تقدم هنا، محررة الكلمة الباحثة والمترجمة المرموقة، شاعرا ورساما ومترجما كوبيا من أصول لبنانية، فياض خميس (1930-1988) صاحب "هذه الحرية" وأحد الأصوات الجديدة في الشعر الكوبي الحديث، شعرية تمتزج بميسم سوريالي وخيال خصب خلاق بكينونة منفتحة وحوارية داخلية تعطي لنصوصه سلاسة في القبض على المعنى، وانفلاتا في الوصول الى الدلالة وهو ما يؤشر على توالد نصوصه وانفتاحها على التأويل.

بلا عنوان

فـيّـاض خميس

ترجمة أثير محمد علي

في مساءات الوحيد، كثيف الريح يشتد والجدران تُصيّرُ إيماءة الغبار ودخول المخاوف والطيور رشيقةً؛ النور يتلبد مَلْجوماً عند الأبواب -إن وجدت- وفقط بين الفينة والأخرى يُترَك لقطرات ذهبية طفيفة أن تتهاوى في الشقة.
الوحيد لا يتحرك لأنه من كثرة التفكير لا حول له وعظامه تجذبه نحو الأسفل بثقل معادن مجوّفة أضحت بلا نار ولا بكرات رافعة. الوحيد يتطلع إلى السقف (يكاد يستلقي على ظهره باستمرار) ومرة تلو الأخرى يحصي صفوف العوارض الخشبية القذرة المتعفنة التي تغطيه. عشرون. عشرون. ويتلاعب عقله بالرقم كما لو أنه كرة طاولة. أي جسد يأمله الوحيد في هذا الغياب؟ ما من صور شخصيّة لديه على الحائط، كل ثيابه ليلكيّة والذقن يتجاوز الشبرين. في المحبرة ثمة ماء صراح وجميع الأوراق تحتوي في مركزها على ثقب واسع بهيئة وريقة سباتي. عديد من بطاقات الكوتشينة مبعثر على الأرضية وما من بطاقة تظهر وجه العهد والرجاء. كم هو وحيد الوحيد!


إلا أنه لا يدري بشعاب وحدته، فمن كثرة الانتظار على هذه الشاكلة، مضجعاً على خوان من خرق وأسلاك نوابض، اعتادت مقلتاه على التلبّث والنظر في ذات الشيء، بينما لا تُحرك شفتاه الزرقاوان -رمادية مزرقّة- ساكناً سوى التمتمة على مدار الساعة:

"عشرون... عشرون".


مقطوع الرأس اسم هذا الدخان الذي يدلّيني. آه يا دابتي، يا مطيتي مقطوعة الرأس. ما الذي كنت أحلم به حينما خضت غِمار تلك الضبابة؟ فجأة أولي الأدبار في قطار خبز عبر الشبابيك. فجأة أقفز في نظرة، يعضني صهيل ما، فأهرول بين الخرائب. يا يوماً مقطوع الرأس، يا رماد وجه آخر، فقط أعلم أني أتقدم على الدوام بعينيّ التائهتين في عُرفِ الفَرَس.

هيّا هيّا، جَوَاد، حجارة، دخان، شِعر!

إني هائم على وجهي بين عوسج السهل ملعون الأم؛ مجنون وسط صخب المدينة، التي تلوذ جدرانها بالفرار أحياناً على عجل نحو السماء، نحو الجنائن، نحو روحي. هذه نافذةٌ، وهذا بوقٌ شخيرٌ من سيارة، وهذا جناحٌ مدمى لحمامة مطوقة ميتة في لحظة تأوهها الأكثر نداوة. الشيء بالشيء يختلط؛ ويقبل نحوي؛ ما الذي يَهُمّ من كل ذلك حين أنفض عني النجوم وأمسك بالزمام كي أتابع.


هيّا هيّا،

صمت،

جنرال،

شجرة،

شِعر!