فى البـداية:
رواية كبرياء الموج رواية يصعب على القارئ المتأمل التحرر من سلطانها، فلا شئ محايد فى هذه الرواية الفريدة، فهى أنشودة شجية فى تصوير الذكريات المختبئة بين ثنايا النفس، السرد فيها يملأ فضاء الروح بشلال من الوصف الإنسانى المعجون برحيق الحياة وعطر الأحباب. نحن أمام رواية مشحونة بالنور والحزن النبيل الذى يتردد فى فضائها، ويتقاطع مع أحداثها كمرثية حياة . الرواية نبض إنسانى حى تنضح بالشاعرية، تفتح أبوابها لزهور النرجس وهدير البحر، وتضيء فى دواخلنا أنوار العارفين، وتمنحنا من الحب والرحمة ما يكفى، وتمضى الذكريات فى الرواية مثل ماء النهر ويخدعنا الزمن الجميل فيها ويرحل، ويصبح العمر أحلاماً نطاردها، وتبقى رواية كبرياء الموج كل شيء فيها، يذكرك بشيء ما، يستحق الحياة فى هذا الكون الفسيح.
فى الكتابة دائماً نخاف من البدايات . أى الطريق نسلك من أين أبتدئ ؟.
سأبدأ بالقول أننى أكتب رؤية نقدية عن رواية تمت قراءتها من عدة أشهر وهى فترة طويلة نسبياً، ومنذ ذلك الوقت لا اظن أننى أتذكرها الآن إلا كالحلم، ولا أدرك سرد الأحداث بها إلا كهيئة نسيج زمنى متراكب يحاصر الذاكرة، وعليه فنحن أمام رؤية غائمة وضبابية للرواية يمكن أن تحقق القطيعة مع التفاصيل الصغيرة والتحرر من سطوة الحسن السردى وعوالمه الإنسانية، هذا البعد عن الرواية يمنحنا فرصة للهروب من غواية فيض المشاعر المتكاثرة التى تستحوذ علينا وتخدر إرادة النقد لدينا عند قراءة الأحداث فى الرواية ولحسن الحظ فالرواية تترك ورائها فى الذاكرة تيار زمنى إيقاعى غير مرئى يكشف عن استراتيجيتها وذبذباتها الإيقاعية داخل الذات، فحركية الزمن تصنع حركية الروح والروحانية فى الرواية .
وبعــد .. من الضرورى القول أن كتابة رؤية نقدية عن جدلية الزمن فى هذه الرواية بالنسبة لى هو أمر صعب من هذا المنظور وتستدعى طريقة تفكير مختلفة ولغة اصطلاح جديدة فى الوصف حتى نستشعر ونرصد هذه الحالة من الجدل الإيقاعى للزمن .. واسمحوا لى أن أتلى عليكم بعض الشروح والنقاط التى أزعم أنها سوف تحدد خصوصية الرؤية وتلقى الضوء عليها حتى نستشعر هذه الحالة الزمانية وتحولاتها التى تسكن فينا وتوقظ أعماقاً جديدة للمعنى فى دواخلنا.
نقطة (1) : أعتقد أن قارئ الروايات ينظر إلى الأحداث فيها مقترنة بفعل الزمن، ولذلك فبناء الحدث وترتيبه أو تواليه فى النص الروائى هو ظاهرة إيقاعية تترك أثارها فى النفس، وتجعل القارئ يعيش تجربة الزمن المناظرة لها فى الحياة، فهذه الإيقاعات تلد سلسلة موازية تماماً من المشاعر المماثلة فى التغير والكثافة. أنا أتحدث هنا من منطلق أن الإيقاع هو حركة المعنى فى السرد الروائى، وهذا المفهوم هو الذى يؤطر الرؤية النقدية لرواية "كبرياء الموج"، وبالقطع هناك ضروب متعددة ومتراكبة أخرى هى التى تولد جدلية الإيقاع فى فضاء الرواية ولكن هذه الرؤية النقدية تتحدد بهذا الزمن الحيوى للأحداث زمن المعنى فى السرد، كعامل محرك . ولا أتصور ضمناً وجود فاصل بين المعنى والإيقاع فى الرواية فهما يتقاسمان فى داخلى شيئاً واحداً.
نقطة (2) : نحن ننظر من خلال هذه الرؤية النقدية على الكاتب الروائى كمبدع يلعب دور صانع الخرائط الإيقاعية، التى تنظم فضاء الرواية وترتب أجزاء النصوص الصغيرة بها فى أزمنة لها معنى ومركز وعى. وبعبارة أخرى، الكاتب هنا هو المايسترو الذى يضبط الترابط والتراكب الإيقاعى والتسلسل الأفقى للزمن السردى لتحويل التعارض والتنافر بين الأجزاء إلى تناغم كونى، يفتح باب الروح لتَلتبِسْ بالأشياء فى الرواية، ويمنح الذاكرة الدهشة وشعور متجدد من التوقعات الدائمة للحدث الروائى.
