يتناول الباحث المغربي هنا مختلف تجليات الآخر في هذه الرواية والتي بدا فيها جميعها، السلبية منها والإيجابية، حاجة إنسانية، وضرورة حضارية، وهو قبل ذلك، وسيلة فنية ومكون جمالي، كفيل بمساءلة الإشكالات الإنسانية والقضايا المصيرية والوجودية، ومجال تشريح الرؤى والمواقف، واستبطان كنه الذات والعالم.

وجيب العبور لتجلية ما في الصدور

الآخـر في رواية «الضوء الهارب» لمحمد بـرادة

عبد الفضيل ادراوي

"الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن"

من حكم الإمام علي بن أبي طالب/ نهـج البلاغـة

تقـديـم.
- الآخر جماليا لا ثقافيا:

تسعى هذه الدراسة إلى تقديم قراءة تحليلية عن رواية"الضوء الهارب"[1] للكاتب المغربي محمد برادة، بغية الكشف عن تشغيل مكون الآخر في هذا النص، واستنطاق بعض ملامح الآخر في الكتابة الروائية، بالاستناد إلى تتبع مختلف التمظهرات التي يتجسد عبرها هذا الآخر في هذا النص الروائي، بوصفه مكونا جماليا يساهم، من هذا الجانب أو ذاك، عبر تلويناته المتعددة، في تشكيل الكون الجمالي لهذا العمل، وإعطائه سماته الصنفية وفرادته النوعية، التي تمنكه من احتلال مكانته بين الكم الهائل من الروايات التي وظفت الآخر، واستدعته ليكون عنصرا فاعلا ضمن تشكيلة النص السردية، ونسيجه الفني المتميز[2].

وقبل الشروع في تحليل جوانب من النص، نرى أنه من اللازم اللازب تبيين منطَلَقَين منهجيَّين أساسين؛ يتمثل الأول في الكشف عن أن مفهوم (الآخر) عندنا ينحصر في الأجنبي أو الغربي الذي يتموضع في مقابل (الأنا) أو الذات العربية والمغربية تحديدا. فنحن لسنا معنيين بتشعبات مفهوم الآخر وتفرعاته التي قد تصل الحد الذي يستوعب "الاختلاف بين الفرد والفرد الآخر، ليس داخل الأمة الواحدة أو الوطن الواحد، وإنما داخل العائلة الواحدة، بل داخل كيان الفرد الواحد نفسه"[3]. وذلك بالنظر إلى الاستقلالية الوجودية الفيزيقية التي تميز كل فرد عن الآخر، وبالنظر إلى خصوصية كل واحد بأفكاره ومعتقداته وقناعاته ورؤيته للكون، وبالنظر إلى التبدلات السريعة التي تطرأ على الفرد الواحد نفسه[4]*. فالبحث في هذه التفصيلات متروك للحقول المعرفية والفلسفية والأنتروبولوجية، ولن تعنينا في هذا المقام إلا على سبيل الاستئناس والإغناء. وعليه فنحن نقصد بالآخر الأجنبي عموما والغربي على وجه التخصيص، سواء في بعده الشخصي، بمقوماته الفكرية والثقافية والفلسفية، وبهويته المتميزة، بوصفه مختلفا عن (الأنا) عقيدة وتقاليد وعادات ومواقف. وفي بعده الفضائي، بالنظر إلى المكان بوصفه مجالا جغرافيا أجنبيا خارجيا وبرانيا، في مقابل الفضاء المغربي الداخل..إلخ.

أما المنطلق المنهجي الثاني فيتمثل في كوننا نبتغي من دراسة الآخر، أن تحصر نفسها ضمن مساحة النقد الأدبي. وذلك بالنظر إلى أن الناقد الأدبي المشتغل بالبحث في حضور الآخر في الأدب، معني أولا وقبل كل شيء سواه، بالبحث في المرتكزات النصية التي تعد من صميم عمله. مما يفرض عليه تحليلا أدبيا يلتزم النص منطلقا، من أجل التوصل إلى نتائج جمالية عن الآخر، تكون إفرازا من إفرازات التعامل المباشر مع الظاهرة الأدبية في حد ذاتها، ونتيجة مُتَوَصَّلا إليها من خلال الاحتكاك المباشر مع مكون الآخر من حيث هو حامل روائي وقوة فاعلة داخل الرواية المحدد هنا والآن. وبهذا المنطلق سيكون بإمكاننا أن نتجاوز مأزق السقوط في متاهات استقدام التصورات الخارجية عن الآخر، من حقول معرفية أو قومية أو ثقافية، وإسقاطها على العمل الإبداعي، بما لا يتوافق وخصوصية النقد. فنحن إذن معنيون بالبحث في مسألة الآخر داخل رواية "الضوء الهارب"، عبر استنطاق قدراتها التعبيرية وتعالقات مكوناتها وسماتها، والكشف عن حدود اشتغال الآخر في هذا النص بعينه. وهو عمل من شأنه أن يضمن قدرا معينا من الموضوعية في التناول من جهة، ويُبْقي العمل النقدي في حدوده الإنشائية الأسلوبية التي كثيرا ما ألح رواد النقد المهتمين بالآخر، على ضرورة توخي النتائج الجمالية الأسلوبية من داخل النصوص لا من خارجها. يقول رينيه إتيامبل (R.Itiemble): "بحكم تكون الأدب من كلمات ومن جمل، فإننا من هذا الجانب لا ندرسه إلا قليلا في نظري، مع أن هذا الجانب هو الذي يجب أن يكون أساس دراستنا: أي الأسلوبية المقارنة"[5]. خاصة وأن لكل نص خصوصيته النوعية وتميزه الجمالي في استدعاء الآخر ضمن نسيجه الفني. فمهما تتعدد توظيفات الآخر في النصوص الروائية، ومهما تكن تكراراتها، فإن خصوصية النص الواحد تبقى حاضرة. وكما يرى مناصرو المقاربة الجمالية الراجحة للإبداع فإن "كل نص يمثل في جوهره كونا أدبيا قادرا على المساهمة بنصيبه في مشروع الأدبية الهائل. لذلك يستحيل على نص أن ينوب عن الآخر"[6].

- قدرية التواصل الإنساني مع الآخر:
يشكل الآخر، شخصية وفضاء أجنبيين، عنصرا فاعلا وديناميا في رواية "الضوء الهارب"، إذ يحمله المؤلف أبعادا فلسفية ووجودية وفكرية عبر حفريات في الذات البشرية وفي العالم الرحب الفسيح معا.

