يكشف الناقد الفلسطيني الكبير هنا عن عدد من مستويات القراءة المتعددة في تلك الرواية التي برغم انشغالها بما يدعوه لبنانية النص الروائي تنفتح على جدليات الفرد/ المجموع، والداخل/ الخارج، والواقعي/ المجازي، والطهر/ والدنس، الذي يعين «عالم القيم» منظوراً للعمل الروائي، محتفية عبر هذا كله بالحياة والفن.

«البيت الأزرق» متعة القراءة .. ومساءلة الحياة روائياً

فيصل درّاج

عالج عبده وازن، في تجربة كتابية واسعة، الشعر والنقد والتحقيق والترجمة، وقدَّم عملين روائيين متميزين، «قلب مفتوح» 2010، «غرفة أبي» 2013، ألغى فيهما الحدود بين الرواية والسيرة الذاتية. ثم ارتكن إلى تراكمه الكتابي وأنجز روايته الجديدة «البيت الأزرق» (ضفاف والاختلاف2017)، رواية واسعة قرأ فيها ظاهر الحياة وجوهرها، وأدار وقائعها في بيئة لبنانية تثير أسئلة مؤجلة الأجوبة. انطوت رواية وازن على ما يمكن أن يدعى: لبنانيّة النص الروائي، ذلك النص الذي يصف ويسرد وقائع بيئة لها ما يميّزها، وتختلف عن غيرها.

تستهل الرواية بحكاية مأسوية، بطلها مفرد مغترب، تتكاثر في متواليات حكائية، ترسم مصائر بشرية متنوعة، وترصد بشراً لهم سماتهم الداخلية والخارجية المتعددة. قام نص وازن، الذي اتخذ من مدينة جونية وجوارها القريب، مرجعاً مكانياً له، على أبعاد ثلاثة: الفرد/ المجموع، الذي يقرأ الفرد المغترب في مرايا الآخرين، والداخل/ الخارج، الذي يحتضن البيوت والمقاهي وينفذ إلى السجن، في وجهيه الواقعي والمجازي، والطهر/ والدنس، الذي يعين «عالم القيم» منظوراً للعمل الروائي. أدارت الرواية علاقاتها في فضاء التنوّع، على مستوى الوجوه والكلام والواقع اللبناني، ومستوى الأرواح التي يعبث بها معيش يومي لا يمكن الركون إليه.

أنتج الروائي، وبحسبان نبيه، بنية كتابية أفقية، إن صح القول، تنفتح على الواقع اليومي في شخصياته المتوالدة: المثقف الرهيف الأقرب إلى الملاك، الذي يتكامل مع براءته واغترابه ويذهب إلى الموت، والشخص المتدهور الذي ينوس بين الجريمة والدعارة، ورجل الدين، بصيغة الجمع، الموزع على رغبة في النقاء والخير والمشدود إلى رغبات حسية مقموعة، و«عامل الليل» الذي يساير الحياة ويأتلف مع «عالم» يتاجر بكل شيء، والمرأة المضطهدة التي يحسمها الموت وإرادة الأشرار، والاستاذة الثانوية التي تنتظر السفر، و«الشاذ جنسياً» الذي يرضي رغباته ويحتفظ بطيبته، وعالم السجن المفتوح على الغريب والعجيب، وهناك السارد المهيمن، الذي يجمع أطراف الحكاية ويعلق عليها.

