تطرح قصة الكاتب المصري المتميز مجموعة من الرؤى والافتراضات، لا تتعلق فحسب بالحيز الذي يشغل أو يظل غير مشغول، وإنما بجدل الإنسان والمكان والزمان في علاقة معقدة من تجليات الماهية واستقصاءات الكتابة السردية الجديدة.

الحيز الذي يُشغَل

عاطف سليمان

يصل جلالُ الدين، عائداً إلى أمِّه.

يقفُ مرتبكاً أمام الباب، وتطيشُ قدمُه في طاسةٍ صدئة، طالما واظبت أمُّه على إبقائها نظيفة وملأى بالفول إكراماً لفرسٍ أكلت، ذات ليلةٍ، منها.

بابٌ مُغلَق ونافذةٌ مُغلَقة، والظلام يحيق، أكثر ما يحيق، ببابٍ مغلق ونافذةٍ مغلقة لكأنه يحجبهما بطلسم. يعرفُ جلالُ الدين عتمةَ هذا البيت، وسيرى في العتمة حوافَ السور وقد تخرَّبت، ويرى خشبَ الباب الذي تقوَّس وتشقَّق وعلِقت به لُطع رمادية منفوشة، ولا بد أنه سيهدأ لحظةً لتمرير لغطٍ اندفق من قلبه وهَدَرَ في أذنيْه قبل أن يدفع بكتفه البابَ ويفتحه، وتترشرش على رأسه وكتفيْه الأتربةُ الناعمة المتكوِّمة على عوارض المدخل.

دخلَ العائدُ وخطا وتريَّث على ممشى الحديقة الصغيرة المنهارة، مُغتمّاً بما إذا كانت الحال فعليّاً هي ما يتبدى له. لعل الحديقة أيضاً بمقدورها أن تلحظه على نحوما، فتتقصى فيه ذلك الصبي الذي كان ينفرد بنفسه بين شجيراتها ليلعب وحده، بانهماكٍ، أحياناً، في ضجر الظهيرات.

في تلك الظلمة، مشى جلالُ الدين، تخايله ذكريات، وتحت حذائه تطقطق أغصانٌ يابسةٌ وتندفنُ، كأنها عظام عصافير.

ـ أمي..، أمي..

نادى. ولقد جاهرَ بصوته عالياً، على الرغم منه.

ـ حسيبة!

نادى اسمَ حسيبة كذلك، كيما يقلِّل الروعَ.

ما سمع رداً إلا ما وافته به أذناه من طرقعات لأغصانٍ تهشَّمت تحت حذائه.

عليه أن ينسلَّ، وحده، ويتحسس خطاه إلى غرفة أمه، حسب ما ظنَّ.

الأم ناعسة في فراشها، فلعلها تواصل بالمنام كلامَها مع الملاك، نازعِ الأرواح الذي أحستْ به حين نفذ إلى البيت واستكنَّ، ثم حين اقتربَ وناوَرَ حولها، إلى أن رحلَ دون أن يعنيها. منذ ليلتيْن وهي مستلقية على سريرها، بجسدها الشائخ ووجهها النضير وشعرها المفروق كيفما اتفق.

في جوار الأم، ثمة امرأة أخرى جاثمة، ليست سوى حسيبة، ابنة أختها. حسيبة مضطجعة بقوامها البهي الذي فيه بعض طيش، وبوجنتيْها المختومتيْن بدُكنة توت أحمر، ولكنها الآن ميتة. إن حسيبة ميتة دون شك بمفعول ملاكٍ مدققٍ شعرت به الأمُّ، وظنت أنها مقصودته. ومع أن حسيبة تندثر وتتحلَّل، كالفانيات، فإن رائحتها التي شمَّها جلالُ الدين لم يزد سوؤُها عن رائحة دورق صغير من حليبٍ تعكَّر للتو، وهي الرائحة ذاتها، فيما يبدو، التي فغمته بغتةً على شاطئ البحر، وأوعزت إلى فؤاده نيةَ الرجوع. كانت حسيبة ممددة على ظهرها، ساقها اليمنى، البعيدة، مثنية ومرتكنة على الحائط، وساقها اليسرى، القريبة من الأم، مفرودة. أمَّا كدسات شعرها الثقيل فتجاوزت، كشأنها، نطاقَ نصيبها من المخدة.

لا بد أن الأم كابدت، وحيدةً، إقرارَ موت حسيبة، وأطبقت لها جفنيْها في آخر لحظة مناسبة، لأن عينيْها ليستا مغمضتيْن تماماً.

