يرى الشاعر العراقي ان سليم بركات ليس «شاعر معانٍ» كأبي تمام، وإنما هو أقرب إلى شعر البديع والبيان والمحسنات اللفظية، وفصاحته ليست فصاحة النقاء والتقطير، وإنما يقودها شبق التيه الباحث في الوعرة والعطش، وتحشيد الصور على الصور ولهذا يجدِّد الأشياء المندثرة ويبتكر أسماء جديدة للسراب حتى يكاد يبدو ماء حقيقياً.

سليم بركات ... التيه الكردي والفصاحة العربية

محمد مظلوم

وصف النقد العربي القديم شِعرَ أبي تمام بأنه خروج على «عمود الشعر» وبأنَّهُ مبتكر المعاني التي لم يسبقها إليه أحدٌ، بينما علّل الاستشراق ذلك بكون «حبيب بن أوس الطائي» ما هو سوى ابن «ثيودوس» اليوناني كما رأى مرجيليوث. وأنَّ هذه الأصول اليونانية المفترضة لأبي تمَّام، كان لها تأثير في نزوعه نحو شحن الشعر العربي بجرعة تجديدية مختلفة، وإنْ جرى النظر إليها من قبل النقد المحافظ على أنها «بِدعة» ومن هنا أصبحت دراسة التأثيرات اليونانية أو الهلنستية في الشعر العربي ممكنة. وفي الواقع لا يمكن عزل الشعر العربي في عصوره المتأخرة نسبياً عن مجمل تأثيرات الثقافات المتأغرقة، كما أن من المهم التنويه إلى أن المشتغلين في علوم اللغة العربية، كان بينهم عدد لا يستهان به من غير العرب ويكفي أن نذكر سيبويه على سبيل المثل.

قد يكون هذا المدخل مناسباً، لمقاربة شعر سليم بركات، ومحاولة معرفة ما شأن هذا الكردي سليط الفصاحة العربية وسليل الأرومة الكردية؟ وهل بوسع مثل هذا التلاقح أن يجعل لغة الشعر أكثر تمسُّكاً بافتراقها عن اليومي المبذول والمأثور والمألوف لمصلحة الغيبي والقاموسي والغريب، لتغدو فصاحة مختلفة ولافتة وسط عُجمة عربية راهنة تشكو العيَّ في التعبير، والعجز عن الاجتراح، وتقع فريسة التكرار والتماثل.

لكن سليم بركات ليس «شاعر معانٍ» كأبي تمام، وإنما هو أقرب إلى شعر البديع والبيان والمحسنات اللفظية، وفصاحته ليست فصاحة النقاء والتقطير، وإنما يقودها شبق التيه الباحث في الوعرة والعطش، وتحشيد الصور على الصور ولهذا يجدِّد الأشياء المندثرة ويبتكر أسماء جديدة للسراب حتى يكاد يبدو ماء حقيقياً.

يصدر سليم بركات الجزء الثاني من «الديوان» عن دار المدى، وتسمية «الديوان» وليس الأعمال الكاملة، شيء لافت آخر، إذا شاع خلال العقود الأخيرة أن يصدر الشعراء مجاميع أشعارهم تحت عنوان «الأعمال الشعرية» وهي تسمية لم تكن معهودة وإنما المأثور تسمية «الديوان» والتي رافقت حتى تجارب الحداثة في إصدارات دار العودة خلال السبعينات والثمانينات، فكانت أشعار أحمد شوقي والرصافي، إلى جاب أعمال السياب وأدونيس والماغوط تحمل العنوان نفسه: «ديوان» وهكذا يعيد الكردي – وحسناً فعل-الهيبة للديوان باسمه العربي الأثير.

