يرى الناقد التونسي أن هذه الرواية تنضوي في اتّجاه "الرّواية العرفانيّة" ليس لاستنادها إلى الأنحاء الدّينيّة لبناء عوالم الرّواية المتخيّلة فحسب، وإنّما لطريقة في توظيف المقدّس والنّزوع به إلى دائرة التّخييل والتّحويل وإعادة التّشكيل والابتكار على وجه يؤدّي إلى تجاوز الجمود الدّينيّ ويحقّق تحرير التّجربة الصّوفيّة من النّزعة المؤسّسيّة.

«المَلاميّة» .، الشّاعريكتب رواية؟!

لطـيّـف شـنهي

"الملاميّة"([1])هي من بين روايات محمد الخالدي([2]) التي صدرت خارج تونس. وتحديدا هذه السّنة في لبنان، في طباعة مشتركة بين منشورات "ضفاف" و"الاختلاف" و"كلمة"، كي يمكّن من توصيلها إلى أكثر من جهة متقبّلة، خلافا لرواياته السّابقة التي ظلّت أسيرة النّشر الخاصّ أو النّشر على نطاق محلّيّ اللّذين لم يضمنالها الانتشار والتّعريف. وقد وردت هذه الرّواية بعد سلسلة طويلة من الأعمال الشّعريّة التي عَقِبتها أعمال روائيّة ثلاثة، هي: "سيّدة البيت العالي"([3]) و"رحلة السّالك إلى المقام الأسمى وما جاوره من ممالك"([4]) و"الحفيدة"([5]).

قبل هذا التّصريف المستحدث للقول ألفيناه شاعرا. لا أحد، قبل صدور روايته الأولى، يتصوّر أن يبادر شاعر ظلّ يكتب الشّعر لمدة تزيد عن الثّلاثين عاما إلى كتابة رواية.إلا أنّ العودة إلى شعره،من جديد، في ضوء أعماله الرّوائيّة اللاّحقة،يسمح لنا بتبيّن المؤشّرات المتنوّعة التي تقدّمت تحوّله الكتابيّ. فنصّه الشّعريّ مُسرّد، كثيرا ما يتحوّل إلى سِير أو قصص شعريّة، الأمر الذي جعل النِّغمة الغنائيّة تنحصر حتّى تكاد تتلاشى في نصوص شعريّة متعدّدة.أمّا شعره على شعره،ففيه من وصفاللّغة الشّعريّةبالقصور عن استيعاب تجربته واحتضان رؤياه الكثير من القصائد والمقاطع والأبيات.ثمّ إنّ كتابته الشّعريّة باتت، قُبيل تحوّله إلى كتابة الرّواية تنزع إلى التّكرارباستهلاك ذاتها ورسكلة إنشائها، حتّى تبدو كأنّها نصّواحد يعيد تشكيل بعضه اللاّحق من بعضه السّابق بصفة مستمرّة. هذا، فضلا عن حواراته التي لم تحفل بمن يكتبون الشّعر باستسهال أمام من يعيش محنة الشّاعر، المحنة الحقيقيّة التي، ربّما، أفضت بغير واحد من الشّعراء إلى كتابة رواية.

