يكتب محرر (الكلمة) هنا عن صديق الخطوات الأولى في رحلة التكوين المعرفي والبدايات، المثقف الكبير والمتمرد الأصيل الذي رحل عن عالمنا والعام يجرجر آخر أيامه. ويكشف عن جوانب غير معروفة من سيرته الناصعة، فقد صاحبه في رحلة التكوين والعمل والكتابة والاعتقال الأول. قبل أن تفرق بينهما الأيام.

صلاح عيسى .. تمرد المثقف وعفن السلطة

صبري حافظ

توشك الأيام الأخيرة في حياة صديق رحلة التكوين والبدايات، الكاتب الكبير صلاح عيسى، أن تكون استعارة بليغة لحياته ذاتها. فقد أصيب مساء الخميس 21 ديسمبر بجلطة أو انسداد رئوي Pulmonary embolism أدت إلى انسداد الشريان المغذي للرئة والغيبوبة، نقل على إثرها إلى غرفة العناية المركزة بمستشفى السلام، وظل يقاوم تلك الجلطة لأربعة أيام. وما أن علمت المؤسسة الرسمية بالأمر حتى صدر قرارها بنقله إلى مستشفى المعادي العسكري يوم الاثنين 25 ديسمبر 2017. وما أن وصل إليها حتى فارق الحياة بعد ساعات فيها. أقول توشك هذه الأيام الأخيرة أن تكون استعارة لحياته كلها، حيث تشكل الأيام الأربعة التي قاوم فيها بالكاد الانسداد الرئوي العقود الأربعة التي ناضل فيها ضد انسداد الأفق، وفقدان الحرية في واقع فاسد وزمن وغد، حسب تعبيره الأثير. وما أن حاولت المؤسسة إدخاله إلى حظيرتها، توهما منها أنها تسعى لإنقاذه حتى كان في هذا الأمر نهاية لدوره وحياته معا؛ كمثقف ملتزم استخدم معارفه الواسعة بتاريخ مصر الحديث، وكتاباته الصحفية التي تستمد تأثيرها من تلك المعرفة الواسعة، وموهبته الواضحة فيما يمكن تسميته برواية سرد الوقائع التاريخية، في شجب الظلم، وتعرية انتهاكات السلطة وما بها من فساد وعفن، والكفاح من أجل الحق والعدل والحرية.

والواقع أنني عرفت صلاح عيسى منذ بدايات رحلة التكوين والمعرفة. فقد كنا ندرس معا في مدرسة الخدمة الاجتماعية في القاهرة (1958-1962)(1) حيث كان يسبقني فيها بعام واحد، لأنه أكبر مني بأقل من عامين. مما يعني أننا تزاملنا في الدراسة لثلاث سنوات. وكانت هذه المدرسة والتي أُسست على غرار مدارس الخدمة الاجتماعية في أوروبا والولايات المتحدة، مؤسسة تعليمة خاصة وقتها، وبمصروفات في زمن التعليم العالي المجاني. ومن هنا احتفظت باسم المدرسة قبل أن تتحول مع سنوات تدهور التعليم في مصر إلى معهد عالٍ ثم كلية. لأن المدارس في نظام التعليم العالي الغربي، كما هو الحال في بريطانيا وفرنسا وأمريكا حتى اليوم، أعلى كعبا وأكثر تخصصا من الكليات أو المعاهد. ولأنها كانت مدرسة خاصة، وكانت الدراسة فيها مسائية، استطاعت أن تحشد للتدريس فيها أبرز القامات العلمية في مصر وقتها. فقد كان يدرّس لنا الاقتصاد لبيب شقير ثم رفعت المحجوب، وقد أصبح كل منهما فيما بعد علما في مجاله. وكان يدرّس لنا الشريعة الإسلامية فيها الشيخان محمد أبو زهرة وأحمد الشرباصي، ويدرّس علم الاجتماعي فيها سيد عويس وعبدالمنعم شوقي، أهم عالمين أضافا لعلم الاجتماع المصري والعربي. ونفس الشيء بالنسبة لعلم النفس، والخدمة الاجتماعية بفروعها الثلاثة الفرد والجماعة والمجتمع التي درسها لنا بدراوي فهمي ومحمد كامل البطريق، وغيرها من المواد التي لم نكن ندري وقتها مكانة أساتذتنا فيها، ولا مدى تأثيرهم العميق الذي تركوه فينا.

وفضلا عن الدراسة في مؤسسة علمية تنتقي أساتذتها من بين أفضل ما في الواقع المعرفي المصري من قامات، فقد كنا صلاح عيسى وأنيس البياع ومحمد عبدالرسول وأنا من المغرمين بالقراءة والأدب، بينما كان زميلنا فيها عادل هاشم مولعا بالمسرح والتمثيل. وقد تشكلت من هذه المجموعة الصغيرة جمعية أدبية/ مدرسة موازية كانت لنا فيها لقاءاتنا المستمرة التي نتبادل فيها الكتب والقراءات، ونعرض على بعضنا كتاباتنا الأولى، حيث كنا صلاح عيسى وأنا نكتب القصة، وكان البياع ومحمد عبد الرسول يكتبان الشعر. وكنا لا نكتفي بتحرير مجلات الحائط وقتها، وكان لنا فيها باع طويل، وإنما أشرفنا على مجلة المدرسة المطبوعة التي كانت تصدر مرة كل عام، وشاركنا في تحرير كثير من موادها. وقد كانت المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى مطبعة، مطبعة جريدة البلاغ وقتها، مع صلاح عيسى حيث كنا نشارك عمال المطبعة جمع الحروف لمجلة تلك المدرسة. فقد كان صلاح عيسى منذ هذا الوقت المبكر، وقبل أن يكمل العشرين من عمره مولعا بالعمل الصحفي. وكان لدى صلاح عيسى بالإضافة إلى موهبته المبكرة في الكتابة الأدبية، موهبة قيادية واضحة. فقد كان هو الذي قاد أحد المظاهرات النادرة في ذلك الوقت، وصكّ جل شعاراتها، وهي المظاهرة التي خرجنا فيها للتظاهر ضد اغتيال لومومبا في الكونجو، وشجب السياسات الأمريكية في أفريقيا. وقد انتهت بحرق مكتب الاستعلامات الأمريكي في جاردن سيتي، وهو الحي الذي كانت تقع فيه مدرستنا، التي كانت تستخدم فصول المدرسة الإبراهيمية الثانوية هناك.

