ولمَ لا وقد سبق واستخفوا بعقول مليار من البشر وباعوا لهم الوهم محفوظا معلبا ومغلفا بنصوص تجيز صلاحيته، وتعاطاه الناس جرعات يومية مقننه ومن ثم ادمنوه، باعوا لهم مشروع العودة الى الماضي عودة الخلافة. مشروع عودة عمر وعلى أو مشروع العودة الى الأندلس أو مشروع ايقاف عجلة الزمن بل ودورانها للخلف ألف عام، مسميات كثيرة براقة لوهم كبير، والبسطاء المقهورون المطحونون الجياع المرضى صدقوا الكذبة من كثرة ترديدها. وربما صدقوها لأسباب أخرى منها ما يعتقدون أنه الامل في الخلاص من طغمة حاكمة جاثمة على صدورهم، واستولت على مقدراتهم وخيرات أراضيهم، متوارثينهم أرضا وبشرا من قرون. لذا كان الامل في عودة أي عمر ليقيم العدل بين الناس، لكن مائة عام انقضت بعد آخر محاولة ولم يعد أي عمر، ولا أي على. وان كانوا قد مهدوا لعودتهم ببيئة القرن السادس. تصحرت المجتمعات وعادت القبيلة بكل التفاصيل القديمة. غابات الخيام فى البوادى، وسباقات النوق واحتفاليات حمل الاكفان والنساء في الخباء، واللحى المحناه، والصراع على (البئر) والأنثى، والجلاليب القصار، والأنكى أعادوا احياء أسوأ ما كان منذ أكثر من ألف عام، أعادوا احياء الصراع الدامي بين على وعمر. وهذه المرة ليس بالسيوف والحراب، لكن بما هو أشد فتكا وضراوة عاد براجمات الصواريخ والقصف من الجو والارض والبحر بالبالستيات.
كل ذلك ولم يعد عمر ولاعلى، ولن يعودوا ولا عادت الخلافة ولن تعود! ولا عادت الاندلس ولن تعود، ولا عادت فلسطين ولن تعود، وحتى لا يمل الناس الانتظار فلا بأس من بعض العروض بين الفصول، فصول هذه الملهاة المبكية. فتم اختراع قضايا لشغل الناس وإلهائهم، صدروا لهم وهم التمايز الديني والعرقي والتاريخي وحتى الجغرافي. وانتفخت أوداج البسطاء واختالوا افتخارا، فهم الاعلون، وهم الاطهر وهم الاسمى وهم كل أفاعيل التفضيل والتضليل، وصدروا لهم ضرورة احتقار بقية البشر في كل الكوكب وكراهيتهم وان أمكن قتلهم، شغلوهم بشذاذ الفتايا الصادمة للنفس والعقل؛ ارضاع الكبير ووطئ الحيوانات والموتى، وانشغل الناس ولم يعد يهمهم قضايا الجوع والجهل والفقر والتخلف والخراب والدماء والاستبداد والقهر، فتلك قضايا فرعية جانبية ليس هذا وقتها، فنحن منشغلون بالقضية الكبرى منشغلون بعودة عمر.
وعلى الساحة نشاهد الآن البث الحى لآخر حلقات مسلسل عودة عمر هذه الملهاة المخزية ، المسلسل التراجيدي الذى قام بإخراجه وانتاجه نفس المدلسون، مليارات من أموال البسطاء صرفت لإحياء نفس الحلم السرابي البائس الذى سبق وسقطت النسخة الاخيرة منه بنفس السيناريو، سقط آل عثمان بعد حروب عنصرية بغيضة أريقت فيه شلالات من دماء الأبرياء اللذين أبيدوا على الهوية الدينية والعرقية.
وامعانا في الكذب والتقية والتدليس، نجد الممولون والمشجعون والحاضنون كلهم الأن يتنصلون ويستنكرون ويشجبون ما حدث في نيجيريا والصومال وسوريا والعراق واليمن والسودان وليبيا ومصر، ويريدون أن نلغى عقولنا ونعتبر كأن شيئا لم يكن، وكأن الجماعات والجمعيات وكل الملحقات والتفرعات بكل مسمياتها التي مولوها في كل بلاد المسلمين وغير المسلمين، كأنهم ليسوا مسئولين عن ابتداع هذه التوليفة المدمرة، توليفة استخدام الدين مطية للهيمنة والوصول لكراسي الحكم، مطية استخدمتها هذه الكيانات الظلامية لتشيع الموت وخراب الديار وملايين اللاجئين والمشردين والمهجرين والفقر والبداوة والتخلف والعنصرية ومحو دول من خارطة العالم كان لها يوما شأن يذكر، ناهيك عن عقيدة فطرية سمحة أصبح اسمها فزاعة لكل سكان الكوكب.
