هذه محاولة لقراءة النص السردي في حكايات الأولياء والصالحين في الطبقات، النص السردي أعني به، تلك الحكايا التي جاءت ضمن سِير "ج سيرة" حياة أشخاص وصفهم مؤلف الكتاب ب "خصوص الأولياء والصالحين". استعملت مصطلح "النص السردي" لأنه أكثر تحديداً وتوصيفاً للمُنتج من قِبل روايات ود ضيف الله.* النص السردي هو الحكاية - تكتب سطور وصفحات - تروي "قصةً" ما، حدثت على الواقع، جرت على مدى زمني يقاس بالدقيقة والساعة والسنة.
يعتبر (جيرار جنيت) في كتابه "خطاب الحكاية" أنّ الحكاية "سرد" سواء كانت شفوية أو مكتوبة. وفي الكتاب نفسه يضع المؤلف تعريف مهم في التفريق بين الحكاية والقصة بناء على التحديد التالي:
القصة: المدلول أو المضمون السردي.
الحكاية: الدال أو المنطوق أو الخطاب أو النص السردي نفسه.
السرد: الفعل السردي، المنتِج، بالتوسع: على مجموع الوضع الحقيقي أو التخيلي الذي يحدث فيه ذلك الفعل.
ويفرق مؤلف " خطاب الحكاية" بين زمن الحكاية، يعني بذلك " زمن السرد" المكتوب على صفحات الورق، عداده بالسطور وعدد الصفحات، بينما زمن القصة، وهو زمن الأحداث والأفعال التي جرت على الواقع محسوب بالساعات والأيام والسنوات1. وأقرب مثال لذلك، أذا افترضنا أن شخصاً شاهد حادث حركة بين عربتين أمس، فهذا الشخص شاهد قصة الحادث بكل تفاصيلها، وعند حكايته "قصة" الحادث لشخص آخر، فهو يصبح راو وسارد لأحداث قصة شغلت حيزاً زمانيا ومكانيا في الطريق، جرت على مدى ساعة أو ساعتين، فيحولها إلى حكاية يكون هو مؤلفها. ثم يصوغها بأسلوبه ويتخير اللغة والشكل لتوصيلها للمروي لهم، فيلخصها ويسرد الحوارات التي جرت بين شخوصها. يمتلك الحرية في تقرير من أين يبدأ وأين ينتهي، قابض على خيوط الحكي، يحذف، أو يختصر ما يشاء. كل هذا في مدة لا يمكن أن تكون مماثلة للزمن الذي حدثت فيه القصة على أرض الواقع. إذا افترضنا أن شخصاَ طُلِب منه أن يكتب هذا الحادث في تقرير لصحيفة، فسيقوم بتحويل قص الحادث إلى حكاية هو ساردها ومؤلفها وراويها، فيضعها في زمن جديد، غالباَ ما تكون أحداثه في تسلسل غير مطابق، يتحكم في تسلسله كما يشاء، قد يكون طول الحكاية صفحة واحدة، تُقرأ في دقائق معدودة.
«سرديات» الأولياء والصالحين في الطبقات، لا يكفي وصفها وتصنيفها بحكاية صوفية أو شعبية، لأنها جمعت بين ملامح القصة الصوفية، في التجربة الذاتية والهدف الأخلاقي، وعنصر الحكاية الشعبية، في تواترها الشفوي، وكذلك في احتوائها أحداثاً ذات طابع اسطوري وسحري. لذلك من الأفضل استعمال الاسم الذي عرفت به في الطبقات كحكايات في (خصوص الأولياء والصالحين). عناصر بسط الموضوع تتلخص في التالي:
أولاً، عرض مقدمة مبسطة عن كتاب الطبقات.
ثانياً، التعريف بملامح هذه السرديات وشرح سبب الاهتمام بالنص السردي لمرويات ود ضيف الله.
ثالثاً، تحليل نص سردي من الطبقات كنموذج.
- الطبقات ..... اختلاف آراء أم تعدد قراءات؟
كتاب الطبقات لوحة من تاريخ السوداني، سِفْرٌ ينضحُ بتفاصيل الحكي لإنسان تلك الحقبة، السياق التاريخي والاجتماعي ساهم في نسيج بنية سيره وتراجمه، شكّل مرآة عكست ملامح سودانية. أيضاً لا يمكن أن نغفل الأسلوب والتصوير الخيالي للمؤلف ود ضيف الله، لأنه دوّنها، وحولّها من الرواية الشفوية إلى المكتوبة، تحمل سماته ووجهة نظره. مؤلف الطبقات رسم وشكّل، قام بالحذف والاجمال والتلخيص لحوارات دارت بين شخوص الحكايات، قام بإعادة صياغة مشاهدها وأحداثها، أحياناً مستخدماً العامية، وتارةً الفصحى، لوصف أو سرد نيابة عن الشخصية التي يروي عنها. قصص وحكايات الطبقات، أثارت جدلاً واسعاً، لما تضمنته الروايات من كرامات وخوارق اعتبرها الكثيرون مخالفة للمنطق والعقل. نماذج عناوين مقالات وكتب لقراءات منشورة على صفحات الإنترنت:
- تعالوا نضحك شوية مع كتاب طبقات ود ضيف الله.
- طبقات ود ضيف الله ظُلُمات بعضها فوق بعض.
- كتاب وقفات مع طبقات ود ضيف الله، في نقضها وتبيين انحرافاتها، تأليف الأمين الحاج محمد احمد
- كتاب طبقات ود ضيف الله وصمة في جبين الوطن
معظمها تمثل رد فعل من قارئ ذي مرجعية دينية سلفية، يرى أنّ هذه الحكايات لا تتوافق مع ثوابت معتقداته الدينية. هناك أيضاَ قارئ من نوع آخر، أدواته الوثائق وكتب التاريخ والمخطوطات، يقوم باستخدامها لتبيان التناقض بين روايات الطبقات والتاريخ الحقيقي لهذه الشخصيات، تنصب القراءة على تصحيح وتصويب معلومات الشخصيات المروي عنهم، مثال على ذلك مقال منشور بعنوان "اعادة تدقيق وتحقيق كتاب الطبقات".2 كل هذه الانتقادات لها قيمة خاصة، كونها تمثل رصيداً لمحاولات تفكيك البنيِّة العصيِّة لهذا الخطاب السردي. فللطبقات مخاطَبون مباشرون ومعنيِّون، رغم اختفائهم عن مسرح "المتن"، يُذكِّرنا ود ضيف الله بهم، في مقدمته للكتاب "وبعد فقد سألني جماعة من الإخوان، أفاض الله علينا وعليهم سحائب الإحسان، وأسكننا وإياهم أعلى فراديس الجنان، بحرمة سيد ولد عدنان، أن أؤرخ لهم ملك السودان"3.
من هذا التقديم يتوقع القارئ أن يجد توثيق لسير الملوك والسلاطين، وعلى العكس فإن ما توفر عن ملك السودان قليل من الإشارات لأسماء متفرقة لملوك وسلاطين من غير تنظيم أو تسلسل، لا يوجد سرد مفصل وحكي مرتب عن تسلسل تأريخي لسلاطين الفونج. النصيب الأكبر من الكتاب، موظف لسير وأخبار الصالحين والأولياء، فكأنَّ هنالك رغبة مبطّنة من أولئك الأخوان، في معرفة سير وروايات الصالحين ورجال الطرق، وشيوخ الخلاوي، ولربما أنَّ ود ضيف الله كان عارفاَ لما يريده أولئك الأخوان، فمال إلى هذا الجانب تلبية لمشيئة المتلقيين. إذن فإنَّ مشيئة المتلقيين أو المروي لهم، أثرَّت على الخطاب السردي، هذا التأثير، ينعكس في الحذف والاختصارات التي قام بها الراوي والمؤلف ود ضيف الله، وأيضاً تظهر في وجود أسماء أمكنة، وإشارات لأحداث، ومواقع غير معروفة، احتاجت لجهد وإضافات المحققين، وتفاسيرهم لتعريفنا بها، أما بالنسبة للمتلقي المجايل، أو القريب من فترة زمان تأليف الطبقات من أولئك "الأخوان"، فما كان في حاجة لمعلومات إضافية، وحواشي لتعينه على قراءة وفهم نصوص الطبقات.