فانطلاقا من العنوان (الضوء الهارب) انجد أنفسنا أمام كتلة لغوية كثيفة ومركبة، لا نعدم بين ثناياها أبعادا إيحائية ترتبط بالآخر، بوصفه فضاء تعلق عليه آمال وطموحات غير محددة من جهة، وبالنظر إلى علاقة التوتر بين (الضوء) و(الهروب)، وما يترتب عنها من احتمالات واقتراحات قد تتجاوز، بتشغيل المخيلة القارئة، حدود المتاح والقريب لتصل إلى البعيد والنائي، ومن ثمة تعانق الآخر الذي يحضر في كل ذاكرة تخييلية ملاذا يتم اللجوء إليه هروبا من حالات معينة؛ (قد تكون نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو مرضية..إلخ). وهو ما يستدعي التتبع والقراءة من جهة أخرى، ويحرك شيطان الشوق في القارئ للإمساك بطبيعة هذا الملاذ، ومعرفة المزيد من التفاصيل عنه. الشيء الذي يجعل من العنوان عتبة فاعلة في تخليق الدلالة وتكثيفها، وفي الإيقاع بالمتلقي في متاهات أسئلة الاحتمال والاقتراح[7]. ويرقى به إلى مستوى يصبح معه العنوان"ضرورة كتابية"[8]، ويحمل قسطه من أسرار النص وعلاماته ويختزن مقصدية الكاتب ويضمر نداءات علنية أو صامتة للمتلقي[9]. بالإضافة إلى ذلك تواجهنا هذه الصورة الوصفية عن العيشوني الفنان بطل النص:

"مسترخيا كان على اللحاف العريض داخل الشرفة الفسيحة المواجهة للبحر والشاطئ الإسباني الذي تتبينه رغم البعد، العين المجردة إذا كان الجو صحوا"[10].

حيث يحضر الفضاء الآخر الأجنبي مفعما بالدلالات والإيحاءات، يأبى السارد إلا أن يجعله على مسافة قريبة من الأنا، واقعا تحت نظر البطل العيشوني، الذي تقدمه الرواية فنانا متفلسفا مشبعا بقيم الآخر ومعارفه، يقيم معه علاقات تماهٍ وانصهار لا حصر لها. فالصورة تكشف عن علاقة طبيعية مع الآخر تفرضها علاقة التجاور الجغرافي، قبل أن تكون استجابة لدواع أخرى. وهو ما يجعل القارئ يخمن مظاهر من التواصل الإنساني بين الطرفين لا مجال لإنكارها أو التغاضي عنها، وربما لا مجال لمقاومتها. إن الآخر هنا رغم كونه أجنبيا، إلا أنه لصيق بالذات، ويشكل جزءا من تكوينها الذي تصبح معه متصفة ببعض صفاته، محملة بما أمكن من سماته، وخاضعة لتأثيراته، وحاملة لبصماته. وهي القضايا الإشكالية التي يبرع الكاتب في تتبعها وتفكيك آلياتها. فهو يركز على مظاهر التواصل الإنساني بين الأنا والآخر؛ (الأجني والإسباني تحديدا). ولعل النص بهذا، يحاول أن يهمس في أذن القارئ بأن هذا التقارب بين الطرفين يكاد يرقى إلى مستوى يكون فيه قدرا محتوما، وحقيقة إنسانية تفرض على الذات التحلي بقدر من الانفتاح وروح التواشج مع الغير، من دون عقدة استعلاء أو دونية أو عدوانية.

ويعطينا النص لحظتين جمالتين متباعدتين لكنهما مفعمتان بدلالات الربط الإنساني والتواصل المفترض بين العالمين. في الأولى يتحدث السارد عن آخر مرة لقي فيها العيشوني غيلانة:

"آخر مرة عندما كان عائدا من جبل طارق فوق الباخرة التي تربط شاطئي المتوسط"[11].

وفي الثانية يتحدث هذه المرة البطل العيشوني عن الموضوع نفسه:

"عند نهاية الستينات، بعد عودتي من مراكش، بسنتين فيما أظن، التقيت غيلانة، كنت عائدا من إسبانيا عبر جبل طارق، وفي الباخرة لمحتها"[12].

وهما صورتان جزئيتان تصرحان بالحقيقة الإنسانية نفسها، فالباخرة في الصورتين ليست مجرد وسيلة نقل أو فضاء مكانيا يتحقق فيه اللقاء بين العيشوني وعشيقته غيلانة، بقدر ما هي وسيلة فنية جمالية وعنصر رامز*، مترع بدلالات التقريب بين العالمين الغربي والمغربي. فهي مكون جمالي ينهض بمهمة تحقيق التواصل الإنساني بين فضاءي الداخل والخارج، أو بين (الأنا) و(الآخر). وهي الأبعاد التي يفلح السرد في ترجمتها عبر مجموعة من المواقف والأحداث التي تَبعد ما أمكن عن إخضاع الآخر للنمطية المعهودة في الكتابات الروائية، التي تناولت موضوعة الآخر في العالم العربي. بحيث تحضر الشخصيات والأمكنة نابضة بالحياة الجديدة التي تكسبها إياها الرؤية الفنية للمبدع، بعيدا عن الشعارات والإيديولوجيات، الشيء الذي يفضي إلى "نزع الألفة" عنها، وهو الأمر الذي سبق أن عدَّه الشكلانيون الروس ميزة ومعطى جوهريا في الفن عموما[13].

إن ميسيو خوسي مثلا، وهو الفنان الإسباني الذي كفل العيشوني ووجهه ليصبح فنانا محبا للإنسانية، يبدو شخصية غير مألوفة في الرواية العربية، وقبل ذلك هو نموذج بشري نادر في الواقع. إنه هو شخصية ورقية تتمتع بوجود مستقل تخضع فيه للخيال وتكتسب هويتها من الرؤية الجمالية المتحكمة في دفة السرد، ما يجعل الواقعية في الرواية بعيدة عن أن تكون مضمونا فكريا جاهزا أو حالة ثقافية مسبقة، تماما كما أنها ليست نقلا حرفيا وباردا لما هو سائد في المجتمع العياني والملموس. بل هي "سمة جمالية مستمدة من نسغ التكوين الروائي للنص بكل ما في كلمة تكوين من طاقات تعبيرية"[14]. إذ تغدو الواقعية "نمطا بلاغيا إنسانيا غير مرتبط بفترة زمنية أو إيديولوجية معينة، ويمتلك معايير لا تقل قيمة عن معايير الحداثة"[15].