وقد تواصلت علاقتنا الوطيدة بعد أن حصلنا على بكالوريوس الخدمة الاجتماعية (هو عام 1961 وأنا عام 1962)، فقد جمعتنا كثير من الأواصر المشتركة، إذ انحدر كلانا من أسرة من الطبقة الوسطى، حيث كان أبوانا موظفين حكوميين، ينعمان «بتراب الميري» وما يوفره من وجاهة ومكانة اجتماعية في ذلك الزمن الرغد. وقد اكتشفنا أننا كنا من «ديدان الكتب» وعشاق اقتنائها منذ وقت مبكر. وأن لدى كل منا مكتبته الخاصة يستطيع أن يعير الآخر منها ما يريد؛ وأن قراءاتنا الأولى كانت تنطوي على تمرد على ما وجدناه في مكتبتي أبوينا من أعداد مجلة (الهلال) ومطبوعاتها وما شابه؛ وشغف بالروايات البوليسية وترجمات مجلة (كتابي)، قبل أن نكتشف روايات نجيب محفوظ وقصص يحيى حقي وعبدالرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس. وكنا قد اكتشفنا قبل لقائنا على مقاعد الدراسة سور الأزبكية، وما يوفره من فرص نادرة للحصول على الكتب القيمة بقروش زهيدة. وواصلنا التردد عليه بعد أن تزاملنا، وكنت شغوفا بجمع أعداد (الكتاب الذهبي) الذي قدم بحق أبرز نصوص أدب مصر الحديث، والتي كانت قد فاتتنا في طبعاتها الأولى المحدودة. وقد كان كتابا شهريا يصدر بعشرة قروش، ولكنا كنا نجد أعداده القديمة على سور الأزبكية بقرشين أو ثلاثة على الأكثر. في هذه السلسلة، والتي كانت أفضل في اختياراتها من سلسلة أخرى (كتب للجميع) قرأنا معا جل أعمال نجيب محفوظ، قبل أن نتردد معا على ندوته الشهيرة في كازينو الأوبرا (صفية حلمي).

وكنت قد تمردت على أبي قبله، وانتقلت للقاهرة وقررت العمل قبل التحاقي بمدرسة الخدمة الاجتماعية، التي ناسبتني دراستها المسائية. وكم استمتعنا بتمردنا معا حينما كان أبوه يسافر بعد ظهر الخميس إلى «بشلا» لقضاء يوم الجمعة بها، فنستمتع معا وأحيانا مع أصدقاء آخرين، بشقتهم الجميلة في عابدين قرب ميدان لاظوغلي. لكن رفقتنا في البحث عن المعرفة والاستزادة المستمرة منها هي التي قادتنا، لا إلى سور الأزبكية وحده، بعدما كان كتاب (أيام لها تاريخ) قد أشعل فيه الرغبة في جمع كل ما كتب عن تاريخ مصر الحديث، والتنقيب لدى باعة الكتب المستعملة عن وثائقه ودورياته، وكانت سلسلة (الكتاب الذهبي) قد فتحت أمامي أبواب قراءة عيون الأدب العربي الحديث، والبحث عن بقية أعمال أعلامه الكبار، وإنما أيضا إلى ما سميته مرة بالتقويم الأدبي الخصب في مصر في تلك الفترة الباكرة من عمرنا، آخر الخمسينيات وطوال عقد الستينيات. 

وهو التقويم الذي يجعل لكل يوم في الأسبوع ندوته الخاصة التي كنا نسعى معا إلى حضورها. وكانت أشهر تلك الندوات وأكثرها دقة وتنظيما هي ندوة نجيب محفوظ الأسبوعية التي كانت تقام في «كازينو الأوبرا» المطل على ميدان الأوبرا صبيحة كل جمعة، والذي كان معروفا باسم كازينو صفية حلمي التي كان ملهاها يعقد فيه مساء، قبل أن تنتقل بعد عصف الأمن بها إلى مقهى «ريش». فقد كانت هذه الندوة أيام انعقادها في كازينو الأوبرا خاصة أقرب إلى السيمنار الجامعي منها إلى جلسات المقاهي. حيث كان نجيب محفوظ مع مجموعة من المترددين الدائمين يحدد سلفا الكتاب الذي سيدور حوله النقاش في المرة القادمة. لذلك كان كل من يجيء قد قرأ الكتاب مسبقا، وهذا ما يعطي النقاش زخما وجدية لا تجدها حتى في أعرق السيمينارات الجامعية، لأنه لم يكن يجرؤ أحد على المجيء للندوة، ناهيك عن المشاركة في نقاشاتها، دون أن يكون قد قرأ الكتاب. وكانت تليها من حيث الجدية وحسن التنظيم ندوة «نادي القصة» بشارع القصر العيني، حيث كانت تناقش فيها مساء كل أربعاء رواية أو مجموعة قصصية جديدة، وكانت تدعو أكثر من مناقش لكل مجموعة. وكانت هناك ندوة الجمعية الأدبية المصرية كل أثنين، وندوة جمعية الأمناء وأمين الخولي في اليوم نفسه، وندوة «رابطة الأدب الحديث» كل ثلاثاء. هذا فضلا عن مجموعة من جلسات المقاهي التي لا تقل خصوبة معرفية عن تلك الندوات. مثل ندوة أنور المعداوي وعبدالقادر القط في مقهى «برادي» في الدقي مساء الجمعة، ولقاء نعمان عاشور مع زمرة من المسرحيين في مقهى «سوق الحميدية» مساء الأحد، ولقاء مقهى «ركس» مع عبدالفتاح الجمل كل أربعاء. ناهيك عن تلك الندوة اليومية المفتوحة في كل أيام الأسبوع في مقاهي «إيزافيتش» أو «ريش». كان هذا كله قبل زمن «مقهى زهرة البستان» وإزاحة المثقفين من الواجهة «ريش» إلى الشوارع الخلفية بعد زمن السبعينيات الطارد الردئ.