(2) الكرامة .... مركز دائرة السرد :
النص السردي في الطبقات، منتج ثقافي، بمعنى أنّه تشكَّل في واقع محدد، وفق سياق تأريخي واجتماعي، يحمل ملامح عصره. الكرامات والخوارق، شغلت مركز دائرة اهتمام النص السردي. الكرامة، في حد ذاتها حكاية عارضة في متن الحكاية الرئيسية، كما سنرى لاحقاً، وهذا الوجود العارض لها، يحيل الفعل السّردي، إلى مقام التجريد، مقام الصور الخيالية. الكرامة هي في ذاتها فعل سردي، لا يُحاكمُ وفق منظور التصديق والتكذيب، بل يُنْظرُ إليه من خلال الصور والأعمال التي يتيح "الفعل السردي" نفسه، تخيُّلِها. (جيرار جنيت) أيضاً فطن إلى هذه المسألة، فهو يؤكد أنَّ الفعل السردي، تزداد أهميته في الروايات المتخيلة، التي لا وجود لأحداثها على أرض الواقع، يشير إلى هذا المعنى في معرض تعليقه على المغامرات التي يرويها (عوليس) في ملحمة "الأوديسة" - رواية قصة عودة أحد أبطال الإلياذة وهو أوليس ملك إيثاكا- يقول (جيرار جنيت) "أما إذا اعتبرنا عوليس كذاباً، واعتبرنا الروايات التي يرويها متخيلة، فإن الفعل السردي لا يفتأ يزداد أهميةً، ما دام لا يتوقف عليه وجود الخطاب السردي فحسب، بل يتوقف عليه أيضاً تخيل وجود الأعمال التي ينقلها".4
الكرامة نص سردي، بغض النظر عن السلطة المانحة لها "جن، شيطان، إله أو محض وهم" ننظر إليه من خلال مظهرين:
أ- القصة: الأحداث في الواقع، بتسلسل وتماسك زمني ومكاني حقيقي.
ب- الخطاب: يظهر من خلال الراوي الذي يقدم القصة منطوقة أو مكتوبة لقارئ أو متلقي.
ومظهر الخطاب هو المستوى الوحيد، الذي تعمل عليه أدوات التحليل والتفكيك، كما يؤكّد (جيرار جنيت) في خطاب الحكاية. ولفائدة شرح هذين المظهرين للنص السردي "القصة والخطاب" سأعرض من الطبقات نص يتضمن "كرامة منحت للشيخ دفع الله” وردت في ثنايا سيرة الشيخ احمد بن الشيخ عبد الله الطريفي كمثال:
"ذات يوم بيقرا الشيخ دفع الله في مجلس الظهر، قال له: ما فهمنا، قال من هذا، قالوا احمد بن الطريفي فخرج نور من فم الشيخ إلى عرش المسجد، فوقع فوق احمد، فوقع مغشيا عليه، فرقد أياما"5 وأعيد كتابة هذا الجزء المقتطع مرة أخرى لتوضيح أطراف الحوار مع إضافة ما بين القوسين:
ذات يوم بيقرا الشيخ دفع الله في مجلس الظهر،
قال (احمد): ما فهمنا
قال (الشيخ دفع الله): من هذا؟
الحضور، مريدين، فقرا... الخ. قالوا: احمد بن الطريفي
فخرج نور من فم الشيخ إلى عرش المسجد، فوقع فوق احمد، فوقع مغشيا عليه، فرقد أياما.
أعلاه عبارة عن "خطاب سردي" قدّم بواسطته ود ضيف الله قصة "جرت في ساعات أو أيام" وصلت إليه شفوياً ربما عبر سلسلة من الرواة. وهو بدوره يقدمها مكتوبة لنا كقراء ومتلقيين. يجب التنبيه الى أنّ هذا الخطاب السردي، رغم وجود الحدث الخارق، خطاب غير مفارق للواقع والثقافة بأي حال من الأحوال، لأنّه منتج في إطار لغوي وسياق اجتماعي وتاريخي. كما أنّه المظهر الوحيد المتوفر الذي يمكن أن نخضعه للتحليل من حيث اللغة والشكل، لنكتشف الطرق والأساليب، التي استخدمها (ود ضيف الله) كراوٍ، ليعرِّفنا بواسطة هذه "الطرق والأساليب" على أحداث تلك الكرامة.
إذن، اقتراح أي منهج لتحليل نصوص الأولياء والصالحين في الطبقات، لابد وأن يكون للكرامة، الدور الحاسم في اختياره. لأنها العنصر المشترك السائد في حكايات هذا الكتاب.
ونعني بهذا المنهج، الفكرة التي اخترعها الروسي (فلاديمير بروب)6، في كتابه "مورفولوجيا القصة"، الذي جمع فيه عدد من القصص الخرافية، وقام بدراستها بحثاً عن العناصر المشتركة المكونة لها وسماها الوظائف. وهذه الوظائف والعلاقات التي تربط بينها تمثل بنية الحكاية الشعبية، أياً كان الواقع والمكان الذي أنتجها أو السياق الذي أثر فيها.
يقسم العناصر المكونة للحكاية الشعبية إلى7 :
(أ) الشخصيات: وعددها سبعة وهي المعتدي/ المانح/ المساعد/ الأميرة / الآمر/ البطل/ البطل المزيف
(ب) الوظائف: وهي 31 وظيفة وأراد بالوظيفة "ما تقوم به الشخصية من فعلٍ محددٍ"
وتحليل بنية الحكاية الشعبية يتم بدراسة هذه الوظائف، باعتبارها "الأجزاء الأساسية في القصة"
والوظيفة تتحدد بالفعل الذي تؤديه8 "تسمية الوظيفة باسم يعبر عن الفعل كـ"الحظر" و"الاستجواب" و"الهروب". ومن ثمّ يستنتج (فلاديمير بروب) أن شخصيات القصص على اختلافها وتنوعها، غالباً تؤدي نفس الفعل8. لذلك فهذا الفعل الذي تقوم به الشخصيات، هو الذي يجب أن يكون محور الدراسة والتحليل لمعرفة ما تؤديه الشخصيات "فأما من يقوم بالشيء وكيف يقوم به، فإنها أسئلة لا تطرح إلا بشكل ثانوي"9
والعلاقة بين هذين العنصرين، "الوظائف والشخصيات"، علاقة ثابت ومتغير فقد لاحظ أنّ الوظائف دائماً تتسم بالثبات، بينما الشخصيات متغيرة10. فمثلاً المعتدي في حكاية ما، يمكن أن يكون الغول بينما في حكاية أخرى يمكن أن يكون الملك والسلطان أو الساحر.
الكرامة، بهيئتها الوظيفية، وفعلها السردي، قد تنبئ بوجود وظائف أخرى، في بنية هذه النصوص، يمكن تحليلها وفق منهج تحديد "الوظائف السردية"، بالإضافة لأعمال الفرنسي (جيرار جنيت) في كتابه "خطاب الحكاية".
(3) الطبقات .. الشكل والمضمون:
يقول ود ضيف الله في المقدمة: "اقتديت بجماعة من المحدثين والفقهاء والمؤرخين، فإنهم ألفوا في التاريخ والمناقب"11 ويذكر هؤلاء بالأسماء، كابن حجر العسقلاني في كتاب الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، وهو توثيق لسيِّر الأعيان والملوك والأمراء والكتاب والوزراء والأدباء والشعراء. على هذا النهج، سار ود ضيف الله فاتبع الترتيب الأبجدي في تبويب السير، واسترشد بطريقة الأسلوب والمضمون. واحد من الكتب، التي ذكرها ود ضيف الله، "الدرر الكامنة"،12 وهو كتاب جمع فيه ابن حجر العسقلاني تراجم وأخبار، بالطريقة التقليدية المعروفة، تبدأ بالاسم ومكان الميلاد والمناصب التي شغلها الشخص، وتنتهي بمكان وتأريخ الوفاة. وهذا هو حال كل كتب المناقب والأخبار، في وقتها، تتضمن السيرة الذاتية، والإنجازات المهمة، حسب دور ومجال الشخص المعني بالتوثيق. معظم مؤلفات التراث الإسلامي، عرفت هذا الشكل في طريقة ابتدار وصياغة المقدمة. على سبيل المثال، نذكر رسائل أخوان الصفاء، بمقدمتها المشهورة.
فمثل هذه الكتب، تعكس الخلفية التاريخية، التي اتكأ عليها، صاحب الطبقات. فكتب المناقب، بشكل عام، لم تأت بجديد في هذا الموضوع، لأنها ورثت فن كتابة المقدمة، من تاريخ أسبق. أما بالنسبة لود ضيف الله، فقد ذكر في مقدمته، أنّه اقتدى، واتبع هذا المنهج، في طريقة التقديم، من ناحية استخدام اللغة الفصحى، وإظهار المعرفة بعلوم الفقه والحديث، وطريقة العرض. ولا خلاف، فالمقدمة، كتبت بلغة رفيعة، تشبه، من حيثُ الشكل والمضمون، ما كان سائد في كتب التراث. ابن حجر العسقلاني، مثلاً، في مقدمته للدرر الكامنة، يبدأ كالمعتاد، الثناء والشكر لله والصلاة على النبي، ثم يختمها بنص انتقالي قائلا "وبالله الكريم عوني، واياه أسال، عن الخطأ صوني، إنَّه قريب مجيب".