- الآخـر في حوار الإيـجاب والسلـب
إذا كان الآخر قد تشكل في المخيال الفني، عبر كتابات روائية لا حصر لها، بوصفه ذلك الشر المطلق الذي نتوجس منه خيفة ونتعامل معه بحيطة وارتياب شديدين، فإنه في "الضوء الهارب" بالإضافة إلى هذه السمة التي تكاد لا تفارقه، يغدو مع مجريات السرد مجسدا صورة أخرى عن الأجنبي بوصفه، شخصا أو فضاء، لا يعدم نفعا للذات، وخلاصا تراهن عليه الشخصيات الرئيسة في النص، وتغدو متحركة على مسرح الأحداث بوحي وتأثير من هذا الآخر، وتستمد الشخصية قسطا كبيرا من هويتها بفضل هذا الآخر. كما تغدو مكتسبة خصوصية فنية مركبة وشديدة التعقيد بفضل حواراتها مع هذا الآخر، الذي تستمد منه سمات جمالية نصية فاتنة، ويساهم هو أيضا في تشريحها أمام المتلقي وتضميخها بأبعاد جديدة تصيرها مثقلة بإيحاءات رمزية ودلالية قد تقول ما لا تستطيع قوله أكثر المقالات الفلسفية أو الأنتروبولوجية إحكاما.

- الآخـر وتـشكيـل الأنـا
إن قيمة الفضاء الطنجي في وعي الشخصيات متمثلة في كون هذه المدينة فضاء منفتحا على الآخر، فهي مدينة قيمتها الإضافية متمثلة في كونها تمكن الذات من الالتقاء اليومي، والتواصل الحر والمباشر مع الآخر. فالعيشوني لا يطيق الإقامة بمراكش على ما يتوفر له مع كنزة (صديقته الطالبة) من حرية واستقلالية. "لا أستطيع العيش بعيدا عن البحر، ليس أي بحر بل بحر طنجة، الذي رسخ لدي انطباعا بأن جهة الشمال، عبر المضيق، عبر إسبانيا، تفضي إلى فسحة، انفساح، مدى، شساعة، رحابة فضاء لا تكون فيه الأشياء كما عهدناها"[16].

لذلك فهو لا يريد أن يبصر غير طنجة، لأنها "مشرعة ذاكرتها بالتساوي أمام جميع الأحداث والأمزجة والتواريخ"[17]. فالارتباط بهذا الفضاء الداخلي، فضاء طنجة المغربية، أو الفضاء (الأنا)، هو ارتباط مرده إلى دور هذا الفضاء في تحقيق التواصل مع الآخر. فهو فضاء يسمح بالانصهار بين (الأنا) الذات المغربية، و(الآخر) الذات الأجنبية الإسبانية. ولولا هذه الوظيفة السردية الجمالية لما كانت له قيمة في وعي الشخصيات.

ولعل شخصية العيشوني الفنية ما كانت لتتشكل إلا بفضل (الآخر). فهو الذي أنقذه من الفقر واليتم، كما يكشف لنا عن ذلك صديقه الدحموني: "فالله بعث لك ميسيو خوسيو الذي أنقذك من "تمارا" ومن الانشغال بضرورات العيش، لتتفرغ إلى فنك"(ص 26). بل إن العيشوني نفسه يعترف ويصرح بذلك: "وكان خوسيو قد رتب- قبل موته –كل شيء: أورثني المنزل ومبلغا من المال مودعا في البنك أتعيش من ريعه، وحبا للرسم والحياة".(ص 63). حتى إن هذا الشخص استطاع أن يسد الفراغ الذي وجد العيشوني نفسه في خضمه: "اطمأنت أمي إلى خوسيو ووجدته لطيفا، مسليا بحديثه وحكاياته، .. عرض عليها أن تسكن معه وأن يتولى هو تربيتي ليجعل مني رساما كبيرا مثله .. خوسيو هو أبي الحقيقي، أغدق علي الحنان، ورافقني وأنا أكتشف عالمي الجديد .. تعلمت الإسبانية أولا ثم ألح علي لأتعلم العربية .. كانت أمي سعيدة لأنها وجدت من يتولى أمري"(ص49-50).

هكذا يحضر الآخر في صورة إيجابية، تساهم في تحقيق نوع من التماهي الحضاري والتواصل الإنساني بين بني البشر. وهو ما تجسده الرواية في عمومها. ولعل قسطا من سراب الحقيقة الهارب، والمبحوث عنه من لدن كل شخصية في النص، يتجسد في هذه السمة الإنسانية التي يضفيها الكاتب على الآخر، أو لنقل في الوظيفة الإنسانية التي يسندها المبدع لهذا الآخر. إن خوسيو في الرواية يمثل ما يمكن أن نطلق عليه سفيرا للنوايا الحسنة بين الأنا والآخر. وفي هذا السياق الإنساني الرحب نفهم قول العيشوني: "كنت أستغرب كيف يتسع قلب خوسيو لحب كل الناس، وكيف كان حريصا على احتواء الأشياء الجميلة"(ص 52).

فهو شخصية تجسد المشترك الإنساني من القيم التي يجب أن تسود في العلاقات بين بني البشر، تماما كما يبرع الكاتب في تجسيدها فنيا. فبعيدا عن قتامة الرؤية العدائية التي يجتهد الساسة في فرضها على الشعوب*، نجد أن هناك وجها إنسانيا آخر يتطلب التحيين والتجسيد. وهو الوجه الذي يفلح الكاتب في تكليف اللعبة السردية كي تقوم به، ويستنهض شخصياته لتحقيق هذه المهمة الإنسانية. وكأني به يغازل الحقيقة القرآنية التي ترسم خريطة التعامل بين أبناء الإنسانية؛ (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)[18]. فالعلاقة الطبيعية بين الإنسان وأخيه الإنسان إذن هي علاقة السلم والسلام من حيث هو الأصل الأول الذي لا يجوز الخروج عنه إلى ضده (العنف/ اللاسلم)، إلا في حالات نادرة وخاصة[19]. لأن "الاختلاف بين البشر جنسا وعرقا وعقيدة ولونا، لا يلغي حتمية الاعتراف بالآخر، بالنظر إلى الحقيقة المتأصلة في الدين، وهي (وحدة الجنس البشري)"[20].

إن الآخر كما كان له دور في تشكيل الوعي الفني للذات، كان له الدور الحاسم في تكوين إحساسه بجمال الكون في الداخل والخارج "مفتون بالمرأة وجسدها، مشدود إلى إسبانيا وما تعد به من متع"(ص54). وكان له دور في الاطلاع على مختلف المدارس الفكرية من تجريدية وتصويرية وميتافيزيقية وميثولوجية، وفي تعرُّف رواد الفن والإبداع والفلسفة من أمثال؛ (رامبرانت، سيزان، براك، موني، كلي، ماتيس، جياكوميتي، بيكاسو، دي بوفيه، دوستويفسكي، كانط..إلخ). كما كان له دور حاسم في تشكيل الوعي والخبرة بالحياة وأسرارها المستغلقة الهاربة.

