تبدو أهمية المنحوتات والجداريات الميدانية في عدة أمور، أولها أنها تخرج عن أفق المعارض الفنية المحدود وفق تكوينها وموضوعها، فتصبح في تفاعل يومي مع الجماهير، كذلك تصبح ضمن التشكيل البصري لقطاع كبير من الشعب، الأمر الآخر يتمثل في علاقة السلطة الحاكمة وطبيعة هذه الأعمال، ماذا تريد هذه السلطة أو تلك أن يستقر في الوعي الجمعي للناس، ما الرسالة التي تصر عليها أن تصل إليهم، وتتمثل أعينهم ليل نهار، بحيث تصبح هذه الأعمال ضمن التكوين الثقافي والاجتماعي والسياسي في المقام الأول لهم، سواء وعى هؤلاء بذلك أم لا. وكعادة تزييف التاريخ ووقائعه، وتواتر هذا التزييف ليتخذ في ما بعد سُنّة الحقيقة الواجب التقوّل بها والتباهي بذكرها، تكشف هذه المنحوتات عن استكمال المشهد العبثي لتاريخنا الضال. ويحاول كتاب «النحت الميداني وذاكرة التصوير الجداري» الصادر مؤخراً عن سلسلة آفاق الفن التشكيلي في القاهرة، الربط ما بين العمل الفني والنظام السياسي، وكيف أن تحوّل هذا النظام أدى بدوره إلى طمس الحقائق ومسخها. أعد أبحاث الكتاب يتكوّن كل من، ياسر منجي، وزينب نور، وسعيد بدر. وسنحاول استعراض بعض النقاط الهامة واللافتة التي كشف عنها، كإضافة للفن والتاريخ الاجتماعي والسياسي المصري.
النحت الميداني والتحولات السياسية
تحت هذا العنوان يكشف الباحث ياسر منجي عن القاعدة الخاوية الشهيرة في ميدان التحرير في القاهرة ــ الإسماعيلية سابقاً ــ والتي كان سيقام عليها تمثال للخديوي (إسماعيل)، والتي أزيلت تماماً في تسعينيات القرن الفائت لإتمام مشروع مترو الأنفاق. بدأ المشروع في العام 1949 بالتفكير في إنشاء تمثال للخديوي إسماعيل في ميدان الإسماعيلية، وآخر أمام قصر عابدين للملك (فؤاد)، ومحاولة الملك فاروق الربط ما بين الميدانين تخليداً لذكرى والده وجده. وبداية من قيام كل من النحاتين المصريين مصطفى نجيب ومصطفى متولي في التنفيذ والإشراف على المشروع، إلا أن الكثيرين ينسبون بالخطأ قيام فنانين إيطاليين بهذا العمل. الأمر الآخر يتلخص في مصير كل من التمثالين، تمثال الملك فؤاد في ميدان عابدين، والذي لم يُزح عنه الستار لقيام حركة يوليو 1952 واختفى تماماً من الميدان، الذي أصبح مكاناً أثيراً لخطب عبد الناصر في الجماهير، أما تمثال إسماعيل فلم يتم استكماله، وبقيت فقط القاعدة الخاوية في انتظاره، حتى تصادف أن يوم مجيئه من إيطاليا ــ حيث كانت تقام هناك عمليات صب البرونز ــ كانت السفينة العائدة به إلى مصر تبحر بجوارها في طريقها إلى إيطاليا، وعليها آخر ملوك مصر ليبدأ رحلة المنفى. القاعدة نفسها أصبحت مطلباً بعد موت عبد الناصر، لتصبح مكاناً لتمثال يليق به، إلا أن السادات لم يكن مستعداً لذلك، حتى أنه بعدها، وبعد طلبات الجماهير الشرفاء ذات الحِس الوطني المعهود، تغّير ميدان التحرير إلى ميدان السادات، لكن الناس لم يستخدموا الاسم، فظل كما هو ميدان التحرير.
