يمثل ديوان وجه الرحيل تطورا فنيا واضحا فى المسيرة الشعرية للشاعر أحمد عبد الفتاح ، حيث كان ديوانه الأول " تداعيات إلى الموج " الصادر عام 1984 إرهاصات شعرية لبدايات جادة عاشها طالبا بكلية دار العلوم جامعة القاهرة ، وجاء ديوانه الثاني :" أوراق يومية مهملة " الصادر عام 1994 ليؤكد أنه يسير على الطريق الصحيح إبداعيا، ليمثل هذا الديوان نقلة نوعية فى مسيرة الشاعر ، ويبدو أن فترة التوقف الطويلة التى عاشها الشاعر كانت فرصة لصقل العملية الإبداعية لديه ، لنكون أمام شاعر قد امتلك أدوات الكتابة ،وكان أكثر خبرة وتمرسا ودربة وعمقا ، يدل على ذلك ديوانه الثالث الصادر عام 2017 " وجه الرحيل" وهو الديوان الذى نتوقف أمامه فى قراءة نقدية نكشف من خلالها أبرز مالفت نظرى من أدوات وظواهر فنية إبداعية، لنلقى الضوء على بعض الأدوات الشعرية التى وظفها الشاعر بمهارة ودقة .
ومما يلفت النظر فى الديوان من ظواهر تستحق الدراسة ، تلك المهارة فى توظيف العتبات النصية ، وكذلك توظيف الشاعر للثنائيات النصية فى إطارها العام أو الخاص، هذه الثنائيات تصنع تماسكا نصيا دلاليا بين أجزاء النص الإبداعي، وكذلك توظيف الأصوات اللغوية توظيفا واعيا بمقتضيات النص ومطالبه، كذلك مما يلفت النظر مطالع القصائد التى تمثل إضاءة وإشراقة فنية للقصائد فى الديوان ، أيضا يمثل الوصف وطريقته فى الديوان لفتة إبداع حقيقية، حيث وظف الشاعر الوصف توظيفا فنيا بارعا في قصائد الديوان، ومما يستحق التوقف أيضا البعد عن التقريرية المباشرة فى قصائد الديوان، وكذلك البعدعن التعقيد والغموض الذى يقف أمام انسياب القصائد واسترسال المتلقى عند قراءة القصيدة، أيضا مما يستحق التوقف استخدام الرمز، والتناص قديما وحديثا إيجابا وسلبا، وكذلك توظيف القصيدة البرقية( القصيرة جدا ) .... وغير ذلك من ظواهر تستحق منا التوقف أمامها. وسنحاول فى هذه الإطلالة السريعة على الديوان أن نتناول بعض هذه الظواهر لنرى كيفية توظيفها و الكشف عن أسرار البراعة التعبيرية فى قصائد هذا الديوان.
الثنائيات النصية
فى البداية نقف أمام توظيف الشاعر للثنائيات النصية توظيفا يصنع جمالا دلاليا وإشراقة لفظية تجذب انتباه المتلقي، كما تصنع نوعا من التماسك النصي بين أجزائه. فى إطلالة سريعة على الثنائيات النصية ندرك أنها تقع ضمن نطاق (التضام النصى ) Collocation ، والتضام وسيلة مهمة وفاعلة من وسائل الترابط النصّي، وقد عرّفه علماء النص بأنه: توارد زوج من الكلمات أو أكثر بالفعل أو بالقوة، نظراً لارتباطهما بحكم هذه العلاقة أو تلك ، و هي وسيلة مهمة من وسائل الاتساق النصيّ ، وعادة مايتم تناول هذه الثنائيات في إطار نظرية الحقول الدلالية أو القرابة اللغوية أو المجال الدلالي ، ونظرية الحقول الدلالية تعنى أن مجموعة من الكلمات ترتبط دلالتها بمجموعة من العلاقات ، وتوضع عادة تحت لفظ عام يجمعها، ومن أمثلة ذلك : كلمات الألوان في اللغة العربية ، فهي تقع تحت المصطلح العام (لون) وتضم ألفاظا مثل أحمر، أزرق، أصفر ..... الخ
ترتبط العلاقات التي تنتمي إلى حقل واحد بإحدى العلاقات التي أشار إليها اللغويون، ولا تخرج هذه العلاقات في أي حقل معجمي عما يأتي :
- الترادف (2) الاشتمال أو التضمين
(3) علاقة الجزء بالكل (4) التضاد (5) التنافر
وفيما يلي سنقوم بتعريف سريع لكل مجال من هذه المجالات، مع مثال يوضح المقصود.
- الترادف، ويعني أن تتماثل الكلمتان في المعنى ،حيث تكون الكلمتان قابلتين للتبادل بينهما في موقع سياقي واحد، وفي هذه الحالة يتحقق الترادف مثل أب، والد- أم، والدة- شجاع، جرئ- غني ثري.. الخ.