وشاءت المصادفات أن نعمل معا في مديرية الشؤون الاجتماعية بالقليوبية لمدة أربع سنوات أخرى بعد تخرجنا. وهي الفترة التي بدأنا فيها الكتابة الجادة والنشر معا في دوريات تلك المرحلة في أوائل الستينيات، وخاصة في الدوريات البيروتية، (وأبرزها أسبوعية «الحرية» للقوميين الماركسيين العرب بقيادة جورج حبش و«الآداب» لسهيل إدريس) قبل أن نشق طريقنا عبرها إلى المنابر المصرية. صحيح أننا بدأنا مبكرا بنشر القصص لكننا سرعان ما غيرنا اهتماماتنا، منذ هذا الوقت المبكر. حيث اهتم صلاح عيسى بالكتابة عن التاريخ والسياسة معا، بينما تركز اهتمامي على النقد والدراسات الأدبية.

وقد انتمينا معا في أواخر فترة دراستنا الجامعية إلى تنظيم سياسي صغير، «وحدة الشيوعيين»، كان بدوره أقرب إلى الحلقة الثقافية أو الفكرية منه إلى التنظيم السياسي بالمعني المفهوم. رفدت حلقته الدراسية ما تعلمناه في مدرسة الخدمة الاجتماعية بالبعد الفلسفي المهم، والذي كان غائبا عن تلك الدراسة. وخاصة الفلسفة المادية التاريخية والوعي بقوانين الجدل وقوانين التغير الاجتماعي والسياسي التي كانت تنقصنا بالفعل، وزودتنا بها الفلسفة الماركسية. والواقع أن هذا التنظيم كان حلقة دراسية ثقافية أكثر مما كان تنظيما سياسيا بالمعنى المألوف لهذه الكلمة. فلم يشارك في أي عمل سياسي يُذكر، ولم ينظم أي تظاهرات أو يطبع أي منشورات سياسية أو يوزعها. فقد كان أغلب أعضاء هذا التنظيم من الكتاب الشبان وقتها، الذين يلتقون على شكل حلقة فكرية تستهدف فهما أعمق للواقع، وترفض ما يتسم به نظام عبدالناصر من قمع للحريات واستبداد، دون نكران فضائل التنمية التي قام بها وقتها، أو أغفال ما يتبلور من إيجابيات الحراك الاجتماعي داخل رأسمالية الدولة التي دعاها بالاشتراكية، وهي منها براء في نظرنا في هذا الوقت. وكانت تلك الحلقة الدراسية تنقب في أغوار الواقع، فكثير من أعضائها من الذين درسوا التاريخ أو علم الاجتماع، وتسعى إلى تعرية ما ينتاب ممارسات المؤسسة السياسية من تخبط أو فساد.

قلت لم نكن ندري وقتها مدى التأثير الذي تركته فينا تلك القامات العلمية التي درّست لنا، لأننا كنا مشغولين بالنشاط الأدبي، والهم السياسي معا. ولكنني كلما تأملت تلك السنوات الآن بأثر رجعي، وقد واصلت أنا وصلاح عيسى النشاط الثقافي بين أفراد تلك المجموعة الجميلة، وجدت أن سر وعينا الشديد بأهمية مكونات السياق الاجتماعي سواء في كتابة التاريخ، عند صلاح، أو في النص الأدبي، في تناولي له في كتاباتي النقدية، يعود إلى سنوات التأسيس تلك؛ وما تركه هؤلاء الأساتذة الكبار من تأثير عميق فينا بأهمية الوعي بمكونات الواقع الاجتماعي المعقدة. رفدته دراستنا «للمبادئ الأساسية للفلسفة» لجورج بولتزير، والوعي بأدوات التحليل المادي الجدلي للواقع بالبعد الفلسفي المطلوب في حلقة «وحدة الشيوعيين» الدراسية. والتي لم تكن بأي حال من الأحوال تنظيما سياسيا، وإنما حلقة دراسية تضم مجموعة من الشباب النهم للمعرفة أكثر من رغبته في أي عمل سياسي، وتستهدف في المحل الأول دراسة المبادئ الأساسية للفلسفة.

لكن أهم ما قدمته لنا دراستنا للخدمة الاجتماعية وبعدها حلقة الدرس الفلسفي تلك، كان ما تقدمه الدراسة الجامعية الحقة في الغرب للطالب الغربي، وهو العدّة المنهجية العقلية التي تمكنه من البحث العلمي المستقل، وتكوّن لدية العقل النقدي والبحثي السليم، والأدوات اللازمة لدراسة الفرد والجماعة والمجتمع، وهي فروع الخدمة الاجتماعية الأساسية الثلاثة. وقد جعلنا هذا التكوين العملي والمعرفي السليم قادرين على تمحيص ما نقرأه بقدر كبير من الموضوعية والعقلانية، وزودنا بأدوات التحليل المنهجي والشك الخلاق، بصورة جعلتنا ننفر من كل القطعيات dogmatisms بما في ذلك القطعيات التي كانت تتردد في الدوائر الماركسية ذاتها. فقد زودنا الشك الضروري وإعمال العقل الذي رسخته فينا قراءتنا المبكرة لطه حسين ومنهجه الديكارتي، وكان صلاح مغرما به إلى حد كبير، وخاصة في سنوات عملنا معا في بنها، بهذا النفور الشديد من كل اليقينيات الجاهزة وما تتشح به من ميتافيزيقية. بل اكتشفنا في ذلك الوقت المبكر غربتها عن المنهج الماركسي نفسه. لذلك حينما غيّر كل منا مجال اهتمامه وعمله، التاريخ عند صلاح والأدب عندي، كانت لدينا العدّة المنهجية التي مكنت كلا منا من التعامل بمهنية عالية مع المجال الذي اختاره، خاصة وأن هذه العدّة المنهجية كانت في أيدي شباب نهم للمعرفة، وحريص على البروز فيها.