انتحبت الأمُّ في حضن الابن، بلا حراك اللهم إلاَّ نظرات تسترقها صوب حسيبة، وكأنها تتفلَّتُ من السلطان المنوِّم للجثمان المجاور. الأمُّ تنتحبُ، لأن صمتَ وسكونَ حسيبة الجاديْن، وقد ارتهنا خواطرَها وأفكارَها قاطبةً، أنزلا الوحشةَ بها، فما من رجاءٍ لها إلا مجيء إنسانٍ حي إليها كي تتمكن فحسب من التنهُّد. وكان أنْ حلَّ الابنُ الذي، من ارتياعه، يُكاذبُ نفسَه كيلا يسلِّم بأن أمَّه ـ لزمنٍ يعلمه الرحمنُ الرحيم، ومنذ أن جاورتها حسيبةُ في الفراش لآخر مرة ـ قد قرَّت على أن تَهلكَ أيضاً، وأنها تحيا صائمةً وبلا عزاء، برفقة حبيبةٍ ميتة.

في تلك الليلة، وبعد ما أطعمَ جلالُ الدين أمَّه وسقاها وطمأنها، وبعد ما صبَّ الماء على جسده وتبرَّد، أفسحَ لنفسه ورقدَ متوسِّطاً بين أمه وحسيبة. لقد تقلقلت الأمُّ وتأففت مما أتاه، لكنها وقد رأته شاخصاً إلى السقف لا يريم، والدموع تقطُرُ من عينيه، هوَّنت هي عليه، وأمالت وجهَه ناحيتها، وسألته:

ـ هل تزوجت؟

وعندي وليد صغير، لم أره!

شعر جلالُ الدين وكأنه عاد صبياً يستأنفُ عيْشَه في بيت أبويْه بعد غيبة قصيرة لا غير، وأن السنوات الأربعين، تلك، التي أمضاها بعيداً، والتي انطوت لا كماضٍ بل كَمثلِ زوالٍ، يُمكنه التنصُّل منها. إنه ساهٍ، تُساوِرُه رؤى وتُشاغِلُه، وتنضوي في غضون وجهِهِ وفي سمْتِهِ. إنه ساهٍ، وعلَّهُ ليس يصدِّق، في لحظته، أنَّ له ابناً مثل ذلك الوليد الصغير الذي أنبأ أمَّه للتو عنه. بل أنا جلال الدين الصبي خطيبُ الصبية الميتة التي لا يني بدنها يزخُّ عطرَ صابون استحمامها إلى ما شاء اللـه. كانت دموعه صامتة، وكانت دموعه حارة، متى ماتت؟ وكيف؟ لا يسألُ الرجلُ العائد ذواللحية اللطيفة، والذي هو صبيٌ ناعسٌ بين امرأتيْن في بيت الأهل. ولكنه، بعد لحظةٍ، ينطق، لأنه يجب ألا يسكت طويلاً هكذا، ولأنه لم يعد يعرف ما كان يعرف:

ـ أستفسر منكِ عن لون عينيها الحقيقي، عسلية أم سوداء؟
ـ عسلية وسوداء!

ودَّ لويستطيع أن يتجاسر فيستدير ويفتح عينَ حسيبة، ويناظر اللونَ الذي نُسِيَ بسبب كونِهِ لم يُنسَ. إنه يستطيع التجاسُرَ، غير أنه يستحيي من أمِّه.

أَيظلُّ مستيقظاً؟

غفا جلالُ الدين، وحَلُمَ. مع كل شهيق يتنفسه كان ضلعٌ من صدره يمسُّ ضلعاً من صدر حسيبة، والإصبعُ الصغيرة في قدمه اليمنى كانت ترتكن مرةً بعد مرة على الإصبعِ الصغيرة في قدمها اليسرى، وكانت خصلة من شعرها تحت عنقه تتبلل بعرقه. أمَّا الأم فنهضت لتتفقَّد بيتَها في الليلة الحارة التي عاد فيها ابنها، ولتغتسل لأنها لأيامٍ لم تغتسل. جلال الدين يحلم وما عاد مستيقظاً. يحلم أن أمَّه تُجْلِس ابنَه الوليد على فرع شجرة الجوافة في الحديقة، ورويداً رويداً يتأرجح الفرع، والولد يضحك مرةً ويبكي مرةً، وأنه ـ جلال الدين ـ يفشي لها عن نبوءة كاهنٍ، بأنه وولده هذا سيقتتلان يوماً ما، وهي تفشي له عن ولدٍ فتيٍّ نوراني جاء ذات ليلة على صهوة فرس، زاعماً أنه ابن جلال الدين، فأكرمته حسيبةُ وأنامته لليلته في غرفة أجيا، ابنتها، الشابة الهالكة. أجيا، أجيا، أجيا، صحا جلالُ الدين وهويلهث، يتشهَّى أن يرى صورةً لوجه أجيا، التي لم يرها في واقع الحياة، وأدركَ أنه تقلَّب، في غفوته، وأن اتجاه وجهه استقر ناحية حسيبة، وأن ساقَه اليسرى توسَّطت بين ساقيها، مُفترشة ثوبها القطني الزهري، وأن أنفَه مقتربٌ من أذنها وخدِّها. إن جلال الدين قريب للغاية، يشمُّ رائحةَ الخل المائع المشوب بالعطن، تنبعث من جسدٍ بات ميتاً في نهايات صيفٍ، رائحة سيئة، بل مُحكمة السوء ربما، لكنها ليست غير مقبولة منه. إنه يتجشمها، ولا يدير وجهَه، فهولا يتقزَّز منها، بل لعله راضٍ بها وفائز.