- الاشتمال، وهو أن تتضمن كلمةٌ كلمةً أخرى أو كلمات أخرى بحيث يكون (أ) مشتملاً على (ب) مثل فرس الذي ينتمي إلى فصيلة أعلى (حيوان) وعلى هذا فمعنى فرس يتضمن معنى حيوان ، فكل فرس حيوان، وليس كل حيوان فرساً.
- علاقة الجزء بالكل مثل علاقة العين بالجسم، أو الغلاف بالكتاب، أو المقود بالسيارة، والفرق بين هذه العلاقة وعلاقة الاشتمال واضح، فالعين ليست نوعاً من الجسم، ولكنها جزء منه، بخلاف الزهرة التي هي نوع من النبات أو الفرس الذي هو نوع من الحيوان.
- التضاد، وهو نوع من العلاقات بين كلمات الحقل الدلالي الواحد، وتكون الكلمة مقابلة لكلمة أخرى ومضادة لها في المعنى أو الاتجاه.. إلخ.
وتوجد أنواع متعددة من التضاد نوردها فيما يلي:
- التضاد الحاد ،غير المتدرج مثل (ميت ، حي) (متزوج، أعزب) (ذكر، أنثى)
ب-التضاد المتدرج، وهو الذي يقع بين نهايتين لمعيار متدرج، وهو تضاد نسبي مثل: ساخن، حار- دافئ، بارد مثلج، متجمد
(ج )التضاد العكسي، وهو علاقة بين أزواج من الكلمات ،مثل: يعطي، يأخذ- يبيع، يشتري ومن أمثلته أيضا: زوج ، زوجة- والد، مولود- أب، ابن .. إلخ.
( د ) التضاد الاتجاهي، ويمثل ذلك العلاقة بين شمال، جنوب- فوق، تحت- أعلى، أسفل- يأتي، يذهب وينقسم إلى نوعين:
- تضاد اتجاهي رأسي ،مثل: فوق، تحت- أسفل، أعلى.
- تضاد اتجاهي أفقي ، مثل: يأتي ، يذهب حيث كانت الحركة في اتجاهين متضادين أفقيا.
3 - وهناك التضادات العمودية والتضادات التقابلية أو الامتدادية، فالعمودية مثل الشمال بالنسبة للشرق والغرب. والتقابلية أوالامتدادية، مثل: الشمال بالنسبة للجنوب، والشرق بالنسبة للغرب.
- التنافر، وهو أحد العلاقات الحاكمة للكلمات في الحقل الدلالي الواحد، وهو اختلاف في معاني كلمات، ولكنه لا يشبه التضاد ولا الاشتمال، وإن كان مرتبطا بفكرة النفي، والعلاقة التنافرية تقسم إلى أنواع هي :
- علاقة انتسابية: كلمتان أو أكثر تنسب بالتساوي إلى حقل واحد، مثل خروف وبقرة، فهما ينتسبان إلى حقل (حيوان) ولكن العلاقة بين الخروف والبقرة علاقة تنافرية، فلا يمكن أن يكون الخروف بقرة أو العكس.
- علاقة رتبية أو هرمية، مثل الرتب العلمية في بعض الجامعات، مثل: معيد، مدرس مساعد، مدرس- أستاذ مساعد- أستاذ ، ومثل ذلك الرتب العسكرية مثل: ملازم، رائد، مقدم، عميد لواء، فريق... الخ. فالشخص إذا كان ملازماً، فإنه لا يكون لواءً.
- علاقة دائرية ،مثل : الشهور والفصول وأيام الأسبوع
- ويمكن أن نضيف إلى تلك العلاقات علاقة التنافر المكاني، مثل ذكر أسماء دول مختلفة، أو ذكر أماكن مختلفة داخل دولة واحدة مثل: الإمارات، الأردن- مصر، لبنان ،الجزائر ، المغرب ، ومثل القاهرة الإسكندرية المنوفية داخل مصر، وكلها أماكن مختلفة الموقع، ويختلف العمل الأدبي الذي تقع أحداثه في مكان واحد، عن الذي تقع أحداثه في أماكن متنوعة، فإذا تعددت الأماكن وتعدد ذكرها في صورة تضام لغوي صنعت نوعاً من التماسك النصّي.
وسأركزفى دراستى لديوان وجه الرحيل على نوع واحد من هذه الثنائيات ، وهو ثنائية التضاد ، حيث يتضح من خلاله التماسك النصى ، وبداية سنرى أن الشاعروظف الثنائيات بطريقتين :
الطريقة الأولى : الثنائيات الكلية
الطريقة الثانية : الثنائيات الجزئية
- الطريقة الأولى أن الشاعر يضع القصيدة كلها فى إطار من ثنائية التضاد، ويبدو ذلك فى بعض قصائد الديوان ، وسوف نأتى ببعض النماذج الدالة دون إحصاء كلي ، حيث يمثل النموذج أو الاتنين تجسيد هذه الظاهرة فى الديوان .