هذه المقدّمات أو ممكنات التّحوّل التي نشأت في النّصّ الشّعريّوفي محيطه،لا نظير لها في التّجارب الكتابيّة التي جمعت بين الجنسين،هي تنطوي على المسار الذي برزت فيه الحاجة إلى كتابة ثانية قبل أن تستقلّفي رسمها الجديد.فالفصل بين الأجناس ما فتئ طاغيا على الممارسات الكتابيّة بشكل عامّ، رغم ما يتجلّى، من حين إلى آخر، من مظاهر فنّيّة وأدبيّة تتداعى فيها الحدود بين الأجناس والأنواع، فتتداخل وتتضافر وتتزاوج دون حدود أو موانع بحثا عن النّصّ المفرد التّليد. وبين الفينة والأخرى، تتعالى أصوات بعض النّقّاد زاجرة الشّاعر أن يلتزم حدوده، فلا يخرج عن طوره ونطاقه، ثمّ إنّ أغلب اتّجاهات التّقبل تنحو، في الغالب الأعمّ، إلى بخس ما يقدّمه من أعمال روائيّة مهما يعلُ شأنها،فإنْ لم ترمِه، مباشرة، بالرّغبة في الشّهرة والنّزعة المادّيّة المحضة، اعتبرت عمله بمثابة المهوى الذي كان أحرى به ألاّ يتردّى فيه.في حين، إنّعددا مهمّا من مشاهير كتّاب الرّواية في العالم مارس الدّوريْن، وهي قائمة طويلة،لعلّ من أبرز ما نجد فيها:"ميغل أنخل أستورياس" و"روباتوبولانيو" و"خورخي ساراماجو" و"إسماعيل كاداريه" و"هرمان هسه" و"فيكتور هوجو"وغيرهم كثير، وربّما طغت شهرة بعضهم روائيّين على نشأتهم شعراءبسبب تبدّل ظروف التّقبّل،ومن أشدّها تأثيرا أنّ الزّمن، على ما يذكر المناصرون للرّواية، وهم أغلبية، زمن رواية.

هكذا يمكن القول إنّالفعل الرّوائيّ تكوّن جنينيّا في رحم القصيدة، ومازالت الرّواية موصولة بحبل شفّاف إليها. إنّ "الملاميّة" استمرار للتّجربة الرّوحيّة التي أودعها محمّد الخالدي في ديوانه "المرائي المراقي"، وهي تجربة ما انفكّت تتردّد أصداؤها ويسري نُسغها في أمشاج كتاباته اللاّحقة حتّى تطغى في روايته"رحلة السّالك إلى المقام الأسمى وما جاوره من ممالك" التي منحها "الأجناسيّة"(Généricité) المبهمة التّالية: "معرا – رواية"، محدّدا بها توظيف المعراج الصّوفيّ في بنائها على نحو يملأ فيه درجات المعراج بأحداث ووقائع من بنات خياله.

إذن، فهذه الأنحاء انتقلت من القصيدة، بعد أن تولدت فيها أبرز اصطلاحاتها ومفاهيمها ومضامينها،إلى رواية "الملاميّة". وهي، في الجملة، تجربة روحيّة عميقة لا تقلّ قوّة عن روايته سابقة الذّكر. تبدأ بمشهد فيه من الصّورة السّينمائيّة ما فيه، أشبه ما يكون بأحد الأفلام الهوليوديّة. ففي جوّ من الهدوء اشتمل على مدينة "المتلويّ" فجأة، ترى "الغريب" يشقّ كالرّمح ساحة المدينة المتلبّدة سماؤها في فصل خريفيّ مفعم بالرّجاء والانتظار. لم يكن مروره حدثا عاديّا من أحداثها المتعاقبة الرّتيبة، بل فعلا مؤثّرا في ما حوله من عناصر، تقدّمته بشائر ونذائر مثلما تتقدّم عظائم الأمور وجلائل الوقائع معجزات مشابهة:

"فجأة ظهر في طرف السّوق، من جهة الجنوب، رجل غريب، مديد القامة، أشعث الشّعر، ذو لحية كثّة كأنّها القتاد، يرتدي معطفا طويلا شبيها بمعطف رعاة البقر في أفلام الغرب الأمريكيّ. اخترق السّوق مستقيما كالرّمح، ففسح له النّاس وعيونهم مشدودة إليه كأنّ مغنطيسا قويّا يجذبهم جذبا. كان منهم من يبسمل أو يحوقل، ومنهم من يغمغم بآيات قرآنيّة من تلك التي تتحدّث عن قيام السّاعة، ومنهم من يحدّق فاغرا فاه لا يدري ما يقول". ([6]).

