يصور القاص العراقي سمير غالي لحظة من اللحظات التراجيدية في الحرب والأضطربات المجتمعية، ففي خضم انتفاضة على وشك القمع يقدم الثوار على تصفية الخصوم في بيوتهم قبل الإنسحاب، فيركز الكاتب على الأبعاد المأساوية الدفينة لعملية القتل بالرغم من طبيعة الصراع الدموي.

إعدام

سمير غـالي

دخلت قوات المدينة المنورة الى البصرة. أدركنا بغريزة ذئاب جريحة ان المعركة انتهت. فانسحبنا الى الجامع الكبير ــ آخر معاقل الثوار وسط الابلَّة ــ ونشرنا في الطرقات المؤدية اليه، عشرات الفتية المستميتين .

كانت الأوامر التي جاءت من المسجد تطالبنا بتصفية ما امكننا من البعثيين قبل مغادرة المدينة، فتشكلت على الفور مجاميع صغيرة راحت تجوس في أزقة البصرة وأحيائها الراقية.

طرقنا باب أحد المنازل، كنا خمسة، والكهرباء كانت مقطوعة، وقد تأخروا في فتح الباب . زعق أحدنا مهدداً بنسف الدار، فلمحنا خلال ثقبٍ أحدثته رصاصة، أمرأة تحمل سراجاً وقد تشبثت بذيل ثوبها طفلتان.

ـــ زوجكِ موجود؟

لم تجب . ظلَّت صامتة . مد أحدنا يده الى احدى الطفلتين . راح يداعب شعرها فابتسمت . كانت بيضاء بعيونٍ خضر، وفي أُذنيها قرطين على شكل رأس قط معلَّق من أذنه الى أذنها بحلقةٍ من ذهب وقال لها:

ـ الله .. ما اجملهما، من اشتراهما لكِ

ـــ بابا

ـــ وأين هو ؟

ـــ انه فوق السطح، وبيده مسدس طويل.

أخذنا المرأة وطفلتيها الى داخل المنزل، كانت الصالة معتمة، وقد تبينت على ما رشح من ضوء السراج صورتان على الجدار. أحداهما لصدام حسين، يلبس ثوباً عربيا وعلى رأسه عقال وبيده سكيناً، يقطع بها ثمرة رقّي الى عدة أهلَّةً حمراء . فيما كانت الصورة الاخرى للامام علي، وهو يجلس على أسدٍ مهيب، وقد أراح سيف ذو الفقار في حجره.

أمرنا المرأة وطفلتيها أن يدخلن الى غرفة النوم ويوصدن بابها. وصعدنا السلَّم المكسو بالمرمر الى السطح. "لايمكنني نسيان ذلك البكاء الذي لحقنا، لم يكن مجرد بكاء، كان نشيجاً لايمكن وصفه، شيئاً ثقيلاً يغلي في القلب، ويندفع بقوة البخار في مرجل قطارٍ قديم، ولا يجد فماً مفتوحاً ليخرج منه، فيرتطم بالاسنان المصطكة ليتقهقر الى القلب، ثم لايلبث ان يشعر بالعار لضعفه، فيعاود الكرَّة ليجد شفاهً أطبقها الخوف، فيتبدد عبر ثقوبٍ لم تخلق للبكاء، لينفذ دون خجلٍ من وجود الطفلتين".

فتحنا باب السطح. كان واقفاً بانتظارنا، رجل بلغ الستين، أصلع، وثمة شعر اشيب يغطي فوديه، يلبس بيجاما بيضاء مقلمة بلون التراب، وفي يده مسدس برونيك 13 عيار 9 ملم. خفنا انه سيطلق النار، لكنه ظل جامداً مكانه. قال له أكبرنا سلِّم سلاحك، فطلب منا ان نقسم له بأن لانؤذي أسرته. حلفنا له بالعباس على ذلك . دفع بالمسدس الينا فتلقفناه فرحين، واقتدناه الى وسط السطح قبل ان نطلب منه الجلوس بمواجهة السياج المشرف على الشارع. وعندما اردنا شد وثاقه أبى، وطلب منا ان نترك يديه حرتين، لانه يريد ان يدس اصبعيه في أذنيه كونه يخاف صوت الرصاص. فسمحنا له بذلك، وألقم أحدنا بندقيته وصوب فوهتها نحو رأسه.

لم أستطع متابعة المشهد. أدرت وجهي نحو ليل المدينة. كانت البصرة تتدثر بظلام رهيب، وقد غطاها آذار تلك السنة بغيومٍ سوداء ثقيلة، فيما كانت نوافذ البيوت البعيدة تومض وتنطفيء بأضواء شاحبة. وسمعت صوت اقدامٍ تصعد السلَّم فجهزت سلاحي، وبحذرٍ نزلت سلمتين، فلمحت طفلة الاقراط الذهبية تحمل ذات السراج، وبيدها كيس أسود. نزلت اليها حتى التقينا منتصف السلَّم وقالت: عمو، ماما ودَّتلكم تمر وخبز، وتقول لكم ماعندنا غيره.

حاولت ان الحق ابيها، ان امنع موته، لكنني تعثرت، تبولت على روحي وتعثرت، وقبل ان اصل باب السطح، مزقت بكارة روحي والى الابد .. طلقة روسية غاضبة .

قوات المدينة المنورة: أحدى تشكيلات الحرس الجمهوري العراقي عام 1991

الأبلَّة: أحد أشهر الأحياء الشعبية وسط البصرة .