أما (ود ضيف الله)، وبعد الثناء على الله ونعمه والصلاة على نبيِّه، يعلن النيِّة والقصديِّة، في جمعه وتأليفه للطبقات، يقول: "لما انتهى الكلام على ما اختصرته من مدح الله تعالى لأنبيائه ورسله وملائكته عليهم السلام، وكان قصدي من ذلك التوسل إلى الله بجنابهم الرفيع، وأن ييسر لي ببركتهم ما قصدته، وما ألفته، أن يفتح لي بجاههم فتح العارفين ويوضح لي ما خفي وأشكل علي فإنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، هو حسبي ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".13
ود ضيف الله" يسعى للتوسل بهؤلاء جميعاً، ويسأل البركة، ونيل فتح العارفين، للتزوّد، لمهمة جليلة، لمناقب الأولياء وكرامات العارفين. فهذا الجزء، في الاقتباس أعلاه، بمثابة مفترق طرق، بينه وبين هؤلاء، الذين ذكرهم بالأسماء. فهو، لم يحبس نفسه في التقليد، رغم احتفاظه بشكل المقدمة الموروث. ففي متن الكتاب، نجد أنّ ود ضيف الله قد خرج عن ذلك القالب، وكسر الشكل التقليدي، في تراجمه وسيره بإضافته عنصر السرد، وفي مَسْرَحة مشاهد الحوار، بشخصيات وأحداث، تتبادل الأدوار وتتفاوض بلغة عامية، لغة الحياة اليومية. إذن، الطبقات، "مرق" بقالب جديد لكتابة المناقب، شكلاً ومضموناً. العامية أعطت النص الهوية الذاتية، والخوارق أضافت "الغريب" غير المعتاد. فنصوص الطبقات، ادهاشها، في مفارقتها، للأطر المرجعية السائدة.
(4) الوظائف في نصوص الطبقات:
تحديد وظائف قد تجمع بين جميع نصوص خصوص الأولياء والصالحين، وفق الوظائف السردية، وتجميعها، استكشاف العلاقة بين هذه الوظائف وتتاليها بحيث ينتفي التضاد أو الاحلال. ومن المقاصد الرئيسة، أيضاً، النظر في وظيفة "الفعل الخارق أو الكرامة" وعلاقته بالحبكة، وكيف يتم انعقادها، وكيف يصل الفعل السّردي إلى نهاية ما؟و البحث عن محددات لبنيّة هيكلية قد يتوحد فيها نمط قصص "خصوص الأولياء والصالحين في الطبقات" وفقاً لوظائف أخرى خاصة بهذا النمط في الطبقات، لا يشترط فيها التطابق التام مع وظائف الحكاية الشعبية المعروفة. فالمقصود هنا بنيِّة وشكل القالب لا الوظائف بعينها.
الوظائف:
ترتيبها هام جداً، حسب "فلاديمير بروب" خاصة في زمن الحكاية، "إن النص السردي ككل نص آخر، ليست له من زمنية أخرى غير تلك التي يستعيرها كنائياً من قراءته الخاصة"14 "وسيكون علينا أحياناً تصويب آثار الانتقال الكنائي أو محاولة تصويبها، ولكن علينا أولاً التسليم بذلك الانتقال، ما دام يُشكِّلُ جزءاً من اللعبة السّرديِّة"15، أما بالنسبة لنماذج موضوعنا في النصوص المعنيِّة بالتحليل، فإنَّ الترتيب المقصود، ترتيب الانتقال، فبدون حدوث الكرامة "المنحة"، لا يمكن انتقال المريد، إلى مرتبة الولي الصالح، ثم بعد ذلك تأكيدها بقدرة هذا الولي على "الكشف"، أي، كشف المحجوب.
الوظائف السردية المقترحة، وهي الأجزاء الأساسية في القصة وتتصف بالثبات:
الابتعاد: "القنجرة، سفر، غياب" وغالبا تحدث لـ/من البطل؛ وقد تكون في شكل القنجرة وهي الارتحال بسبب الخصومة، المغاضبة، أو الحرد. أو هيئة السفر كالحج أو الانتقال إلى مكان آخر، وغالبا ما تتركز الأحداث في المكان الجديد، أو عن طريق الغياب وهو الاختفاء المفاجئ أو غياب الوعي.
التغريب: بمعنى (الغرائبية/ العجائبية/ الظواهر الخارجة عن العادي)، مثل الكرامات والخوارق، وأحياناً تجيء على هيئة مكافأة توهب للمريد من الشيخ.
الخدمة والمساعدة: خدمة "الفقرا" للشيخ أو مساعدة المريد (التلميذ) وأحياناً المريد يخدم الشيخ كالذي حدث بين ود حسونة والشيخ بابكر “راجل حجر العسل".
التلمذة: المريد على يد الشيخ، التعريف بطريق القوم أو مجالس الفقه وعلوم الدين، في المسيد.
المصاهرة: المصاهرة بين الشيخ الضيف وأسرة أخرى لرجل صالح، وتتم عن طريق الزواج بامرأة صالحة.
الكرامة "تؤدي وظيفة الإعلام":
مكافأة توهب للمريد من الشيخ، اشارة وتذكرة لإعلام المريد بمقام تحقق له وهو غير عالم به، مثال لذلك: حكاية الشيخ (حسن ود حسونة) عندما خرج يطلب شيخاً، وعندما وصل إلى "المطرفية". طلب منه الشيخ (بابكر)، أن يملأ الركوة من البحر، قال الشيخ "حسن ود حسونة": "فلما جيت عند البحر، امتلأت وحدها، وجاءتني من غير أن أملأها"، فكانت بمثابة "إشارة" لود حسونة بأنّ مقامه أعلى من كل الشيوخ الذين خرج يطلبهم ويبحث بينهم عن شيخ يسلك على يده الطريق.
والكرامة بفعلها الخارق للعادة، هي التي تمنح القصة حركتها، أما الوظائف الأخرى تمثل الجزء التحضيري للكرامة، لأن بها تتم الحبكة باعتبارها نقطة تحوّل في مسار السرد يصل الحدث أعلى مقاماته. الأشكال التي تتجلى بها، الكرامة، تتنوع وتتعدد، وفي معظم نماذج الطبقات سنلاحظ مجيئها كإشارة وتبليغ بوصول المريد إلى مقام الصلاح والولاية، ثم يتبعها مباشرة، تأكيد بلوغ درجة "مسكان" الطريق، كالقدرة على كشف المحجوب، أو استجابة الدعاء.
التّجلي: الظهور بمظهر جديد، كالانتقال بين المراتب والمقامات.
الاختبار: وسيلته الكشف امتحان غير مباشر للمريد العابر أو الذي عبر إلى مرتبة الشيخ، وهي معرفة استباقية كالتنبؤ بوقوع الحدث، أو معرفة مكان الشيء المسروق أو معرفة المكتوم في السر قبل النطق أو التصريح به.
رد فعل البطل على أفعال المانح: رد المعروف، قد يكون ايجابياً أو سلبياً.
الشخصيات، وهي تمثل العنصر المتغيِّر:
الزوجة
الشيخ الولي المانح
المريد "التلميذ"
الفقير
الخادم
(5) نموذج أول من الطبقات:
الشيخ الصّالح (احمد بن الشيخ عبد الله الطريفي) المشهور ب احمد ولد الطريفي
الوظائف السّردية:
النص السردي، لسيرة الشيخ احمد بن الشيخ عبد الله الطريفي، في الكتاب تأخذ شكل الفقرات، وتجد تداخل كبير في تنظيم الحوار، ولصعوبة تبين الأطراف المتحاورة، أعدت كتابته بشكل يسهل فيه تمييز الأشخاص وتحديد جمل المتحاورين، وأضفت الأقواس وعلامات التنصيص، واعادة كتابة اسم الشخص، عند اقتضاء الضرورة.