سيتحوّل "الغريب" تدريجيّا في الرّواية، ليس إلى محطّ متابعة أهل المدينة فحسب، وإنّما إلى مثار تهويمات روّاد "حانة الأحباب" التي انزوى إليها منذ أن حطّ الرّحال.وفي هذا المكان الذي سبق لمحمد الخالدي أن احتفى به في نصوصه الشّعريّة والرّوائيّة على حدّ السّواء احتفاء لافتا، ستبرز أشدّ مكوّنات الرّواية غرابة وأحدّها تناقضا وأكثرها جلبا للدّهشة. فـ"الغريب"، وهو من أهل الصّوفيّة، بل صاحب منحىوطريقة لا يفتأ عن إثارة استغراب روّادها بكراماته التي لا حدّ لها؛من قبيل تلك التي تظهر بُعيد استغراقه في أطوار عليا من حالات السّكر. فكأنّنا أمام حركة "توقيع" فعليّ لما دأب المتصوّفة المسلمون على ترميزه وتخليصه من واقعيّته. فالسّكر، على ما تذكر "سعاد الحكيم" في معجمها، "إنّما غيبة عن كلّ ما يتعارض والطّرب" ([7]). هكذا يستصحب الشّربَ حديثٌ متشابه حول تجارب جنسيّة متنوّعة خاضها "مولانا" وهو يتقلّب في مسالك طريقه الصّوفي المتشعّب.

برزت في هذا الإطار شخصيّات كثيرة، كلّ واحدة تنطوي على سيرة متفرّدة، غير أنّها، ما إنْ قدم الغريب إلى المدينة وزاول المكوث بالحانة،باتتْ تنجذب تدريجيّا إلى الأنحاء الرّوحيّة التي تولّدت في المكان دون مقدّمات، وأخذت أرواح السّكارى تهفو إلى حضرة "مولانا"كما تأتلف الفراشات حول نور ساطع في الظّلام. بدأ التّحوّلبـ"ماجد" الذي سيمسي نديمهالأساسيّ، بل بطلا من أبطال الرّواية من طبقة الغريب نفسه، وانتهت بالطّبيب الدّكتور "رشيد كمّون" الذي أبى عليه تكوينه العلميّ أن يتنازل عن قناعاته الوضعيّة، لكنْ، في الأخير، انطاع إلى قوّة الجذب الرّوحيّة دون مقاومة. أمّا صاحب الحانة "العمّ التّوهامي" النّقابيّ القديم في شركة الفسفات الذي فَقدَ صوته بسبب الخمرة والتّدخين والذي ظلّ لفترة طويلة"جاثما كطائر الكوندور وراء الآلة الحاسبة في الزّاوية الشّرقيّة للحانة"([8])،فقد اقترب، بدوره، من عالم "مولانا" بعد أن استعاد عافيته بكرامة من كراماته.

لقد استفاد الجميع من كرامات "مولانا"، فصاحب الحانة شُفي من مرضه العضال،و"عبّاس التّومي" لقي كنزه المخبوء في زوجته الثّانية "فتحيّة" الأرملة الثّريّة، بعد أن أفنى طورا مهمّا من حياته يبحث عنه في التّراب. أمّا "علي" النّادل، فاقترابه من حلقة "الغريب" كان بمثابة علاج نفسيّ انتهى بخلاصه من ثقل ماضيه وأعبائه. إلاّ أنّ لتلك الكرامات ضحايا، فـ"سلطان" كلب "قريللو" بائع الرّؤوس والفول المدمّس،نَفَق مباشرة بعد ابتلاع الكرة الغامضة التي لفظها "العمّ التّوهامي" إثر سَعلة من سعلاته المبرحة، فيلقاه صاحبه،في ما بعد، ميّتا دون أن يكتشف السّبب الحقيقيّ لنفوقه.