لأن كل منا اختار طريقه منذ وقت مبكر. وكانت كتاباتنا الأولى تنطق بمدى وعينا بتلك الروافد الاجتماعية والنفسية والسياسية من ناحية، ورفضنا لما يتسم به نظام جمال عبدالناصر من استبداد وفساد، برغم كل منجزاته الإيجابية، من ناحية أخرى. وهو ما أدى إلى اعتقال أغلب أفراد تلك المجموعة من الكتاب الشبان وقتها في شهر أكتوبر عام 1966 (غالب هلسا وسيد حجاب وسيد خميس ومحمد وأحمد العزبي وجلال السيد ويحيى الطاهر عبدالله وإبراهيم فتحي وعبدالرحمن الأبنودي وجمال الغيطاني وغيرهم) بينما كان النظام قد افرج عن الشيوعيين عام 1964، وانضم عدد لا بأس به منهم إلى مؤسسته السياسية والإعلامية على السواء. والواقع أن أحد الأسباب الأساسية التي أدت إلى هذا الاعتقال، إن لم يكن السبب الأساسي، كان نشر صلاح عيسى لسلسة من المقالات المهمة بعنوان «تجربة ثورة يوليو بين المسار والمصير» في جريدة (الحرية) منتصف عام 1966.

وهي مقالات بلور فيها التحليل السياسي الذي أنضجته نقاشات تلك الحلقة الفكرية اليسارية «وحدة الشيوعيين»، والذي ينفي عن التجربة أي زعم باشتراكيتها، في زمن كان زخم الحديث عن الاشتراكية في ذروته. ويكشف عما تنطوي عليه من فساد ينخر التجربة من الداخل، ويستشرف هزيمة 1967 قبل وقوعها بأكثر من عام. وهو الأمر الذي أثار سخط أجهزة الحكم في مصر علينا، وخاصة مجموعة علي صبري وشعراوي جمعة، وكان وزيرا للداخلية وقتها، التي كانت تعتبر نفسها مجموعة اشتراكية، وأدى لاعتقالنا.

وقد كنا محظوظين لأن كاتبا كبيرا، كرس حياته لـ«مواجهة السلطة بالحقيقية» حسب تعبير إدوار سعيد الأثير، هو جان بول سارتر، في زيارته الوحيدة للقاهرة في مارس 1967، قرّع عبدالناصر ووبخه لكذب نظامه عليه، وقدم له قائمة بأسمائنا فوعده عبدالناصر بالإفراج عنا قبل مغادرته للقاهرة.(2) ولو لم يحدث ذلك لبقينا في المعتقل لمدة أطول، لأن من سقط اسمه من ثقوب تلك القائمة بقي لسنوات في المعتقل بعد الإفراج عنا، لأن النكسة وقعت بعد ذلك الإفراج بشهرين. وفي ظني، وهو ظن يحتمل الخطأ والصواب، أن المؤسسة الأمنية لم ترتح للإفراج المبكر عنا، وعن صلاح عيسى خاصة، حيث كان ذنبه لديها أثقل من الآخرين لنشره تلك المقالات، ولم تكن الشهور الستة التي أمضيناها في المعتقل عقابا كافيا في نظرها، وهو الأمر الذي أدى إلى بقاء أسمائنا في قوائم الممنوعين من السفر لسنوات، وإلى اعتقاله من جديد مرة ثانية. لكن تلك قصة أخرى.

المهم هنا أن تجربة الاعتقال السياسي المبكر تلك، كانت نوعا من المعمدانية بالنار لما كنا نؤمن به، وندعو إليه. ولم تغير شيئا من قناعاتنا السياسية منها أو الفكرية. وواصل كثير منا التمسك بالأفكار والرؤى التي أدت إلى هذا الاعتقال والإخلاص لها. ولأن صلاح عيسى كان أكثر أفراد تلك المجموعة من شباب الكتاب تعبيرا عن قناعاتها السياسية بشكل مباشر، وأحيانا صادم للمؤسسة ومقلق لها، تعرض للسجن بعد تلك الاعتقالة الأولى أكثر من مرة. لأنه كان يكتب في السياسة بشكل مباشر، وكانت كتابته في التاريخ – في بعد من أبعادها المهمة – كتابة في السياسة أيضا. على العكس من الآخرين الذين كانوا يكتبون الشعر أو القصة أو حتى النقد الأدبي، فيتخفى نقدهم للنظام وراء أقنعتها المختلفة.

لذلك سرعان ما تم اعتقاله من جديد، وبحجة واهية، في فبراير عام 1968 بتهمة مشاركته في المظاهرات الطلابية، والتي كانت أكبر مظاهرات تندلع في عهد عبد الناصر. والواقع أنني أشك في مشاركته في تلك المظاهرات، لكن عدم ارتياح الأجهزة الأمنية للإفراج المبكر عنه، هو الذي دفعها إلى الزج باسمه مع أول قائمة ممن أرادت اعتقالهم بسبب المظاهرات العارمة التي اندلعت في مصر عقب ما عرف بمحاكمة المسؤولين عن النكسة، وخاصة عن كارثة الطيران فيها، وما صدر ضدهم من أحكام بسيطة لم تتناسب أبدا مع فداحة الكارثة. وهي المظاهرات التي سبقت في مصر انتفاضات 1968 في أنحاء كثيرة أخرى من العالم، وأبرزها انتفاضة مايو في باريس. ودفعت عبدالناصر نفسه للرضوخ لمطالبها وإعادة محاكمة المسؤولين عن النكسة. ومع أن الأمن اضطر للإفراج عن كثير ممن اعتقلهم في تلك المظاهرات، وخاصة من الطلبة، بعد أيام أو أسابيع. إلا أنه استبقى صلاح عيسى في معتقل طرة سيء الصيت لنحو عامين.