فى قصيدة ( وجه الرحيل ) وهى تلك القصيدة التى حملها عنوان الديوان ، فإننا نجد الايحاء واضحا بثنائية تكشف عن وجه التضاد بين الميلاد والموت، ولابد من تخيل دلالة العنوان ، فإذا كان المقصود بالرحيل الموت فإنه ضد الحياة، وإذا كان السفر فهو ضد الاستقرار ، وواضح أن هناك دلالات أخرى فى القصيدة ، حيث البداية والنهاية ، الشباب والشيخوخة ، الأنا والآخر . يبدأ الشاعر بقوله :
قُل لي مَنْ أنا ؟
.. مَنْ أكون ؟
وهل هذه المرآةُ صادقةُ ؟
حينَ تَظهرُ فيها تجاعيدُ وجهي ..
وعينايّ فيها شحوبُ العليلْ ،
وأرقبُ فيها ارتخاءَ الجفونْ ،
وهل هو آخرُ عمري ؟
وآخرُ خطوي ..
.. ومبتدئي في الرحيلْ ،
- أن نلمح منذ البداية هذا التضاد بين وجهه الآن الذى ظهرت فيها تجاعيد الوجه وشحوب العليل وارتخاء الجفون ليتساءل الشاعر : هل هو آخر عمره ؟ ومبتدأه فى الرحيل ؟ ولنلاحظ هذه الثنائية المتداخلة البداية الأولى لحياته مرحلة والرحيل مرحلة ، وبداية الرحيل مرحلة والنهاية مرحلة أخرى ، هذا التداخل يصنع نوعا من الصورة المركبة التى نقف أمامها بإعجاب. .
ثم يواصل الشاعر رصد هذه الثنائية حين يقول :
أهذا أنا ؟ أم غريبُ سوايّ ؟
تظهر ثنائية أخرى بين الأنا والآخر ، الأنا الحقيقية والآخر الموجود فى المرآة ، والمعنى هنا يشير إلى تلك الثنائية الكلية ، وهى الموت والميلاد البداية والنهاية واقتراب الرحيل .
وفى صورة أخرى من صور تلك الثنائيات فى القصيدة يقول :
فالرفاقُ استراحوا ..
ولاذوا بعالمِ صمتٍ جليلْ
والمحبونَ غابوا ..
وليس لعودتِهم مِنْ سبيلْ ،
هنا نجد ثنائية جديدة بين الغياب والعودة ، والشاعر هنا يماثل بين غياب المحب وعدم عودته ، وغياب الشباب وعدم عودته واقتراب الأجل ، وهنا نجد أن تلك الثنائية تصب فى إطار الثنائية الكلية .
وفى ثنائية مهمة من حياة الشاعر يبرز حالة المدينة التى يعيش فيها وتلك المدينة نفسها التى كان يعيش فيها سابقا ، حين يقول :
والبلادُ التي كنتَ تسكنُها ..
لم تعُـدْ تحتويكَ .
صرتَ عنها غريباً ..
لستَ تعرفُ فيها بهاءَ المواعيد ،
ولا تَستطيبُ بها الأمسياتِ ..
.. أو المواجيد ،
صرتَ عنها غريباً ..
تُنكرُ خَطوكَ فيها الشوارعُ ..
والميادينُ ... الحقولُ .
ولا يَستبينُ وجودَكَ إلا القليلُ ،
أنها مدينة لاتحفل به كسابق عهده إلى أن صار غريبا ، وهنا نلاحظ تعبيره بالفعل الماضى المشير إلى الزمن السابق ، مع المقارنة بالزمن الحالى وشكل المدينة فى العهدين والتغيرات التى طرأت على المدينة وأهلها بشكل عام وعن حالته هو بشكل خاص ، تلك المدينة القديمة التى كان يرى فيها :
أبنيةٌ زيَّنتْها نقوشُ الجمالِ .
و أصواتُ من حفروا في القلوبِ .. بهاءَ الحياة ،
وابتسامةُ وجهٍ برئٍ .. وبائعةٌ تستّهلُ الحديثَ بالدعاءْ ،
وتلك الأوراد في الصبـاحِ . وصوتُ المؤذنِ ..
.. جِلستُنا حينَ يجمعُنا في المساءِ ، .....طعامُ العشاءْ ،
وحينَ نُقبّلُ رأسَ أبيْنا ..
