تذهب الروائية العراقية "عالية ممدوح" في كتابها الجديد "الأجنبية" بالسيرة إلى أبعاد شديدة الخصوصية، فتخوض في سيرة مشاعرها الداخلية وأحزانها ككاتبة تعيش الوحدة في معنيين الوجودي من حيث هي مغتربة عن نفسها أصلاً، وعن المكان وبشره ولغته "باريس"، فتقلب وضعها البشري في هذه البقعة الضاجة والتي شهدت أول الثورات التحررية في التاريخ الحديث.
قلت تذهب بالسيرة إلى أبعاد جديدة لأن جلّ نصوصها الروائية، من "حبات النفتالين" روايتها الثانية إلى الأخيرة "حب برغماتي" هي روايات سيرة صريحة لمشاعر وسلوك وتفكير المرأة العراقية استقتها من تجاربها الخاصة وتجارب النساء المحيطات بها، وصاغتها في روايات أحداث صورت في أهمها أحداث مفصلية من تاريخ العراق المعاصر كما هو الحال لبطلة روايتها "الغلامة" صبيحة التي تُغتصب من مليشيات البعث الأولى "الحرس القومي" في الملعب الأولمبي بالأعظيمية ببغداد عقب انقلاب 8 شباط 1963، مكان سكن الكاتبة، ورحلتها، رحلة المغتصبة ومسارها الشائك إلى مقتلها في السبعينات غرقا في دجلة.
والمسار الخاص في "الولع" التي تصور محنة المرأة العراقية مع الرجل العراقي الفحل المزواج المزدوج السلوك، والذي ستخصص له في "الأجنبية" فصولاً لا بل تجعل منه والقوانين العراقية العظيمة مدخلاً للسرد حينما تستدعيها "السفارة العراقية" في باريس زمن الدكتاتور، فتذهب وجلة خائفة من الخطف، لتجد أن زوجها المتزوج في العراق أرسل من خلالها قرار محكمة عراقية بجلبها قسراً لبيت الطاعة، هي الكاتبة الحرة. تفاصيل حياة وأحداث واقعية تسردها بالأسماء الصريحة تدعم جهدها الروائي وتضفي عليه عمقا وبعدا يفيد الدارس أمام انغلاق المجتمع العراقي التام وبشره وأديباته التقليديات اللواتي يهربن من كل ما يتعلق بمحنة الوجود والجنس والعلاقة بالرجل، فمن الصدف وأنا عازم على الكتابة عن "الأجنبية" أن تنشر الروائية العراقية "لطفية الدليمي" على صفحتها في الفيس بوك نص كتبه االناقد "عبد الله إبراهيم" مادحا فيه نسائها المنعزلات ووصفهن في الترفع والكبرياء، بينما أجده تحفظاً يكشف عن منظومة أفكار الكاتبة التي تغمض عينيها عن جذوة الوجود ودونها لا حياة، الرغبة الحب الجنس وما يفضي إليه من وجود ملتبس في مجتمع صارم شكلي القيم مثل المجتمع العراقي، ما وضعته الزميلة "لطفية الدليمي" على لسان الناقد "عبد الله إبراهيم" مفتخرةً الآتي:
(كتبتْ لطفيّة الدليمي، في سائر رواياتها، عن نساء مغمورات بالحزن، ومتدثّرات بالشجن، لكنهنّ متحصنّات بذواتهن في نوع شفّاف من العزلة، ومستغنيات عن الرجال في ضرب رفيع من الكبرياء.)
يؤكد هذا الاستنتاج الأبعاد الفكرية للكاتبة التي أكتفت في معالجة مشكلة نسائها في وصف وضعهن البشري دون الخوض في مسببات هذا الكمد والعزلة والترفع عن الرجل، الطرف الثاني في معادلة الوجود ولعبة الحياة كلها، بحيث بدت نسوة نصوصها مترسبة بحزنها وشجنها كما هي في الواقع ومن الخارج للرائي، وهذا يجوز في الأدب في حدود التهيئة أو العتبة للخوض في العالم الداخلي الحقيقي الذي من المفترض بالكاتب الذهاب به إلى علل ومسببات هذا الكمد والعزلة والاغتراب، فمن المستحيل أن تصل المرأة من الطفولة إلى المراهقة الضاجة إلى النضج فالعزلة دون تجارب مخيبة في علاقتها بالرجل.
رحلة الخيبة النفسية والجسدية للمرأة في مجتمع ما؛ هي من أخطر الرحلات التي تكشف عن البنية القيمية والأخلاقية والتاريخية لذلك المجتمع وبالتالي تعمل أو يعمل النص الأدبي الثوري الحقيقي على التحريض لتغيير الحياة.
كيف يتم ذلك؟!.