مناخان
ثمة مناخان شعريان أساسيان يميزان «ديوان سليم بركات» وهما: محنة التيه الجماعي، والغزل. وفي أجواء هذين المناخين يمكن تلمَّس شيء من تضاريس قلقة للتجربة الشخصية. ففي «ترجمة البازلت» و «شعب الثالثة فجراً» ثمة تشابه ظاهر- وإن بدا التوتر اللغوي ونبرة الصوت أوضح في الأول - في كونهما نوعاً من استعادة السيرة والتجوال المفتوح في فضاء عوالم بعيدة موغلة بالتاريخ والقدم، من مرابع الطفولة حتى المنافي معتمداً على ضمير الجماعة وبسرد مسهب: «جمعوا الزبيبَ والبنفسجَ، مَعاً، في صُرَر الكُردِ. جمعوا شعاعاتِ الشَّمسِ، وغبارَ القَمَرِ، مختلطةً بملحٍ وشعيرٍ في صُررِ الكُردِ غذاءً للجيادِ، الَّتي رُقِّنتْ بالحنَّاء من أعْرَافِها حتَّى الحوافر» و «قَيْرَوَاناتٌ تحملُ متاعَهُمْ- متاعَ الظلَّ الفقيهِ، من كثيبٍ إلى كثيبٍ. لا أَدِلاء. لا جِهات. وجودٌ مراقيَ في الجمالِ الْمُنتَحِب عَلى أسوارِهمْ» جغرافيا التيه والمنفى، التي يصطحبنا لعبورها هي جغرافيا وعرة تماماً على صعيد اللغة والذاكرة، حيث تجتمع مدنٌ كبرى مع قرى صغيرة لا تكاد تذكر، كأنها بلا مكان ولا خريطة، لكنها تحضر بقوة في معجمه بتلك اللغة القاموسية المهجورة، ممزوجة بأسماء الأمكنة المنسية، ما يخلق كيمياء مضادة للعادي والمألوف، ولو أحصيت معجم الأمكنة في «ترجمة البازلت» على سبيل المثال لشكلت جغرافيا متناقضة عبر العصور من: بابل لأربيل لدوما لسمرقند لأنطاكيا وما بينها العشرات من الأسماء لأمكنة مجهولة، مجسدةً سيرة جماعية لتيه وعناء في رحلات مشقة واستذكارات لأبطال مهمَّشين في الذاكرة الشخصية ومنفيين عن التاريخ العام، ذلك أن الشقاق ليس خارجياً دائماً، والخدعة التي ترتهنهم ليست طارئة تماماً:

«إنهم قلبٌ نصفُهُ وشايةٌ بالنصفِ الآخَرِ، نصفٌ يحرِّضُ الذعرَ على نصفِهِ المطمئنّ، وَهُمْ قدَّروا أحوالَهمْ مَخْدوعينَ بالْمُمَاطلةِ الكُبرى، الَّتي حشَّدَتْهُمْ أوفياءَ كالجوعِ، وكما ينبغي للشيءِ، مُقدَّراً بأحوالِهِ، أنْ يُوصفَ، أجْرَوا وصفَهُمْ عَلَى كلِّ شيءٍ، مَخْدًوعينَ بالأزليّ».

من الواضح أن الجماعة هنا هي الجماعة العرقية، الكردية تحديداً، فهل يبدو سليم بركات هنا شاعراً إيدلوجياً كردياً ببلاغة عربيةٍ؟ أم هو «مثقف عضوي» وفق مفهوم غرامشي، يستعير صوت الجماعة، ويستعين بتلك المحنة تعبيراً عن قلق هويته الشخصية، وعن الشرخ الثقافي في الهوية الكلية؟ اللافت هنا -حدَّ المفارقة ربما- أنه يكتبُ سيرة هذه الجماعة المقهورة باللغة الأخرى! لغة الأمّة الأقوى، ولعلَّ في هذا تجسيداً مناسباً لفكرة التسامح والتعايش، ففي قصيدته المطولة (سوريا) يخرج من إطار الهوية العرقية (الضيقة) إلى فضاء الهوية الحضارية المفتوحة، فهو سوري وليس مجرد كردي، وهو في نهاية المطاف عروبي بمعنى أن فصاحته وأرثه اللغوي والأدبي عربيان صريحان. لكن الحكايات المستترة خلف هذه البلاغة تبقى محتفلةً برقصةٍ خنجر كردي لا بسيف عربي. هي دبكة جبلية وليس حداءً صحراوياً. وعلى قدر ما تفصح هذه الحكايات عن مديح للخسارة والتيه، فهي تنطوي كذلك على هجو مضمر ببلاغة ومجاز رفيعي المستوى.

