صدر عن دار Nomen عام 2017 كتاب للإعلامي أكثم سليمان بالعنوان أعلاه والكتاب من الحجم المتوسط ويضم 231 صفحة ويحتوي، بالإضافة الى المدخل والخاتمة، على أربعة فصول، بالعناوين التالية: 1ــ مع حرب الخليج الثانية. 2 ــ 11 سبتمبر (أيلول) 2001. 3 ــ الحرب العراقية: "الاِرهاب والخوف" دون نهاية. 4 ــ "الربيع العربي" في منتصف الشتاء. وينبهنا الكاتب منذ البداية، بأنه يقدم وجهة نظر عربية، وليست وجهة النظر العربية، ولكن هناك شعور مشترك. فمن منظور عربي، فإن السنوات الـ 25 المنصرمة ليست مجرد تطورات وأحداث تاريخية، بل هي لحظات ملموسة تتعلق بمصير الناس جسداً ودماً. لقد تغيرت سيرة الملايين من العرب، بما في ذلك مؤلف هذا الكتاب.
جاء في المدخل: "يُفهم هذا الكتاب من حيث المبدأ كاستئناف للموت في الشرق الأوسط في الربع الأخير من القرن العشرين من منظور عربي. "فمنذ حوالي 25 عاماً، أي في أوائل عام 1991، وهو يشير هنا الى "عاصفة الصحراء" لتحرير الكويت من الغزو العراقي، والتي كانت بالنسبة للكثيرين في العالم العربي بمثابة "عاصفة الموت"، والتي لم تتعاف المنطقة الواقعة بين المحيط الأطلسي والخليج الفارسي منها حتى اليوم. إن "الطريق من عاصفة الصحراء في حرب الخليج الثانية الى "الحرب ضد الارهاب"، 11 سبتمبر 2001 الى الحرب العراقية 2003 و"الربيع العربي" 2011 وإقامة "الدولة الاسلامية (داعش)، والى ذلك اللاجئ، والى ذلك الذي اصابته طائرة من غير طيار، هو دليل الرحلة التحليلية والصحفية والشخصية على الصفحات التالية".
ويواصل الكاتب قوله: "فالأمر يتعلق بالأوضاع العالمية والمصالح السياسية والاقتصادية للجهات الدولية الفاعلة، والتي يجب أخذها في الاعتبار من أجل فهم التطورات الجارية في الشرق الأوسط. والكتاب لا يتتبع بالضرورة أخطاء أو ذنوب الغرب، ولهذا الغرض يفترض الاشارة الى أعمال أخرى". الكاتب يشير الى ثلاثة من الكتاب الألمان وأعمالهم والتي لا يمكن إيلاء احترام كاف لها. (كاتب هذه السطور قدم بعضها للقارئ العربي)، ويستطرد، ومع ذلك لا يزال تعامل الغرب مع الشرق الأوسط يلعب دوراً حاسماً جداً وراء البحث عن الأخطاء والذنوب، وبدون تأثير الغرب لن تكون منطقة الشرق الأوسط كما هي عليه اليوم. ولهذا السبب، فان هذا الكتاب، لا يتحرك ويتابع ما يحصل على امتداد المواقع في العالم العربي فحسب، بل وايضا يتابع الاحتكاك بين العالم العربي الاسلامي والغرب.
يقدم الكاتب بإسهاب تفاصيل حرب الخليج الثانية، بدءاً بالقرارات الدولية والتحضير لغزو العراق من قوات اجنبية وبمشاركة بعض الجيوش العربية، مروراً بالهجوم الكاسح جوا وبرا وتدمير العراق، وانتهاءً بإملاء شروط الهدنة: نبذ جميع أسلحة الدمار الشامل، إنشاء مناطق حظر للطيران والعقوبات الاقتصادية، التي أدت الى مغادره مئات الآلاف من العراقيين، غالبتهم من الأكاديميين والمهنيين وآلاف من اللاجئين.