احتفى الروائي بتنوع الحياة وهو يلاحق شخصيات متنوعة تترجم التعدد وفرح المتوقع وأحزان اللامتوقع. أقام وازن علاقة سعيدة بين التعدد، الذي تتمظهر فيه الحياة والتناقض الذي تتحرك به الحياة ولا يسيطر عليه البشر. ولعل وعيه، وهو الكاتب الرفيع الثقافة، بوحدة التنوع والتناقض في مجال الحياة، هو ما وزّع على روايته وبنسب غير متكافئة تصورات روائية متعددة، تتضمن المأسوي الذي يلامس التراجيديا الكاملة، والواقعي البسيط الذي يقرأ الحياة في مظاهرها اليومية، والبوليسي الصادر عن شخصية الكاتب- المحقق، وعالم الليل الذي يجعل كل شيء متاحاً، كما لو كان وازن قد صالح بين نثر الحياة اليومية وشعرية القيم العالية. بيد أن المتعدد في أعلى درجاته كثافة وجمالاً تجلّى في «الأسلوب الأخير» الصادر عن تكامل أسلوبين وتكافلهما، أحدهما لموضوع الحكاية، ذلك المغترب العاثر الذي كتب في سجنه حكايته، والآخر لكاتب الحكاية الذي هذّب أسلوب السجين، وتضامن معه وأعطاه صوغاً جديداً. أسلوبان مختلفان، أحدهما داخل الاحتراف وثانيهما خارجه، يوحد بينهما حب الحقيقة ورغبة الإيصال ، يخلقان سرداً مدهشاً، يحاور القارئ ويستعير لغته ، مادامت تناقضات الحياة مرجع العلاقات جميعاً. ليس في الأسلوب، الصادر عن تفاعل أسلوبين ما يستدعي شخصية «القرين»، فهو -أي الأسلوب- فعل لغوي جمالي يحيل على وحدة الخير والجمال التي تسمح بها الحياة. تقرأ دلالة الأسلوب في «وفاء الأحياء للأموات»، أو بشكل أدق في: تكامل كتابة المحبين.

تتراءى بنية السطح الروائية في متواليات الحكايات اليومية، وتتمثّل البنية العميقة، التي تحيل على القيم والشقاء الإنساني، في مآل رومانسي مغترب غادر الحياة متوسلاً الانتحار البطيء، وعاش ضيق السجن بعد أن اتهم، زوراً، بقتل فتاة مستضعفة. يبدو المغترب العاثر الحظ، الأقرب إلى الأحجية، مركزاً للسرد الروائي، تأتي من جهته الحكايات وتشتق من مآله أسئلة الوجود، إنسان رقيق، أخْرس نفسه وانسحب من الحياة، وخذله العشق ووصال مضطرب مع الحياة، يمتثل إلى قلبه وما «تنطق به قدماه» وهو الشغوف بالمشي الطليق، وإلى ما تنصح به الطريق. وهو في حريته الفكرية والروحية مسيحي بلا كنيسة ومؤمن بلا معتقد أخير.

حملت الشخصية - المركز أبعاداً متعددة: أعطت الرواية شخصية واسعة تثير الفضول وتضيء في مسارها وعلاقاتها أحوالَ الطبيعة الإنسانية التي تنوس بين شر مكين وخير لا تمكن هزيمته. شخصية مجاز محاصرة بالنعمة والنقمة معاً. ولأنها على ما هي عليه فهي تعلن، بلا التباس، عن المنظور الروائي للعالم، الذي يرى في البراءة والدنس وجهين من وجوه الحياة، ويؤمن بأن هناك خيراً جميلاً قائماً في مكان ما. والجمال والخير في منظور الرواية واحد لا يمكن تقسيمه. وقد يكون في رواية «البيت الأزرق»، التي تعترف بالقارئ ولا تميل إلى المباشرة، بعد رمزي يجمع بين الشعر والإيمان ويقول: لا تستطيع الأرواح الفاضلة أن تنتصر في مجتمع يحاصره الفساد. تشكل جمالية المتعدد مدخلاً إلى قراءة رواية حشدت حكايات متوالدة وشخصيات متقاطعة ووقائع متعددة كثيرة الاحتمال. وإذا كان في هذا المتعدد ما يفضي إلى نسيج حكائي يصالح بين متعة القراءة ومساءلة الحياة، وبين العمل في اللغة وملامح رواية بوليسية، فإن فيه أولاً ما ينهى عن الأحكام القاطعة ويشهد على فضيلة المقارنة. ولهذا، يشكل ما يدعى بـ«التّناص» بعداً مضيئاً في رواية موضوعها: الخيبة والانتحار. استضاء الروائي، وهو واسع الثقافة، برواية تولستوي آنا كارينينا ومدام بوفاري لفلوبير وصولاً إلى روائية لبنانية شابة منتحرة تدعى منى جبور، كما لو كان يكتب عن السجين الجميل بشكل آخر ويدعو إلى تأمل جمالية العاشقات المنتحرات. كاثر عبده وازن الأصوات الروائية مسائلاً لوعة الحب الخائب، واحتفى بتعددية الأصوات، هو يكتب عن مغترب خذله عشق الحقيقة والحياة. اتكأت روايته، على ما تأتي به الحياة، فحاورتها واشتقت منها تعددية في الأصوات استولدت: الفعل الروائي.