في نصوص "لطفية الدليمي" لا مجال للكشف، ففيها المرأة مستسلمة لقدرها مغطاة بالغبار كما وصفها الناقد "عبد الله إبراهيم" حتى تكاد تبدو بلا أعضاء جنسية، بلا رغبات، بلا شهوات، كائنة أقرب إلى صيغة قيم المجتمع العراقي الطهرانية الشكلية لها متناسية وجودها الحقيقي، حيث الرغبة والجنس والتفكير بالرجل والعلاقة به شاغل كل نساء الأرض في حالة صحية دونها لا معنى للحياة. نساء لطفية الدليمي نساء وحيدات تعرضن لعملية تطهير "قطع البظر" وعدن يعشن في رماد ولا يفكرن بالرجال.
أما لدى "عالية ممدوح" فالعراقية بوجودها الخارجي والداخلي، القيمي العام والنفسي الدفين نجدها متجلية، تقول وتفعل متجاوزةً القيم والأعراف في معادلة تنحاز إلى الإنساني، وفي بنى روائية شديدة التعقيد متصلة مقنعة وكأن الكاتبة محللة نفسية ترسم الشخصية في مسار تطورها النفسي بدقة الباحث. ولنأخذ مثلاً يدعم ما ذهبت إليه، في "الغلامة" شخصية "صبيحة" التي تُغتصب في الثالث والستين، وتعمل مضيفة لاحقاً، في مشهد تصور الكاتبة لحظة سكرٍ "بالمناسبة تكشف نصوص عالية ممدوح عن شيوع حالة الشرب بين النساء العراقيات في البيوت وبشكلٍ سري" وهذا ما بحثت فيه ووجدته شائعا في السر جداً. في لحظة السكر تلك "تخّيل" على راكب شاب ويتيح لها عملها الذهاب معه فتجد نفسها صباحاً جواره عارية في السرير بفندق.
والعديد من المشاهد المماثلة والتي تصورها الكاتبة كاشفة عن الرغائب الداخلية للعراقية الكامدة التي رُفع الغبار عنها. استشهاد يؤكد ما أذهب إليه من أن هنالك نمطين من الكتابة في الأدب العراقي السردي الأول متحفظ تقليدي في الفكر وليس الشكل، هرب أو حاول أن يضفي على الوجود والتقاليد والقيم المجتمعية التي أدت إلى هذا الخراب والتمزق شرعية بتبريرها وأدب مضاد كشف وعرى هذه التقاليد والقيم القامعة في نصوص كاشفة لا تخشي من أي تابو أعتبرها نصوصا ثورية بالمعنى الأدبي والبنيوي للتعبير.
الشجاعة لا تتجزأ، فالكاتبة في كتابها "الأجنبية" عرجت على تجارب مفصلية في حياتها الشخصية والسياسية، فبالرغم من تحاشيها الخوض في السياسة لاسيما عقب استقراراها في باريس منذ أكثر من ثلاثين عاما، لكنها ذكرت وضعها كرئيسة تحرير للراصد الجريدة التي بدت مستقلة شكلا زمن البعث، لكنها استخدمت كأداة في تفليش التحالف بين الحزب الشيوعي العراقي والبعث بنشرها رد البعث على مؤتمر الحزب الشيوعي 1975.
هي "عالية" أوردت القصة ودورها بما يوحي بأنها لم تكن سوى أداة لا تستطيع فعل شيء في بلد محكوم لا السياسي فحسب، بل أنثى في باريس هربت من زوج جلف، تستدعيها السفارة العراقية لتبلغها بوجوب عودتها لبيت طاعة. تكتب عالية سردها بهذه الروح الصريحة المعذبة في وطنٍ يكره أبنائه.
- تقيم مأتماً في "الأجنبية" لكنه مأتم العراقي الذي يتشبث بعراقيته، كما حال الساردة التي لم تحاول بالرغم من كونها تعيش منذ سنوات طويلة في باريس الحصول على الجنسية الفرنسية، وهذه الفكرة المثالية أيضاً كانت تتملكني، فكنت أرفض الحصول على الجنسية الدنمركية، ولم أقدم على ذلك إلا بضغوط من زوجتي. لتواجه لاحقا إشكالية شديدة التعقيد ستأخذ فصولا من الكتاب تتعلق بمحاولتها أثبات اضطهادها في وطنها كي تمدد إقامتها. سيوغل القارئ في معاناة تتناص مع معاناة شخصيات "كافكا" دوامة وروتين وبيروقراطية مغلقة، ومن خلال هذه المعاناة تحذف بنا الكاتبة إلى شخصيات رواياتها وحياتها ومواقفها حتى نحس أنها "عالية ممدوح" جورانا نشمها ونلمسها. لا نساء كامدات مغطيات بالغبار".
نصوص "عالية ممدوح" خرقت ليس القيم والتقاليد والتابو فحسب بل كشفت كون العراقية وعالمها الدفين كأنثى في أكثر المجتمعات العربية وفي العالم تبخس وجود المرأة وتحتقرها بمواجهة أعراف مجتمع وتقاليد يتسيد فيها الرجل العراقي الجلف.