بعد هذه النقاط التى كانت ضرورية لتوضيح الرؤية يبقى السؤال الجدلى .
س: ما هى إشكاليات الرؤية، لجدلية الزمن والمعنى فى رواية كبرياء الموج ؟
أحب استعمال كلمة رؤية دون أن تقترن بكلمة نقد، فأنا ببساطة أرصد إشكاليات تستوقفنى كقارئ متأمل وأطرحها بمنتهى الصدق مع النفس، بعيداً عن الخطاب النقدى الدارج، وأعتقد أن الوقوف على أسبابها، ربما يؤسس بيننا وبين النص الروائى جسراً آخر من التواصل، أو يمنحنا سراً جديداً عن مكان اختباء الشاعرية فى السرد الروائى. أنا أتحدث هنا عن الصوت الداخلى للرواية عن البعد الرابع، عن الخيوط غير المرئية التى ترى السرد نوعاً من التواصل الإنسانى. هذه الحالة الإيقاعية للزمن التى أنقب عنها فى الرواية ربما تتفق مع موجة الحداثة العائد التى تتشكل الآن وتضرب الرواية فى العالم والتى تسعى إلى تخليق زماناً سردياً أكثر براءة وأكثر شاعرية وروحانية، يتوافق مع الفطرة الإنسانية .
الجدلية الزمانية الأولى فى رواية كبرياء الموج .
مدخل: أعتقد أن أصل الرواية يكمن فى حضور الناس حضوراً سمعياً وبصرياً، لبناء تصورات من خلال القوة الإيحائية للمعنى، ومن ثم فالسرد الروائى من مهامه اغتصاب الوعى للقارئ، وخلق حالة من التشوق والإصرار على مواصلة الحكاية إلى نهاية الرواية.
وبعيداً عن الأسلوب الآسر للقص فى رواية "كبرياء الموج" نلاحظ أن بعض النصوص الصغيرة فيها تستجلب معها عند القراءة عاصفة كثيفة من إيقاع المعانى، التى تتولد من تكاثر الأحداث وتقاطعها وتعارضها وهو ما يمثل إجهاد لوعى القارئ، وظنى هنا أن الصعوبة ترجع إلى تحول مسارات السرد، والتنقل بين طبقات عديدة للزمن فى حيز صغير، فالسرد يعد القارئ بمجرى إيقاعى للمعنى ثم فجأة يتغير اتجاه الزمن وينقلب، ليبدأ حدث جديد ومجرى إيقاعى جديد لا يكتمل.
طريقة السرد هذه تقتل فينا جدلية التوقع والتوسع فى الزمن. وخطورة الأمر هنا، أن هذا التكاثر الكثيف لإيقاع المعنى يصنع فوضى غير منظمة من الاتجاهات الزمنية، تغتال أى صيرورة إيقاعية عند انبثاقها، وعلى ذلك فالسرد لا يصنع موجات كبرى من الحركة الحيوية فى فضاء النص، ولا يحفر فى الذات القارئة مجرى إيقاعى فياض وسيّال. متصل بروح الرواية.
أريد أن نؤكد أيضاً .. أنه فى بعض الأحيان، تخلق الجدلية الكثيفة للزمن الإيقاعى فى بعض النصوص الصغيرة، ما يشبه حالة صراع المعانى أو تقطيع أوصال الحقيقة للسرد، فعندما تتكاثر الأزمنة وتتعدد اتجاهاتها، تنتج حالة إيقاعية متجاوزة تبتلع المعنى، وتستولى على أروحنا بشكل كامل، وتولد حالة من المعنى المفارق للبنية السردية، ربما يلعب ضد منطق القص المقصود فى الرواية. والسؤال الآن.
س: هل هذه الحالة الزمانية المتموجة التى تتصف بتعدد الاتجاهات تستجلب حالة من الإجهاد الذهنى للقارئ؟
والإجابة نعم .. ففى ظل كثافة المعنى والتنقل السريع بين الأحداث فى رواية تنقب فى الزمن الضائع للحياة، من البديهى أن تغرق الذاكرة فى السرد الروائى، وتفقد قيادة الزمن فى بعض النصوص الصغيرة، فالمجهود الذى يبذله الوعي للتذكر يتسبب فى إرهاق كبير للأنا، وهذا التشتت لاتجاه الزمن فى السرد يشعر القارئ بالتوتر والإجهاد الذهنى، وأنه وصل إلى الحد الأقصى من الطاقة على التذكر والإدراك .