إضافة إلى أن حياة العيشوني النوعية، بوصفه شخصا يبتغي الحرية، ويطلب المتعة ويجهد نفسه من أجل تعرف أسرار الوجود، في الفن والحياة الواقعية في المجتمع، كل ذلك لم يكن ليتحقق لولا تأثيرات الآخر في حياته. فهو المفتون بالسهرات الصاخبة بفنادق طنجة وباراتها، المغازل للمرأة المغربية وللمومسات الأجنبيات اللائي تعج بهن أحياء طنجة، المفتون بجسد المرأة إلى حد الجنون، المعاقر للخمرة، المرتبط بالموسيقى الكلاسية، المأخوذ بتمثلات الموضة الغربية على أرض الوطن، التواق إلى محاولة فهم ما يجري من حوله، الباحث عن إمكانية التقاط حقيقة الذات والآخر والعالم من حوله. كل ذلك لا يمكن أن يفهم إلا في علاقته بالآخر، في صورة التعايش معه والتأثر به (حفلات الجاليات الأجنبية- المراقص–الملاهي- الصحافة الأجنبية - اللباس الأوربي- السائحون-أثرياء العالم والسهرات الخاصة – الإعلام – الموسيقى الحديثة؛ السموكينغ، الستربتيز- مساحيق التجميل – الكلمات الأجنبية الإسبانية والفرنسية- تلاميذ الثانوية الإسبانية بطنجة...إلخ). ولعل معايشة العيشوني لهذه الكتلة المتشابكة والمعقدة من العناصر المرتبطة أساسا بالآخر، والتي تدخل في صميم النسيج الطبيعي المكون للآخر، أن تكشف عن البعد الفلسفي للنص ونزوعه بطريقته الفنية، نحو الخوض في إشكالية العلاقة بين الأنا والآخر. في ظل الحضارة المعاصرة، وتحديدا الرأسمالية الغربية، وما أصبحت تشكله من إثقال لكاهل الوعي لدى المبدع والمفكر والفنان. وقبل ذلك ما تتخذه من أساليب وتلوينات وتشكلات تعم كل مناحي الحياة في المجتمعات المستهدفة.

وهذه لعمري، مساءلة جريئة وماكرة، لكنها فنية وجمالية، إلى الحد الذي يجعلها تبدو مستقلة عن الوقوع في شرك الأحكام المسبقة والمواقف أو التصورات النمطية الموروثة والمتراكمة ضد الأخر.

- الفضاء الإسباني؛ بريق خلاص أم جمرة احتراق؟
(بلاغة الرذيلة/ سؤال الفضيلة/ الشخصية الوسيلة)
قد تبدو شخصية غيلانة، بحكم علاقة العشق والمكاشفة التي تربطها بالعيشوني، امتدادا فنيا له، وتجسيدا لجوانب هامة من وعيه وشخصيته ورؤيته للحياة. خاصة عندما نعثر في النص على ما يستفاد منه أن اللعبة السردية تصر على ربط الذات/الأنا، بالآخر، وتحقيق التواصل الإنساني معه، والارتماء في بحره طلبا للنجاة.

يتذكر العيشوني أنه استضاف غيلانة بمطعم الغندوري بطنجة، وبعد ذلك صاحبها إلى الشاطئ: "سرحت ببصري عبر البحر ساهيا كأنني أتنصت لشيء.. أمسكتها من يدها. خطونا فوق الحصى إلى أن حاذينا الماء ثم طلبت منها أن تخلع حذاءها مثلي وتوغلنا قليلا حتى انغطست الأقدام إلى ما فوق الكاحلين، انحنيت أجمع بعض الأحجار الصغيرة ذات الأشكال المتباينة وتركت أصابعي تتحسس ملاستها وكأنها حجر نفيس. كانت غيلانة تفعل مثلي والغبطة تكسو محياها"(ص 64). إذ تبدو الصورة مفعمة بدلالات الانسجام بين الطرفين، من جهة، وبدلالات الانغماس في مياه الشاطئ الذي يربط الذات بالآخر، ويفتح الأفق على كل قيم الحداثة والمتعة والتحرر والبحث عن سبل الخلاص الإنساني، الذي يشكل الفضاء الآخر وجها من وجوه إمكاناته المتوهمة. لذلك فالآخر سيشكل بالنسبة إليها فضاء لا يقل أهمية عنه بالنسبة إلى عشيقها. فتكون وجهتها إسبانيا، وتحديدا مدريد التي تجسدت لها فضاء مخلصا من جحيم الغربة داخل وطنها الأصلي، الذي أذاقها مرارة الطلاق والفقر، وأوذيت فيه بنظرات الشامتين الاحتقارية بدءا من الأم:

"أحسست بالغربة بعد عودتي من فاس إلى طنجة، وأمي لم تستسغ حكاية طلاقي، والمال غدا قبلة الجميع"(ص74). فلا غرو إذن أن تستسهل هذه الذات/ الأنا، جميع الصعاب في سبيل الوصول إلى شاطئ الأمان، والانغماس في تربة الآخر، وركوب موج بحره العاتي، طوعا أو كرها؛ "اقترن الخلاص عندي بالسفر إلى إسبانيا"(ص74). فالفضاء الجديد يغدو مجالا بديلا لممارسة التحدي وإثبات الذات وتحقيق الطموحات، مهما تكن المعاناة:

"عانيت من امتهان جسدي لكنني حققت ما كنت أريد لأفرض احترامي على الآخرين بعد أن تعلمت منطقهم"، "صممت على أن أثري وأستوعب أسرار المهنة لأجمع مالا يضمن لي ولابنتي حياة كريمة "، "أفرض احترامي من خلال ما أملك لأن هذا هو المقياس السائد اليوم، الآن أتحمل كل مسؤولياتي وأنا أمارس العهارة. بل يخيل إلي أنني أستطيع أن أعلن على الملأ : أنا عاهرة مع سبق إصرار" (ص 75).

وهي الحقيقة التي لم تتحرج فعلا من إعلانها جهارا لابنتها فاطمة، حينما عادت إلى زيارة فاس، موطنها الأصلي الذي استبدلته طوعا أو كرها بفضاء الآخر (اسباني). آنئذ بدت مقتنعة بفعالها (انحرافها)، واعية كامل الوعي باختيارها الفردي في الحياة، بالنظر إلى أنها ليست "مسؤولة عن الأخلاق" – كما كانت تفسر وتقنع العيشوني- وبالنظر إلى ما تحقق لها من إمكانيات أهلتها لإثبات الذات والتخلص من صور الاغتراب داخل الوطن. فهي بارتمائها غير المشروط في أحضان الفضاء الآخر، تستطيع أن تدعي الاستقلالية الذاتية، وتتحول إلى شخصية متصالحة مع نفسها، راضية عن ذاتها، مهما قد يبد على المجتمع والواقع من استنكار وامتعاض لما تقوم به. وليست صراحتها المريرة في المقطع الموالي، الذي تتوجه فيه بمصارحة غير معهودة إلى ابنتها، سوى احتجاج على الفضاء الأصلي وسخرية مبطنة منه، ومعاتبة له بشكل فني وناعم، على مسؤوليته عن مصيرها الإنساني القاتم. بل وربما إشعار مغلف بتفضيل ما لفضاء الآخر واعتراف بفضله وإنعامه على الذات:

"إِوا عْلا سْلامْتَك ألأُستاذة، عادْ جِبْتي الخْبَار بِاللِّي أمك تَتْقْحب باش تْعَيْشك وتْقَرِّيك .. وشْنو فيها؟ أنا ما تَنْسْرَقْشْ، بعْرَق جْبِينِي عايْشة، ومالي هذا اللِّي تَتْبَرْعِي به"(ص 127).

ولا ننكر أن هذا الاعتراف فيه احتجاج مزدوج، فمن جانب هو على الآخر/ الأجنبي، خاصة في شخص الروبيو، الذي يكشف سياق النص في الرواية عن تغريره بغيلانة -كغيرها من عشرات المغربيات اللائي غرر بهن واستغلهن- والإيقاع بها في شرك الدعارة والعمل بالبارات والمراقص والمتاجرة بالجسد(ص74 -75). لكن في الوقت نفسه، وبشكل أسبق، فإن الاحتجاج الأوضح هو على الوطن الأصل، بالنظر إلى أنها تشكل، من حيث هي ذات متحققة على أرض الوطن، سمة عار في جبينه، ولحظة إدانة لقيمه المتآكلة، وشهادة حية على تردي مفهوم الإنسانية في حضنه. فهو الذي لم يرحمها ولم يرق لحالها ولمأساتها الإنسانية، وهو الذي سيأخذ بناصيتها إلى مهاوي الابتذال، ويوقعها في حجيم الرذيلة. فتكون المجاهرة بالتمرد على قيمه، واختيار القيم البديلة والمناقضة، نوعا من الانتقام لإثبات الذات. وتتأكد هذه الحقيقة عندما نجد أن السارد يقدم غيلانة، العائدة من مدريد، متحمسة لشخصيتها الجديدة: "إلا أنها لا تخفي سرورها بشخصيتها الجديدة"(ص 76). فالذات هنا تبدو راضية عن نفسها، ليس باحترامها القيم والأعراف السائدة، بل بتمردها على كل شيء فيه. لأنه لم يسلمها سوى إلى صور متناسلة من الموت والاغتراب. وخطاب غيلانة لا يمكن أن يفهم بوصفه موجها إلى فرد معين في شخص ابنتها فاطمة، بل هو خطاب إليها بوصفها حاملا فنيا يلخص واقعا ممتدا وعريضا، وبما هي كتلة جمالية من القيم والمعارف المحيلة على وطن بكامله.. فنحن _كما يرى أحد دارسي الشخصية من المنظور الأنتروبولوجي_: "عبر الشخصية يمكن الإطلالة على البنى التجاورية في القطاع الاجتماعي الإنساني"[21]، لأنها تقدم نفسها في العمل الفني بمثابة "المركب الإنساني المجتمعي الذي يتسع ليشمل مجمل العناصر الجغرافية والبيئية والتاريخية، والانتماء العرقي والقومي والديني وما إلى ذلك"[22]. فهي ليست أبدا معزولة عن محيطها وعما حولها، لا فنيا ولا واقعيا. بقدر ما هي وسيلة لتمثيل بيئتها ومجتمعها. وتدل بخصوصيتها وتفردها الظاهرين سطحيا على العام. ولا تدرك إلا بكونها "كلا وليست جزءا. بل ولا يمكن أن تكون جزءا في لحظة من اللحظات. وهي لا يمكن أن تكون جزءا بالنسبة إلى المجتمع أو بالنسبة إلى أي مهتم بالقيم والقضايا، إلا في علاقتها بكل ما هو عام. إنها تمثل أعلى مكان في سلم القيم، غير أن قيمها العليا تفترض مضمونا كافيا يتجاوزها"[23].

- الآخر جسـر العبـور إلى الأنـا:
(الفضاء الباريسي؛ بلاغة الانسلاخ/ مرارة الاكتشاف/ عودة الاعتبار)

ترتبط فاطمة فريطس، ابنة غيلانة الوحيدة، هي الأخرى بالعيشوني، وتشكل بدورها امتدادا فنيا لشخصيته، تساهم في تشكيل وعيه وتصوره للأشياء، وعبرها يعمق معرفته ويحاول فهم العالم وقضاياه الإشكالية والوجودية. ومن خلالها نتعرف الآخر بوصفه فضاء جديدا، وشخصيات أجنبية عديدة تنسج معها الذات علاقات متنوعة ومعقدة، لكنها لا تخرج عن سياق محاولة الكاتب التأصيل الفني الجمالي لضرورة التواصل الإنساني مع الغير. ولكن هذه المرة من منظور الذات الواعية المثقفة، فنحن مع ابنة غيلانة، الطالبة المتخرجة من الجامعة، الواعية بقضايا الواقع المغربي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية غير المطمئنة، نكتشف الآخر، مرة أخرى، وعبر تجسيد فني مغاير ومكمل لما سبق، مجالا تعلق عليه آمال للخلاص من جحيم الوطن الأصل. فهي بعد أن تخلى عنها الداودي وتركها تواجه مصيرها المحتوم، مع ندى ابنتها غير الشرعية منه، تبدو واقعة في حجيم حقيقي تبلوره مجموعة من الصور الجزئية:

"داهمني إحساس بالوحدة والضيم. وجدتني لأول مرة أواجه العالم من داخل حريتي التي بدأت تقيد خطوي" (ص123)، "كنت أفرغ كل يوم من الداخل ، والخواء ينمو ويتصاعد ليملأ الجوانح .. في ساعات الملالة والضيق"(ص129)، "حاولت الانشغال بالمطالعة وقراءة الصحف ومع ذلك استمر سأمي وقلقي"(ص136)، "الشغل مفقود"( ص132)،"..لأصف لك حالة الصدمة ..ولأشخص لك الحزن العميق والإعراض عن الدنيا والتفكير في التخلص من الحياة، لأنني كنت أواجه لأول مرة انهيار أمل كبير"(ص 135)،"شقوق الشرخ تتسع غير أنني لا أقوى على تحديد منشئه، كما لا أقوى على مجاوزته"(ص 129-130).