ودعوةُ أمٍ بطولِ الحياةِ . ....وحُسنِ البقاءْ ،
أين تلك المدينة بأيامها وحرارة العواطف لمن كان يعيش بها من بشر ، تلك المدينة تحولت وتغيرت ، كما يقول الشاعر :
البلادُ التي صرتَ تَسكنُها ... مدن من جليد .
ثنائية التبلد والجليد والعواطف الطيبة
وكأن الشاعر يبرز أن هذه البلاد اقتربت من نهايتها بهذا التحول ، كما اقترب هو من الرحيل بتحول شكله الذى تغير وظهر فى المرآة ، إنه يذكرنا بالشعراء الكبار الذين قارنوا بين القرية والمدينة ، ولكن الشاعر فى قصيدته يقارن بين مدينتين ، سواء كانت المدن حقيقية أو بين مدينة واحدة فى حالتين متفارقتين .
ثم يصل الشاعر إلى خط النهاية عندما يقول :
المدى ضاقَ .. والذي راحَ ليسَ يَجئُ .
ولم تبقَ غيرُ القبورِ التي . تَستطيبُ العِـظامُ زيارتَنا كُلَّ عامٍ ،
ونتلو بها سورةَ الفاتحة ..
كلُّ شيءٍ تبدَّلَ .... ملامحُ وجهي ... شحوبةُ عيني ..
البيوتُ ... الشوارع ُ
لم يبْقَ غيرُ انتظارٍ رتيبٍ .... لحُسنِ الختام ،
فنجد ضيق المدى بعد اتساعه ، وضيق القبور بعد فسحة الحياة ، ومن هنا تحول كل شيء إلى رتابة كئيبة بعد حركة دائبة انتظارا لحسن الخاتمة التى يشير إليها هذا الختام الجنائزى الذى يشير فيه إلى أنه لم يتبق غير القبور .
وهنا نجد أن القصيدة كلها بنيت على تلك ثنائيات التناقض بين الميلاد والموت ، البداية والنهاية ، المدينة فى ثوبها القديم والجديد ، الأنا والآخر ، كلها ثنائيات صنعت الإطار العام لثنائية كبيرة ، تكونت من مجموعة من تثنائيات متضادة ، تلك التي شكلت الصورة الكلية فى قصيدة : وجه الرحيل ، حيث ولدت هذه الثنائيات مع بداية القصيدة واستمرت معها حتى النهاية ، مما جعل القصيدة تسلك خطا دلاليا كاشفا ، ومعه يبدو التماسك النصي بارزا بين أجزاء النص ، حيث يظل المتلقى فى هذا الإطار دون الخروج منه .
القصيدة الثانية من القصائد التى تحمل فى إطارها العام ثنائية التضاد الكاشف للدلالة والذى يصنع تماسكا نصيا منذ أول القصيدة حتى نهايتها هي قصيدة : مكاشفة ، بداية توحى العتبة النصية ( العنوان ) بدلالة المغايرة ، حيث تعنى المكاشفة الخروج من حالة الغموض الذي لاتستبين منه الأشياء، إلا بعد تلك المكاشفة ، وإن كان الشاعر هنا قد وظف المكاشفة بطريقة عكسية ، حيث عادة ماتكون المكاشفة هي التحول من السلب إلى إلى الإيجاب ، أو تحول الأشياء التى تقع تحت المكاشفة من الحزن إلى الفرح والكآبة إلى البهجة ، لكن الشاعر صنع عكس ذلك كما سيتضح من النظر فى النص .
من خلال هذه العتبة النصية نستطيع القول بأن هناك تحولا من حالة إلى حالة مغايرة، من الغموض إلى الوضوح ، وهنا تبدأ الثنائية التى يظهر القصد منها مباشرة مع مدخل القصيدة ، حين يقول الشاعر :
ممزقٌ أنا ..
على حدودِ الموتِ والميلادْ
إن هذا امتداد للمكاشفة والتحول من حالة الغموض والوضوح إلى حالة الموت والميلاد ، تلك الثنائية الحياتية المجسدة فى الوجود الإنساني ، ولا يعيش الكون إلا بها ، غير أن الشاعر يرى – مع وجود هذا الاختلاف الكبير والتضاد الصارخ بين الموت والحياة – أنه لافرق بين الاثنين وأن الموت والحياة وجهان لشيء واحد عندما يقول :
أُودّعُ الذي مضى إلى دروبِ الموتِ
مُسرعاً .. في لحظةٍ..