لم يكن بروز "مولانا" في بدايات الرّواية ذلك البروز المهيب الذي رفعه إلى مرتبة الأبطال الأسطوريّين إلاّ طورا استبق بروز الشّخصيّة الرّئيسيّة الثّانية فيها"إبراهيم الشّامي"، وإن قدِم إلى المدينة قبل وصوله بأسبوعين أو ثلاثة ([9]). فغرابته لا تقلّ عن غرابته شيئا، بل يمكن أن نقرّ، اعتبارا لتجربته الحياتيّة، بأنّ حياته ومسيرته أوسع نطاقا من مسيرة "الغريب". فلئن نشآ رفيقيْن في الحيّ والمدرسة، فقد سلكا مسلكين مختلفين. مسالك الغريب محلّية في الغالب، بينما طريق إبراهيم متشعّبة المحطّات؛ بدأها بُعيد حصوله على القسم الثّاني من "الباكالوريا" جنديّا متطوّعا في الجيش الفرنسيّ، فرمت به الأقدار في أُوار الحرب "الهند الصّينيّة"([10]). وما إن انتهت الحرب بهزيمة الفرنسيّين حتّى وجد نفسه في حضرة "ديونغهانغ" معلّمه الفيتناميّ الذي سيتسمدّ منه، طيلة سنة قضّاها هناك، تعاليم "البوذيّة"، فيطوّر إدراكه بالوجود،ويرفع من قيمة التّفاعل مع شرطه الإنسانيّإلى ذرى موغلة في الرّهافة والشّفافية.

وقبل أن يعود إلى "المتلوّي"، كان لزاما عليه أن يستقبل رافدا جديدا من روافد المعين الصّوفيّ. قادته الرّحلة، بعد وداع معلّمه إلى دمشق.فكانت وجهته جبل "قاسيون" أين يجثم ضريح "الشّيخ الأكبر" محيي الدّين بن عربي. لكنْ، لفرط تهيّبه من لقائه والوقوف عند أعتابه، ظلّ فترة يبحث في ما يدعّم معرفته به، إلى أن التقى "أدهم السّرّاج" الذي سيكون له عونا على تلك المطالبحتّى تتحقّق بعد أن تهيّأ لها بما يجب من التّعرّف. أمّا "ياسمين الهاشم"، فهي إحدى فِتن الشّام التي طالما تبدّت له في صورة امرأة مثال، مَنّى النّفسبوطئها طويلا. ومثلما يستعرض "الغريب"/ "مولانا" في الطّور الأوّل من الرّواية مغامراته مع "فريدة" و"وردة"، تتواتر، في هذا الطور؛ طور "إبراهيم الشّاميّ"، مشاهد جنسيّة توصل الرّغبة إلى منتهاها، وتسافر بالذّات العاشقة إلى حدود الإنهاك والتّلاشي.

تلك التّجارب تبدو في ظاهرها نفيا لمقتضيّات التّصوّف وأهدافه، لكنّ"إبراهيم" بدا متنبّها إلى خصوصيّتها ما جعله يضيء تلك المفارقة الملتبسة حينما انتصر إلى طريقته وهو يقارن بين ما يأتيه الرّهبان المسيحيّ والمؤمن المسلم:

"هنالك من يتبتّل ويميت جسده وشهواته في سبيل الوصول إلى الكمال، هؤلاء على قلب عيسى. وهناك من يترك العنان لحواسه، فيعب من كلّ ما لذّ وطاب من مأكل ومشرب ومن نساء وطرب. وهؤلاء على قلب نبيّنا ورسولنا محمّد صلوات الله عليه كما يقول الشّيخ الأكبر محيي الدّين بن عربي"([11]).

الملاميّة، هي طريقة ومنهج في الحياة، ليست شعارا صوفيّا يختزل رغبة المريد في الإعراض عن فلسفته الوجوديّة بإعلان نقيضها وإعلائه فحسب، بل هي حالة فريدة في اختبار الذّات ومسعى طاغ لبلوغ الذّروة المستحيلة سبيله نوع من الإسراف الوجوديّ الظّاهر في استصحاب المتع وتصيّد مكامن اللّذة مهما تمتنع وتستتر. الخمر والجنس رمزان مكينان في عالم التّصوّف، تكاد لا تخلو تجربة صوفيّة من توظيفهما، فهل يمكن أن ينشأ تخييل روائيّ عرفانيّ أو صوفي دون اعتمادهما مطيّة لإنشاء عوالم موغلة في الغرابة والغموض؟ فليس من الصّدفة، حينئذ، أن يتسمّى على رأس هذا الكون المتخيّل العجيب بطلا هو "الغريب"؛ غريب الوطن والأطوار والسّيرة. إنّ رواية الملاميّة، من هذا المنظور، سلسلة طويلة من المشاهد "الإيروسيّة"، لا تتنافى في إسرافها مع التّصوّرات القائمة حول الجنس المقدّس، الذي يمثّل، بدوره، تجربة في التّسامي والعلوّ على قاعدة انتهاك الأقاصي والمغالاة والاستباحة.