أمام هذا الوضع البئيس، يباح الانسلاخ من قيم الوطن الأصل الذي حول الشخصية إلى بطل إشكالي، فيصبح الفضاء الآخر الأمل الوحيد المتبقي. فمهما تكن آفاقه غامضة ومبهمة، وحتى مسدودة، فهو يبقى مجالا للتجربة والمغامرة ومسرحا للانتقام والتمرد على مخزون الذات الآني. لكل ذلك نجدها تصرح: "ولم أجد سوى صورة باريس لإنقاذي من المصير المبتذل...مصممة على البقاء لابتكر حياة تبعدني عن القهر والتشييء "(ص 160)، "إن وضعيتي كانت قد تحولت خلسة داخلي وجعلت مشدودة في أوقات الوحدة والاجترار إلى حالة مفتوحة ،إلى تجربة غير مسبوقة ليس لها أفق واضح إلا أنها تخرجني من حالة الانتظار والارتخاء"(ص 137).

إنه نشدان الخلاص المؤقت مهما يكن الثمن، ومهما كان السبيل، ف"الغاية تبرر الوسيلة"، وتجربة الأم بمدريد تصبح في وعي فاطمة ابنتها ، بعد أن دارت عجلة السنوات دورتها الثلاثين هي النموذج والقدوة . مع فارق أن غيلانة غرر بها قبل أن تمتهن الانحراف ،أما ابنتها فواعية تمام الوعي باختياراتها المفروضة"كنت مستعدة لكل شيء"(ص 138)، و"حتى العهارة في أوربا ستكون أفضل منها هنا ..على الأقل سأربح كثيرا" (ص138) .

إن الآخر، يصبح بالنسبة إلى الذات/الأنا، تحت ضغط معاناة ومآسي الوطن الأصل، فضاء للانسلاخ والتخلي عن كل ما من شأنه أن يربط أو يذكر بالماضي. حيث تتمرد الذات على القيم والتاريخ والهوية. تقول فاطمة: "حين أسترجع الآن كل ما حشي به دماغي عن الهوية والتاريخ والوطن، أجد كل ذلك الجهد وكل ذلك الكلام لا يساويان وزن قشة أمام تلك الحالة التي عصفت بي وأفرغتني من شحنات الذاكرة وارتباطات الماضي"(ص 143). فهي تحاول أن تلبس لبوس شخصية جديدة تضمن لها الاستمرار والبقاء بالفضاء البدي. إن هم (الأنا) الوحيد هو أن تنسى أصلها وتمحو فضاءها الأصلي من ذاكرتها ووعيها. لكن هل ينجح الآخر في تخليص الذات من شرنقة الضياع ؟ وهل بإمكان الآخر/ الأجنبي، أن يسكن دواخلها ويقنعها بالتخلي عن شخصيتها الأصلية؟

تلك هي الأسئلة الوجودية التي يحاول الكاتب الإجابة عن بعض جوانبها. حيث نلفي أن فاطمة، وهي تستقر فيزيقيا بباريس، وتأخذ كامل حريتها في هذا الفضاء الجديد، تحس نفسها "مشتتة الذهن"، ولا تكاد تميز حالتها الداخلية: "مفرغة من كل إحساس"(ص 142)، تسير من غير هدف، بدون تطلع ولا أوهام. تملأ وقتها بزيارة المتاحف والمعارض الفنية، وتتجول في شوارع باريس ومآثرها المتنوعة، وتتمتع بمعطياتها الحضارية والعمرانية، لكن ببرودة إحساس يقل نظيرها. تتخذ من بطلة رواية (Les dimanches de Madmoisell benoun)، للكاتب Jaques Laurent، هادية لها، وتتفنن في ابتكار تقنيات متجددة باستمرار لاستدراج الزبائن الذين جسدوا الآخر في تنوعه، بين الفرنسي والإسباني والإيطالي والفلبيني والياباني والأمريكي..إلخ. غير أن تحررها المطلق في ديار الغربة، وتمردها على كل القيم والضوابط السابقة، لم يقدها سوى إلى صور عنيفة من المسخ والابتذال: "صادفت حالات سادية أرعبتني وأخرى مازوشية أذهلتني، ووجدتني أغوص في تجربة تنطوي على مفاجآت قاسية وعلائق جنسية تنفي عني، أكثر فأكثر جسدي" (ص156)، "أعيش ما يشبه حالات لا إنسانية"(ص162)، "كل الذكريات المشعة يهرب ضوؤها فتبدو شاحبة مثل صدى المرايا. جميعها تخبو وتبوخ"(ص170). وهو ما جعل منها شخصية معلقة بين فضائها الأصلي، حيث الموت المحقق، وبين فضاء الآخر البديل الموهوم حيث الضياع والفراغ. وكأني بالكاتب يغازل حقيقة الضياع والقلق المصيري اللذين يلازمان الإنسان عندما يضطر إلى مفارقة وطنه الأصل، فيصبح يعيش على إيقاع الانشطار بين مصيرين متعاكسين؛ وطنه الأصلي ووطنه الثاني. فالغربة ضرورة ملحة ومفروضة على ابنة غيلانة، تثقل كاهل وعيها وتضطرها إلى العيش في دوامة من الإحساس بالضياع الذي تحاول التغلب عليه من خلال أنشطة اضطرارية وتعويضية كالسياحة والقراءة والكتابة والفن، لكن من دون جدوى. لأن لحظة الاستقرار تبدو منفلتة ومستعصية بشكل فاجع وصادم إلى حد اليأس.