كان جلال الدين يهمس لنفسه، وفمه قرب أذن حسيبة، بأن المروءة دائماً أبداً كانت هي أسَّ الحب، حين سمع أمَّه تصرخ صرخة. لقد صرخت أمُّه بأعلى صوتها، بعدما اكتست بثوب أسود، كيما تُشْهِر موتَ حسيبة على الملأ. وبتلقائية، رفع جلالُ الدين جفنيْ حسيبة ونظر عينيْها قبل أن ينزل عن فراشها.

قالت له أمه، وهي تناوله ملاءةً نظيفة مُبخَّرة ليغطي بها حسيبة، إنَّ الناس سيتفاجؤون بوجوده، ويستاءون إذْ إن أحداً لم يره وهو آتٍ في الليل.

وقال لها جلالُ الدين، وهويحْبُك الملاءةَ حول الجسد المتصلِّب، أنْ لا حيلة له مع ظنون الناس، وإنه لا يحذق كيف يسوِّي أمرَه.

عليك بالمكوث في غرفة أجيا، وسأتدبر أنا غلْقها من الخارج.

وزوَّدت ابنَها بالخبز، وأدخلته في خبءِ أجيا.

مكث جلالُ الدين في غرفة أجيا، التي كانت في الأصل كراراً لخزْن الطعام، بشباكها المقفول، والمزيَّن بستارة مُنمنمة على حال غرفة نسائية مُترفة نوعاً، وحَكَمَ بأن حرارتها منعشة وتهويتها لطيفة. إنه شارد ومنقبض، يتابع عويلاً لا ينقطع في رثاء ذات العيون العسلية السوداء. أمضى جلال الدين نهارَه مخفيَّاً في غرفة مُستبعَدة يتسمَّع ولولات ووشوشات وجدالات، فما شعر بالجوع، وما لمس رغيفَه إلا لمَّا علا وتواتر العويل والصراخ في الأرجاء، إنهم يرفعون حسيبة ويخرجون بها في نعشٍ إلى القبر. كان جلال الدين يمسك الرغيف ويقتطع لقمة، ويغمسها في برطمان، عثر عليه في ركن الشباك، به بقايا معجون أبيض كالقشدة، ولقد غمس الخبزَ في معجون الشعر، أوالبشرة ذاك الذي ربما خصَّ أجيا أوحسيبة، ومضغ اللقمةَ المُرَّة مذهولاً بالصرخات المولوِلة، تشيِّع حسيبةَ الخارجة إلى الأبد، من بابٍ تعفَّر هو بتراب عوارضه، وخطر له أن ثمة لحظة لا بد أن يحياها العائشُ الذي يشيِّع حبيباً إلى قبره، تكون لحظةَ جنون لا مراء. وبقي جلالُ الدين مجنوناً عاقلاً يبتلع خبزاً مُراً، ولا يفكر بمغادرة محبسه ومباغتة الجميع بحضوره.

حلَّ سكونٌ، وسمع جلالُ الدين طرقةَ أمه على الباب قبل أن تدخلَ وتشيرَ له. كان أذان العصر يوشك على الانتهاء والبيت خالياً فخرج معها ثم رجع إلى غرفته بعد أن جلبَ لنفسه مما طبخته النساء، وشرب وأكل. ونصحته أمُّه:

ـ ستتسلل وتخرج بعد أذان العشاء، وتبتعد، ثم تأتي أمام الجميع كأنك عُدت لتوك، وتقف في ليلة العزاء. 