النص من الكتاب قبل اعادة كتابته:
"أخذ الطريق من الشيخ دفع الله وسلكه وأرشده، والسبب في ذلك أن أباه الشيخ عبد الله لما سافر إلى الحج وأوصى الشيخ على أولاده الشيخ دفع الله، احمد كان أول أمره معجبا بنفسه عنده حراب سمحات*، وشعره إلى كتفه يروح من حلة أبو عاقلة إلى حلة العقدة في الهوى، ذات يوم جاء قاطع إلى الهوى ما وجد المركب، رقد فوق المشرع جاء الشيخ دفع الله قبل طلوع الفجر ليتبرد في البحر، شاف الإنسان الأسود راقد، كلم أحد الفقرا قال له :شوفو منو*، قال له: احمد ولد الطريفي، قال :احمد، ضربه بأصبعه فوق رأسه وقال له: ما هذه طريقتنا، مسكه أحد الفقرا، بعدما فرغ من التفتيحة، أتى به إليه، أخذ الموسى وفرعه بالزيانة، فتمه أحد الفقرا، ثم أداه لناس القرآن، أمرهم أن يحفظوه سور الصلاة، وفرايض الوضوء والغسل، بعدما عرف ذلك سلكه الطريق وامره بحضور مجالس العلم، ذات يوم الشيخ بيقرا في مجلس الظهر قال له: ما فهمنا قال: من هذا قالوا له: احمد بن الطريفي، فخرج نور من فم الشيخ إلى عرش المسجد فوقع فوق احمد فوقع مغشيا عليه، فرقد أياما، ثم بعد ذلك جاءه الشيخ فقال: قم يا احمد ولدي لقراءتك، وكان يرد مع الفقرا بركا الشيخ ويصب الماء لوضويه، فقال له: يا احمد يا ولدي، خدمتك حرمت علينا وأعطاه فقرا يلازمونه ويقضون حاجته، وإذا زار الشيخ إدريس يجيبوا له حمارا يركب فوقه، وكان من أكابر أولياء الله تعالى، ومن أهل الكشف كجده أبو عاقلة الكشيف، وسرقت عجول فأخبر أهلهن قال: رموهن في الترعة الفلانية، وكان الأمر كما قال، وتوفي رحمه الله تعالى سنة الجدري، وذلك أن امرأته أم أولاده بنت عمه أبو قرن قالت له: دفع الله ورد من الجدري والمزين يزين فيه، قال لها: أنا ما بقدر على حرقة الحشا، تقدريها انت الشديدة، فتوفاه الله تعالى بالجدري ومات من أهل بيته نحو ستة عشر انسان، وأمهم قعدت بعدهم برهة من الزمان".16
اعادة كتابة النص مع إضافة الترقيم:
1- أخذ الطريق من الشيخ دفع الله وسلكه وأرشده،
2- والسبب في ذلك أن أباه الشيخ عبد الله لما سافر إلى الحج وأوصى على أولاده الشيخ دفع الله،
3- احمد كان أول أمره معجبا بنفسه عنده - حراب سمحات - وشعره إلى كتفه "يروح" من حلة أبو عاقلة إلى حلة العقدة في الهوى.
4- ذات يوم جاء قاطع إلى الهوى ما وجد المركب، رقد فوق المشرع جاء الشيخ دفع الله قبل طلوع الفجر ليتبرد في البحر،
5- شاف الإنسان الأسود راقد، كلم أحد الفقرا قال له "شوفو منو؟"
6- قال له: "احمد ولد الطريفي"
7- قال له: "احمد (نداء يحمل اللوم والعتاب) - ضربه بأصبعه فوق رأسه (زجر وعتاب)- "ما هذه طريقتنا". (ثم) مسكه أحد الفقرا،
8- بعدما فرغ من التفتيحة أتى به إليه، أخذ الموسى وفرعه بالزيانة، فتمه أحد الفقرا،
9- ثم أداه لناس القرآن، أمرهم أن يحفظوه سور الصلاة، وفرايض الوضوء والغسل، بعدما عرف ذلك، سلكه الطريق، وأمره بحضور مجالس العلم،
10- ذات يوم بيقرا الشيخ دفع الله في مجلس الظهر، قال له (احمد):" ما فهمنا!"
قال -الشيخ- من هذا؟ قالوا :" احمد بن الطريفي"
11- فخرج نور من فم الشيخ إلى عرش المسجد فوقع فوق احمد، فوقع مغشيا عليه،
12- فرقد أياما،
13- ثم بعد ذلك جاءه الشيخ فقال له: "يا احمد يا ولدي قم لقراءتك"
14- وكان يرد مع القفرا بركا الشيخ ويصب الماء لوضوئه،
15 - فقال له (الشيخ) "يا احمد يا ولدي، خدمتك حرمت علينا"
16- وأعطاه فقرا يلازمونه ويقضون حاجته، وإذا زار الشيخ إدريس يجيبون له حمارا يركب فوقه، وكان من أكابر أولياء الله تعالى، ومن أهل الكشف كجده أبو عاقلة الكشيف.
17- وسرقت عجول أخبر أهلها قال لهم: "رموها في الترعة الفلانية"، وكان الأمر كما قال، 18- وتوفي رحمه الله تعالى سنة الجدري، وذلك أن امرأته أم أولاده بنت عمه أبو قرن قالت له: (دفع الله) ورد من الجدري والمزين يزين فيه".
19- قال لها:" أنا ما بقدر على حرقة الحشا، تقدريها انتِ الشديدة".
20- فتوفاه الله تعالى بالجدري ومات من أهل بيته نحو ستة عشر انسان، "وأمهم قعدت بعدهم برهة من الزمان".
الوظائف السردية في نص سيرة (احمد ولد الطريفي):
الاستهلال: تعريف بالشخصية الرئيسة " البطل".
الاستهلال أو "الحالة البدئية"، ليس وظيفة إلا أنه عنصرا مورفولوجياً هاماً، إذ يتم التعريف بالبطل وعائلته. "البطل" يخصص له العنوان، أما الشيخ أول ظهور له يأتي في الاستهلال، ودور الشيخ يفصّل في هذا الجزء، كما نلاحظ، خلو هذه النبذة المقتضبة عن تاريخ ومكان الميلاد.
تضمن عنصر الاستهلال ثلاث وظائف:
التلمذة: على يد الشيخ دفع الله – سلكه الطريق وأرشده.
الوصية: الشيخ عبد الله – والد الشخصية الرئيسية طلب من الشيخ دفع الله، الاهتمام بأولاده فترة غيابه في الحج، الوظيفة ـ وظيفة الوصية تأسس وتبرر العلاقة بين الشخصيتين، "التلميذ والشيخ" وتُعِد للقاء الذي يتم بينهم لاحقاً في شكل صدفة.
الابتعاد: وشكله هنا يأخذ هيئة غياب الأب.
تقسيم النص السردي إلى ثلاثة مشاهد، والمشهد يعني المقطع الحواري:
المشهد الأول في المشرع الصباح قبل طلوع الفجر:
الاعداد للمشهد عن طريق "الاسترجاع"، ويعني رجوع الراوي المطِّلع إلى نقطة زمانية في الماضي، ليخبر عن ماضي الشخصية. والراوي هنا هو السّارد المباشر على خلاف ما سوف نرى في نماذج قادمة، كيف أن الراوي يترك المجال لراوٍ آخر، كفقير ملازم يحكي رواية أخبره بها شيخه "البطل"، أما في هذا المثال يقوم الراوي العليم بماضي البطل (احمد )، الذي كان شاباً معجباً بنفسه، وصورة العجب بالنفس، رسمت بما يسمى " الوقفة الوصفية" وهي اللحظة التي يتوقف فيها زمن السرد، بدون أحداث ك"عنده حراب سمحات"، يتوقف السرد، ويحل الوصف
القوة والحرابة، "فارس مقاتل عنده حراب سمحات"، الوسامة وجمال الهيئة "شعره إلى كتفيه". والبداية الحقيقية للمشهد تبدأ من "يروح" من حلة أبو عاقلة إلى حلة العقدة في الهوى، الروحان يتطلب عادة المداومة، ك "يروح ويغدو".