ويمكن القول هنا .. أن الحل لهذه الإشكالية يكمن فى الوعى بأهمية تطور البعد الزمانى للمعنى، الذى يمنح الكاتب أذن تسمع مساحات كبيرة من الدورات الإيقاعية فى فضاء النص . كما يمنح الكاتب أيضاً القدرة على تخليق تيار إيقاعى، يسيطر على المياه الغيبية التى تجرى تحت نسيج النص، ومن ثم يهيئ الفرصة للوحدة وللرنين بين الأجزاء، لتتولد صيرورات إيقاعية تدخل الشاعرية وموسيقى الحياة الانسيابية فى بنية الرواية، وتؤسس بيننا وبين النص الروائى نوعاً من التواصل الخفى.
خلاصة الأمر .. أن العقل يمكن أن يحتفظ بتسلسل أطول من الأحداث، عندما يرتب الكاتب الأفكار والأحداث المتعددة فى صيرورات أو مجموعات إيقاعية، تكتسب قيماً موسيقية خفية، وتعطى الوعى القدرة على الانتباه والاحتفاظ بها، وهو ما يجعل الحكاية برغم تموجاتها الإيقاعية، تنساب فى ذاكرة القارئ أحادية الاتجاه متدفقة فى وجدانه، مثل ماء النهر أو هدير البحر.
الجدلية الزمانية الثانية فى رواية كبرياء الموج .
مدخل: الحياة هى فيض مستمر من الأحداث، أو انسياب لا ينقطع من المعانى، إنها إيقاع وتماوج جدلى منظم للوجود فى صيرورات تعطينا الشعور بالحياة، ومن ثم فتوقف حركة الزمن وجدليته الإيقاعية معناه التوقف عن الوجود الحى، ونحن نرى أن الرواية ما هى إلا سرد لمجموعة من الأحداث، تولد حياة جديدة لها معنى. الرواية وجود، وكل شيء فيها إيقاع لا ينقطع، إلا عندما تغلق الرواية أبوابها ويتوقف جريان الأحداث بها، لنصل إلى نهاية السرد. هذه هى نظرة المتأمل الناقد لرواية "كبرياء الموج" الذى لا يرى فيها إلا هذا النبض الداخلى للزمن، المعادل لروح المعنى والذى يعمل تحت نسيج سطح النص. من هذا المنظور تتحول التجربة الجمالية فى كتابة الرواية إلى تجربة إنسانية فى صناعة الزمن، المكان فيه ينضح بالحركة الحية، ومن ثم فالنصوص الصغير داخل الرواية، تتحول إلى مجموعة من الأمواج الإيقاعية التى تتابع وتترابط فى صيرورات زمانية من المعنى تحمل الرحيق الإنسانى للوجود إلى داخل فضاء الرواية. ويبقى السؤال :
س .. كيف يملأ الكاتب الزمان الروائى بالمعنى ؟
عند قراءة بعض النصوص الصغيرة فى رواية " كبرياء الموج "، أشعر بالسطوة الكبيرة للرقابة العقلية على بناء المعنى، وهو ما يولد كلمات واضحة شفافة وجمل تقريرية لا تعطى أى احتمالات مرجأة للدلالة، فهى مغلقة على نفسها مستقلة، وهذه النزعة المنطقية فى التعبير تولد ما يسمى بزمان العقل، وهو زمن أبيض واضح شفاف ورائق، اللغة التى يحملها محايدة تنكر الغموض وتقف أمام تعدد التأويل، وتصنع جزر من الزمن، ومن ثم تنطوى على حل نهائى مكتمل للمعنى لا يصنع صيرورة إيقاعية، وهذا الأمر يذكرنى ببيتى الشاعر"محمود درويش" أين سنذهب بعد آخر حدود .. أين ستطير الطيور بعد آخر سماء .
س .. ما هى إشكالية زمان العقل الذى ينبض فى بعض ثنايا رواية كبرياء الموج ؟
وللإجابة على هذه الإشكالية، علينا استئناف النظر فى تحولات الزمن فى الرواية فنحن هنا أمام زمن متوقف، حركته متذبذبة ومتعامدة على الأحداث المتكاثرة والعوالم المتقاطعة فى النص، ومن ثم فهو ينتج جدلية إيقاعية مغلقة من المد والجزر، تعبر إلى النفس عن طريق المنطق، تولد وتشيد طوبوغرافيا من الوجود الذهنى للمعنى تحت تأثير وصاية وتسلط الزمن العقلى . هذا الزمن يفتح أبواب المتعة العقلية للسرد، ويصنع الوحدة بين الأجزاء بالإكراهْ، والتى يفرضها المنطق الواعى للكاتب فى التفكير، هذا الزمن يصنع التواصل بين الجمل المنفصلة بقيمة تركيبية واحدة هى المعنى . هذا الزمن لا يعطينا الإرنان الشعورى بالتوقع والتواصل للأحداث.