لا فرق بين الموتِ والميلادْ ...... كلاهما صُراخ
فمع وجود هذا التضاد الحاد بين الموت والميلاد يجد الشاعر أنه لافرق بينهما ، فكلاهما صراخ ، فعندما ياتى الوليد إلى الدنيا نجده باكيا صارخا ، وعندما يغادر أحد عالمنا نجد من حوله فى حالة من الفزع والصراخ حزنا على من ودع ومات ، صحيح أن أحدهما جاء والآخر غادر ، لكن الصراخ قائم فى الحالتين ، ولم يكتف الشاعر بتلك الثنائية الحياتية الأزلية ، بل أتبعها بثنائية أخرى، فقال :
يا أيُّها المغامرُ الغريبُ ..
فهذهِ الأرضُ التي تجتاحُها ..
.. لن تحتويكَ ،
وهذهِ السماءُ لن تُظلكَ ..
.. أو ترتضيكَ ،
ويظن المتلقى ان الشاعر قانع بتلك الثنائية الوجودية التى تظهر بين حالة السماء والأرض ، ولكننا نجد أنه صنع بينهما تعادلا واضحا فى صورة الأرض التى خرجت عن طبيعتها فى عدم احتوائه ، والسماء التى خرجت عن إطارها فهي لن تظله ، ثم يفجؤنا الشاعر بالعودة إلى الموت والميلاد ليقول :
كأنّهُ موتٌ بلا ترقبٍ ..
ومولدٌ بلا انتظارْ ،
وأنتَ في سكونِ وجهكَ القديمِ ..
مغامرٌ تَقَطّعتْ بهِ السُبل ..
إنه يسوى بين الموت بلا ترقب والميلاد بلا انتظار ، وبين السماء والأرض فى الخروج عن طبيعتهما الكونية فى عدم الاحتواء وعدم الإظلال ، إن الشاعر يوظف التضاد في خروجه عن طبيعته ليكون أكثر جذبا للنص ، والتضاد الذى آمن به وجعله ختاما للقصيدة هو التضاد الحقيقى الذى آمن به حين قال فى الختام عن هذا الغريب الذى يمثل الشاعر ومن كان مثله :
تَفرّقَ الذين قد تَجمّعـوا مِن حولَه ..
- في العَـراءِ دونَ زادِهِ .. ودونما أنينْ .
فثنائية التفرق و التجمع هى الحقيقة الوحيدة التى آمن بها الشاعر الذى لم يجد ثم تناقضا فى تلك الثنائية الأخيرة التى أنهى بها القصيدة والتى نستطيع استبطانها إلى الحقيقة الكبرى الممثلة فى الموت ، حيث توحى الصورة الشعرية بذلك.
لو تتبعنا أمر الثنائيات الكلية فإننا سنجد قصائد أخرى مثل
الثنائيات الجزئية
ونعنى بها تلك الثنائيات المتفرقة فى ثنايا القصيدة ربما لا تتكرر أو تتكرر قليلا، لكنها لا تمثل إطارا عاما فى النص ، وهى نوعان :
1-ثنائيات مباشرة 2-ثنائيات غير مباشرة
فالثنائيات المباشرة تظهر دلالتها بألفاظها الدالة على التضاد المباشر ، كما فى مثل قول الشاعر فى قصيدة : مرايا النهار
ينامُ النهارُ على راحتيْها ..
ويصحو مُضيئاً كحدّ البراءةِ ..
يَستطلعُ الشمسَ من رحمِ المستحيلِ ..
هذه صورة جزئية داخل القصيدة تمثل ثنائية من الثنائيات الموظفة فى النص ، فبين ( ينام ) النهار و ( يصحو ) تضاد ، لكنه تضاد وجودى ، لابد منه ، ياتى ليلفت النظر إلى دلالته الزمنية ليصحو النهار فى حالة إشراق وغضاءة ، لكنه يستطلع الشمس باحثا عنها ازديادا لحالة الكشف والإبهار.
أما الثنائيات غير المباشرة فتأتى بين ثنايا النص ، يستطيع المتلقى لمحها من تأويلا لامباشرة ، ومثل ذلك ما نجده فى قصيدة : اشتهاء ، حين يقول :
ماذا تَبقّى من عذاباتِ السنين ؟
شبقٌ ..
ووجهٌ غائرٌ فيه انتظارُ اللارجــوع .
فالانتظار مرتبط بالمستقبل ، واللارجوع مرتبط بالماضى ، وبنهما تضاد دلالي واضح حيث عادة ماننتظر الذى يمكن أن يرجع ، اما انتظار اللارجوع ، فمعناه المستحيل، وهذه دلالة لافتة للنظر فى النص .
ومن تلك النماذج أيضا قصيدة : الحقيقة التى يقول فيها :
الحقيقةُ واحدةٌ ..
غيرَ أنَّ الوجوهَ التي تَتَلبَّسُها ..
عدةٌ .
- فمَنْ يملكُ الآنَ آخرَها ؟
مَنْ يَسلكُ الدربَ نحوَ الوصولْ ؟
عندها تستحيلُ الحقيقة ..
