يتكرر وجع المنفى في قصائد الشاعر الفلسطيني المغترب، وتصبح صور الذاكرة حاضرة بقوة حين ينسج منها الشاعر لحظة راهنة آنية لكنها مسكون بانجراحات الذات، خصوصا حين يصبح الاغتراب مضاعفا والحنين الى تربة الوطن ألم موجع يجعل من الحياة بدون معنى، والعائلة شجر يتبقى متجذرا ينتظر لحظة أمل ولو بعد حين.

قصائد المنفى

حسن العاصي

أحدثك عن وجع الحقيبة

لم أكن أحب معلم الرياضيات

لأنه يكْسر صور الأحبة

ويعادل أجنحة المراكب بأشرعة البجع

يدسّ جذر الريح الشارد

ثم يضع أسماء الموتى في جداول

يبتدع نظريات بفوهات صمّاء

تضيق على عيون الصغار

ويحمل مسطرة طويلة

تصل إلى رؤوس التلاميذ

يشرح لنا عن مثلثات

برؤوس متجردة من حقولها

أضلاعها مثل شجرة هرمة

وفمها طوابير من الجراد

كان يقيس المسافة بين الكرّاسة وتعب القلم

بوتد من رحم كسيح

ولا أحب أستاذ الجغرافيا

يرسم بحوراً لا ماء فيها

ولا أغصان حانية

يخبرنا عن مدن تعوم فوق شقائق النعمان

وعن فصول ممزقة الأسمال

تستجدي حزمة من مطر

يقول لنا حين تسقط أوراق النهر

يجن الخريف ويموت الخبز

حينها يقضم الغيم وجه النهار

لا تخافوا إن ألقت العاصفة في صلب الكثبان

قمحاً بلا قوافل

ولا مدرس العلوم العجوز

يخلط بالقارورة صوت الضوء المتربّص بالنهر

برائحة التوت المثقوب

وفي كل مرة تختنق شرنقة الماء

كانت يده مبتورة

قال مرة لا داع للعجلة

الطحلب الأصفر سيزاحم الشمس البكر

إذا ما نضج السور

وغفى النور على كفّ الأفق

أكثر ما كرهت معلم الرسم

وهو يصوّر في الأعشاش أسماك بأجنحة

ويرسم ستائر بلا نوافذ

حين رسمت عربة نقل الموتى

وضعت فيها صناديق من التفاح الأبيض

صفعني على مؤخرة رأسي

شاهدني مرة أرسم رجلاً يصلّي

عارياً بلا ملامح

صاح يا عبد السوء

وطردني من الحصة

أستاذ اللغة العربية كان يخيفنا

يصرخ دون مقدمات

لم يكن من حاجة لهذا المعول

هذا الحطّاب لا اسم له

ورأسه سادر بلا حول

معتقلين كنّا لا طلّاب ولا أطفال

لم يكن أبي يصدّق إني كسول

وإني لا أحب المدرسة

حين يسألني عن أسماء الأولياء

أعدّد له أغصان المدينة

أقول الحروف مصابة بنضح من وجعها

أصبحتم تعلمون ما كان يفعل

وأنت لا تطلب مني كتابة قصائد عن الحب

ولا عن الحبيبة الوفيّة

لم أكن أبداً أتحدث عن المدرسة

ولا عن أبي

كنت أحدثك هنا فقط عن وجع الحقيبة.

 