المجاز غايةً
ولا يبدو المجاز في شعر سليم بركات وسيلة بلاغية، إنما هو غاية، وقصيدته نموذج متقدَّم في فنِّ المجاز اللغوي المسترسل، هذا الاسترسال يخرج المجاز أحياناً من صيغته التي وصفها البلاغيون بأنها ممر للوصول إلى الحقيقة، وإلى الغاية والمعنى، ليجعله أشبه بدهليز متعدِّد المسارب وكلها تقود إلى تأويلات شتى تجعل القارئ مستغرقاً بالمجاز نفسه ومشغولاً به عن البحث عن معنى محدَّد. فيصبح أي بحث عن معنى آني للجملة ضرباً من المراهنة الخاسرة بل العبث، وكذا يصبح البحث عن (قصيدة) في هذا الهلام المتدفق عبثاً آخر، لكنه لا يكتب تجريداً خالصاً أيضاً، فعمله الشعري في كل كتاب من كتبه هو تعبير عن مناخ لا عن موضوع محدَّد، مناخ تتداخل فيه الموضوعات. وهكذا يمكن الحواس أن تضطرب وهي تحاول ملاحقة المعنى الداخلي للجمل الشعرية لدى بركات، ذلك أنَّ الإفراط في هذا التحشيد للتشبيهات والاستعارات الموسعة يجعل المعنى تحت طائلة الاشتباه، ويبقى عصياً على الإحاطة والتمثل الدقيقين، فصوره الشعرية مركَّبة في عالم المخيلة ومنه، ما يجعلها غير محسوسة، بل هي في هروب دائم من مديات الحواس، نحو عالم آخر، بلغة تخيلية، وهو بهذا لا يهتم بخلق عالم موازٍ للعالم المحسوس، وإنما تكاد عوالم صوره تبدو على قطيعة مقصودة مع المرئي والمتاح، ومن هنا لا يمكن القول مع شعر كهذا: افتحْ عينيك لترى، بل ربما العكس هو الصحيح: اغمضهما لترى.

وسليم بركات ليس شاعر أساطير، بمعنى إنه لا يقدم فهماً مفارقاً للأساطير بوصفها لا وعياً مشتركاً بين جماعة معينة، لكنه يحاول التأمل في ما حوله من علامات وإشارات وحيوات غرائبية، واختبار مدى قدرتها أن تغدو أساطير أخرى في النص. لذا فهو أميل للفلكلور المحلي، والخرافات الساذجة، محاولاً أن يصنع من براءتها براعة.