ويروح بين الحلتين، في زمن القصة، هذا الحدث قد يحتاج إلى أيام وشهور، المدة الحقيقة التي يستغرقها الحدث، أما في زمن الحكاية، الحكاية- المكتوبة على الورق، عدادها السطور والصفحات ومدة قراءتها تختلف من شخص إلى آخر، فالحذف يلغي سنوات أو أشهراً من عمر الأحداث. ثم يأتي "عنصر الصدفة" ليشد الوثاق بين الوظائف، "ذات يوم جاء قاطعاً ولم يجد المركب"، وفي "لم يجد المركب" اجمال في طول الحكاية، وعدم ذكر سبب الحدث، "فرقد في المشرع" وصادف مجيء الشيخ دفع الله لتفتيحة الصباح في البحر، التفتيحة هي الغسل في النهر في الصباح الباكر، والبعد الطقسي – من طقس- للتبرد في الماء، متروك لقراءة أخرى، المكان لا يسعها. والمشهد المعني هنا، هو الحوار الذي يجريه الراوي على ألسنة شخوصه، كل مقطع حواري هو مشهد، حالة انسحاب الراوي، وإتاحة المجال، وتحرر الشخصيات من هيمنة صوت الراوي ونحتاج لإعادة رسم هذا المشهد كما يأتي:
المشهد:
الشيخ دفع الله يصل للتبرد في البحر بصحبة "فقرا" – أول ظهور للفقير- الشيخ شاف إنسان أسود "راقد في المشرع والدنيا ضلام قبل طلوع الفجر"
فكلم أحد الفقرا فقال له: شوف من هذا؟ - يمشى الفقير لمكان الزول/ الشخص الراقد وممدد-
الفقير يقول للشيخ دفع الله: (دا) احمد ود الطريفي
الشيخ: احمد؟ - الشيخ يمشي لمكان احمد ويضرب احمد بأصبعه فوق رأسه قائلاً: "ما هذه طريقتنا!" ضمير الجمع في "ما هذه طريقتنا" يشمل، بمعنى ما سيؤول إليه حال احمد الطريفي أو باعتباره واحد من أهل الطريقة أهل القوم؟ كنوع من "الاستباق" - إخبار الراوي بالحدث قبل وقوعه - استشرافاً للمستقبل. ثم طلب الشيخ دفع الله من أحد الفقرا أن "يمسكه" حتى يفرغ من التفتيحة، وتعني "التبرد في البحر"، وبعد أن انتهى من التفتيحه، أحضر الفقير احمد للشيخ، وتم حلق شعره، وسُلِّمَ لناس القرآن ليدرس الفقه وعلوم الشريعة.
المشهد الثاني في درس الظهر:
يجمع بين وظيفة الابتعاد ووظيفة التغريب "كرامات وخوارق" بالإضافة إلى أداة "النور"، كما سنري في المشهد الآتي:
ذات يوم بيقرا الشيخ دفع الله في مجلس الظهر. قال (احمد) – مربكاً هدوء الجلسة وكاسراً حاجز الصمت- قال: ما فهمنا. قال الشيخ دفع الله: من هذا؟
(الحضور) قالوا: احمد بن الطريفي
"فخرج نور من فم الشيخ إلى عرش المسجد فوقع فوق احمد، فوقع مغشيا عليه."
"ما فهمنا" أعقبها مباشرة، النور من فم الشيخ (دفع الله) إلى "عرش المسجد"، واستخدام العرش بدلاً من السقف، يحمل خصوصية سلطة النور فهو واصل للعرش، "عرش الملكوت" و"على العرش استوى". والمدة بين، "قالوا احمد بن الطريفي" و"خروج النور"، ثم وقوع النور، على احمد، الذي لا قدرة له على احتمال صقعة النور، وبقائه ففاقداً للوعي " أياماً"، هذه المدة مختزلة بل ملغية وملغي من عمر الحدث، حتى يقرر الشيخ، ايقاظه.
ومباشرة، يتحول من الخدمة إلى المخدوم، فقد تخطى الحاجز، فهذا المشهد يمثل نقطة فاصلة بين دورين مختلفين لأحمد في الحكاية.
يبدو أنّ مجلس درس الشيخ دفع الله، مجلس درس الظهر، يختلف نوعاً ما، عن مجلس "دروس الفقه وعلوم الشريعة وفرائض الوضوء"، مجلس علم آخر، واحمد استشكل عليه، هذا العلم المغاير، وكأنّ الشيخ، عرف من "ما فهمنا" أنّ احمد يحتاج للمنحة، التي تنقله لمقام "شيخ" وتمكِّنه من "سلوك الطريق".
فالتغريب: " الغرائبية/ الحدث الكاسر للمألوف"، فيه ادهاش القارئ وانعتاق من حالة العادة والتعود. ومن المهم الانتباه إلى العلاقة الوثيقة بين مفهوم التغريب ونظرية الحبكة، لأنَّ الحبكة أيضاً، فيها انتهاك للترتيب الشكلي المتوقع، وتعمل كحجاب يمنعنا من النظر إلى الأحداث على أنها نمطية مألوفة.17 و"النور"، أداة التغريب، وبسبب هذا النور، يقع مغشياً عليه، يغيب عن الوعي "الغياب" بدون تحديد المدة، كحذف زمني آخر. فيبتعد "الابتعاد" يطول في زمن السرد "يرقد أياماً" ثم بعد ذلك جاءه الشيخ فقال له: "يا احمد يا ولدي قم لقرايتك". وفي الإذن لأحمد "قم لقراءتك" السماح للانتقال إلى مقام أعلى، وكل هذا تحضير للوظيفة التالية، وهي وظيفة التجلي، وهي خارج نطاق المشهد السابق، للفصل الزمني الحكائي، في "فرقد أياماً".
وظيفة التجلي: وهي اكتساب البطل مظهرا جديداً، مظهر المقام الجديد. التمهيد لهذا المظهر الجديد، توسَّل له النص "بتذكيرنا، بمهمة الخدمة التي كان يقوم بها" وكان يرد مع الفقرا بركاَ الشيخ ويصب الماء لوضوئه" الخدمة في جلب مويه الوضو وصبها "يا احمد يا ولدي، خدمتك حرمت علينا"، نهاية مرتبة التلميذ والمريد ونهاية قبول الخدمة، وشواهد المظهر الجديد في "وأعطاه فقرا يلازموه ويقضوا حاجته".
ونأتي إلى وظيفة الاختبار: وهي أيضاً بضرورة الترتيب، خارج حدود المشهد السابق وتأخذ شكل القدرة على الكشف، كشف المكان المحجوب، لكن قبل تناول هذه الوظيفة، أريد أن أعلق على الوصف التالي: " وكان من أكابر أولياء الله تعالى، ومن أهل الكشف كجده أبو عاقلة الكشِّيف". إنَّ هذا الوصف، يؤدي مهمة التمهيد للوظيفة القادمة، ونموذج لما ذكرنا، سابقاً "للوقفة الوصفية" فهو أيضاً، مثال واضح، لما يعرف ب "صوت" السّارد، السّارد الذي يضطلع بمهمة تعليمية أو "أيدولوجية"، يُسِّرب فيها وجهة نظره، ولا يدع المجال للقارئ أو المتلقي، ليصل وحده، ومن خلال الأحداث وبعد اكتمال السرد، للنتيجة المنتظرة والمرجوة. "وظيفة الاختبار"، كما أشرت سابقاً، تأخذ شكل الكشف، والنص فشكل خبر: "وسُرقت عجول، أخبر أهلها قال لهم: رموها في الترعة الفلانية"، وكان الأمر كما قال. ونتيجة الاختبار، معروفة مسبقاً، فالراوي يسبق الحدث، ويخبرنا مقدماً، أنَّ احمد الطريفي، لابد أن يعرف مكان العجول فهو "من أكابر أولياء الله تعالى، ومن أهل الكشف كجده أبو عاقلة الكشيف" حتى أن جده قد لُقِب بالكشِّيف. والكشف كعنصر مساعد، لا يؤثر في مسار الحبكة، إنما يؤدي خدمة الربط بين وظيفة التجلي والاختبار. الكشف يعزّز تأكيد، اكتساب البطل للمظهر الجديد.
المشهد الثالث والأخير عند المزيِّن وخبر اصابة الشيخ دفع الله بالجدري: مشهد فيه حوار، المسرح، ربما، في بيت الشيخ احمد ابن الشيخ عبد الله الطريفي، تدخل عليه زوجته، وعنده المزِّيَّن يحلق شعره، فتخبره قائلةً: "دفع الله وِرِد بالجدري". فيرد عليها: "أنا ما بقدر على حرقة الحشا". ويتضمن هذا الجزء احتمالين، الأول أنه ربما قد عَلِم أنّه سيموت قبل شيخه، فينجيه الله من الحزن على شيخه، أو أنه يتضرع إلى الله أن يتوفاه قبل شيخه، وينجيه من الحزن عليه، وقد كان. المشهد أيضاً تضمن، وظيفة "التغريب" وهي شكل، كرامة أخرى، أداتها "استجابة الدعاء". وتوفي الشيخ احمد، كما أراد " فتوفاه الله تعالى بالجدري ومات من أهل بيته نحو ستة عشر انسان”. وبوفاته قبل شيخه يكون قد تجنب حرقة الحشا والحزن على شيخه. وفي وصفه زوجته بـ"تقدريها انت الشديدة." يعني على "حرقة الحشا" يعني قادرة على تحمّل الحزن والألم على فراق أقرب الناس. كناية عن الشخص القادر على مغالبة ألم الفراق، الكناية كثَّفتْ هوية ذاتية للزوجة. فهي موضوع الوظيفة السردية "التغريب"، بواسطة تحقق "كرامة استجابة الدعاء". وامتثالا لهذه النبوءة، تنتظر الزوجة على رصيف المشهد، مصيرها، المعلق على تلك النبوءة، فتتوالى عليها حرائق الحشا، بموت ستة عشر من أهل بيتها، "وأمهم قعدت بعدهم برهة من الزمان".