يتابع أكثم سرده التفصيلي ايضا ابتداءً من تكوين تنظيم القاعدة والتعاون بين المجاهدين الافغان العرب ووكالة الانباء المركزية الامريكية لمحاربة النظام اليساري في افغانستان، ومروراً بما حصل في 11 سبتمبر 2001 ودورها في الحرب الامريكية على أفغانستان وإسقاط نظام طالبان المتشدد، والاضطهاد الذي تعرض له العرب والمسلمون في أمريكا وأوروبا، وانتهاءً بالحديث عن صعود الاسلاميين والعلاقة غير المرئية بين داعش والربيع العربي. ويتعرض الكاتب ايضا بإِسهاب الى الحرب العراقية المدمرة 2003، التي تمت بدون غطاء وشرعية دولية وما نجم عنها من آثار كارثية على شعب العراق.
في عرضه التفصيلي يثير الكاتب نقاط أخرى تعزز سرده، مثل الاشارة الى ما يسمى بمراكز التفكير في الغرب، وهي مراكز استراتيجية للتفكير في نهج ملموس لتعزيز الهيمنة الغربية على بقية العالم. ومن ثم فإن التطورات التي حدثت قبل عقد من الزمان لم تكن قائمة فحسب على حروب جديدة ودعاية أكثر دقة، بل وايضا على الإيديولوجية الجديدة أو على الأقل على المصطلحات والنظريات الأيديولوجية الزائفة، إذ بدون ذلك يصعب تصنيف حرب الخليج الثانية فحسب، بل ايضا العديد من التطورات السياسية والعسكرية الأخرى في السنوات اللاحقة في منطقة الشرق الأوسط وخارجها. وخلال الحرب ضد الارهاب 2001 وحرب العراق 2003، ابرزت في بداية التسعينيات المناقشات الأكاديمية ـ السياسية في الغرب حول العولمة والأيديولوجيات والنظام العالمي الجديد. ولم تهيمن مضمون هذه المناقشات على وسائل الاِعلام والسياسة فحسب، بل برزت أيضا في مجال البحث والتدريس الأكاديمي. ويشير في هذا السياق الى كتاب "نهاية التاريخ" لفوكوياما، وكتاب "صراع الحضارات" لصموئيل هنتغتون. كما لم يتمكن العرب بين المحيط الأطلسي والخليج الفارسي تجنب النظريات الغربية في نهاية القرن العشرين، فضلا عن محتواها وعواقبها سواء أكانت من الغرب أم من الشرق.
كما يتعرض الباحث للتطور الهائل في وسائل الاِعلام الحديثة المقروءة والمرئية ودورها الخطير، مما تقوم به احيانا، خاصة الاعلام الحربي، من دعاية وتضليل وبلبلة ومن تعليقات مغرضة وكاذبة وبث صور مزيفة لحجب الحقيقة، في هذا السياق يشير الى القناة الفضائية "الجزيرة "الشهيرة بقوله: "لقد اتضح لي وللأخرين، وبعد مرور ستة عشر عاماً على تأسيس القناة، إن العرب لم يحصلوا مع الجزيرة على القناة المستقلة والمهنية المنشودة والتي طال انتظارها، بل حصلوا على قناة دعائية أخرى لا تختلف عن الأخريات، ولديها الآن توجه سياسي واضح، تارة كأداة لجميع الحركات الإسلاموية اللاحقة، وتارة لجماعة الإخوان المسلمين، وأحيانا كأداة للسياسة الخارجية القطرية، ودائما لمصلحة الولايات المتحدة الامريكية، وكل ذلك جاء على حساب المصداقية، وبطبيعة الحال لم يبق هذا الأمر مخفيا على الجمهور العربي.
ويقدم الكاتب للقارئ الألماني صورة مختصرة للتطور السياسي والاقتصادي والثقافي في العالم العربي، مشيرا الى جذور الليبرالية العربية والى مفكري حركة الاصلاح العربية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. والتطور في مصر وسوريا والعراق وليبيا والجزائر والارتباط الوقتي مع المعسكر الاشتراكي، والحديث عن الاشتراكية العربية. ومع انهيار المعسكر الاشتراكي وجدار برلين واندلاع حرب الخليج الثانية، اصبحت الاشتراكية العربية والقومية العربية جزءا من التاريخ. ويشير الكاتب الى فترة حكم أنور السادات، بتطبيق الرأسمالية الراديكالية وانفلات السوق والتخلص من جميع آليات الكبح الاجتماعي والاقتصادي على حساب السكان والتسوية السلمية مع إسرائيل (كامب ديفيد 1978)، كل ذلك من أجل التقرب للغرب، ولا يزال الوضع المتردي وحالة الافقار مستمرة ومستفحلة في مصر.