واجهةً للسؤالْ .
نستطيع لمح هذه الثنائية فى الوحدة والتعدد ، من ناحية ،والحقيقة والسؤال من ناحية أخرى ، حيث تكون الحقيقة إخبارا وتقريرا والسؤال إنشاء ، وهكذا يستطيع المتلقى تأويل هذه الثنائية الضدية دون وجود ألفاظ مباشرة دالة عليها .
ويأتى على هذا النوع صور كثيرة لن نتوقف أمامها فى هذا التطواف ،وتلك القراءة النقدية السريعة.
بهاء المطالع وإشراقاتها
إذا كانت العناوين من أهم العتبات النصية ، فإن مطالع القصائد هي المفاتيح الحقيقة للولوج إلى عالم النص من داخله ، وللمطالع جاذبيتها لو استطاع النص الإبداعي توظيفها بطريقة ملائمة ومثيرة وجاذبة ، والبلاغيون تكلموا عن ذلك فأشاروا إلى براعة الاستهلال أوحسن الابتداء ، وهى تدل على مهارة الافتتاح للعمل الإبداعي ، وتعد هذه المهارة وسيلة جذب للمتلقى ، حيث تفرض براعة الافتتاح أو الاستهلال على المتلقي الاستمرار فى قراءة العمل الأدبي ، أو مغادرة النص إن كان غير ذلك، ومن هنا إذا نظرنا إلى بدايات قصائد ديوان : وجه الرحيل ، فإننا سنجد الشاعر قد برع فى توظيف هذه المطالع توظيفا جاذبا للمتلقى بطرق متنوعة ، ففى قصيدة سيدة الميدان يبدأ الشاعر بقوله :
الليلُ طويلٌ سيدتي ..
وأنا أتململُ بين لهيبِ الرغبةِ ..
والحرمانْ ،
فقد بدأ الشاعر بخبر طول الليل ، مع حذف حرف النداء لكى لايطيل على المتلقى الفترة الزمنية للتفكير عن الأثر الذى نتج عن طول الليل ، فبادر بالقول :
وأنا أتململ بين لهيب الرغبة والحرمان ، ثم أردف ذلك سريعا بمجموعة من مسببات ومظاهر التململ بقوله :
أتسمَّع صوتَكِ في أذني ..
- عينيكِ الصافيتين .. بلونِ الطهر ..
- - حينَ تطايرَ شعركِ – مشدوهاً . بعبيرِ اللحظةِ واللمعانْ ،
كل ذلك فى أبيات شعرية متلاحقة سريعة ، تجذب القارئ بين السؤال والإجابة مستمرا فى رصد بعض المفارقات ورصد الفرق بين الحاضر والماضى فى صور شعرية سريعة ، مما يجعل المتلقى مشدودا منذ بداية النص حتى آخره.
وفى قصيدة : مكاشفة يقول الشاعر :
ممزقٌ أنا ..
على حدودِ الموتِ والميلادْ ,
معلقٌ على ساحاتِ ملككَ القديمِ ..
- ... ولا جوادْ ،
وواقفٌ على حدودِ الأرضِ والخرائطِ ..
محاصرٌ من دونِ زادْ
نجد الشاعر بدأ بوصف حالته الماساوية مطيلا هذه المرة ليعمق المأساة فى المتلقي ، ولذا كانت إطالة الوصف هنا مقبولة، ولعل تقديم الخبر ( ممزق ) على المبتدأ ( أنا ) منذ البداية يصنع جذبا للمتلقى ويلفت الانتباه إلى تلك الحالة المأساوية لهذا الغريب الذي تأخر الإفصاح عنه بعض الوقت تشويقا لمعرفته.
وفى قصيدة : سقطت جميع الأقنعة يقول الشاعر:
- في لحظـةٍ يتبـدَّلُ التـاريخُ
والألــوانُ .... والأسماءُ .
وتعــودُ ملءَ سمائنا ...
تشدو طيورٌ قــد نسينا أنــها ..
هجـرَتْ نخيـلَ بـلادنا ،
يوحى مطلع القصيدة بالمباغتة والمفاجأة ، مع ملاحظة أن التاريخ لا يتغير فى وقت قصير ، فما بالنا بهذا التغير التاريخي فى لحظة .
ثم يكرر هذا المطلع مؤكدا له قائلا :
في لحظةٍ فاضـتْ بحـورُ الشـــعرِ
فــي دمنا ،
وكنتُ أظنـُّها جفـَّـتْ ...
كما جــفَّ السؤالُ المــرُّ
فـوقَ شفاهنا ،
إذا ربطنا بين هذا المقطع وحياة الشاعر، تلك الحياة التى جف فيها قول الشعر ،فإننا سنجد أن تلك اللحظة التى فجرت القصائد هى لحظة مباغتة ، وربما جاءت بعد يأس أن يعود شيطان الشعر إليه .