في العشية، مرقَ جلالُ الدين إلى خارج البلدة، وما من خبرٍ إنْ كان قد لَحَظَه أحدٌ، ثم هَمَّ باصطناع عودته، ظاهراً كي يراه الناس وكي يسلِّم عليهم، ويعاونهم حتى يتمكنوا من تذكُّرِه، آه!، أنت؟، ويشهقوا، ويتعجبوا، ويفعلوا سائرَ الأمور التي ستلي ذلك. ولكن رائحةً ـ للحظةٍ ـ تضوَّعت له وهفَّت وماثلت رائحةَ معجونات الشعر أوالبشرة المخزونة التالفة، لكأنها هي حيلةُ الروح عليه. انحرف جلالُ الدين، ومضى في الطريق المُفضية إلى المقابر. كان الناس قد أنهوا دفنَ حسيبة، وغادروا، فلم يرَ أيَّ امرئ هناك، ولمَّا دنا بدا له أنه يرى امرأةً شابة جالسة في الغبش، أمام فتحة قبر. اقترب منها وحيَّاها، فردَّت عليه تحيته وهي لا تدير وجهَها نحو وجهه. إنها تقتعد العشبَ الكالح، وهوواقفٌ وراءها على مسافة خطوات عديدة، ينظر فيها، رائياً أنها لا تكاد تمس الأرضَ، إلاَّ أنه استراب في قوة عينيه، وهوالذي قضى نهارَه في الغرفة المقفولة. مسحَ جلال الدين جفونَه بأصابعه، وتنحنح، وسألَ:

ـ أهذا قبر حسيبة؟

ردت المرأةُ الشابة بصوتٍ كأنه ليس إلاَّ ذكرى صوت:

ـ هو.

قال، وقد ساورَه خاطرٌ ما:

ـ اسمي جلال الدين. أشعرُ أنكِ تألفين الاسم!

ردت المرأةُ الشابة:

ـ وأنا أزور أمي، كما عساك تتفكَّر.

كاد جلال الدين يُبهَتُ، وترجَّاها:

أيمكنكِ الالتفات إلى الوراء؟

التفتتْ.

رأى وجهَها وشعرَها وعُنقَها، والتقتْ نظراتُ الرجل الذي كان يتفكَّر، والمرأة الشابة التي كانت لا تتفكَّر.

ربما كان قد غفا وهو واقف، لأنه كان مثل منْ حَلُمَ أنَّ ثمرةَ جميز سقطت بين قدميه، فأخذها ووضعها بجوار المرأة الشابة التي التقطتها، ودسَّتها في يده، وقالت له أنْ اغسلْ بحلاوتها مرارةَ فمك. عصرَ جلالُ الدين الثمرةَ في فمه، وكانت الظُلمةُ تطبقُ عليه، وعلى القبور، وعلى امرأةٍ شابة لم تعد منظورة.

اعتبرَ جلالُ الدين، الذي أسكرَ لقاءُ الفتاة وجدانَه، أن ذلك الذي حدثَ كأنه ما كان. احتسبها لحظةَ جنونِه وقد زامنتْ لحظةَ رجائه، وأحسَّ بأن لديه حميةً تسيِّرُهُ إلى حيث تُقام سهرةُ العزاء، فمضى، وعلى لسانه تتكون كلماتٌ يرددها لنفسه، وليس يدري من أين التقطها، "وشى الميتون بكَ"، "وشى الميتون بكَ".

إنه حزينٌ، وإنه قريرٌ، وإنه هومنْ يقف يقِظاً مثلما أشارت عليه أمُّه، يُصافَح ويُصافِح، لكأن ملامحه أُرجِعتْ إليه، في سهرة العزاء. 

الأمُّ ماكثةٌ في فراشها، يأتيها ترجيع التلاوات، وهي تلُمُّ وتكوِّر ما تلتقطه من شعرٍ طويلٍ متقصِّفٍ منثورٍ على الملاءة. كانت تغني بصوتٍ مزمومٍ، لجدائل حسيبة، وكانت غافلةً، في لحظة جنونها، ربما، حين ظنت أنها سمعت حمحمةَ فرس، فذكَّرتْ نفسَها أنها ستعهد إلى جلال الدين، وقتما يرجع، أن يملأ الطاسة بالفول. نعستْ الأمُّ ورأت في المنام جلالَ الدين يجتبي الميتين، ويحادثهم، ويمازحهم، ويدخل معهم قبورَهم، فاستفاقت منفطرةً لتجد ابنَها نائماً يتنفس بجوارها في الحيز الذي طالما شغلته حسيبة. إنها ترمقه باستغرابٍ وهي تتثاءبُ، تثاؤبَ منْ تحسُّ بالظفر وبالشجن وبالعافية تسري فيما تحت جلدها حتى لتكاد تراها.

atif_sol@yahoo.com

(18 إبريل 2008 ـ القاهرة، عابدين).