ولعل مصير فاطمة وحالها في غربتها في "الضوء الهارب" أن تكون مقاربة فنية ونوعية شبيهة بحالة شخصية السيدة جانين في قصة "المرأة الزانية" لألبير كامو، في مجموعته القصصية "المنفى والمملكة"[24]. إذ تعاني بدورها الغربة والضياع والفقد على المستويين الجسدي والروحي، وتبحث عن الخلاص من خلال تجريب علاقات حب متعددة، وهي علاقات سرعان ما تتحول إلى "فعل وعلاقة زنا"[25]. ولعلنا من هذا الجانب أن نرى في هذه الشطحة الجمالية، محاولة كشف ومساءلة فنية لواقع الحضارة المادية المعاصرة في الغرب، بوصفها حضارة قائمة على المتعة واللذة والمال الزائل، وبكونها سرابا واهما لا يكاد يحقق للإنسانية استقرارها، "فلا تزال تنقله من وهم إلى آخر، ومن ضياع إلى ضياع ومن اضطراب وفوضى إلى آخرين"[26]. هكذا وتغدو الذات في علاقتها بالغرب"ضحية عدوان حقيقي"[27]. إذ تشكل حضارته المادية التقنية مجرد تحد كبير يؤزم الذات المفردة ،كما يؤرق البشرية بكاملها. ولعل انحرافات ابنة غيلانة الجنونية بباريس ليست إلا مساءلة فنية وتعرية مفضوحة لحقيقة هذا الآخر في أبعاده الفردية والاجتماعية والحضارية والقيمية، التي تحول الإنسان إلى مجرد مستهلك طالب للمتعة الآنية، وإلى كائن فارغ روحيا وعاطفيا، ويصبح الانحراف والشذوذ جزءا مكونا للمشهد المعتاد[28]. وليس تحول فاطمة إلى شخصية فاقدة للإرادة وإلى إنسانة مستخفة بالحياة وحاكمة عليها بالتفاهة والعبثية، ناظرة إليها بوضاعة واحتقار، سوى ترجمة فنية لرؤية فلسفية ثاوية خلف الأحداث السردية، تحاول أن تحاكم حضارة الآخر بوصفها معضلة حقيقية للإنسان الحديث.

كما أنها من جانب آخر حفر فني في حقيقة الضعف الذاتي الملازم للإنسان مهما أدعى مقدرته على التمرد على سلطة الجماعة بأعرافها ومعتقداتها. لقد تمردت ابنة غيلانة على كل شيء، وتحررت بما فاق تحرر بونون في رواية "آحاد الآنسة بونون". وأصبحت، بحسب عبارة السارد في رواية "شرق الوادي": "أكثر حرية ممن ولدوا هناك، وأكثر ارتماء في حمى التحرر من أهل الدار أنفسهم"[29]. إلا أنها حشرت نفسها ضمن فردانية مفرطة وَلّدت لديها ضغوطا وإكراهات لا تقل حدة عن ضغوط الأنا الجماعية. لقد تحولت الأنا الفردانية عندها إلى سلطة ثانية تقيد خطواتها وتمارس عليها نوعا من الرقابة. وكأن هذه الأنا "هي الوسيلة التي ينعكس فيها المجتمع داخل كل منا، والتي يمارس عبرها رقابة على أفكارنا وأفعالنا"[30]. فهي تصرح: "أواجه العالم من داخل حريتي التي بدأت تقيد خطوي"[31].

لذلك ستجد نفسها، بوعي منها أو من دونه، مشدودة إلى وطنها الأصلي الذي عملت جاهدة من أجل أن تنساه وتنسى كل ما من شأنه أن يربطها به، أو يذكرها بالانتماء إليه. فبعد أن جسدت الرواية عبر سياقها النصي العودة الملزمة إلى الوطن الأصلي، من خلال تزويج فاطمة المتنكرة لمغربها وغربيتها من ماتياس بيدال، وهو أحد المقيمين بالمغرب على عهد الحماية، وأحد المعجبين به إلى حد لا يوصف، إذا بها تكتشف، وبشكل تلقائي وذاتي، أن لا مندوحة عن تمثل شخصية الزوجة المغربية، بعاداتها وتقاليدها وتصرفاتها داخل البيت من أجل أن تضمن حب زوجها وتكسب رضاه.

"أبادر إلى تحضير أطباق من الطبخ المغربي ،كأنما لأستحضر ذاكرة مشتركة بيني وبين ماتياس..قد جدلت شعر رأسي ظفيرتين وارتديت القميص والمنصورية"[32]. فهي عودة جمالية وعنيفة بفاطمة إلى وطنها وإلى أصلها وهويتها التي لم يستطع الآخر، بثقافته ونماذجه البشرية المتنوعة، وبحريته غير المحدودة، أن يجردها منها أو يمحوها من ذاكرتها. وكأنه اعتذار جمالي على سلوك الانسلاخ الانتقامي الذي اختارته الذات/الأنا ضدا على وطنها الأم.

خاتمــة:
يحضر الآخر إذن، بوصفه مكونا جماليا يدخل ضمن النسيج الفني المشكل للكون النصي في رواية "الضوء الهارب"، ويتواشج مع مختلف مكونات النص وسماته، بما يجعله يساهم في بلورة الصورة الروائية الكلية للرواية من جهة، ومن جهة أخرى لا يمكن أن نستوعب قيمته الجمالية إلا في ربطه بمختلف المرتكزات النصية. وهو بذلك يكون عنصرا روائيا يستوجب نظرا نقديا راجحا يؤمن بالخصوصية النوعية للنصوص الإبداعية، وينأى بنفسه عن أي إسقاط من شأنه أن يجعل النص مرتهنا لتصورات مسبقة عن الآخر.

لقد تأرجح حضور الآخر في هذا النص بين الصورة الإيجابية التي جعلت منه قبلة الشخصيات لتحقيق ذواتها والتخلص من جحيم ظلامات مجتمعها، وجعلت منه فضاء يحقق التواصل الإنساني بوصفه حقيقة واقعية لا يمكن دفعها. وبين الصورة السلبية التي جعلت منه جحيما آخر يهدد الشخصية في ذاتها وكيانها. وفي الحالين معا بقي الكاتب وفيا لمقتضيات الصنعة الروائية، بعيدا عن التحاملات المنمَّطة وعن "لغة الإيديولوجيا المتخشبة السائدة في كل اتجاهاتها"[33]، والتي تعج بها الأعمال الروائية التي تناولت الموضوعة نفسها.

لقد بدا الآخر مع محمد برادة حاجة إنسانية، وضرورة حضارية، وهو قبل ذلك، وسيلة فنية ومكون جمالي، كفيل بمساءلة الإشكالات الإنسانية والقضايا المصيرية والوجودية، ومجال تشريح الرؤى والمواقف، واستبطان كنه الذات والعالم، مع قدرة فائقة على الفضح والسخرية والتعرية الجميلة لمكامن الخلل في الذات وفي الآخر. وهذا هو ديدن الفن الحق كما ينقل الكاتب نفسه: "التعبير الخيالي بلغة جديدة عن المشاعر والانفعالات الفردية الفريدة، والانفعالات في صدقها الجمعي"[34].

الهـوامـش والإحـالات:

 

[1]- محمد برادة، الضوء الهارب، منشورات الفنك، الطبعة الثانية، 1995 .

