؛ وحين مال ميزان القوى من جديد، واستعاد الحلف الغربي عافيته أصبحت النيوليبرالية أداةً للتوسّع و«حقيقة» في آن. هذا، بطبيعة الحال، قابلٌ للعكس. لكن القادري ليس متفائلاً، وهو يشير الى أنّ الكثير من ابناء الطبقة العاملة في مصر، مثلاً، وهم الحلفاء الطبيعيون المفترضون للمشروع الوطني، أصبحوا في أحضان السلفيّة الوهابية المنشأ والتمويل. وهؤلاء، حين تنهار الأوضاع أخيراً في مصر، سيشكّلون حجّة أميركية لحروبٍ جديدة لا تنتهي، بدعوى «مكافحة الارهاب» والإسلاميين. القادري يشير ايضاً الى الصراع الطائفي، الذي يمنع قيام وعيٍ مشترك بين أبناء المنطقة (هو يقول ان الطائفية القائمة اليوم هي حالة حديثة بالكامل، لا علاقة لها بالتاريخ أو بأي سوابق من الماضي باستثناء أسماء الفرق والشخصيات الدينية.)

هذا كلّه صحيحٌ، ولكن القادري يفوته أنّه، من قلب الأزمة والإفقار والتشتّت، خرجت ايضاً قوىً مسلّحة، فاعلة، عمادها أبناء الأرياف وفقراء المدن، وهي تبني خطّاً تصاعدياً من اليمن الى لبنان الى العراق. القادري يعتمد تقسيماً ايديولوجياً جذرياً، كلّ الاسلاميين عنده ــــ مثلاً ــــ متشابهون في العمق، ولو اختلفت مواقفهم الآنية من الامبريالية، أو اختلف موقفها منهم ــــ والخلاص عنده لا يكون الّا بحركة عمّالية أممية التوجّه واشتراكية. هذه الخلاصة التعميمية هي ايضاً اشكاليّة، بل أنّه بالإمكان تقديم فرضية معاكسة تقول بأن حركة المقاومة في سياقنا الحالي كان لا يمكن أن تكون الّا دينيّة، وخارجة من التراث المحلّي للناس الفقراء، والفروقات بين هذه الحركات ليست تفصيلاً ــــ ولكن هذا نقاشٌ آخر. إن كان كتاب القادري بالغ الأهمية في تفسير جزءٍ أساسي من تاريخنا وحاضرنا، غير أنّ المستقبل لا يعرفه أحد، باستثناء خلاصةٍ يسوقها القادري ــــ ونتّفق عليها بالكامل ــــ بأنّ اللغة الوحيدة للمرحلة القادمة، والقدر الذي لا هروب منه مهما كانت النتيجة، هي الحرب.

الحرب كإنتاج:
يتساءل علي القادري: لماذا شهدنا نمطين مختلفين تماماً من »إعادة الإعمار» تحت الاشراف الأميركي؟ في كوريا الجنوبية، مثلاً، جرت في الخمسينيات عمليّة إعادة إعمارٍ «امبرياليّة»، ولكنّها تتقصّد تحويل البلد الى دولةٍ متماسكة ومركز انتاج. القصّة، يقول القادري، لا تتوقّف عند المساعدات الأميركية المباشرة (وصلت الى أكثر من 10% من الناتج القومي في مرحلة الصعود الكوري) والميزات التجارية والاستثمارية، بل في تشجيع سياساتٍ تقوّي الدّولة وتعطيها سلطةً على الاقتصاد، وتحكّماً بعناصر الانتاج. بل إنّ الأميركيين تسامحوا مع سياساتٍ شبه اشتراكيّة للحليف الكوري، من بينها اصلاحات زراعيّة أعادت توزيع الأرض، وكانت العمود الفقري لمشروع التنمية.