لا غرابة، حينئذ، إن لم تكن رحلة البحث عن الكمال رحلةَ بحث في مسلك ثابت. إذْتعدّدت الطّرق والأدوات بينما الهدف واحد، فبلغت بالتّجربة الرّوحيّة مقامها الأسنى حينما دمجت متشابهاتها المتباعدة مكانا وزمانا في خلاصة واحدة، فاجتمعت تعاليم "بوذا" وحكمه وخوارقه مع فتوحات "ابن عربي" وفصوصه وأشواقه. أمّا الإشراف على تلك الأنحاء القصيّة فما كان ليكون لولا اختبار الجسد في شهوتين ما لهما نظير في مايشتهي المشتهي الجنس والخمرة، فتواردت في الرّواية صور جسمت استقلال الجنس الأنثويّ لبلوغ تلك المقامات العليا من توهّج الرّوح وتلألئها. هكذا تحوّلت الرّواية إلى لوحات فنّيّة عالية الدّقّة مستفيضة في تفاصيل الجسد الأنثويّ وأوضاعه ومكامن اشتهائه التي تفوق الوصف على حدّ عبارة إحدى شخصيّات الرّواية. على ذلك المستوى من رهافة الحسّ، بلغ الاهتمام بالخمرة منتهى فتنتها؛ مقام متكامل العناصر: خمر ونُقَل مشتهاة تتكيّف حسب المكان، من "فيتنام" إلى "دمشق"فالمتلوّي، وأجواء من الطّرب؛ بين موسيقى وغناء وقول شعريّ. هذا، إذن، ما مكّن "المريد" من معانقة المطلق في رحابة ممكناته وغنى حالاته، بينمالم يكن، في ما سبق ذلك، إلا خارج نطاقه وبعيدا عن ميدانه. ينبغي عليه أن يقطع صلته بثوابت عوالمه الأولى وأوهامها، قبل أنيخوض تجربة الأقاصي، وإن كانت مزالقها أقرب إلى المهالك ممّا هو على شاكلة اشتراك في حرب لا تعنيه في شيء سوى ما سيحصل عليه من سخاء معرفيّ عرفانيّ عميق.

لقد انعكست تلك المضامين على شكل الرّواية وفنون تصريفها، فاجتمعت فيها لغة الشّعر مع لغة النّثر الشّعريّة، هنالك اختيارات شعريّة وافقت أجواء الرّواية، لا سيما تلك التي عرضها "زهير" "شاعر الحانة" وقد دأب على تشنيف آذان مرتاديها بروائع من الشّعرين الغزليّ والخمريّ، فمرّة ينشد لـلنّابغة الذّبيانيّ شاعره المفضّل قصيدته "المتجرّدة"،ومرّة للشّعراء المجّان من العصر العبّاسيّ على وجه التّخصيص. وقد يرد الشّعر، أيضا، على لسان إحدى الخليلات وهي تستحضر شعر ولادة بنت المستكفي. أمّا أغلب الشّعر الذي حفلت به الرّواية، لاتّفاق في المضامين وانسجام بينها، فهو للشّاعر اللّبنانيّالمعاصر "الأخطل الصغير"،إذ نالت الرّواية من شعره قصيدة كاملة بثّها في الفصل الأوّل من الرّواية قطعا قطعا مطلعها: "فتن الجمال وثورة الأقداح / صبغت أساطير الهوى بجراحي"من ديوانه "الهوى والشّباب". بينما تردّدت أشعار أخرى في غير مقام الإنشاد، ملحّنة في أغنيات، من قبيل ما شدَت به "اسمهان" من شعره موافقا لحالهم ضمن لحن للقصبجي: "وجعلنا الزّمنا / قطرة في كأسنا"،فعارضه "ماجد" بعد تفكير وتدبّر؛ معتبرا أنّ ذلك القول الشّعريّ كان يمكن أن يكون أفضل لو جاء في هذه الصّيغة "وشربنا الزّمنا / قطرة من كأسنا". وهذا الموقف الذي اتّخذته شخصيّة من الرّواية لا شكّ في أنّهيكشف عن بصمة الشّاعر كاتب الرّواية.