وهذا الزمن لن يمنحنا الشاعرية، ولا يصنع ميتافيزيقا إنسانية من إيقاعات الحياة، التى تفتح مكامن روح الرواية وتجلياتها فينا. ويبقى السؤال .
س: من أين يأتى هذا الزمن الوجودى فى السرد ؟
والإجابة فى تصورى، أن الروائى هو صانع الزمن فى الرواية، وأن هذا الزمن يأتى من غلبة اتجاه التفكير العقلانى للكاتب عند صنع المتخيل السردى، وعليه يتم سيطرة هذا الزمن على الذاكرة الداخلية للنص إذا جاز هذا التعبير. والراصد لطبيعة الزمن فى بعض النصوص الصغيرة بالرواية، يجد أن التجربة السردية بها شغوفة بتوليد زمن ذهنى واعى، يطارد الأحداث فى النص. واتجاه الرؤية للمعنى فيه يأتى من الخارج للداخل من الظاهر للباطن، وهو ما نسميه المسلك الخارجى للحقيقة.
ما أعتقده أن الخطاب الروائى خطاب متميز وأن الكتابة الأدبية بطبيعتها شاعرية، ولذلك تتطلب نوعاً من الرؤية المتحركة للوعى، تزاوج بين التفكير البيانى والعرفانى عند كتابة النص الروائى. هذا التزاوج يصنع زمن نفسى ويولد الجدل الإيقاعى بين الواقع والمجاز بين المرئى واللامرئى. وهذه الحالة الزمانية تساعد أفكار الكاتب ومشاعره على ملامسة أعماق النفس الإنسانية، والنفاذ إلى ما وراء المستويات الواعية للتفكير والشعور، وتهيئ الأسباب لذات القارئ للنفاذ إلى روح النص، والغوص إلى الطبقات البدائية الباقية فى الحياة النفسية.
أريد أن أؤكد هنا .. أن التداخل بين الرؤيتين البيانية والعرفانية عند تخليق الزمن السردى هو الذى يصنع الاضرابات الزمنية المقصودة، ويحدد خطوط الصدع بين ما هو خيالى أو سحرى وبين ما هو واقعى فى سياق النص، والكاتب هنا هو المتحكم فى أن يجعل الزمان فاعلاً أو خالياَ من الفعل الدلالى، عن طريق التراتب والتحول الإيقاعى لفضاء السرد، فهو الذى يجلب إلى بنية النص، القوة الضعف، السكون الحركة، الوضوح الاضمحلال، المجاز والحقيقة، وهذا التباين فى نظم الزمن هو الذى يرسم الخرائط الجديدة للأشياء والحوادث، وهو الذى يؤسس الحياة للتجليات المستقبلية فى كتابة الرواية.
وأخيراً : يبقى السؤال الذى يتكرر دائماً فى أدبيات النقد العربى.
س: هل هذه الرؤية النقدية لرواية "كبرياء الموج" موضوعية بدون شواهد ونمازج من النص الروائى؟
الحقيقة لا أريد أن أقف كثيراَ أمام هذا السؤال ولكن يمكن القول أن كل جهد يبذل لرصد هذه الجدلية الإيقاعية المراوغة بطريقة مباشرة سيعمل على إخفائها فالتشيئ والتحديد وذكر النمازج هنا يبدد الفكرة وسيكون مدمراً لروح الرواية والتى إذا وصفت من هذا المنظور ماتت وتورطنا فيما هو مباشر وملموس وجدلية الزمن ليست كذلك، ومرة أخرى، لنتجاوز هذا السؤال الزائف فنحن لا نصدر أحكام قيمة قطعية على الرواية بل هى وجهة نظر يقولها قارئ ناقد متأمل ويزعم أنها صادقة وليس من العيب الارتياب فيها.
وفى النهاية .. ستبقى رواية كبرياء الموج بكل إشكاليتها تسكن فى دواخلنا، وزمن المعنى فيها جدلى متسع يختبئ مع كل متخيل فى النص الروائى، نستشعره كرجع صدى يتواشج فيه المادى والروحى المرئى واللامرئى ومن ثم فهو يوقظ أعماقاً جديدة من الإحساس فى ذواتنا ويمنحنا بصيرة ترى روح الرواية فينا. يقول الشاعر : لا يعرف الشوق إلا من يكابده .. ولا الصبابة إلا من يعانيها.