أمّا في بلادٍ كأفغانستان والعراق ولبنان (وسوريا وليبيا واليمن اليوم)، فإنّ مشروع «إعادة الإعمار الامبريالي» لا يكون على شاكلة «خطّة مارشال». على العكس تماماً، هو يهدف الى إضعاف الدّولة، وتطييفها أو فدرلتها، ويسلبها السيادة الاقتصاديّة، ويمنعها من تطوير مواردها الطبيعية والبشرية، ويؤسّس لتوتّرٍ سياسيّ دائم وحروب مقبلة (في لبنان مثلاً، بعد عقودٍ من «إعادة الإعمار» على المنهاج الحريري، أصبح من المفروغ منه والمتوافق عليه أنّه ليس للدولة أي دورٍ تنموي أو اجتماعيّ في البلد، بل هي مجرّد أداةٍ لتوزيع الرّيع والرواتب، ولا تجد في الموازنة أثراً لإنفاقٍ تنموي. بل إنّ الموقف «المطلبي» تجاه الدّولة اللبنانية يكاد يقتصر على أن تدفع لموظّفيها رواتب جيّدة وأن تقدّم الخدمات الأساسيّة كالكهرباء والهاتف ـــ وهذا يمكن توفيره عبر الخصخصة.

الإجابة، يكتب القادري في دراسةٍ بعنوان «إعادة الإعمار والتهجير الامبريالي في سوريا والعراق» نشرتها Economy and Society في نيسان الماضي، تبدأ من أنّ «إعادة الإعمار» في الشّرق الأوسط ما هي الّا «الحرب بوسائل أخرى»، في تحويرٍ لتعبير كلاوشفتز الشهير. والشّرق الأوسط ـــ في عين واشنطن ـــ هو ميدان حربٍ، وليس موقع تصنيعٍ و«استغلال» تجاري: هناك دولٌ يكون الاستغلال فيها عبر التجارة والانتاج (super-exploitation)، كحالة كوريا الجنوبية وآسيا، ودول أخرى ترفد عملية التراكم في المركز الغربيّ عبر الحرب وعبر «تدمير» مواردها وقواها العاملة و«إخراجها» من عملية الانتاج، كما في الشرق الأوسط وافريقيا. حجّة القادري هنا ترتكز حول المساهمة الأهمّ التي قدّمها في كتابه الأخير، وهي عن دور الحرب في عالم الرأسمالية. اليسار الغربي، الذي يحاجج القادري ضدّه، يعتبر أنّ حروب اميركا حول العالم هي أساساً «تصريفٌ» للفائض الرأسمالي (في الرأسمالية الحديثة، ان تنتج أموراً أكثر بعمّالٍ أقلّ، فيصبح لديك فائض دائم في الانتاج، تحتاج الى تصريفه ولو في «الهدر»: سلعٌ غالية جدّاً للأثرياء، أن تبدّل سيّارةً كلّ سنة، والصناعة العسكرية والحرب هي وسيلة ممتازة لتصريف الطاقات الانتاجية والرساميل على نطاقٍ ضخم).

من هنا، نسمع الخطاب الناقد للإمبراطورية في الغرب ــــ على طريقة نعوم تشومسكي ــــ وهو يتحدّث عن الحرب بوصفها بنت »المجمّع الصناعي ــــ العسكري» ونفوذه، والأرباح الكبرى لشركات السلاح، وتأثير اللوبيات ومصالحها الخاصّة. هؤلاء، يقول القادري، يعترفون بجانبٍ واحد من المثلّث، ولكنّهم يهملون الآخرين: دور الحرب في التّراكم الرأسمالي، وأهمية السياسة والاستراتيجيا في صناعة القيمة في دول المركز.
مشكلة «ماركسية المركزية الأوروبية» ــــ بتعبير القادري ــــ هي أنّ جزءاً كبيراً منها يفسّر ماركس على أنّه مجرّد محاسب، يشرح لك من اين يأتي سعر السّلعة، وأنّ «الاستغلال» الرأسمالي عندهم يقتصر على شكلٍ واحد، هو سحب القيمة من عمّال المصانع في الغرب أو المشاغل في آسيا. هم لا يفهمون العلاقة الكليّة بين الحرب والانتاج، وأنّ «السّعر» ما هو الّا تعبير عن القيمة، التي يقرّرها الى حدٍّ كبير ميزان القوى على مستوى العالم.