فحتى في ديوانيه «آلهة» و «الأبواب كلها» يؤكد شغفه بصيغة الجمع، كتقنية فنية، أكثر مما يسعى إلى خلق ملحمة عبر هذا التعدُّد في الأسماء وفخامة المعمار والاستفاضة في الإنشاد، فيما تبقى لغته مشدودة نحو التهويمات المنبثقة من غيبيات عالم مطلق، وأقرب للشطحات حيث تنبثق الجملة وتتداعى حرة على وفق (لا منطقها الخاص) وكما تشاء، مؤكداً بوضوح إنه شاعر إسهاب لا اختزال يقلِّب فكرةً واحدةً على أوجه عدَّة ويمضي بها حيث ما تغوي اللغة. وهذا ما يفعله حتى مع الغرض الشعري الأثير: الغزل في ديوانيه «شمال القلوب وغربها» و «الغزلية الكبرى» فمن المعتاد أن تميل لغة شعر الغزل إلى التوصيل، ذلك أن الغزل نشأ أساساً لتفهمه الحبيبة أولاً، وليس لكي يفهمه الشعراء، فهو وسيلة قبل كل شيء. لكن سليم بركات لا يلتفت كثيراً لهذه الفرضية، وفي كلا الديوانين تبحث عن صورة امرأة محدَّدة، عن هوية وصفات تقريبية، فلا تجدُها، بل تجد امرأةً بلا ملامح واضحة، كأنها ضائعة في النساء كموجة في بحر، كما أنَّ جمع الجنس للمرأة بـ «النساء» مجاز آخر، يشبه المجازات اللغوية المركبة المسترسلة في سائر شعره. المرأة إذن غير محسوسة لكنّها مركَّبة من صفات عدَّة لدى نساء كثيرات.

تشبيهات
وإذا ما استثنينا مفردة «أحبهنَّ» التي تتكرَّرُ في «الغزلية الكبرى» على دأبه في الدوران حول مفردة محورية يستأنف بها بداية جديدة أو يغلق نهاية ما، وباستثناء بعض المفردات الجسدية التي لا مناص عنها، فإن سائر تشبيهاته الأخرى ومجازاته لا تنسلخ عن طريقته المعهودة سواء في اختيار المفردة المعجمية أو في علاقتها بجارتها، في تراكب يقوم عادة على تتالي النعوت، والإضافات.

مفردة (أحبهن) وصيغة الجمع المعتادة، تؤكدان كذلك أنّ ما من حبيبة واحدة ووحيدة، فهو ليس من (الموحدين) في الحب بل يبدو وثنياً. وبهذه الوثنية في فن العشق يعلن سليم بركات انضمامه إلى محفل العشاق المتعدِّدين سواء في التراث العربي أو في الشعر العالمي عموماً. فهو يخاطب جماعة ويصف جماعة، مرَّةً بواو الجماعة ومرة بنون النسوة، فيما يظهر صوت الشاعر منفرداً في مواضع معينة غالباً ما تأتي في القسم الثاني، فيتحوَّل الصوت إلى نشيد غنائي بصوت المتكلم فتتصاعد الخطابية، وتتصاعد معها البلاغة:«مذهولونَ عَثَروا على الحبِّ قبلَ العُثورِ على قلوبِهمْ. ضَامِرونَ حُبَّاً/مفتونونَ حُبَّاً/منكسرون حُبَّاً/مسلوخون حُبَّاً/ مضطربون حُبَّاً/مذعورون حُبَّاً/ متبلبلون حُبَّاً/يائسون حُبَّاً/صاعدون حُبَّاً/هابطون حُبَّاً/دائخون حُبَّاً/نازحون حُبَّاً/حفاةٌ حُبَّاً....»

قصيدة سليم بركات تقوم على فرضية تبدو بسيطة، لكنها صعبة في الواقع، التقصد المسبق في خلق المفاجأة الصادمة بديلاً عن التلقائية التي قد تأتي بأثر عاديّ، ومن هنا فإنَّ شغفه بالغريب يخلق متعة تبادلية بينه في حالة الكتابة وبين المتلقي في حالة القراءة، ذلك أن العلاقة غير المألوفة بين المفردات الغريبة يتحتَّم أن تنشأ عنها شحنة إيحائية أكثر غرابة من المفردات نفسها، هذه الهجنة من تناسل الغريب بالغريب، وتتالي الإضافات والنعوت هو ما يخلق كيمياء جديدة بين المفردات المتباعدة ويصهرها في جملة غريبة الدلالة وحشية البيان ويجعل شعره مفارقاً للمألوف.

جريدة الحياة