يعود الشجر إلى البحر

أبداً لم يكن والدي رجلاً رومانسياً

لم نراه يحضر يوماً وردة لأمي

لكنّه يحضر الكثير من اللحم

أمّي تصنع بوفرة الخبز والكعك

تظلّ ترقب درب المدرسة

حتى لم تعد ترى المسافة

والصغار ينتظرون صباح العيد

تتوضأ أمي بالطحين وتعصر أكمام القِدِر

تمسح أشلاء النهار بأطراف ثوبها

تفرش تعبها وتصلي

وتعود إلى الصكوك العسيرة

ترتّل أورادها وتتهيّأ للظمأ

ونحن مثل كرات زجاجية صغيرة

نتدحرج بين أكياس السكّر وأقدام العمّات

وأكوام اللحم

والدي رجل ضخم البنيان والقلب والإيمان

يشبه طاحونة قديمة

يحلّق مثل أذكار الخشوع

كلّما أكل لحاء القمح نيئاَ

يطوف مثل قائد حربي

كلّما علا صوت المئذنة

ويحصي أطراف العباد

يُحبّ طهي اللحم وإطعامه

يهبُ الأسماء وريد الخبز

ويقرض كفّ اليتيم

تضيق السلال على المواسم

وتتوهّج عيون القوم

اللحم وافر

تفيض الغِلال على المريدين

يبتسم أبي مثل وجه النهر

تمعن الأفواه في افتراس اللحم

يبتسم والدي أكثر

وكلّما تنسّم جارنا الرائحة

يأتي ليلقي التحية

والقوم لا يخرجون إلّا ويعودون

لم أرث حبّ اللحم

أورثني وحشة بأنياب

وأرق الاتجاهات

أبي لم يكن رجلاً رومانسياً

بل رجلاً شيخاً عنيداً ً

وكان يضربني كثيراً

لكنّه رجل جَوَّادٌ معطاء

بقلب يشبه ورق الورد

يُطعم كرز عينيه لمن يشاء

كان يناديني من حيث لا أرى

ويراني من حيث لا أسمع

وهكذا ظلّ هو كفاً بارداً

على حدود الوجع

وبقيت أنا أطوي المسافات

لا يستقيم اليراع مع أنامل الراعي

يقولون حين تهرم الغابة

يعود الشجر إلى البحر

ما زلت أقف على فوهة الرمل

لا يطاوعني قاربي

لكنّني أحرّك الماء المرتبك

وأوْصد تقاطيع الشراع

كلّما سمعتُ دبيباً أو ثغاء

 

أنتظر قلبي أن يكبر

بعناد باتر أمها ترفضني بشدّة

الفتاة التي أحب

تقول ابنتي غصن من أهزوجة

حسناء مليحة بجدائل تمتد بين هودجين

خدّها معتق بفضة القمر

وخلخالها من زهر الرمان

أنت شاعر أشعث بقلب صغير

وتمرك لا يؤكل

قلت خذي فرحي وساعة الشروق

حدقة صراخي ولون نخيلي

خذي قصائدي ونكهة أصابعي

لو شئتِ ما أرقت وجهي

قالت عند عتباتنا تُقرع الكرامات

أنا أَهبُ الفصول ولادتها

لا ينفع معي مطر ولا بشر

فلا فرح لكَ ولا شجر

احترت في التأويل استشرت وسألت

أما من كوة تفضي خارج هذه المشنقة؟

قالوا بلا أمل تُبحر أشرعتكَ

كل الجهات تشهق حمماً

سيظلّ حزنك جاثماً كشرنقة فقدت أجنحتها

سألوني ما بالك والنساء تصدح

أريم القبائل هي؟

أجبتُ بل شامتها

لا تشبهها القصائد المعلّقة

ولا جداول النرجس

هي وجه العيد العائم لحظة الغروب

منذ نيّف وسبعة مواسم

صدفة التقيتها

امرأة ببراعم خمرية

حبّة خزامى تلاحقها البساتين

همتُ بوجدها

ونامت غيمة على نهر قلبي

في جنون التفاح سقطت

وأنا أنتظرها

ذات رمق يحترق

وأنا على بعد خسف أنتفض في وقتي المغلق

لا فرار للخطى من دربها

احتجبتْ في بهجة البياض

امتشقت الحبيبة من جوف الهاوية رمحاً

وأمعنت في خاصرتي

تقول أحبكَ يا وليفي ولكن

ينتظرني رجل آخر

وأنا أسقط تحت اللحاف آخر الليل

كل يوم لاصطياد الغفوة

يخرج قلبي من تُرعته فوق الغطاء

يرتدي برقعاً من أسلاك شائكة

خلف السائل الأحمر يسترق النظر

بعينين تكبلهما خدوش رطبة

وأقدام تتعلّم الفطام

يبحث عن لبّادة العشب

أغطّي يقظتي وأُغمض فراشي

كي تغفو فوق الهوّة شِدّتي

لكن أرق الفراش يرميني كل ليلة

من أين يأتي كل هذا الحب؟

من أين لقلبي هذا الطفل العاشق؟

لو أن شغف الإبحار يعود

انتهى العرض

داهمتني الألوان البالية

لا تنسوا ترتيب التفاصيل الراكدة

في الخفق النازف جرحاً متوثباً

أنا وحدي وهذه الأضلاع نتلوّى

مثل قطعة وجع في سلّة ملح

بلا سبيل بلا تمر

وبلا حبيبة

أنتظرُ قلبي أن يكبر.

 

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك