منذ ذلك الانقلاب على المؤلف الدرامي فسح المجال لمخرجين عبر العالم و عبر التاريخ لا يحصون عبروا الأركاح في صمت كموظفين عاديين في مسارح؛ لكن المخرجين الحقيقين هم هؤلاء الذين شغلوا مساحة شاسعة على الخشبات بإشراقاتهم كما شغلوا النقد و الدرس المسرحيين بنظرياتهم و فهمهم الخاص لمتخيل يكتب بمداد أخر؛ حيث احتفظت ذاكرة المسرح الغربي بأرتو؛ وبريخت و منوشكين و بروك مثلما احتفظت ذاكرة المسرح العربي بجواد الأسدي؛ و فاضل الجعايبي؛ الطيب الصديقي؛ ضيفنا اليوم د. عبد الواحد عوزري من هؤلاء؛ الذين ارتقوا مدارج علم المسرح قبل أن يرتقوا الخشبات؛
خرج من قبيلة المسرح هنا؛ ضاربا في أرض أخرى خلقت للمسرح؛ جرت مياه كثيرة تحت الجسر؛ جسر النهر السين طبعا ؛ تكوين أكاديمي وورشات وعروض بلغة موليير في حين جرت الرياح بما لا تشتهيه السفن هنا ؛حتى إذا عاد وجد الحال على ماهو عليه؛ نهاية مسرح جمالي مؤدلج (مسرح الهواة) و فتور صولات الصديقي؛ كما انتهى برشيد على الرغم من حضوره الاحتفالي المتوهج إلى سجال موصول بتشكيك النقد في احتفاليته و رسوخها أمام نظريات وافدة اقتصر تصريفها أكاديميا على المسرح الجامعي. حتى إذا استوى حلم عوزري من أول عرض كبر حلمنا كمتلقين بهذا المسرح الذي سيشكل انعطافة حقيقية لمسرح منتظم وناظم حوله لسمفونية عزف مسرحي في زمن عزوف مسرحي بائن.
كانت بداية عوزري بعرض موسوم ب"حكايات بلا حدود" للشاعر الماغوط؛ بلا حدود في الزمان أو المكان ؛ و بلا حدود في الخيال ؛ و لا حدود للخشبات وهي تتوهج على امتداد خريطة المغرب بمسرح جديد؛ حاضن لكل الأجناس و منفتح على كل لغات البوح؛ من شعر و زجل و رواية و حكاية...من الماغوط إلى صنع الله ابراهيم؛ اللعبي لمسيح ؛بهجاجي...جان جنيه ؛ميشال ماني؛ جان بيير سيمون بل لكل من لهم باع في النصوص و لهم رسوخ في محاكاة الشخوص.
- ليبقى السؤال:
هل قدر المسرح و المسرحيين الكبار عندنا أن ينتهوا بعد توهج إلى كتابة سيرهم الذاتية مشبعة بالحنين لزمن لم يطل؟ حيث يشكل تقديم عوزري لكتابه تحت هذا العنوان : "أما قبل" إشارة سميائية لارتهان ما يأتي بما قبل على عكس المتداول في الرسائل" أما بعد" المؤشر على هذا الانتقال نحو صلب موضوع الرسالة الذي يحبر في حيز المابعد؛ لكون رسالة عوزري المسرحية هي ما قبل ؛هي هذا المسرح ؛مسرح اليوم الذي غدا أمس؛ هي هذه التجربة التي تبدو اليوم من خلال هذه الكتابة الآن كرجع صدى لذكرى مائزة ؛يعبر إليها د.عبد الواحد عوزري بالنبش في مايؤول إليه مسرحنا ليس المسرح الذي يعني عوزري /مسرح اليوم الذي انخرط فيه و توهج ؛بل في هذه الرمزية لمتردم بناية اسمها المسرح البلدي بالدارالبيضاء؛ و كأني بعوزري يقول ما الذي نبنيه و نحلم به في غياب فضاء للمسرح؟ ثم ما جدوى صنع الحلم أمام صناع الموت؟ يذكرني هذا ب"الحكواتي الأخير" لعبد الكريم برشيد الذي تحول إلى لعب مسرود بعد أن كان سردا ملعوبا في الساحات و الأفضية المحاصرة باسمنت المجلس البلدي؛ ثم بما آل إليه المجال الأخضر من طرف أعداء الحياة في "كتيبة الخراب" لعبد الكريم جويطي....
على مستوى الموضوع ينتظم مشروع البحث عند عوزري وفق مقاربة لمنجزه من الداخل منظورا إليه بعين المخرج الدراماتورج في علاقته بمدونته الفرجوية؛ استشرافاتها وإكراهات تصريفها داخل محيط حاضن أحيانا ولا فظ أحايين أخرى وهو ما يطرح سؤالا عريضا حول مسوغات هذه الكتابة؟؟ هل نلتجئ إليها لملء لفراغ الذي يخلفه خذلان الآخر( الناقد) أم أن عوزري من خلال هذه المقاربة يستشرف بعدا آخر لن يستشرفه الناقد أو الباحث إلا بالانتساب للتجربة و الانتماء إليها بإحساس من الداخل؛ قبل الابتعاد عنها مسافة لمقاربتها موضوعيا من خارج؟
مقدمة ممهورة باسم ثريا جبران التي قدمت لعوزري مساحات تنزيل حلم عروض ظلت هاربة لتستوي منجزا باذخا؛ تقديمها للكتاب على امتداد حيز الحبر هو امتداد لتقديمها مساحات للضوء على امتداد العروض؛ و ضمن هذا الحيز تكشف عما عاشته و عوزري من انشغالات كبرى متصلة بحلمهما المشترك في تنزيل حلم مسرح ينتصر للجنون الذي يقول الحكمة؛ ثم كشاهد قريب من انشغالات عوزري الأكاديمية و التي أثمرت كتاب أطروحة موسوما بالمسرح المغربي ؛بنيات وتجليات؛ ثم ثمرته الثانية كتاب تجربة المسرح؛ حيث تشكل شهادة ثريا كقارئ للكتاب أو لمسودته ؛ تلقيا أوليا قبل المتلقي المفترض؛ وهو ماتزكيه بمؤشرات ميتامسرحيه عابرة نحو الكتاب مثلما تكشف عن الوعي النقدي لثريا جبران ص6: وهو الوعي الذي لا يبدو غريبا أو عزيزا على فنانة بثقافة شمولية...