ويبدو أن المباغتة تحمل دلالة مهمة فى القصيدة فنجده يقول فى المقطع الثالث :
في لحظةٍ خرجتْ ملايينٌ ..
تشقُ الصمتَ ..
تطلقُ صرخةً مكبوتةً ..
شقتْ ظلامَ الخوفِ .. ..
... عبْـرَ سمائنا
إنه يؤكد أن خروج الملايين أيضا كان مباغتا عبر تلك الثيمة اللفظية التى وظفها فى النص ، فكان المطلع مؤسسا للدلالة العامة للنص ، كما كان جاذبا ومشوقا لمتابعته.
وفى قصيدة : وجه الرحيل بدأها بقوله :
قُل لي مَنْ أنا ؟
.. مَنْ أكون ؟
وهل هذه المرآةُ صادقةُ ؟
هذا المطلع يحمل ثلاثة أسئلة تدل على التحير والبحث عن الذات ، ويبدو أن الشاعر أراد أن ينقل هذه الحيرة من داخله إلى المتلقي ، فأوردها لتكون مطلعا جاذبا للبحث عن إجابة ، وهذا يجعل المتابعة ضرورية لمن بدأ فى قراءة القصيدة.
توظيف الأصوات
يؤكد نقاد الشعر أن الشاعر الموهوب يوظف الأصوات فى قصائده توظيفا يليق بالدلالات المقصودة ، طولا وقصرا تتابعا واسترخاء ن مما يمثل ظاهرة فنية عند الشعراء الذين تأثر بهم الشاعر ، مثل أمل دنقل ومحمد إبراهيم أبو سنة وفولاذ عبد الله الأنور ، ويبدو أن التأثر من هذه الزاوية له نصيب كبير فى هذا الديوان ، ففي قصيدة : سيدة الميدان ، يقول الشاعر :
الليلُ طويلٌ سيدتي ..
وأنا أتململُ بين لهيبِ الرغبةِ .. والحرمانْ ،
- صوتَكِ في أذني ..أتحسّسُ عينيكِ الصافيتين ..
بلونِ الطهر ..
أتعلّق - حينَ تطايرَ شعركِ – مشدوهاً ..بعبيرِ اللحظةِ واللمعانْ
حيث جاءت كلمة ( طويل ) بطول حروفها جاءت لتعبر عن مأساته فى الأرق المستمر وعدم النوم ، هذا الطول الذى نتج عنه مجموعة من الأوصاف التى نتجت عن هذا الطول والتى أراد الشاعر أن ياتى بها سريعة ومتلاحقة اتخذت طابع السرعة ، ولهذا جاءت دون استخدام أصوات لغوية طويلة ، منها :
- ( أتململ ) بما في الفعل من تكرار صوتى يتناسب مع التململ وتكراره وسرعته عند الشاعر
-(أتسمع صوتك) هذا التسمع الذى يدعو إلى تخيل اللهفة التى تتناسب معها الحروف القصيرة
-( أتعلق ..... بعبير اللحظة ) هذا التعلق الذى يدل على القوة التى تتنافى مع رخاوة الأصوات
مع ملاحظة أن هذه الأوصاف جاءت فى صورة الفعل المضارع الذى يدل على آنية الوصف واستمراريته واستحضار الصورة فى الذهن ، كما أكد البلاغيون القدماء ذلك كثيرا، حيث جاءت هذه الأوصاف فى تتابع واضح يحتاج إلى أصوات قصيرة.
بالإضافة إلى كلمة ( طويل ) نجد ( سيدتى ) بما فيها من حرف مد ( الياء) الدال على الإحساس بالضراعة إلى المرأة، و( الحرمان ) الذي يطول بطول أصوات الكلمة ، ويعمق الإحساس لدينا بحالة الشاعر البائسة .
القصيدة البرقية
وردت فى الديوان مجموعة من القصائد التى تمثل البرقيات فى حجمها القصير، اتسمت بالتركيز والتكثيف لفظا ودلالة، وهي ثلاث قصائد : الحقيقة، اشتهاء، براءة، حيث تراوحت القصائد بين أربعة أبيات وسبعة أبيات ، وجاءت أبيات كل قصيدة فى صفحة واحدة ، والدليل على انتباه الشاعر لهذه القصائد أنها جاءت كلها متوالية، دون فاصل بقصيدة أخرى ، وقد تناولنا قصيدة : الحقيقة من قبل ، وأشرنا إلى قصيدة اشتهاء ، فى الثنائيات غير المباشرة ، أما فى قصيدة : براءة فيقول فيها :
وجهُ طفلٍ ..
غيرَ أنَّ السنين التي أوجعتْ قلبه ..
جعلتْ من وجهِهِ قلبا .
ومن قلبِهِ وجها .
حيث نجح الشاعر فى المزج الواضح بين الشكل والجوهر ، الظاهر والباطن ، الخارج والداخل ، وقلبت موازين الأحكام الإنسانية ، فقد حول الوجع القلب إلى وجه ، كما حول الوجه إلى قلب ، ونلاحظ بناء القصيدة على ثنائية نصية واضحة ، وإن كانت ليست ثنائية التضاد، فهى ثنائية التنافر بين الوجه والقلب وما يستتبعه من دلالات التحول الذى يقصده الشاعر.
العتبات النصية
أما عن توظيف العتبات النصية فى الديوان، فبقدرمهارة الشاعر فى توظيفه لها ، بقدر إخفاق العتبة الرئيسية للديوان ، وهى عنوانه : وجه الرحيل ، والحقيقة لم أكن متعاطفا مع العنوان : وجه الرحيل ، وأظن العنوان قد قلل من انسيابية المعنى وإطلاقه ، فتقيد الرحيل بالوجه لم يعطنا هذا الفضاء النصي الوسيع ، حيث قلصت كلمة الوجه هذا الانسياب الدلالي الذى نجده إذا أطلقنا على العنوان كلمة الرحيل فقط ،ربما كانت كلمة الوجه مضافة إلى الرحيل فى القصيدة أكثر توفيقا حيث يرتبط الوجه هنا بذلك الوجه الذى رآه فى المرآة ، لكن عنوان الديوان ينبغى ؟أن يعطى فضاء نصيا اكثر رحابة واتساعا وشمولا ، ولعل ذلك يتشابه مع عنوان الديوان الثاني للشاعر ، حيث كان عنوانه : أوراق يومية مهملة ، فقد تسببت كلمة (يومية) بتقييد المعنى وقصور الدلالة ، فأضعف من دور العتبة النصية إضعافا واضحا ، حيث قيدت كلمة ( يومية ) هذا الفضاء النصي المتخيل ، ولو تركت الأوراق المهملة بدون كلمة يومية لكان الفضاء النصى أكثر شمولا وعمقا واتساعا وأعطت للمتلقى فسحة واضحة من التخيل .
ملاحظات كتابية
=فى قصيدة سيدة الميدان جاء قول الشاعر :
وأنا أترقّبُ خطوكِ ..
مأخوذاً بهاءِ اللحظةِ كالأطفال ،
ربما كانت ( ببهاء ) بدلا من بهاء حتى يستقيم الوزن
= فى قصيدة مكاشفة ، يقول الشاعر :
تَفرّقَ الذين قد تَجمّعـوا مِن حولَه ..
وصارَ في العَـراءِ دونَ زادِهِ ..
ودنما أنينْ
ربما كانت ( دونما أنين ) فواو دونما ناقصة
= فى قصيدة : ظلال الرحيل .
أولا : أحيي فيك وفاءك للشاعر الراحل فاروق شوشة ، وكان شاعرا يستحق الكثير
ثانيا : يقول الشاعر :
أغلقي المذياع يا بُنيَّتي ..
ليسَ ثمةَ ما يُسمعُ الآن ،
فقد فاجأتنا ظلالُ الرحيلْ ،
وغادَرَنا صوتُ مَنْ كانَ يحملُنا ..
نحوَ زهْـــوِ العصــورِ
حاولت ترويض البيت الأول وزنا ليتماشى مع وزن القصيدة بالخرم أو بالخزم أو بالحزم .... ولكنه لم يستقم لى ، وقد ورد هذا البيت أيضا مكررا فى آخر القصيدة ، دونما قدرة على الترويض .
أغلقي المذياع يا بُنيَّتي ..
أغلقى المذياع
- كما ورد أيضا فى القصيدة نفسها قول الشاعر
فهذهِ " لغةٌ مِن دمِ العاشقينَ "
وأيضا انفلت هذا البيت من حلبة الوزن الشعري ، ويبدو أن الشاعر كان حريصا على تضمين القصيدة بعض عناوين الشاعر فاروق شوشة ، بالنص نفسه على سبيل التضمين ، دون مراعاة للوزن
-كذلك ورد قول الشاعر :
وتحفظ ما يتبقى من الشعرِ ..
.. من زمنِ الراحلينَ ،
وأنتَ - على سُدةِ القولَ– تأخذُنا
بنصب كلمة القول ، وهى فى حالة إضافة ، وهذا كله من قبيل الأخطاء الطباعية ، وهذا لايقلل من قيمة الديوان فنيا .
تحية للشاعر أحمد عبد الفتاح الذى أمتعنا بصحبة درره فى ديوانه : وجه الرحيل