إذن، من هذا المثال، النص السردي للشيخ احمد الطريفي، تتضح الوظائف السردية والعناصر المساعدة. بعض هذه الوظائف، هي نفسها بذاتها في الحكاية الشعبية، كالابتعاد والمصاهرة والتجلي، كما أن هنالك وظائف خاصة، فقط، بهذا النص السردي للشيخ احمد الطريفي. فليس من الضروري التطابق التام بينهما. مما يؤكد، على الأقل، استنادا على هذا المثال، افتراض التباين بينهما كنمطين مختلفين. وهذا التباين يعود إلى وجود وظائف، ليست من بين الوظائف السردية في الحكاية الشعبية.
(*) نموذج ثانٍ: حكاية الشيخ سرحان صهر "أولاد جابر" وزوج فاطمة بنت جابر:
قسمتها على قسمتها على ثلاثة أجزاء لتسهيل العرض وتحديد المشاهد:
(ج1) سرحان ولد الحاج محمد بن سرحان "ولد بالجزيرة أرقو، وحفظ الكتاب وحج إلى بيت الله الحرام وحصل عليه جذبة وغيبة وسرح مع الصيد، وشركوا له وقبضوه وزوجوه فأفاق، وولد ولده إدريس"18
الجذب والغيبة، حالة العشق، جذب الفؤاد، وانقطاعه عن الناس، السرحان في الخلاء، ومفارقة الناس. المقدمة بوتيرة متسارعة، الميلاد، الحج، ومفارقة الناس للحياة مع الصيد في الخلاء.
السمة العامة الاجمال المكثف للأحداث.: على نفس الوتيرة في اتجاه تنازلي للحدث
شركوا له ............. قبضوه ................ ثم زوّجوه..........
ولا يُسلَّط الضوء على هذه " المصاهرة" كعلاقة جديدة فلا نعرف شيئاً عن الزوجة ويغرينا النص للانتقال لخباء "أفاق"، طاب من الجذب وشفي، والفائدة لا تختصر عليها كمعلومة في الحكاية، لكن الكلمة وبإيقاعها الاخباري السريع، تمثل باب لمرحلة جديدة في طريق الإعداد لـ"حبكة". التأسيس للمرحلة التالية، بعد أن أفاق من حالة الجذب، بميلاد جديد "ووَلِد ولده إدريس". وهذا الجزء خاصة، سنحتاج إليه لاحقاً.
(ج2)
النص في الطبقات: "وساق الساقية وكان حراثا، فحصلت مشاجرة بينه وبين أولاد عمه، فأدخل حطب ساقيته في مركب و"قنجر" إلى دار الشايقية بأهله وأولاده، فسكن شرق الجزيرة الفيها أولاد جابر، وودوا ولده إدريس الكبير للقراءة عندهم". الناس قالو: "هؤلاء الشيوخ عندهم أختا صالحة عالمة اسمها فاطمة ماسكة أربعة وعشرين فقيرا، ما تتزوج بها؟ قال: "أخت هؤلاء المشايخ من ياباها؟ وذلك في زمن الشيخ عبد الرحمن، فطلبها عندهم فزوجوه إياها، فحملت فولدت الحاج محمد، فبعده الحاج عمر، ثم الحاج أبو القاسم، ثم آمنة أم أولاد التنقار".
تحليل والتعليق على هذا الجزء ويشمل الحديث عن ترتيب الأحداث وتنظيمها:
"وساق الساقية وكان حراثاً فحصلت مشاجرة بينه وبين أولاد عمه،"
رغم أن "المشاجرة" نقطة فاصلة في الأحداث كما سنرى، سبب المشاجرة، المحذوف يمكن لأسباب كثيرة، فعدم معرفته والجهل به لن يؤثر، على سير الأحداث، لكن يمكن أن نزعم أن الخطاب نفسه يمهد للتأويل في بنية هذه الجملة، فهل يمكن أن تكون الحِراثة سببت المشاجرة. رغم أنَّ هذا التأويل قد تسمح به بنية النص، لكنه يبدو أقرب للتأويل الخاطئ. فالبحث عن سبب المشاجرة، ورغم أن هذا من صميم مجال السيرة، بمثابة الانشغال بما يدور في خلد المؤلف، والالتهاء بـ"قصدية المؤلف" عن "قصدية النص". مهما كان السبب، فالمشاجرة، لا محال هي الدافع للابتعاد.
الابتعاد: يتم عن طريق "القنجرة"، حيث يدخل الشيخ سرحان حطب ساقيته في مركب ويغادر إلى دار الشايقية بأهله وأولاده "قنجر في قاموس العامية بمعنى: ترك الوطن لعداوة أو لخوف من ظالم، والارتحال نتيجة غضب، أو عداوة، أرجعها باحثون أصلها إلى لغة البجا وجدتها في الأمازيغية بمعنى المشاكس المتمرد. والمشهور عنها السفر من غير عودة، بسبب الغضب أو الحرد. فيرحل الشيخ سرحان، ويحمله البحر إلى شواطئ جزر أولاد جابر. فسكن شرق الجزيرة الفيها أولاد جابر". وهنا يبدأ ظهور مقدمات لعلاقة ما بأولاد جابر، وقد نستبعد "المصاهرة"، لأنه تزوج في دياره قبل "القنجرة"، وله ولد منها وهو "ادريس" من زوجته تلك. ويرسل "إدريس للقراءة عند أولاد جابر"، وقد أشرت سابقاً أنَّ ولادة "ادريس" هي تأسيس لمرحلة جديدة وهامة، في كونه بداية سبب العلاقة بينه وبين أولاد جابر، والمدخل إلى التحوّل الكبير الذي سيطرأ على تقليد توريث خلافة سجادة أولاد جابر. وثم تأخذ هذه العلاقة شكلاً آخر، عند ما يرشح الناس له (فاطمة) أخت أولاد جابر شيوخ ابنه (ادريس)، زوجة. والنص نفسه يُضمر أسباب خاصة تجعل من الشيخ (سرحان) الزوج الأنسب للصالحة (فاطمة بنت جابر). هذه الأسباب حبيسة القرائن التي صاغها (ود ضيف الله) في استهلال سيرة الشيخ (سرحان). العامل الأسطوري الخفي للمُقَنْجر الغريب الوافد لجزيرة، أيضا له دور كبير في تسهّيل "القبول" للشيخ (سرحان) لمصاهرة شيوخ الجزيرة.
الناس قالو: هؤلاء الشيوخ عندهم أختا صالحة عالمة اسمها (فاطمة) ماسكة أربعة وعشرين فقيرا، أفلا تتزوجها؟
"قالوا" ضمير جمع غائب، دائماً، في مساحة العتمة، يعود لـ"الناس" السلطة الثالثة، في مجتمع الطبقات، الحاكم والشيوخ، ثم "الناس"، سلطة الرأي العام.
ورشحوا له: (فاطمة) العالمة المتدينة والصالحة. لها نفس مكانة إخوتها، فهي "ماسكة" أربعة وعشرين فقيرا، قائمة على أمر وِفادتهم وإطعامهم. فكيف يرفض الشيخ سرحان مثل هذه المصاهرة، من يأبى مثل هذا النسب؟
قال: "أخت هؤلاء المشايخ من ياباها؟" وذلك في زمن الشيخ (عبد الرحمن)، الجالس على السجادة، فطلبها عندهم فزوجوه إياها". هذا الزواج، يختلف عن الأول، زواجه الأول كان بغرض اكمال الرجوع إلى حياة العادية، مفارقة حالة الجذب والغياب.
يختفي (ادريس) الابن الأكبر من الزوجة الأولى، بدون تفاصيل أخرى، وينتهي دوره. وهذا مثال كون المؤلف يتخير مادة السرد، فهو لا يعبأ بالترجمة طالما لا توجد حكاية. أما بالنسبة للابن الأصغر، نجد تفاصيل أكثر لتوفر مادة للسرد والحكاية. لذا فإنَّ الزواج الثاني هو الذي يؤدي "وظيفة المصاهرة"، وتترتب عليه أحداث جديدة، تبدأ باكراً منذ لحظة الحمل والميلاد.