لهذا السبب هم لا يرون العلاقة العضوية والمباشرة بين تدمير كوريا في الخمسينيات وإعمار اليابان، وبين تدمير فييتنام في الستينيات وإعمار كوريا. وهم يفصلون بين الغزوات الاوروبية، التي شكّلت العالم وشعوبه منذ القرن السادس عشر وبين «الاكتشافات الاوروبية» في عهد الثورة الصناعية. لهذا السبب، يقول القادري، تجد من بين الماركسيين الاوروبيين (والعرب) من يحدّثنا عن «فضائل» التوسّع الرأسمالي الاوروبي ودوره «التحريري» و«التحديثي»، ويفسّرون كلام ماركس في الهند على هواهم ليخبرونا أنّ الرأسمالية الاوروبية، على علّاتها، قد أخرجتنا من «عهود الظلام» وأدخلتنا في الحداثة. المعادلة في عُرفهم اذاً ــــ بحسب تعبير القادري ــــ هي أن »الشيء الوحيد الأسوأ من أن يتمّ استغلالك عبر الرأسمالية، هو أن لا يتمّ استغلالك عبر الرأسمالية». بتعبير آخر، أن تجري إبادة ثلث شعوب العالم واستعمار قاراته، وأن يتمّ تدمير الكوكب، كان «أمراً يستحقّ»، مقابل أن يحصل من تبقّى منّا على رشّاش المياه السّاخن ــــ وهو هنا، يقول القادري، يتمّ تقديمه كـ«اختراع» اوروبيّ خالص، ما كنّا لنصل اليه وحدنا، وما كان ليحصل لولا هذا المسار التاريخي «الضروري» (وهو ثمنٌ مقبول طالما أنّ الضحايا ليسوا اوروبيين بيضاً، تخيّلوا أن يقوم أحدهم في الغرب بتطبيق المنطق ذاته على الهولوكوست).

المشكلة في تفسير الحرب وعلاقتها بالإنتاج والبشر، يقول القادري، هي أنّ المحلّلين يرفضون رؤية الانسان كسلعة، وهو كذلك تماماً في عين الرأسمالية. مثلما يستفيد المركز الاوروبي، حين ينتج «آيفون» مثلاً، من فارق الكلفة بين أجر العامل الآسيوي البخس والسعر العالي الذي تُباع به هذه السلعة في المركز، يكتب القادري، فإنّ الحرب تُعامل البشر على المنوال نفسه: الانسان اليمني أو السوري أو العراقي يكلّف «قليلاً»، بالمعنى النقدي الرأسمالي، حتّى ينشأ ويكبر ويتعلّم، وهو سينتج ويستهلك «قليلاً» لو تمّ استغلاله في مشغل، ولكنّ عمليّة قتله وتصفيته (من القنبلة التي تقتله الى الطائرة الى الصناعات خلفها الى الأثر الاستراتيجي للحرب) تنتج ملايين الدولارات. دورك »الانتاجي» في الرأسمالية، كعربيّ اليوم، هو أن تموت. وحين تموّل اميركا ميليشياتها في المنطقة، لإطالة أمد الحروب، فالمعادلة أفضل: المقاتل يكلّفك مئات الدّولارات في الشّهر، فيما موته أو قتله للآخرين يستجلبان «عائدات» كبيرة. العراق وسوريا، لو تمّ استغلالهما على النمط الآسيوي، سيراكمان فوائد بسيطة لأميركا، بالحساب التجاري، غير أنّ مصالح حرب العراق تحوّلت الى صناعة بمئات مليارات الدّولارات. واشنطن مستعدّة ــــ بلا تردّد ــــ لصرف المليارات على عسكريّتها لتدمّر الموصل، مثلاً، ولكنّها لن تتبرّع بعشر هذا المبلغ لإعمارها.