وبعد الإفراج عنه عكف على إنهاء كتابه العلامة عن (الثورة العرابية) ولم يغير أيا من قناعاته الفكرية أو السياسية؛ بل ظل متمسكا بموقفه الأخلاقي الأعلى وقناعاته الوطنية واعتراضاته النقدية على السلطة والمؤسسة المصرية الحاكمة. وكانت كتاباته وصدامه المباشر مع نظام السادات هي التي أدت إلى اعتقاله الثالث، عقب انتفاضة 18 و19 يناير عام 1977. وكأن هذا الاعتقال اعتراف من المؤسسة بأن اعتصامه بخطابه النضالي واعتراضه على ما يدور هو الذي يرفد بالفكر النقدي الحر والمشروعية كل ما يندلع في مصر من مظاهرات مناهضة للتردي والفساد. فقد كان من أكثر الأقلام نقدا لسياسات الانفتاح الأخرق، وقمع اليسار، وفتح المجال أمام مختلف تيارات الإسلامجية التي عادت من الجزيرة العربية والخليج وقد تشبعت بنزعة وهابية مدمرة. كان صلاح في كتاباته تلك من أول الذين نبهوا إلى أن الإرهاب كامن في قلب بنية تنظيمات الإسلامجية وفكرها لأنه تنظيم ضخم بلا عقل، ولا قدرة حتى على الاجتهاد داخل سياق الفكر الإسلامي ذاته. لذلك تم اعتقاله عقب تلك الانتفاضة التي خرج فيها الشعب المصري من شواطئ المتوسط في بور سعيد والإسكندرية وحتى شواطئ بحيرة ناصر في أسوان تجرد السادات من الشرعية التي أسبغتها عليه إبان الإيام الأولى لحرب 1973.

فما كان منه إلا أن توجه بعد فقدانه لأي شرعية شعبية إلى «كنيست» دولة الاستيطان الصهيوني، يطلب منه شرعية ما؟؟ أدت إلى شق الصف العربي، وفصل مصر من جامعة الدول العربية ونقلها إلى تونس. وانتهت باتفاقية العار المعروفة باسم كامب دافيد، والتي تم بها تكريس الهزيمة، وتبديد ثمار أي انتصار قد تحقق في أيام الحرب الأولى. وقبل العبور المضاد لقوات العدو الصهيوني إلى الضفة الغربية للقناة، بعد أن ردمها شارون، وتوسع فيما عرف وقتها باسم الثغرة التي فاقت مساحة ما أحتله العدو فيها بالكيلومترات المربعة، ما حرره العبور المصري العظيم في الأيام الأولى من تلك الحرب. وكلنا يذكر ما فعله السادات برئيس أركان الجيش، سعدالدين الشاذلي، في تلك الأيام العصيبة من الحرب، وأن مفاوضات فك الاشتباك المهينة، كانت تدور عند الكيلو 101، أي على بعد أكثر من 35 كيلومترا من القناة. وكيف أن الثعلب الصهيوني العجوز، «صديقه» هنري كيسنجر، لعب دورا في تطويل مداها وحك الجرح بالملح، وإتاحة الفرصة لخطاب التدليس الساداتي في طلب السلام أن يتبلور ويزيف وعي المصريين، ويشوش بوصلتهم الوطنية.

ولأن صلاح عيسى كان في طليعة الأقلام التي حرصت على رفض خطاب التزييف والتدليس الذي بلوره نظام السادات عقب مفاوضات فك الاشتباك المهينة، كي يمهد لاتفاقية العار تلك، فقد جرى فصله من عمله في جريدة (الجمهورية) عام 1973. وهنا لابد أن أفتح قوسا يتعلق بالفرق الجوهري بين نظام عبدالناصر ونظام السادات في حربهما لخصومهما السياسيين. فقد كان السادات – على عكس عبدالناصر الذي اعتقل الكثيرين، ولكنه لم يفصل أيا منهم، بل كان يصرف مرتبات العاملين منهم في الدولة أو القطاع العام لأسرهم طوال مدة اعتقالهم – يستخدم كل ما في جعبة النظام من أسلحة، وأولها تجويع خصومه، وحرمانهم من العمل ومن منابر التعبير التي كانت ملك الدولة وتحت سيطرة الاتحاد الاشتراكي.

وقد خلق هذا الأسلوب الجديد في التعامل مع المعارضة مناخا طاردا دفع الكثيرين أثناء حكمه للخروج من مصر؛ وخاصة عقب تمكين الكادر الإخواني محمد عثمان اسماعيل من لجنة التنظيم في الاتحاد الاشتراكي التي فصلت أكثر من مئتي كاتب وصحفي منه، عقب مظاهرات الطلبة الشهيرة التي خلدها أمل دنقل في رائعته «الكعكة الحجرية». وهو الأمر الذي ترتب عليه فقدانهم وظائفهم في المؤسسات الصحفية المملوكة له. فقد كان السادات يعي هو ومستشاروه الأمريكيون أهمية دور الخطاب في تنفيذ مخططه الجهنمي للصلح مع العدو الصهيوني، وإهدار استقلال مصر، وإهدائها بلا ثمن للسياسة الأمريكية، وهو الأمر الذي مازالت تتخبط في أوحال مستنقعه حتى اليوم.

ولم تكن مصادفة أنه حرص على أن يفرّغ مصر من عقلها الوطني النقدي الذي مثّله اليسار، قبل حرب أكتوبر، التي أراد لها أن تكون حسب تعبيره الغريب «حرب تحريك لا حرب تحرير». وأنه مكن الإسلامجية من السيطرة على الخطاب العام وقتها، فليس لهم أي تصور للاستقلال الوطني، بشهادة مرشدهم الذي أعلن «طظ في مصر». وكانت الظروف قد أتاحت لي السفر إلى بريطانيا بعد شهور من مظاهرات الطلبة الشهيرة تلك، وفصل الكتاب من الاتحاد الاشتراكي، وبالتحديد في مارس عام 1973. حيث شاهدت حقيقة ما جرى في حرب 1973، ما أظهره السادات وما أخفاه، وبقيت هناك لست سنوات متتالية، أدرس للدكتوراه في الأدب والنقد وأعمل في الجامعة.

لكن صلاح عيسى كان من القلّة التي لم يدُعُّها المناخ الطارد، أو بالأحرى قاومت ببسالة آليات الطرد فيه. وواصل النضال من موقعه في مصر، وخاصة بعد الانتقال للصحافة والكتابة المستمرة فيها. وكان طرد صلاح عيسى من وظيفته التي توفر له الحد الأدنى من الحياة الكريمة أمرا بالغ الصعوبة عليه، ربما أكثر من تجربة السجن نفسها، وما مورس ضده فيها من تعذيب. لأن الحياة السياسية في مصر، وخاصة في جناحها اليساري بتياراته المختلفة، لم تستطع أن توفر لمثقفيها الحد الأدنى من الاستقلال الاقتصادي عن المؤسسة، والذي بدونه لا يتحقق أي استقلال فكري أو سياسي كامل. ومع كل تلك الصعوبات واصل صلاح عيسى الكتابة، وحافظ على حد لا بأس به من استقلاله الفكري، وأنتج في فترة السبعينيات والثمانينات بعض أفضل كتبه المهمة، وفي مقدمتها (مثقفون وعسكر) و(حكايات من دفتر الوطن).

وقد كان التكوين العروبي لنا – فقد ذكرت أننا بدأنا النشر معا في (الحرية) الناطقة باسم القوميين الماركسيين العرب – قد وضع القضية العربية عامة، وقضية فلسطين خاصة في مركز اهتماماتنا الفكرية والسياسية على السواء. لذلك لم يكن غريبا أن يكون صلاح عيسى أول معتقل سياسي مصري توجه له دولة السادات بعد إهدارها للاستقلال الوطني، تهمة العداء لدولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، إثر القبض عليه أثناء احتجاجات مثقفي اليسار المصري على مشاركتها في معرض الكتاب في القاهرة بعد اتفاق السادات المشئوم معها في كامب دافيد.

فسجن مرة رابعة آخر عام 1980 أو مطلع عام 1981 أثناء معرض الكتاب. وحوكم بتهمة «العداء لإسرائيل» الذي كانت جل النظم العربية تستمد شرعيتها منه طوال عقود. وتتذرع به لكبت حريات شعوبها، حيث «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» معها، وهي المعركة التي تتابعت فيها الهزائم. إلا أن الإفراج عنه من هذا الاعتقال الغريب، لم يدم طويلا. لأنه سرعان ما اعتقل مرة أخيرة ضمن اعتقالات سبتمبر الشهيرة قبيل اغتيال السادات. ووجد نفسه في زنزانة واحدة مع محمد حسنين هيكل ومحمد عبد السلام الزيات وفؤاد سراج الدين وغيرهم. والواقع أن صلاح عيسى قدّم بعد هذا الاعتقال الأخير إنجازه المهني الصحفي المهم أثناء عمله الطويل في جريدة (الأهالي) في الثمانينيات والتسعينيات، حيث جعلها بشهادة أعداء الجريدة قبل أصدقائها، أحد أهم منابر المعارضة في مصر، وبنى صيتها وجمهورها في أفضل فترات تاريخها المهني.

لكن لكل جواد كبوة! فما أن تغيرت الأحوال في حزب التجمع، وتبدل معها بالتالي تصور القيادة الجديدة للحزب لجريدته (الأهالي) وتحويلها إلى نشرة لنشاط الحزب، بدلا من أن تكون منبرا نقديا للمعارضة اليسارية السياسية بمعناها الأشمل، والذي كرسه أيام إدارته لها، حتى قرر ترك العمل فيها. وكان من الصعب على طاقة بحجم صلاح عيسى أن تبقى بلا عمل، والأهم بلا مورد للرزق، وهو في أوج طاقته على العمل والعطاء. في هذه الفترة طلب منه رجاء النقاش العمل معه في مجلة (القاهرة) التي كُلف بالعمل على إحيائها بعد توقف، وصدر منها العدد صفر. (وقد كنت قريبا من تفاصيل الأمر، حيث صدرت لي مقالة في العدد صفر ذاك، وكان رجاء النقاش قد اتصل بي لأراسل المجلة من لندن.)

لكن صلاح عيسى قدم تصورا مغايرا (للقاهرة)، يختلف عن المجلة الشهرية التي كانت من قبل، والتي أراد رجاء النقاش مواصلتها بزخم جديد. وكان تصور صلاح أن يحولها إلى مجلة أسبوعية للثقافة تجمع بين الجانبين الإخباري والاستقصائي، وتبتعد عن دراسات المجلة الشهرية المستفيضة. على غرار مجلات كثيرة سابقة في تاريخ الصحافة المصرية. واختار وزير الثقافة فاروق حسني تصور صلاح عيسى. وكانت سنوات العمل بـ(القاهرة) هي السنوات التي جلبت عليه سخط كثيرين من رفاق الدرب الذين ساءهم أن يدخل رجل بقامته الفكرية وإمكانياته المهنية والمعرفية البارزة الحظيرة، وهي تعبير فاروق حسني الأثير.