هنالك، فضلا عمّا سبق،اختيارات أخرى أقلّ تصريحا، منها ما يشكّل "نصّيّة ذاتيّة" (autotextualité)،فمن داخل مدوّنته الشّعريّة ينشأ، ومن نصوص الكاتب نفسه يتكوّن. إنّتسمية "الغريب" التي ألحقت بشخصيّة "مولانا" قد تردّدت أصداؤها في كتاباته الشّعريّة في غير موقع،فنجد "من يدل الغريب؟" القصيدة التي منحت الدّيوان اسمها، إنّها من مطوّلاته الشّعريّة السّرديّة التي يمكن عدّها أهم عناوين هذه "التّيمة"، تيمة الغربة. أمّا النّاحية الثّانية، فهي ذات مبتدأ خارجي،نعثر عليها في المواقف النّقديّة المتّصلة بالشّعر، من قبيل تبنّي أحد أبطال الرّواية لوجهة النّظر التي تعتبر "التّائية الكبرى" لعمر بن الفارض أصلا لكتاب ابن عربي الشّهير "الفتوحات المكّيّة"، فهوحسب ما يرى يفسّرها ويشرحها ويتوسّع في معانيها الملغزة.

إنّ اختيارات الكاتب اللّغويّة تعكس إلى حدّ بعيد الرّوح الشّاعرة التي طبعت الرّواية بطابعها. هنالك معجم خاصّ جدّا مليء بمفردات غير متداولة على شاكلة: "اليهماء" و"التنّوفة" و"الجرعاء" وهي من الصّفات المتّصلة بعالم الصّحراء، و"اصطلام" و"غرثى" و"ممراع"و"بهكنة" و"رداح" و"ملاغم" و"فاغمة" و"كابية" و"كعثب"و"قأقأة" و"نخاريب" و"ذرق" و"ادّرت" و"شصيت" و"عجرت" و"استنقطت" و"برطم". هذه الألفاظ وغيرها هي ما يمنح الرّواية سمة المغامرة اللّغويّة جنبا إلى جنب مع المغامرة التي يقطعها أبطالها.

الرّوح الشّاعرة نفسها تتبدّى في رهافة الإنصات إلى الكون، إذ تحوّل عناصره المرئيّة والعطريّة وغيرها إلى مفردات ذات وقع شعريّ؛ لا في جانب تشكيلها اللّفظي فحسب، بل في قوّة الصّورة الكاملة لذلك الإحساس، هكذا يحوّل الحبيبة إلى حالة عطريّة متمازجة الرّوائح:

"كان فيها رائحة الصّندل والعفص والجاوي واللّبان وعود هاجر والعنبر والنّدّ والصنوبر والمسك والكافور والشّيح والخزامى وقد احترق الكلّ في مجمرة واحدة. وكان فيها طعم القرفة واللّيمون والنّارنج والفلفل الأسود والهيل والقرنفل والتّفّاح والنّبيذ المعتّق والحبق والنّعناع والمردقوس والدّراق وقد امتزج في طعم واحد" ([12]).