لن نتعرض هنا لفصل "الربيع العربي"، فهذا تاريخ قريب ومعروف للقارئ العربي. كما لا تسمح المساحة المتاحة للتعرض لكل النقاط والتحليلات والتعليقات التي جاءت في كتاب أكثم سليمان المهم. يضم الكتاب سيرة ذاتية حميمية مختصرة للمؤلف، ساردا فيها الفترة الطلابية والنقاشات السياسية وسط الطلاب العرب من تحزب وتضامن بشأن القضايا العربية. ويعكس الكتاب تجربة أكثم الصحفية الثرية، فهو ليس مواكبا للتطورات والأحداث السياسية حسب، بل معايشا لها احيانا على أرض الواقع المرير ونجاته من موت محقق أثناء تغطية إعلامية في بغداد. وهو واحد من الكتاب والأدباء العرب القليلين الذين يكتبون مباشرة باللغة الالمانية، بالرغم من أن غالبيتهم يعيشون في المانيا منذ عقود عديدة. ويعكس الكاتب تجربته منذ انضمامه الى قناة الجزيرة الفضائية الشهيرة مراسلا ومديراً لمكتبها في برلين. ثم تركها طوعاً بعد أكثر من عشرة سنوات، بدون مرارة في النفس ومضحياً بالمنصب الرفيع والدخل المضمون من أجل شرف المهنة واحترام النفس وأمانة الكلمة. وتكتب المجلة الاِخبارية فوكوس عنه "مستر الجزيرة يغادر".
والكتاب يحتوي على الكثير من التعليقات اللافتة والمعبرة والساخرة، تحبب وتدفع القارئ لمتابعة السرد، كمثال:
ــ يشير الكاتب الى النقاش الساخن مع أحد الخبراء الألمان في شؤون الشرق الأوسط في القاهرة، عندما انتقد الحجاب كسِمة قمع واضطهادا للمرأة، فردت عليه شابة مصرية في أوائل العشرينات من عمرها بقولها "ما دخلك انت في حجابي، أنني حرة في اختياري". ويعلق أكثم "أن إيماءات وتعبيرات الشابة لا تبدو كإسلامية متشددة، ولا حتى كمتدينة عميقة متحجبة، لعل الشابة المصرية واحدة من ملايين النساء والرجال في الشرق الأوسط، تبحث أو تريد بطريقة أو بأخرى مجابهة الغرب بعد كل الحروب والاِذلال أو وفقا للشعار: "صحيح عندكم الطائرات المقاتلة، ولكن عندنا اسلامنا ونحمله مرئيا على الرأس".
ــ أو اللقاء الذي جرى مع الشاب السوري في اللاذقية، حيث وقف مشيرا الى السماء الزرقاء واللون الأزرق الذي يميز مياه البحر الأبيض المتوسط ومخاطبا الكاتب: "أنسى الشيعة والسنة، فالروس والامريكان هناك جواً وبراً".
- تُزين الصفحة الأولى قصيدة رائعة للشاعر العراقي مظفر النواب جاء فيها:
ما أظن بلادا
رويت بالشمس والدم كأرض بلادي،
ولا حزنا
كحزن الناس فيها
لكنها بلادي.
لا أضحك من القلب
ولا أبكي من القلب
ولا أموت من القلب
إلا فيها.
وتُزين الصفحة الأخيرة: كلمات ناصعة من أجل التذكر والتأمل.
"الى أطوار بهجت ومازن الطميزي ورشيد حميد والي ملايين آخرين قتلوا منذ سنة 1991، أتوقع أن معلوماتنا عن الحرب وعن المشاركين فيها لن تغير من الأمر كثيراً. ولكن قد تكون ذات مغزى للشخص نفسه، لأنه يعد موتا، عندما يظن الشخص أنه حي، اذ لا زالت روحه الميتة تجوب في عالم الاحياء".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- Aktham Suliman, Krieg und Chaos in Nahost, eine arabische Sicht. Nomen Verlag, Frankfurt am Main 2017.
** أكثم سليمان: ألماني من أصل سوري، من مواليد 1970، دَرَسَ الصحافة والعلوم السياسية والإسلامية. عمل مراسلا سابقاً لقناة الجزيرة الفضائية الشهيرة في الدوحة ومديرا لمكتبها في المانيا ويعيش حاليا في برلين ككاتب مستقل.