تَحْمَلُ فاطمة بنت جابر وتلِدُ الحاج (محمد)، ابنها الأكبر، هو الحفيد الملقب بـ(صغيرون) والذي سوف يصبح الشخصية الرئيسة في الحكاية الجديدة، فبعده الحاج عمر، ثم الحاج أبو القاسم، ثم آمنة أم أولاد التنقار.
(ج3)
"فذات يوم سمع الحاج محمد يبكي، سأل منه، قالو له: ربطته أمه لأجل الصلاة، فجاب لها خادم من زوجته القديمة، فهرجت، قالت له: راجية الله أولادك يدوروها عند ولدي محمد، فقبل الله دعاءها."
التحليل والتعليق: تضمن هذا الجزء، مشهداً وحيداً، في نهاية النص: فذات يوم، سمع الحاج محمد " الحفيد صغيرون" يبكي، فسأل عنه، قالوا له: "ربطته أمه لأجل الصلاة". وهذا ملمح أساسي في نص الطبقات، الانتهاء من التعريف بصاحب السيرة، وذكر زواجه أو سفره إلى مكان ما، يختار حدث واحد، عادةً ما يكون عبارة عن مشهد حواري، قد يتضمن كناية تحتاج للتأويل، بالإضافة إلى كرامةٍ ما، يختتم بها النص.
وقد رأينا المشهد عند المزيِّن، في نهاية سيرة احمد ولد الطريفي. المشهد كالآتي:
يبدأ المشهد بـ"فذات يوم" حذف زمني، زمن السرد أصغر من زمن "الوقائع"، حذف من زمن الحكاية. الجزء الأول، من المشهد واضح، الشيخ سرحان، يسأل عن سبب بكاء ابنه، فيردوا عليه (قالوا) – قالوا معتمة ودائماً مغلّفة بسريِّة، فهويِّة جالب الخبر مخفية "قالوا أمه ربطته لأجل الصلاة" والسياق العام وخلفية النص تقود إلى أن الابن رفض أن يصلي أو أنه أهمل أداء الفريضة، فعوقب بالربط، فبكى.
ونتيجة لهذا العقاب، غضب الأب، ولم يرضَ من تصرف زوجته؟ النص لا يعطي تفسير، ويترك القارئ، لسد الثغرات، هل غضب لأنَّه لا يؤيد، إكراه وقسر الأطفال على الصلاة؟ أو أنه لا يوافق على أسلوب العقاب؟ "فجاب ليها خادم من زوجته القديمة" احضار خادم من زوجته القديمة، أو زوجته الأولى، هل "نِكاية" في زوجته على فعلتها.
"هرجت" والهرجة من غضب وعدم رضا، تجعل معنى "احضار خادم" شيء غير مقبول عند (فاطمة). فهل التأويل هنا على حسب السياق التاريخي والاجتماعي، هو الحاسم أم يمكننا أن نعتمد على سياق النص؟ بفرضية "خادم" وجود تأريخي واجتماعي، يعني جلبها كـ"ضرّة" إن جاز التعبير؟ فهرجت "فاطمة"، قالت له: " راجية الله أولادك يدوروها عند ولدي محمد"، يعني أنها ترجو أن يتفوق ولدها (محمد) على إخوته غير الأشقاء، ويصبح قبلة حاجتهم ورجائهم.
فقبل الله واستجاب لدعائها. وهذا القبول للدعاء، كـ"حاجة سرديِّة"، يفسح زماناً ومكاناً لبشارة مشيخة (صغيرون) القادمة.
(*) نموذج ثالث: الشيخ صغيرون بن سرحان ولد الحاج محمد بن سرحان حفيد أولاد جابر "من جهة الأم" وريث السّجادة.
هذا الجزء من المواضع النادرة في الطبقات، لأنَّ فيه تسلسل منظم للوقائع، بالرغم من كثرة القفزات الزمانية، واستخدام السرد المجمل. وكعادته، يختار مشهداً معيناً ويسلط عليه الضوء، وعادةً ما يكون المشهد حلقة مهمة في ذروة النص أو عند نهايته.
وسنعرضه على جزئيين:
الجزء الأول: صغـــــــــيرون
يقول ود ضيف الله عن الشيخ صغيرون: "هو سيدي محمد بن سرحان العودي، وأمه فاطمة بنت جابر بن عون الله بن سليم بن رباط بن غلام الله، فما طابت تلك الثمرة إلا من تلك الشجرة، وسمي صغيرون، فإن أخواله أولاد جابر يقولون له محمد الصغير فغلب عليه اسم صغيرون، ولد رحمه الله بالجزيرة ترنج من دار الشايقية، وكان رضي الله عنه ممن جمع بين الفقه والتصوف، وقرأ الفقه على خاله الشيخ إسماعيل بن جابر وأجاز له بالتدريس، ورحل إلى الشيخ محمد البنوفري وقرأ عليه شيئا من خليل، وقال محمد هذا يصلح للتدريس، فجعل الله البركة فيه، وجلس في مجلس أخواله بعدهم، وكان من زهاد العلماء وكبار الصالحين، وصحب في التصوف الشيخ إدريس بن الأرباب، وسبب قدومه إلى دار الأبواب، عادوه أولاد أخواله عداوة شديدة لكونه حاز منصبهم، وقام مقام أخواله في العلم والصلاح، وساقوا عليه الملك زمراوي ملك الشايقية وأمروه بقتله، فركب جواده وجاءه وهو في المسجد فوجد أمه بنت جابر معه فقالت: "جيت تقتل محمد" فنزلّوه من الجواد مغشيا عليه، فصار يقول: "حك، حك، بقر الحاج محمد نَطَحنِّي"، فجاءوه فتشفعوا له، وقال لهم: "الشيء هذا ماهُ مني، من أخوانا لي"، فعزم له فشفي."19"
سنلاحظ في التعريف بالشيخ صغيرون، ذكر والده مقروناً باسم والدته، فاطمة، تأكيدا مرة ثانية على دورها وأهمية ايراد اسمها، لاكتمال التعريف به وبعائلته." وكان من زهاد العلماء وكبار الصالحين" ومرة اخرى نرى ما أشرنا إليه سابقاً، عندما يقوم السارد بمهمة التعليق على الأحداث وتبريرها مُقَدِّما آراء تعليمية. صغيرون جمع بين التصوف والفقه، أجيز كمدرس، ولمكانته دون أقرانه من أبناء أخواله، أحفاد الشيخ جابر، يُنصَّبُ خليفة للسجادة. وقد يلحظ المرء تماثلا خفياَ، بين قصة الشيخ (صغيرون) و(محيميد)، في رواية "مريود"، العائد لـ"ود حامد"، مشدوهاً في مناجاة، يتذكر فيها جده: "لقد اختاره دون سائر أبنائه، ليكون ظلاً له على الأرض، وخَلَفَ له الدار وفروة الصلاة، وإبريق النحاس والمسبحة من خشب الصندل، وهذه العصا."20 وهذا الاختيار، جلب للشيخ صغيرون العداء من أبناء أخواله، الذين اسْتَعدوْا عليه الملك "فساقوا عليه الملك (زمراوي)" ساقوا عليه، تعني حرَّضوه وألّبوه عليه. لكنَّ السلطان ينهزم وتنتابه حالة من الجنون، أمام كرامة الولي ولا يشفى منها، إلا بعزيمة من الحاج صغيرون نفسه.
الجزء الثاني: الملك المهزوم يعرض على الشيخ الدنيا:
"وقال له أعطيتك أربعة سواقي، وكل ساقية أربعين عودا بعود السلطية، وأربعة فروس والدات واربع رؤوس، فقال لهم: ”مالكم حرام علي، وسكنى بلدكم حرام علي”، وقيل أن الملك بادي بن رباط وكان سيد قوم الملك عدلان ولد أيه، وكان معتقدا فيه، فإن الملك عدلان بعدما قتل الشيخ عجيب في كركوج سافر بجيوشه إلى دار ضنقلة فلما جاء في مشو عزلوه الفونج من الملك وولوا بادي سيد قوم الملك، فحينئذ طلب منه أن يسافر معه إلى أرض الصعيد فقال له: ”بلحقك”، ثم قدم بعد إلى أرض الصعيد بأمه وإخوانه وزوجاته وأولاده ووقع في الدريرة فاختلف فقراه: ناس الصعيد أمروه بسكن الصعيد، وناس السافل أمروه بسكن السافل، فقال لهم يختار الله على ذلك، فأخذ ركوته وشال الخلا، فاجتمع بالسيد الخضر عليه السلام، قال له: ”سكنك قوز المطرق (جنوب شندي)، مقابل سهلة أم وزين”.