الخاتمة

تمنحنا رواية "الملامية" مغامرة كاملة في تعامد اتّجاهاتها انتشارا وعمقا، رحلة في المكان ذرع فيها "إبراهيم الشّامي" أماكن متباينة من "المتلوّي" إلى "مرسيليا" فالفيتنام ثم "دمشق" قبل أن يحطّالرّحال، من جديد، في مسقط رأسه ليلتقي شخصيّات لا تقلّ عنه غرابة لكونهاظلّت محتفظة بغموضها حتّى في أكثر مراحل الرّواية تصريحا مثلما هو شأن "مولانا" و"المغربي" و"ماجد". وقد تكوّنت في أثناء هذه الرّحلة الأفقيّة رحلة ثانية أبعد غورا وأكثر تأثيرا في بناء شخصيّات الرّواية وعناصر مادّة حكيها الأخرى، هي الرّحلة الرّوحيّة التي جمعت بين مشارب في ظاهرها تنافر وفي باطنها وحدة وتكامل. ولطالما شكّل هذا التآلفبين الرّحلتين أساس كلّ تجربة روحيّة عظيمة، من نماذجها العليا في الرّواية شخصيّتا "بوذا" أو "ابن عربي".

هكذا تنضوي "الملاميّة" في اتّجاه "الرّواية العرفانيّة" ليس لاستنادها إلى الأنحاء الدّينيّة لبناء عوالم الرّواية المتخيّلة فحسب، وإنّما لطريقة في توظيف المقدّس والنّزوع به إلى دائرة التّخييل والتّحويل وإعادة التّشكيل والابتكار على وجه يؤدّي إلى تجاوز الجمود الدّينيّ ويحقّق تحرير التّجربة الصّوفيّة من النّزعة المؤسّسيّة بما تحتويه من تنظير وثبوتية والتزام. فالمادّة الصّوفيّة لم تعد محتكرة أو مقصورة على صفوة من السّالكين وأصحاب الطّريقة، لقد استوعبتها الرّواية استيعابا جعلها، من جهة، تتخلّص من روح التّحريم التي تطبع كلّ مقدّس، وترتقي، من جهة أخرى، بالفعل الرّوائي في شروطه الأجناسيّة إلى ذرى جديدة.

لا بدّ أن نشير، في نهاية المطاف، إلى أنّ الفعل الرّوائيّ عند محمّد الخالدي موصول إلى تجربة شعريّة ثريّة، انطلقت من أواخر ستينيّات القرن الماضي وماتزال مستمرّة، وضمّت ما يزيد عن عشرة دواوين شعريّة، أثّرت، بدون شكّ، في تكوّن المتن الرّوائيّ، بل إنّ مفرداته وموضوعاته تحوّم عليها روح شعريّة بالغة الرّهافة والحساسيّة. يمكن القول إنّ الفعل الشّعريّتواصل في الحدث الرّوائيّ، بما لا يدعو إلى تصوّر أنّ الكتابة الثّانية خيانة للأولى أو انتصار لها، بل تجسيم لوجه من البحث عن النّصّ المفرد الذي يحتفظ بالعبارة الشّعريّة والجنوح إلى الغموضوالسّعي إلى مضاعفة التّخييل.

 

[1]- الملاميّة، كلمة للنّشر والتّوزيع، تونس، 2017.

[2]- محمد الخالدي: شاعر وروائيّ ومترجم تونسيّ.

[3]- سيّدة البيت العالي، مطبعة فنّ الطّباعة، تونس، 2008.

[4]- رحلة السّالك إلى القام الأسمى وما جاوره من ممالك، الدّار التّونسيّة للكتاب، تونس، 2011.

[5]- الحفيدة، الدّار التّونسيّة للنّشر، تونس، 2013.

[6]- الملاميّة، مصدر سابق، ص 07.

[7]- الحكيم، (سعاد)، المعجم الصّوفيّ، الحكمة في حدود الكلمة، دندرة للطّباعة والنّشر، 1981، ص1205

[8]- الملاميّة، ص161.

[9]- المصدر نفسه، ص180.

[10]- المصدر نفسه، ص182.

[11]- المصدر نفسه، ص292.

[12][12]- المصدر نفسه، ص 116.