الخيار الفردي:
على المستوى الفردي، كلٌّ منّا يواجه خياراً شبيهاً. حين تكبر وتكتشف طبيعة العالم الذي تعيش فيه، وأنّ الرأسماليّة هي حياة عملٍ وتعبٍ ومخاوف وقيود وتنافس، فأنت ــــ بطبيعة الحال ــــ سوف تحلم بنقيضها: حياةٌ لا تحتاج فيها الى المادّة، ولا شيء يجبرك على العمل، أو فعل أيّ شيءٍ لا تريده، وتصنع مسارك ونفسك كما تشاء، أي ــــ بكلمات أخرى ــــ الحريّة في عالمٍ يقوم على العبودية. هذه الحياة الجميلة، بالمناسبة، لها اسمٌ وتوصيفات، وقد تكلّم عنها المفكّرون من أفلاطون الى انجلز، وهي ببساطة »الحالة الارستقراطية». أن تكون ارستقراطيّاً يعني أنّك، بسبب الولادة، متحرّرٌ من الحاجة الى المال أو العمل، تعيش حالةً مستمرّة من «الفراغ الاختياري» (idleness)؛ فيمكنك أن تقضي حياتك كما تريد: في وسعك أن تدخّن غليوناً وتقرأ روايات بوليسية، بإمكانك أن تكتب وتبحث، أو تراكم الأموال، أو تدخل مضمار السياسة ــــ ولكنّك تفعل كلّ هذه الأمور من خارج حسابات الحاجة والاضطرار. هذه، بأيّ مقياسٍ، هي حياةٌ جيّدة، ولو حاول ابن ثريّ اقناعك بغير ذلك، فهو يدلّس ويكذب عليك (المشكلة، بالطّبع، هي أنّ قلّة صغيرة من الناس تنتمي، تاريخياً، الى طبقةٍ كهذه، ورفاهها يكون دوماً على حساب الأغلبية الباقية).

الخديعة الكبرى التي تمارسها الرأسمالية علينا هي أنّها تحاول اقناعك بأنّ في وسعك الارتقاء الى هذا المثال عن «الحريّة» من داخل الرأسمالية، لو أنّك نجحت أو راكمت أموالاً أو وصلت الى مرتبة معيّنة، وكنت أذكى من الباقين وأكثر تفوّقاً وطاعةً وشراسة. هنا، تصبح المخاوف التي تولّدها الرأسمالية، وشعور انعدام الأمان وفقدان الحريّة، هي الحافز الذي يدفع الكثيرين الى الانكباب عليها، بدلاً من مقاومتها. أقول إنّ الإغواء وهم لأنّك، ببساطةٍ واختصار، إن لم تولد ارستقراطياً فأنت لن تصبح كذلك، و«النّضال من داخل الرأسمالية» قد يعطيك راتباً أكبر، ولكنّه لن ينقلك الى حالةٍ مختلفة، ويعطيك «الحرية» والاستقلالية والأمان. المسألة هي أنّك، لو تكلّمت مع كبار الموظّفين ومدراء الشّركات في الغرب، فإنّ مخاوفهم ــــ مهما ارتفعت رواتبهم ومراتبهم ــــ لا تختلف نوعياً عن تلك التي يعاني منها أصغر موظّف: الخوف من الصّرف، الخوف من أن تفشل الشركة، الخوف من أن تخسر نمط حياتك ومنزلك، الخوف من عدوّك في العمل، الخ … لا حرية ولا استقلالية هنا.

ولديّ العديد من المعارف الطموحين الذين شرحوا لي، منذ سنواتٍ طويلة، خطّتهم للعمل بشراسة لسنوات ومراكمة المال، ومن ثمّ التقاعد شباباً ونيل »الحريّة»؛ ويكون هذا هو التبرير للتنازلات، والعمل المحموم لحساب الآخرين، وخسارة سنواتٍ طويلة في الكدّ والتوتّر. أؤكّد أن لا أحد منهم اليوم يسترخي في قصرٍ أو على شاطئ في اميركا الجنوبية (الأثرياء في بلادنا قصّة أخرى، ومن يعرف ماذا تحتاج أن تفعل حتّى تجمع ثروةً في بلاد الجنوب يفهم أنّ الكلفة والتنازلات هنا تذهب الى ما هو أعمق بكثيرٍ من استهلاك جسدك ووقتك). في هذه الحالة، حين لا يكون هناك فارقٌ نوعيّ بين المدير والبروليتاري، لا يعود أمامك سوى أن تركز هوسك على الأغراض المادية وأنماط الاستهلاك، وأن تعتبر أنّ فيها سرّ السّعادة. سيّارة أفخم من سيارة جارك، وبيتٌ أكبر، وحين تتقاعد أخيراً وتسافر على سفينة الرحلات لتستمتع بثمار عمرك، مصطحباً معك عبوة الأوكسيجين، فأنت تحجز في الدرجة الأولى.