الفنان المصري والبحث عن الهوية
وتؤصل الباحثة زينب نور الأمر أكثر في شكله العام، دون الاقتصار على واقعة معينة أو عمل فني بعينه، مع مقدمة ضرورية عن طبيعة ارتباط هذا الشكل الفني بالسلطة السياسية والدينية التي تعمل في خدمتها دوماً على مر العصور. إضافة إلى علاقة العمل الفني نفسه بالفنان وحريته الشخصية وبين القوانين الصارمة المفروضة عليه. وتضرب المؤلفة عدة أمثلة على الوعي القومي والهوية، بداية من مقاومة المحتل الإنكليزي وأحداث ثورة 1919 وحركة تموز/يوليو 1952 ــ نتحدث هنا عن أعمال الفنانين الأكاديميين، بخلاف الفنان الشعبي الذي ابتكر جدارياته الخاصة بالمناسبات الدينية وما شابه ــ الأمر اللافت هو وجهة النظر التي باعدت ما بين تفاعل الناس مع هذا الفن، فبعد عصر الستينيات ومجيء المد الخليجي ووجهة نظره إلى الفنون عموماً، هنا ازدادت الفجوة بين الشعب وتراثه، هذا التراث الذي يعتبره الفكر الديني رِدة إلى الوثنية. ولكن ماذا عن المبالغة في التغني بالوطنية أمام أعين الشعب الذي يُعاني من سوء الأحوال الاقتصادية والسياسية، الأمر هنا يتحول إلى نغمة استفزازية ويولّد نقمة وسخرية ــ ينصرف الأمر إلى الأغنيات الدعائية التي تتغنى بأمجاد وهمية وعصر ذهبي من المفترض أننا نعيشه مثلاً ــ فالفارق شاسع بين عمل ينتهج الوعي والبحث عن الهوية، وآخر دعائي يستجدي مجرد نظرة عابرة.
الغرافيتي والوعي الشعبي
وتستمر نور في توصيف فن الغرافيتي في مصر، والذي انطلق بعد ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير 2011 والذي جعل من الثورة المصرية فرصة تاريخية لخروج الفن التشكيلي المصري المعاصر من عزلته الجماهيرية. ولكن بسبب موقف هذا الفن من السلطة والإعلام الموالي لها، انتهى الكثير من هذه الجداريات إلى التشويه والمحو، إلا ما قد تم تسجيله/تصويره، وتناقله عبر شبكات التواصل الاجتماعي، أو طبع البعض من هذه الجداريات ضمن دراسات تناولت الثورة المصرية وتبعاتها. ويبدو أن أهم ما في هذا الشكل الفني ــ بخلاف انتقاد السلطة ــ هو مدى تفاعل الجماهير معه، فقد يتم ابتكاره في وجودهم وأمام أعينهم، حتى أن البعض منهم يُشارك بالفعل في مساعدة الفنان أو مجموعة الفنانين في إنجاز العمل، هذا التفاعل الحي هو ما يُثير قلق أي سلطة، طالما أصبح الفن ــ المُعارض ــ يتشارك فيه الفنان والجمهور.
النُصب التذكاري ودلالاته
وفي الأخير نأتي إلى الباحث سعيد بدر، وموضوعه عن (النصب التذكاري) ودلالاته في وعي الشعوب، كأهم مظهر من مظاهر أعمال النحت في الفراغ، من حيث كونه علامة من علامات الإرادة الجماعية وتاريخ الأمة. وبالتالي يصبح كل نصب تذكاري يرمز إلى فكرة محددة يمكن استخلاصها بالرجوع إلى مكوناته وأدائه التعبيري وسياقه الوظيفي، فيصبح بذلك في تواصل بصري دائم مع الجمهور، ويعد فناً جماعياً ــ من منظور التلقي ــ مُحمّلاً بالمثل العليا في الذاكرة الجمعية. ويختلف النُصب من حيث موضوعه، سواء تشخيصاً أو فكرة عامة أو تخليداً لذكرى ما في وعي الشعب، والأمثلة عديدة، تمثال لينين في ميدان أكتوبر، والمسيح الفادي في البرازيل، ونُصب السجناء الدولي، ونُصب الوقت، ونُصب وارسو، ونُصب معسكرات الاعتقال، ونُصب الحرية في العراق، ونُصب الجندي المجهول في مصر.
إلا أن هناك العديد من هذه النماذج تبدو عليها الفكرة الدعائية، كـ «نُصب صوفيا» الذي يشيد بانتصار الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية في بلغاريا، هذا الانتصار الذي تحوّل إلى شكل من أشكال الحكم الشمولي، واليوم يتم النظر إلى هذا النُصب، الذي تم افتتاحه في العام 1954 على أنه تذكير مؤلم لنظام مدعوم من الخارج، وتتواصل المظاهرات المُطالبة بهدمه والتخلص منه. حتى أنه تم مؤخراً طلاء النُصب وشخوصه بألوان مختلفة سخرية منه ومن وجوده، ما جعل روسيا تحتج رسمياً على هذا الفعل.
ياسر منجي، زينب نور، وسعيد بدر: «حول النحت الميداني وذاكرة التصوير الجداري»
الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة آفاق الفن التشكيلي، القاهرة 2017، 232 صفحة.