ولكنها كانت في الوقت نفسه السنوات القليلة التي نال فيها بعض ما يستحقه من مكان في المؤسسة المصرية والصحفية ومكانة. وكتب فيها عددا من أهم كتبه وعلى رأسها هذا العمل البديع (البرنسيسة والأفندي). وقد ساءني كثيرا أن أقرأ أثناء حياته، ثم عقب وفاته، من يتوهمون في تبسيط مخل للأمور أن (القاهرة) أُطلقت ضد (أخبار الأدب)، التي يرون أنها كانت صحيفة الأدب والثقافة، بينما كانت (القاهرة) صحيفة المؤسسة. وهو أمر مغلوط جملة وتفصيلا لمن يعرف خبايا الأمور، وحقيقة من يقف على رأس كل من المنبرين. لأن (أخبار الأدب) لم تكن أبدا بتلك النزاهة المتوهمة، أو الحرص على الثقافة بالمعنى الحقيقي لها. فقد كرّسها جمال الغيطاني لبناء مجده الشخصي، وتعزيز علاقاته بالمؤسسة السياسية والأمنية على السواء. فهي في حقيقة الأمر صحيفة المؤسسة المصرية الفاسدة أكثر من جريدة (القاهرة). فلا سبيل لأي مقارنة بين صلاح عيسى وجمال الغيطاني من حيث عمق المعرفة، أو الموهبة، أو حتى خدمة الثقافة المصرية لا تكريس الذات.

ومن خدعهم هجوم (أخبار الأدب) على فاروق حسني ووزارته طويلا، عليهم مراجعة أمرين: أولهما أن هذا الهجوم توقف كلية لحد الخرس، ما أن حصل الغيطاني على جائزة الدولة التقديرية دون أي جدارة بها؛ ثم ضمّه فاروق حسني لأعضاء المجلس الأعلى للثقافة رغم أميته المعروفة. والأمر الثاني أن يعود إلى مقالات الغيطاني التي كان يكتبها بانتظام في «يوميات الأخبار»، وليس في «أخبار الأدب»؛ ويعترف فيها في نوع من المباهاة والمداهنات الفجة بصداقته «الحميمة» بين قوسين، بالمسؤولين عن مؤسسة الأمن المصرية، بدءا من حسن الألفي ووصولا إلى حمدي عبدالكريم، الذراع الأيمن لحبيب العادلي، والمسؤول عن أمن الصحافة والثقافة حتى سقوط مبارك. ناهيك عن دوره المشبوه في مناوأة رفض الحركة الثقافية المصرية للتطبيع، وتخصيص صفحة في (أخبار الأدب) قبل مغادرته لها لثقافة دولة الاستيطان الصهيوني.

وبالرغم من أي خلاف حول سنوات صلاح عيسى الأخيرة، وحول تصوره أن هامش الحرية الذي أتاحته المؤسسة، يترك مجالا للمثقف اليساري الوطني للتعبير عن موقفه النقدي منها. فإنه ظل إلى حد كبير، وخاصة في كتاباته السياسية والتاريخية منها حريصا على هذا الدور النقدي. وواعيا بأهمية إرهاف الذاكرة التاريخية في عالم يعاني من فقدان الذاكرة، ورافضا للتماهي مع تلك المؤسسة أو قبول مواقفها. بل ظل واعيا، كما يقول في آخر مقال منشور له، بعنوان «أين اختفت مشروعات قوانين تحرير الصحافة والإعلام» والذي يحيل في نهايته لعبارة شكسبير الشهيرة في مسرحية (هاملت) والتي يعلن فيها مارسيلوس Marcellus (وليس هاملت كما هو شائع) عقب ظهور شبح الأب «ثمة شيء عفن في دولة الدانمارك» حينما اختتمه: «أشعر أن هناك رائحة كريهة تأتى من الدنمارك .. ولا تسألني أين تقع الدنمارك؟ لأنني لا أعرف!»

بهذا الحس التهكمي الساخر، وقد كان التهكم من أدواته التعبيرية المرموقة في الكتابة السياسية والتاريخية على السواء، والتي تجعل القراءة له متعة لا تجارى في عمقها وخفة دمها، يختم مقاله الأخير. ومن قرأ هاملت يعرف أن هذا العفن عشش في قمة السلطة نفسها. وهو نفس العفن الذي نبه إليه في مقالات (الحرية) التي أشرت إليها، واستشرف فيها النكسة قبل وقوعها، وإن كانت عفونته هذه الأيام قد تضاعفت حتى زكمت الأنوف. وكان مقاله السابق على هذا المقال الأخير، «متى تحصل «ريا» و«سكينة» على قلادة بطل ثورة 1919»، والذي يبدد فيه تلك الخرافة التي تتذرع بأنها تاريخ، يؤكد أنه ظل حتى اللحظة الأخيرة ينافح عن الحقيقة التاريخية في زمن سادت فيه عمليات تزييفها في الإعلام من ناحية، وفي الخطاب السياسي من ناحية أخرى، لأغراض سياسية أو شخصية مشبوهة.

والواقع أنني حينما تابعت ما كُتب عنه عقب رحيله، وخاصة ما كتبه من تتلمذوا على يديه في مهنة الصحافة، ومن يعتبرونه «آخر أسطوات الصحافة المصرية»، اكتشفت جانبا جديدا فيه غير جانب المثقف المبدع الذي عرفته من البداية وتابعته في كتبه الكثيرة البديعة، فهو كاتب غزير الإنتاج.(3) ولم أستغرب أن يكون هذا المبدع الكبير أستاذا كبيرا بحق، فقد تعلمنا ممن سبقونا أهمية هذا الأمر في حياتنا وسلوكنا المهني على السواء. كما اكتشفت أيضا جانبا من دوره المهم في الكفاح النقابي، داخل نقابة الصحافيين وضد ما خططت له دولة مبارك في عز سلطانها من تكميم لأفواهها وتحجيم لسلطتها.(4) وهو دور يتسق مع خط التفكير اليساري الحقيقي الذي انتهجه، واعتصم به.