[2] هناك عديد من الأعمال الروائية والقصصية التي تناولت قضية الآخر من منظورات مختلفة، ومن زوايا فنية متعددة، وعبر رؤى تنوعت بين الفني والإيديولوجي، وبين الموضوعي والذاتي. ويمكن في هذا المقام أن نشير إلى:

(عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم، (الحي اللاتيني) لسهيل إدريس، (خمر الشباب )، لصباح محيي الدين، (وطن في العينين) لحميدة نعنع، (السابقون واللاحقون) و( الثنائية اللندنية) للعراقية سميرة المانع، (موسم الهجرة إلى الشمال) للكاتب السوداني الطيب صالح ، (باريو مالقا) للكاتب المغربي محمد أنقار، (أصوات) لسليمان فياض، و(نهم) للسوري شكيب الجابري، (المتميز) للفلسطيني محمد عيد، (هذيان المرافق) لليمني سالم العبد، (على الدنيا السلامة) للعراقي ذو النون أيوب، (باب الحيرة) للسورية أنيسة عبود، (صقيع توليدو) و(توليدو ثانية) لماري رشو.

[3] - "الهوية والاختلاف، تعدد الواحد أم توحد المتعدد؟" ، محمد صادق حسيني، مجلة (فلسفة وعرفان)، العدد 7، السنة الأولى، 1998م، ص 156

[4]- نفسه، ص 161 .

* - من الطريف أن تكون رواية "الضوء الهارب" بدورها تكشف عن الآخر بهذا المفهوم: "عشت طوال ما تبقى من تلك الليلة إحساسات صيرتني آخر/آخرين ...فالمقياس عندي هو حلقة التناسخ والتوالد التي تصبح الذات مسرحا لها "( ص 62) .

[5]- أزمة الأدب المقارن، تر. سعيد علوش، المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، 1987، ص 75.

[6]- محمد أنقار، بناء الصورة في الرواية الاستعمارية، صورة المغرب في الرواية الإسبانية، ط.1 ،1994م، مكتبة الإدريسي للنشر والتوزيع، تطوان، ص 69. ويعد عمل الدارس في هذا الكتاب فريدا ووحيدا في مجاله ، بحسب ما أعلم، إذ درس صورة الآخر من منظور جمالي محض، من دون الارتهان إلى منظورات مسبقة عن الأخر. ويمكن تبين خصوصية العمل الذي قام به ومدى جدته، في تتبعه مجهودات غيره من الدارسين للآخر والكشف عن مزالقهم في القسم الأول من الكتاب.

[7] على شاكلة العناوين الحيوية في السرد كما تناولتها كتب اهتمت بالتنظير للعنونة من قبيل:

_ Leo.H.Hoek; La mrque du titre, Mouton , 1982

_ Charles Grivel; Production de l'interet Romanesque, Mouton, 1973

[8] محمد فكري الجزار، العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي، القاهرة، سلسلة دراسات أدبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1998م، ص45

[9] Jean Louis Morhange; Incipit narratifs. In: revue poétique, France, No.104 Nov.1995;Ed. Seuil, p: 394

[10]- الرواية، ص 11.

[11]- نفسه، ص 16.

[12] -نفسه، ص 73.

*- نستحضر في هذا المقام رواية (السفينة) لجبرا إبراهيم جبرا، والأبعاد الدلالية التي تحملها السفينة في تلك الرواية ، التي تخوض في العلاقة الإشكالية بين العالمين العربي والغربي. مع فارق نوعي أنها تحاول أن تصور اللقاء بين القطرين شبه مستحيل وبعيد التحقق فوق حيز جغرافي محدد. مما يجعل نظرة جبرا الفنية للآخر مختلفة تماما عن نظرة برادة في هذا النص.

[13] - جون هالبرين وآخرون، نظرية الرواي، تر. محيي الدين صبحي، وزارة الثقافة، دمشق، ط1، 1981، ص 18 .

[14]- محمد أنقار، حدود الواقعية في رواية "أشياء لا تنتهي"، مواسم ، ع 4، خريف 1995، ص 85

[15]- محمد مشبال، جماليات النمط الواقعي في الأدب، قراءة في نص قصصي ،مواسم، ع 4، خريف 1995، ص 13.

[16]- الرواية ، ص 72 .

[17]- نفسه 73 .

* نستحضر جيدا كيف تبدلت حياة خوسيو إلى حزن وقلق ، وكيف انقطع عن الرسم بسبب معرفته أن اسبانيا ستحتل طنجة وتلحقها بنظام الحماية بعد الحرب العالمية الثانية.

[18]- سورة الحجرات، الآية 13 .

[19]- الشيخ فيصل العوام ، الأنا والآخر: المنطق القرآني في التعامل مع الآخر، مجلة البصائر،ع34، س 15، خريف2004م، ص 65 .

[20]- الشيخ عباس العنكي، المجتمعات؛ تكوينها - العلاقة بينها، البصائر، مرجع سابق ص 69 .

[21]- هرسكو فيتز، الأنتروبولوجيا الثقافية، تر.رباح النفاح، وزارة الثقافة، دمشق ،ط1 ،1973 ،ص13 .

[22]- نفسه، ص 32 .

[23]- يكولاي برديائف، العزلة والمجتمع، تر.فؤاد كامل، المنشورات الجامعية، طرابلس، لبنان، ط1، 1985، ص 161 .

[24] A.Camus, L' exil et le royaume, Gallimard , Paris 1984 .

[25] Ibid , P : 29

[26] -تغريب العالم ، سيرج لاتوش، تر.خليل كلفت ،نشر ملتقى تانسيفت ، ط 2 ، الدار البيضاء ، 1999 ، ص 108 .

[27]- نفسه ص 64

[28] -نستحضر هنا تحليلات جيل دولوز وتأملاته الفلسفية لرواية ميشيل تورنييه: "جمعة أو تخوم المحيط الهادي"، التي

تكشف عن مصيرالحضارة الغربية البائس وتفاهة مظاهرها التقنية المادية وتشييئها الإنسان واستحالة تحقق الكمال الإنساني بتمثلها. انظر الملحق التحليلي لجيل دولوز، ضمن : M.Tournier, Vendredi ou les limbes du pacifique, Gallimard, Paris, 1972 , p: 357

[29] – تركي الحمد ،شرق الوادي، دار الساقي، جدة ، السعودية، ط 1 ، 1999، ص 118. وللإشارة فهي رواية تعالج قضية العلاقة بالآخر ممن منظورات؛ الغربة والأصل ثم الطائفة .وتتراجع فيها الفنية الروائية نسبيا ، لصالح الرُّؤْية الإيديولوجية للكاتب .

[30] - محمد الحرز، من سلطة الموروث إلى سلطة المؤسسة، مجلة الراوي،ع 18، مارس 2008، النادي الأدبي الثقافي بجدة، ص 121

[31]- الضوء الهارب، ص 123 .

[32]- نفسه، ص 162

[33] -محمد برادة، الرواية العربية، ممكنات السرد(ندوة)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت 2008، ص 64

[34]- نفسه، ص 150-151.