في حوارها مع مستويات الحياة، التي تملي طبائع البشر، احتفت رواية «البيت الأزرق» بالحياة، بنتائج متكاملة تقول: كل الروايات تستهل بمأساة، مقترباً من تولستوي، الذي أعطى السعادة رواية واحدة، وترك ما تبقى لروايات مغايرة. بل أن في المنطق الداخلي لرواية وازن ما يقول بأن الحياة رواية طويلة، لها بدء روائي، وليس لها نهاية روائية. ولعل التداخل بين الرواية والحياة هو ما وزع شغف الرواية على الشخصيات جميعاً، إذ للمنتحر روايته، ولسارد الحكاية رواية لم يكملها، وله رواية غيره التي يجب أن يعيد صوغها، ولبطلته، في روايته المتعثرة النهاية، محاولتها الروائية الخائبة، وللمنتحرات العاشقات أكثر من رواية.

تساوي الرواية، في منظور «البيت الأزرق»، الحياة، ويساوي الروائي إنساناً جميلاً يبحث عن الفضيلة ويشتق منها أسلوباً تتكامل فيه جماليات الحياة. لذا يحذف السارد المهيمن، الذي شارك السجين المنتحر أشياء من قيمه، من الرواية التي يكتبها فكرة الانتحار. رفض الروائي فكرة «القرين»، التي تحذف التناقض بين الأنا والآخر، ورفض أن تحاكي «رواية الاغتراب «رواية العشق المفتوح على الانتحار، وعاد إلى روايته المستعصية النهاية وحذف منها نهايتها الحزينة المحتملة، ذلك أن الحياة مفتوحة على احتمالات كثيرة. أسلم مخطوطته الناقصة، كما النص الذي شارك فيه غيره، إلى السبات، في انتظار يقظة قادمة.

بعد مديح النساء العاشقات، قام عبده وازن بمديح الرواية، مارس تعددية الأصوات الروائية التي جمعت بين الكاتب والسجين وأصداء روايات شهيرة، وجعل من تعددية المحاولات الروائية، الواردة في نصه، بعداً داخلياً حوارياً في علاقات «البيت الأزرق». ترجمت تعددية الأصوات، وهي ترى في الحياة رواية طويلة لا تقبل بالانغلاق فكرة: الانفتاح الروائي، لا بمعنى انفتاح النص على غيره، وهو قائم في رواية وازن على أي حال، بل بمعنى أكثر عمقاً، يوحد بين الفعل والكتابة واحتمالات الحياة. أنجز عبده وازن نسيجاً من العلاقات الروائية، يجمع بين فن الكتابة والاحتفاء بإمكانات الرواية: استولد من حكاية أولى متواليات من الحكايات، وحوّل شخصية مغتربة محاصرة إلى مجاز واسع عن الأرض والسماء، وأضاء المجاز بالمتواليات الحكائية وانتهى إلى فلسفة روائية، خاصة بنصه، تحتفي بمفهوم البداية الممكنة وتترك النهايات معلقة في فضاء الزمن.

قال روبرت موزيل في روايته «رجل بلا صفات»: «لا وجود لمتخيل روائي يستطيع أن ينافس متخيل الحياة». اعترف عبده وازن بالمتخيلين معاً، وأنجز عملاً روائياً متكاملاً، بنى متخيله بمادة لغوية مصقولة موحية، وأقام المتخيل واللغة على ثقافة روائية واسعة، كما لو كان يكتب الرواية ومنظورها الروائي في آن مقترباً من الندرة الأدبية.

 

عن (الحياة) اللبنانية