وليس هنا مجال تقييم إنجاز هذا الكاتب الكبير في الحقل الذي اختار أن يكرس له جهده ووقته وما بقي من طاقته بعد أمور «أكل العيش»؛ أعني كتابة التاريخ الحديث خاصة. ولا لتعريف القارئ بأبعاد منهجه الجدلي في كتابة ما يمكن دعوته بالتاريخ الشامل، الذي يأخذ الجوانب الثقافية والفكرية والاجتماعية بعين الاعتبار في تناول الوقائع والأحداث التاريخية، ثم يصوغها بطريقة إبداعية ولغة سلسة مشرقة. فهو بأي معيار من المعايير قامة إبداعية لا تضاهى في تناوله للتاريخ، من حيث العمق والحساسية السردية. فاقت في إنجازها وعمقها ما قدمه ملهمه في كتابة التاريخ، ألا وهو أحمد بهاء الدين، وكتابه البديع (أيام لها تاريخ). فقد أُغرم صلاح بهذا الكتاب منذ كنّا طلابا، وواصل السير على خطاه على عدد من المستويات التي تتراوح بين الدراسة العلمية الرصينة (الثورة العرابية)، التي تضاهي في منهجيتها ومرجعيتها أي رسالة للدكتوراه، والسرد الإبداعي الروائي الذي تعتمد كل تفاصيله وشخصياته وسياقاته ووقائعه على الحقائق التاريخية، ولكنه لا يقل إمتاعا وسلاسة في القراءة عن أي رواية جيدة.

والواقع أنني حينما قرأت بعض ما كُتب عنه عقب رحليه، وما في كثير منه من أحكام متسرعة، وتسجيل سهل أو رخيص للإدانات، تذكرت ما كتبه برتولت بريخت في مسرحيته الشهيرة (جاليليو جاليلي) تعقيبا على إنكاره في محاكمته أن الأرض تدور. لا تقولوا بئس جاليليو الذي ينكر أن الأرض تدور، وإنما رددوا: بئس الواقع الذي جعل جاليليو ينكر أن الأرض تدور.

هوامش:

(1) هي مدرسة أسستها الجمعية المصرية للدراسات الاجتماعية عام 1935 على غرار المدارس الغربية والأمريكية، وكانت لها مدرسة رديفة أخرى في الإسكندرية، مدة الدراسة فيها أربع سنوات تؤدي إلى حصول المتخرج على بكالوريوس في الخدمة الاجتماعية، بعد امتحان نهائي موحد للمدرستين مع المعهد العالي الحكومي للخدمة الاجتماعية في القاهرة. كما كانت تلك الدراسة تتطلب أن يكتب الطالب رسالة علمية لا تقل عن مئة صفحة قبل التخرج، وأن يتم امتحانه شفويا فيها من لجنة من الممتحنين، وهو أكثر من أي مما تتطلبه المؤهلات الجامعية المماثلة.

(2) كانت صحيفة (الأهرام) في عزّ مجدها، ونظام عبد الناصر من ورائها، تعول كثيرا على دعوة جان بول سارتر لمصر وقتها، لأنه كان يعد عددا خاصا عن الصراع العربي الإسرائيلي قبل توتر الأجواء التي أدت لحرب 1967. وما أن جرى اعتقال تلك المجموعة من الكتاب الشبان وقتها، ونشرت الأسماء في صحيفة (لوموند) الشهيرة حتى قرر عدم المجيء لمصر. لكن (الأهرام) أوفد لطفي الخولي وقتها ليؤكد لسارتر نيابة عن الجهة الداعية والدولة معا، عدم وجود أي كتاب شبان في المعتقلات. فقد كانت المعتقلات قد أُخليت كلية من اليسار، ولم يبق بها سوى حفنة قليلة تعد على أصابع اليدين، ممن رفضوا حل الحزب الشيوعي المصري. لكن زوجات عدد منّا أصررن على إبلاغ سارتر بالحقيقة، برغم الطوق الأمني الذي فرضه النظام حوله في زيارته لمصر والسد العالي وقتها؛ وكانت أبرزهن «إيفلين» زوجة سيد حجاب السويسرية، التي ترجمت عريضتهن إلى الفرنسية، ولكنها لم تستطع برغم أجنبيتها الوصول له وتسليمها إياه بسبب الطوق الأمني المضروب حوله، وإنما نجحت في إعطائها لسيمون دو بوفوار التي رافقته في تلك الزيارة. وحينما التقى سارتر بعبد الناصر قرب نهاية زيارته، قرّعه على كذب نظامه عليه، والادعاء بأنه ليس هناك كتاب معتقلون في مصر، وعلى الطوق الأمني الذي فُرض عليه! وقدم له القائمة التي كانت فيها أسماء المجموعة المعتقلة من الكتاب. وقد شاهدت وثائق تلك الواقعة في المعرض الذي أقامته المكتبة الوطنية الفرنسية احتفالا بمئوية ميلاد سارتر عام 2005. وأرجو أن تتاح لي فرصة الكتابة عن ذلك الأمر بتفصيل أوسع.

(3) هذه قائمة بمؤلفاته: حكايات من دفتر الوطن، حكايات من دفتر الوطن الجزء الثاني، رجال ريا وسكينة - سيرة سياسية واجتماعية، شخصيات لها العجب، مثقفون وعسكر، دستور في صندوق القمامة، بيان مشترك ضد الزمن، الثورة العرابية، البرنسيسة والأفندي، مأساة مدام فهمي، تباريح جريح، شاعر تكدير الأمن العام: الملفات القضائية للشاعر أحمد فؤاد نجم: دراسة ووثائق، حكاية مصرع مأمور البداري، حكاية جلاد دنشواي، مجموعة شهادات ووثائق لخدمة تاريخ زماننا، رجال مرج دابق، البرجوازية المصرية ولعبة الطرد خارج الحلبة، البورجوازية المصرية وأسلوب المفاوضة، هوامش المقريزي: حكايات من مصر: المجموعة الثانية، صك المؤامرة "وعد بلفور"، فلسطين الأرض والمقاومة، حكايات من مصر، محاكمة فؤاد سراج الدين باشا.

(4) راجع في هذا المجال ما يرويه محمد سعد عبدالحفيظ في مقالته عنه في جريدة (الشروق) بالقاهرة، بعنوان «الحابسات الباقيات ومانيفستو عم صلاح»، وكيف استطاع بعقله النقدي والتحليلي أن يقلب الطاولة على كل أساطين المؤسسة بعد أن أوشكوا بحق على تدجين الصحفيين، لولا تدخل صلاح وتحليله الرصين الذي يدعوه من شهد الواقعة بالحابسات الباقيات.