هكذا بكل بساطة وبدم بارد يعلن مدلسوهم أنهم سيفصلون الدعوة عن السياسة، وسيعودون للمساجد وبضغطة واحدة على لوحة مفاتيح التاريخ سيمحون كل موبقاتهم من السجلات، وللتذكرة بأسلوب التقية الخبيث الذى اتبعوه منذ نشأتهم فهم أول من أتبع تعبير الأذرع، فيكون للتنظيم الديني السرى حزب علني وميلشيات تحتية، انظر في مصر والاردن والسودان وتركيا والاردن وتونس والمغرب وكل دول هذه المنطقة، والجميع يعلم العلاقة بين الاذرع، فما بين ذراع سيأسى وذراع اقتصادي وذراع اجتماعي وذراع تعليمي وذراع ثقافي وبالطبع الذراع الرئيس وهو الذراع الدعوى يتحول التنظيم الديني الى أخطبوط، وتلتف أذرع الأخطبوط على رقاب الدولة وتسقطها أرضا، وهاكم النتيجة على الساحة لا تحتاج تعليق سقطت سوريا والعراق واليمن والصومال والسودان وليبيا وافغانستان وفى الطريق باكستان وماليزيا واندونيسيا، وكل من استضاف ورعى ومول فروعهم ووكالاتهم ومندوبيهم تحت أي مسمى مراوغ .
وقد كان سقوط الفرع الرئيس في مصر سقوطا مدويا وبدء تضييق الدائرة على بقية الفروع فى المنطقة، بالإضافة الى انهيار التمويل وأسباب أخرى ستتضح مع الايام، لهذه الأسباب بدأوا في تغيير جلودهم كما وأن الثقافة المدنية الحداثية العميقة لشعوب كمصر وتونس وسوريا ولبنان، هذه الثقافة أرهقت المتطرفين في هذه البلاد عكس بيئات متخلفة احتضنت هذا الفكر ورعته ودفعت الثمن مضاعفا ولازالت.
وهذه الدعوات المتلونة والمشبوهة التي تطلقها هذه الكيانات وتوكيلاتها، مثل ترك السياسة والعودة للمساجد، مثل تلك الأكاذيب المفضوحة هي دعوات تصب في نفس الاتجاه وهو احتقار عقول الآخرين، فاذا كان أتباع هؤلاء الافاقين يصدقون كذبهم بحكم العادة، أو بحكم الطاعة العمياء، أو بحكم أدمغتهم المغسولة، الا أن المتابع لفكر هذه الجماعات يعلم الهدف الخبيث، وهو أن العودة الى المساجد هو بغرض استكمال حرث الارض التي لم يكتمل حرثها، فلا تزال هناك رؤوس مكشوفة يجب تغطيتها، وعقول مفتوحة يجب غلقها، وأقليات صامدة يجب تهجيرها وقهرها وابادتها، ودساتير مدنسة بمبادئ العلمانية الكافرة يجب تطهيرها.
وظني أن عمرا في مرقده يضحك بهم ويرثى لحالهم، وظنى أيضا أنه لو جاء سيكونون أول من يعصف بهم، فهو يصلح لعصره وبيئته وثقافته فقط، أما استيراده من القرن السادس ليحكم في القرن الواحد والعشرين، فهي ليست فقط طرفه تستحق الضحك، لكنها أيضا مأساة تستحق البكاء. مأساة دفع ثمنها مئات الملايين من البشر، ثمنا فادحا دماء ومشردين ولاجئين ومعاقين وقرون من الزمن أهدرت، وضاع مستقبل أجيال وضاعت ثروات طائلة كانت كفيله بصنع نهضة حضارية حقيقية فى كل المنطقة. كل ذلك ولم يعد عمر، وعليه يجب محاكمة هؤلاء محاكمة كونية، لان جرائمهم أصابت الكوكب كله وانتشرت بقع الدماء المتجلطة في أركان المعمورة. وأنا هنا لا أتحدث عن فصيل بعينه فكل هؤلاء فروع لأصل رئيس وموزعون لوكيل رئيس، معروف اسمه وعنوانه وأعضاؤه ومنتجاته وعلامته التجارية المسجلة باسمه. فكما لاحقوا وحظروا وحاكموا النازيين على ما اقترفوه في حق المجتمع الإنساني، فلا أقل من أن يُلاحق ويُحاكم ويُحظر كل من انتمى لهذه التنظيمات، ومولها وروج لمذهبها واعتنق افكارها، فهم قد اقترفوا في حق المجتمع الإنساني أضعاف ما اقترف هتلر وموسولينى وكل الارهابيين مجتمعين.