فسافر إليه فوجده كله شجرا وعرا، فمشى إلى الفجيجة فوجدها فجة ساهلة من الشجر، وقال هذه الفجيجة ينزل فيها أخوان الشيخ عبد الرحمن ولد حمدتو، وهذا سبب تسميتها بالفجيجة، ثم إن الشيخ ابن سرحان (صغيرون)، أرسل إلى الملك بادي بسنار وأعلمه بالقدوم، وطلب منه أن يعطيه بقعة الخلاء للمسكن والزرع والمشرع للورود، فإن الملك جاب زولا وقال له: ”أعطه جميع الدار اليدورها“ وحددها له وقال له: ”بلا بقعة الخلا والمشرع للفقرا وموضع المقبرة ما بدور شيء” وهذا رحمه الله من الورع والزهد في الدنيا. ثم إن الشيخ رضي الله عنه بنى المسجد بتأسيس الخضر عليه السلام، ويقال إن الشعبة الوسطى التي هي موضع المشايخ للتدريس غزاها الخضر (وفي رواية هزاها) بيده الكريمة، وشدت إليه الرحال من سائر الأقطار، وضربت إليه أكباد الإبل وانتفعت به الناس." 21
لا يقبل الولي الصالح عطاء الملك فقال لهم: "مالكم حرام علي، وسكنى بلدكم حرام علي"
كوالده الشيخ سرحان، "سيقنجر" إلى دار الأبواب. ويسعى لمودته، سلاطين الفونج، الملك بادي بن رباط وبادي سيد قوم الملك. بل أن الملك بادي بسنار، يستجيب إليه ويأمر بإعطائه ما يريد "أعطه جميع الدار اليدورها “ وحددها له وقال له: ”بلا بقعة الخلا والمشرع للفقرا وموضع المقبرة ما بدور شيء". هذا كل ما يريده. ومرة أخرى يعلو صوت السارد ويتدخل في النص مُسرِباً رأيه الخاص فيقول "وهذا رحمه الله من الورع والزهد في الدنيا". ثم يختلف الفقرا في المكان الذي سيختاره ليسكن فيه، بين فقرا السافل وفقرا الصعيد، والملك (بادي) سيد القوم، الذي يريده أن يسافر معه إلى الصعيد، فيلجأ للسيد (الخضر).
الجزء الخاص بالكرامة، نراه في تحقق دعاء فاطمة بنت جابر، فلقد أصبح الجميع، بمن فيهم إخوته غير الأشقاء، "يدوروا قضاء حوائجهم، من ابنها محمد". وكرامة أخرى من نوع مختلف، حيث يجتمع بالسيد الخضر لاستشارته في المكان الذي سوف ينزل فيه، واحتدَّ النزاع بين الفقرا، بين الصعيد والسافل، السيد الخضر، بيده الإجابة، فهو المرجع، لحسم المكان الذي فيه سوف يقيم الشيخ. كما أنَّ السيد الخضر يأتي بنفسه لغرز "الشعبة الوسطى" للمسجد. رغم أنّ الخلاء والمسجد مكانان معروفان، يمكن تحديدهما جغرافياً، بالإضافة للسياق الديني الخاص ب السيد (الخضر)، إلا أنَّ مشيئة النص هي التي أتاحت حضوره كشخصية ورقية، خاضعة لكل شروط السّرد.
الهوامش:
* تعريف بكتاب " الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان " من موقع ويكيبيديا https://ar.wikipedia.org/wiki. "يعتبر كتاب الطبقات المعروف شعبيا بـ(طبقات ود ضيف الله) من أشهر الكتب السودانية، ويعد من أمهات كتب التراث السوداني، والمرجع الأول المطبوع لدارسي التصوف في السودان. قام بتأليفه الشيخ.محمد النور ود ضيف الله، كما يعد الكتاب أيضا من المصادر الأولية الهامة في تاريخ سلطنة الفونج (1505 – 1821م)، إذ وردت بين ثناياه العديد من الإشارات التي تبين حياة التصوف والسلوك الاجتماعي في.الدولة ومكانة الأولياء والمتصوفة في الحياة.والذكر وخلاوى .للفقه والقرآن، وهو يتناول فترة من أخصب فترات التاريخ بالسودان حيث وضعت الأسس المبكرة الأولى للإسلام ونفوذه الدعوى والثقافي في البلاد. ويترجم الكتاب للمتصوفة والعلماء وقراء القرآن والبعض من الشعراء والأدباء، والذين تراوح عددهم عند البعض من المحققين ما بين (270) علماً مثلما يقول البروفيسور يوسف فضل حسن وما بين (259) عند(ماكمايكل) علاوة على ما تضمنه من الإشارات إلي السلاطين والوزراء والولاة بالولايات المختلفة والإفادات القيمة عن النظم الإدارية والاجتماعية والسياسية والدينية، إلى جانب العادات والتقاليد والأعراف بين طوائف المجتمع السناري."
* هذه الورقة عبارة عن دراسة تتناول القيمة الفنية لهذه النصوص، تعرض ثلاثة نماذج سردية تحكي ريادة وسبق "ود ضيف الله" في السرد والقصص القصيرة.
*كتاب الطبقات مكتوب باللهجة السودانية، لذلك معظم الاقتباسات من كتاب الطبقات في هذه الورقة، تضمنت كلمات تجري على شكل كتابة اللهجة السودانية ولا تتبع قواعد كتابة العربية الفصحى، لذلك احتفظت بها كما هي بدون تغيير، مثال "فقرا" بدلاً من "فقراء" و"قالو" بدلاً من "قالوا".
المراجع:
(1) خطاب الحكاية: بحث في المنهج، جيرار جنيت ترجمة: محمد معتصم، عبد الجليل الأزدي، عمر حلي الطبعة الثانية
ص37. . 1997 القاهرة, مصر: المجلس الأعلى للثقافة كما يمكن مراجعة: GERARD GENETTE , G. (n.d.). Narrative Discourse, An Essay in Method. Retrieved August 11, 2017, from http://www.cornellpress.cornell.edu/book/?GCOI=80140100153110&fa=author&Person_ID=1325
(مع مراعاة اختلاف ارقام الصفحات بين الترجمتين العربية والإنجليزية)
(2) قضايا للحوار: إعادة تدقيق وتحقيق كتاب الطبقات
http://www.alrakoba.net/articles-action-show-id-78639.htm
ص محمد الجعلي الفضلي, (n.d.). (3) الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان. بيروت، لبنان: المكتبة الثقافية. ص 2
(4) خطاب الحكاية: بحث في المنهج، جيرار جنيت ترجمة: محمد معتصم، عبد الجليل الأزدي، عمر حلي الطبعة الثانية
ص.39 . 1997 القاهرة، مصر: المجلس الأعلى للثقافة. محمد الجعلي الفضلي, (n.d.).
(5) الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان. بيروت, لبنان: المكتبة الثقافية. ص.30.
(6) مورفولوجيا القصة (بروب) ترجمة د. عبد الكريم حسن ود. سميرة بن عمو (الطبعة الأولى 1996) 6))دمشق, سوريا: شراع للدراسات والنشر والتوزيع.
(7)السابق ص. 38
(8) السابق ص .38
(9) السابق ص .37
(10) السابق ص .38 (10)
(11) كتاب الطبقات، ص. 4
(12) كتاب الطبقات، ص. 4
(13) كتاب الطبقات، 4-3
(14 ) خطاب الحكاية: بحث في المنهج، جيرار جنيت ترجمة: محمد معتصم، عبد الجليل الأزدي، عمر حلي الطبعة الثانية
ص.47 . 1997 القاهرة, مصر: المجلس الأعلى للثقافة
(15) السابق ص.47
(16) محمد الجعلي الفضلي, (n.d.). (16) الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان. بيروت, لبنان: المكتبة الثقافية. ص 29
*في بعض النسخ: "حراب سمحات"/ ( عنده حراباً)
"شوفو منو" / (شوف من هذا)، في مثل هذا التعارض، اخترت العامية،لأنها عندي أقرب للأصل، والتعديل إلى الفصحى فيه شبهة التدخل والتغيير في النص.
(17) رامان سلدن. (1991). النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة جابر عصفور القاهرة, مصر: دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع. صـ 33
(18) محمد الجعلي الفضلي, (n.d.). (18) الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان. بيروت, لبنان: المكتبة الثقافية. ص109
(19)السابق ص
- محيميد عن جده في رواية مريود، الطيب صالح. (1997). بندر شاه مريود (ط1) بيروت, لبنان: دار الجيل. ص.13
(21) محمد الجعلي الفضلي, (n.d.).
(22) الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان. بيروت, لبنان: المكتبة الثقافية. ص 102