يرى الناقد المغربي أن سعيد منتسب ينتمي لتلك الكتابة الخارجة عن الجماعة، الكتابة المنفلتة من الرصانة المتهافتة، ويقدم في قصصه القصيرة تأملاته الطليقة في الشعر والأدب والفلسفة، وفي نصه «ضد الجميع» يجد ذاته الإبداعية وهو يقدم كتاباً جمالياً ضد المتواضع عليه والهيمنة المدرسية المتعالية.

قراءة في «ضد الجميع» لسعيد منتسب

عبدالواحد مفتاح

ستعرف أنك قرأت كتاباً جيداً، عندما تقلب الصفحة الأخيرة وتحس كأنك فقدت صديقاً عزيزاً.. هذا ما وقع لي بالضبط مع «ضد الجميع» لسعيد منتسب، هذا الكتاب الذي جمع بين دفتيه تأملات طليقة في الشعر والأدب والفلسفة. إن العمق والتجاوز وإخلاف التوقع، هو مسلكه العام الذي دشن صرحه به، في محاورة لمعطى الكتابة والشعر والإبداع، قادها منتسب بغير قليل من التأني وطول اختبار، كأنه استخدم عمراً ليقدم عصارته، لا ليقول ها كتابنا في تجميع لنصوص من زمن بائت، بل باقتراف لتلك الأسئلة القلقة والملحة المرتبطة بعلاقة الكاتب بذاته، وموقفه من محيطه، والحساسيات الأخرى التي يحب دائماً أن يبقى على مسافة منها.

فسعيد منتسب الذي اخترقت أدبيته جغرافيا أكثر من جنس أدبي، رابط طويلاً على تخوم القصة القصيرة، التي له فيها إسهامات فارقة، قبل أن ينتقل إلى الشعر حيث سيشكل ديوانه «أشواق اللوز» منعطفاً هاماً ومفصلياً في تجربته، وهو الديوان الذي لاقى ترحيباً نقدياً غير مشوش عليه، فهو ينزاح في أعماله إلى الالتحاف بفضيلة الاختلاف، والصدور عن مشغل التجريب، والمرابطة في كتابته بعيداً عن الأضواء والنأي عن الزعيق العام؛ فقد شكلت مجموعته القصصية «تشبه رسوم الأطفال» الفائزة بجائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب، نقطة الانتباه البكر لهذه التجربة، التي عملت على ترسيخ إبداعيتها في الكثير من الهدوء، والإصرار على الأصالة.

أما مجموعة «جزيرة زرقاء» فتعتبر إحدى المجموعات القليلة، التي فعّلت إدارة الأضواء حول القصة القصيرة جداً، ورسخت تميزها في الخارطة الإبداعية بالمشهد الثقافي المغربي -الذي ما زال يعاني من الافتقار لشروط تسويق الأعمال الإبداعية، بما يليق بها من اهتمام- فهي المجموعة المحورية في تجربة سعيد منتسب طبعاً إلى جانب إصداره الأخير. فــ«ضد الجميع» ليس عنواناً عدمياً ولن يكون، بل لن يعدو أن يكون مكراً جميلاً ولعباً من سعيد وبمهارة. فهو يتكون من علامتين، «ضد» التي تحيل على الرفض والاحتجاج، أما العلامة الثانية «الجميع» فتحيل إلى المجموع والكل دون استثناء، هكذا عنوان باختيار المهرة، من شأنه أن يثير الفضول والشهية كي تتناسل الأسئلة.