الميزة الثانية لديك، في هذه الحالة، هو أن تقارن نفسك بغيرك (والرأسمالية البرجوازية، كما يقول جيجك، جوهرها الحسد والمقارنة) وأن تسعد بأنّك، ولو كنت تعيساً وغير حرّ (الزّوج السيّئ، مثلاً، له تأثيرٌ على سعادتك أكثر بكثيرٍ من درجتك الوظيفية)، فأنت تظلّ أفضل من أولئك «الخاسرين» الذين هرستهم الرأسمالية عن حقّ، أو ظلّوا في بلاد الجنوب ولم يتح لهم الهروب الى الغرب، أو يكدّون طوال حياتهم من دون أن يعرفوا طعم لحم البقر الياباني. لهذا السّبب، كانت الحركات الثورية والاشتراكية، على مدى التّاريخ، تبدأ محاججتها مع الفرد بأن تفهمك موقعك في المجتمع، وأنّك ــــ طالما لم تولد ارستقراطياً ــــ فإن اللعبة قد انتهت بالنسبة اليك، ولا جدوى من أن تحاول تقليد الأثرياء وخدمتهم والطموح الى الانتماء الى ناديهم. أملك الوحيد في هذه الحياة هو أن تحاول، مع الأغلبية التي تشاركك موقعك، أن تبني عالماً مختلفاً.

خاتمة:
على المستوى الدّولي، الأمر لا يختلف كثيراً. هناك دائماً بين نخب الجنوب من يعتقد أنّ في وسعه التحايل على الهيمنة، وأن يبني سنغافورة حيث يشاء، ويعتقد أنّك عبر التّماهي مع الغربي القوي، واتّباع أنظمته وسياساته وقواعده، فإنّك ستصبح مثله. هذا يرجع أحياناً الى نرجسيات قوميّة، وأحياناً أخرى الى طبيعة النّخب ذاتها وهي، في خلفياتها وطموحاتها وهمومها، أقرب الى اليساري الأوروبي منها الى ماو ورفاقه. وتجد دوماً، وهذا أحقر، من يعتقد أنّه «أفضل» من غيره، ويستحقّ أن ينتمي الى الغرب على حساب من يحيط به (النّموذج الاسرائيلي، أو اصرار بشير الجميّل على أنّ لبنان لا ينتمي الى «العالم الثالث» ولا يجب أن يُجمل معه). واقع الهيمنة هو ما يستدعي المقاومة، وليس لأنّ المقاومة شيءٌ جميل.

في وسعك أن تتجاهل هذا الواقع، أو تخفيه وتجمّله، وتدّعي أنّ السّبيل الأسلم هو الرّضوخ للنظام العالمي ومحاولة الاستفادة منه وترك الحروب والنّضال لشعوبٍ أقلّ حظّاً. هذا خطابٌ قد يكون عقلانيّاً في كوريا أو اليابان، وهو السائد في اوروبا (كما يقول علي القادري، لمن ينتظر راديكالية من البرّ الأوروبي، فإنّ عدد العمال الصناعيين يتناقص في القارّة باضطراد، وهي لم تشهد انتفاضة عمّاليّة حتى في عزّ الثورة الصناعيّة، فهل نتوقّع ثورة اشتراكية فيها اليوم؟). ولكنّ ما معنى هذا الخطاب حين يوجّه لعربيّ من الشرق الأوسط، الدور الوحيد لمنطقته، في النّظام العالمي، هو أن تكون ميدان حربٍ وغزوٍ وتدمير للمواردٍ والبشر؟ من الممكن أن تعقلن الرضوخ والتّصالح وعدم رفع السّلاح في وجه نظامٍ أقوى منك يروم «استغلالك»، ولكن ما العمل مع علاقةٍ أسّسها الغرب معنا، تكون وظيفتك فيها هي أن تموت؟

 

عن (الأخبار) اللبنانية