هو كتاب من القطع المتوسط (140صفحة) لا مرجعية لتجنيسه في أي من الأقانيم الترابية لجغرافية الأدب، حيث صنفه الكاتب بـ(طرائد نصية) وهو التصنيف الذي قد لا نقف على دلالته الإرسالية، إلا بالنظر لمجموع النصوص المكونة له، والتي إن كانت متراصة على شكلها المقالي، إلا أنها تشكل وشيجة شديدة الالتحام ببعضها البعض. فالكاتب الذي يوحد بين قدره وقدر قرائه، هو كاتب يجيد الكتابة بصدق، هذا ما نلمسه بالتتبع الفلمي لمتون الكتاب، حيث ونظراً للإرباكية الفاعلة التي دشن بها وسمه، أستطيع أن أتواضع عليه تعيينا بالمقالية الفلمية، حيث الكتابة هنا تأخذنا إلى شؤونها التي يدهشنا سعيد منتسب بسرد كل تلك التفاصيل الصغيرة والتأملية الخصبة، في تعبير هو أقرب إلى الفلم منه عبر ربوع النثر الذي تتخلله سلاسة لذيذة وتعبيرية مُجيدة. فمنتسب القادم إلى عوالم الأدب من صرامة الدرس الأكاديمي، تخلى منذ وقت مبكر عن المنهجية النقدية في مقاربته، لتجده يكتب المقالة بلغة الشعر، والشعر بهندسة القصة. يقول عن علاقة الشعر بالقصة عنده ذات حوار: «الشعر يكلم القصة بتوق كبير، والقصة تتسلى معه لسبر الغامض والعميق. ولهذا، أعتقد أن لا وجود لخيط يخرجني من غابة السبل المتشعبة للأدب. لا إنني الآن أمام شعور حاد بأنني غزير جداً، وبأن النصوص التي بذلت لي العطاء تستحق مني الاعتراف عوض المحو أو الإقصاء. إنها الأوركسترا التي تعزف روحها في كل كتاباتي، سواء أكانت شعرية أو نثرية».

قد لا نذهب إلى توصيف كتاب «ضد الجميع» بالدخول بخانة ما يصطلح عليه بنقد النقد، ولكنه يرابط حيث التيمات الأساسية لمقومات الكتابة الإبداعية الصلدة والفاتنة، في اشتغاله على مفاهيم وأنساق تفكك مفهوم الكتابة الإبداعية وترجعه إلى أو آلياتها الأولى، وتحاور مادته الخام، في حس غير شكلاني يتخلى عن مساحة الحذر بتقديم رؤى جديدة لأسئلة جمالية، وأنماط أسلوبية في نسغها مغايرة للسائد والمستتب، في إبداع ضمني لصلات نوعية من الإنتاجية النصية.

فـ«ضد الجميع» كتاب عمل على بلورة رؤية حقيقية للإنتاجية الكتابية، عبر محاورة كتابات أرخت قدم تميزها، ك ميلان كونديرا، خورخي لويس بورخيس، جون بول سارتر، أحمد بوزفور، زكرياء تامر، محمود الفيتوري..، ليقدم لنا خلاصاته التركيبية في تعبيرية أدبية غير مهملة فاتنيتها، فإن كان الناقد طبيباً مشرحاً يأخذ النص ويحلله، ويُبين العلاقات بين أصواته وتراكيبه، فإن سعيد منتسب هنا وقد انزاح عن عباءة الناقد إلى فرادة القارئ العاشق، بعيداً عن الأطروحات المنهجية والمرجعيات السجالية، متمتعا بتلك المساحة الرحبة الفاصلة بين منطقة النقد والإبداع، وهي بالطبع أرض مزروعة بالألغام. فليس هناك من مسوغ البتة أن يظل نقد الأدب كما هو، يثبت خطابه على ميدان هيمنة السلط والكليشيات، فلا يبرح مكانه يجتر النصوص نفسها، والأسماء ذاتها، والمنهجيات عينها، وهواء الأدب نفسه.

ينتمي سعيد منتسب لتلك الكتابة الخارجة عن الجماعة، تلك الكتابة المنفلتة من الرصانة المتهافتة، وهو هنا في «ضد الجميع» يجد نفسه، يجدها تماما. ليقدم لنا كتاباً ضد المتواضع عليه والسائد، كتاب أكيد لن تخرج منه كما دخلت أول مرة.